في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

1

وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف ؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة ؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى ؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى .

إن الاستغراق في شهوات الدنيا ، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار ؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة ؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى ؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة ؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض ؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض .

ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية ، ومكلفة من قبل الباريء - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها ، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها ، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها ، وتخفيف حدتها واندفاعها ؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها ، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه ؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى .

ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي . . هذه الرغائب والدافع ، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر الوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر ، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة ، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة .

وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام . . وهي خلاصة للرغائب الأرضية . إما بذاتها ، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى . . وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر : جنات تجري من تحتها الأنهار . وأزواج مطهرة . وفوقها رضوان من الله . . وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض ، ويصل قلبه بالله ، على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان :

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث . . ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب . قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله . والله بصير بالعباد . الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار . . )

( زين للناس ) . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل ؛ فهو محبب ومزين . . وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه . ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه " الشهوات " ، وهو جزء من تكوينه الأصيل ، لا حاجة إلى إنكاره ، ولا إلى استنكاره في ذاته . فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل ، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده ؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها . هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي ، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه " الشهوات " . الحد الباني للنفس وللحياة ؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذيتهتف إليه النفحة العلوية ، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله . . هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول ، وينقيه من الشوائب ، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة ، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة . . والاتجاه إلى الله ، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة .

( زين للناس حب الشهوات ) . . فهي شهوات مستحبة مستلذة ؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها ؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك " الشهوات " في غير استغراق ولا إغراق !

وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن " الكبت " واضراره ، وعن " العقد النفسية " التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو " الكبت " وليس هو " الضبط " . . وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا ، فهي خطيئة ودافع شيطاني ! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا . . وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون " العقد النفسية " . . فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي . . وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث . . . ) . .

والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية . . وقد قرن اليهما ( القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) . . ونهم المال هو الذي ترسمه ( القناطير المقنطرة ) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى !

ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . . الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية !

وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع . . الأنعام والحقول المخصبة . . والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفتإليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .

وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :

( ذلك متاع الحياة الدنيا ) . .

ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة ، ولا الآفاق البعيدة . . متاع هذه الأرض القريب . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

يخبر تعالى عما زُيِّن للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء ؛ لأن الفتنة بهن أشد ، كما ثبت في الصحيح أنه ، عليه السلام ، قال{[4851]} مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء " . فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد ، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه ، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه ، " وإنَّ خَيْرَ هَذه الأمَّةِ كَانَ أكْثرهَا نسَاءً " {[4852]} وقوله ، عليه السلام{[4853]} الدُّنْيَا مَتَاع ، وخَيْرُ مَتَاعِهَا المرْأةُ الصَّالحةُ ، إنْ نَظَرَ إلَيْها سَرَّتْهُ ، وإنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْه ، وإنْ غَابَ عَنْها حَفِظْتُه في نَفْسهَا وَمَالِهِ " {[4854]} وقوله في الحديث الآخر : " حُبِّبَ إلَيَّ النِّسَاءُ والطِّيبُ{[4855]} وجُعلَتْ قُرة عَيْني فِي الصَّلاةِ " {[4856]} وقالت عائشة ، رضي الله عنها : لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل ، وفي رواية : من الخيل إلا النساء{[4857]} .

وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا ، وتارة يكون لتكثير النسل ، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له ، فهذا محمود ممدوح ، كما ثبت في الحديث : " تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ ، فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ " {[4858]}

وحب المال - كذلك - تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء ، والتجبر على الفقراء ، فهذا مذموم ، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات ، فهذا ممدوح محمود{[4859]} عليه شرعًا .

وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال ، وحاصلها : أنه المال الجزيل ، كما قاله الضحاك وغيره ، وقيل : ألف دينار . وقيل : ألف ومائتا دينار . وقيل : اثنا عشر ألفا . وقيل : أربعون ألفا . وقيل : ستون ألفا وقيل : سبعون ألفا . وقيل : ثمانون ألفا . وقيل غير ذلك .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا{[4860]} حماد ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْف أوقيَّةٍ ، كُلُّ أوقِيَّةٍ خَيْر مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ " .

وقد رواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، عن حماد ابن سلمة ، به . وقد رواه ابن جرير عن بُنْدار ، عن ابن مهدي ، عن حماد بن زيد ، عن عاصم - هو ابن بَهْدَلة - عن أبي صالح ، عن أبي هريرة{[4861]} موقوفا ، وهذا أصح . وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر . وحكاه ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة وأبي الدرداء ، أنهم قالوا : القنطار ألف ومائتا أوقية .

ثم قال ابن جرير : حدثني زكريا بن يحيى الضرير ، حدثنا شبابة ، حدثنا مَخْلَد بن عبد الواحد ، عن علي بن زيد ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زِرّ بن حُبَيْش عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " القِنْطَارُ ألْفُ أوقِيَّةٍ ومائَتَا أوقِيَّةٍ " {[4862]} .

وهذا حديث منكر أيضًا ، والأقربُ أن يكون موقوفا على أبي بن كعب ، كغيره من الصحابة . وقد روى ابن مَرْدُويَه ، من طريق موسى بن عُبَيْدة الرَبَذِي{[4863]} عن محمد بن إبراهيم عن يحنَّش{[4864]} أبي موسى ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ مائة آيةٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ ، ومَنْ قَرَأ مِائَةَ آيةٍ إِلَى ألْف أصْبَح لَهُ قِنْطار مِنْ أجْرٍ عندَ الله ، القِنْطارُ مِنْهُ مِثلُ الجبَلِ العَظِيمِ " . ورواه وَكِيع ، عن موسى بن عُبَيدة ، بمعناه{[4865]} وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي بتنِّيس{[4866]} حدثنا عَمْرو{[4867]} بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد ، حدثنا حُمَيد الطويل ، ورجل آخر ، عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله ، عز وجل : { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ } قال : " القِنْطَارُ ألفا أُوقِيَّةٍ " . صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، هكذا رواه الحاكم{[4868]} .

وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الرَّقِّي ، حدثنا عمرو ابن أبي سلمة ، حدثنا زهير - يعني ابن محمد - حدثنا حميد الطويل ورجل آخر قد سماه - يعني يزيد الرَّقَاشي - عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : قنطار ، يعني : " ألف دينار " . وهكذا [ رواه ]{[4869]} ابن مَرْدُويه ، ورواه{[4870]} الطبراني ، عن عبد الله بن محمد بن أبي مريم ، عن عَمْرو بن أبي سلمة ، فذكر بإسناده مثله سواء{[4871]} .

وروى ابن جرير عن الحسن البصري مرسلا عنه وموقوفا عليه : القنطار ألف ومائتا دينار . وكذا{[4872]} رواه العَوْفي عن ابن عباس .

وقال الضحاك : من العرب من يقول : القنطار ألف دينار . ومنهم من يقول : اثنا عشر ألفا .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عارِم ، عن حَمّاد ، عن سعيد الجُرَيرِي{[4873]} عن أبي نضْرة ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : [ القنطار ]{[4874]} ملء مَسْك الثور ذهبا .

قال أبو محمد : ورواه محمد بن موسى الحرشي ، عن حماد بن زيد ، مرفوعا . والموقوف أصح{[4875]} .

وحب الخيل على ثلاثة أقسام ، تارة يكون ربطَها أصحابُها معدَّة لسبيل الله تعالى ، متى احتاجوا إليها غزَوا عليها ، فهؤلاء يثابون . وتارة تربط فخرا ونواء لأهل الإسلام ، فهذه على صاحبها وزْر . وتارة للتعفف واقتناء نسلها . ولم يَنْسَ حق الله في رقابها ، فهذه لصاحبها ستْر ، كما سيأتي الحديث بذلك [ إن شاء الله تعالى ]{[4876]} عند قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ [ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ] {[4877]} } [ الأنفال : 60 ] .

وأما { الْمُسَوَّمَةِ } فعن ابن عباس ، رضي الله عنهما : المسومة الراعية ، والمُطَهَّمة الحسَان ، وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعبد الرحمن بن عبد الله{[4878]} بن أبْزَى ، والسُّدِّي ، والربيع بن أنس ، وأبي سِنَان وغيرهم .

وقال مكحول : المسومة : الغُرَّة والتحجيل . وقيل غير ذلك .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن{[4879]} يزيد بن أبي حبيب ، عن سُوَيْد بن قيس ، عن معاوية بن حُدَيج ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليسَ مِنْ فَرَسٍ عَرَبِي إلا يُؤذَنُ لَهُ مَعَ كُلِّ فَجْر يَدْعُو بِدَعْوَتَيْنِ ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنَّكَ خَوَّلْتَنِي مِنْ خَوَّلْتَني من ]{[4880]} بَنِي آدَم ، فاجْعَلنِي مِنْ أحَبِّ مَالِهِ وأهْلِهِ إليه ، أوْ أحَب أهْلِه ومالِهِ إليهِ " {[4881]} .

وقوله : { وَالأنْعَامِ } يعني : الإبل والبقر والغنم { وَالْحَرْث } يعني : الأرض{[4882]} المتخذة للغِرَاس والزراعة{[4883]} .

قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح بن عبادة ، حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن مسلم بن بُدَيل{[4884]} عن إياسِ بن زهير ، عن سُويد بن هُبَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خَيْرُ مَالِ امرئ لَهُ مُهْرة مَأمُورة ، أو سِكَّة مَأبُورة " {[4885]} المأمورة الكثيرة النسل ، والسّكَّة : النخل المصطف ، والمأبورة : الملقحة .

ثم قال تعالى : { ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } أي : حسن المرجع والثواب .

14


[4851]:في جـ، ر، أ، و: "أنه قال صلى الله عليه وسلم"، وفي ر: "أنه قال عليه السلام".
[4852]:رواه البخاري في صحيحه برقم (5069) موقوفا على ابن عباس.
[4853]:في جـ: "صلى الله عليه وسلم".
[4854]:رواه مسلم في صحيحه برقم (1467) والنسائي في السنن (6/69) وابن ماجه في السنن برقم (1855) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[4855]:في جـ، ر: "الطيب والنساء".
[4856]:رواه أحمد في المسند (3/128) والنسائي في السنن (7/61) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4857]:رواه النسائي في الكبرى (4404) من طريق سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك، به. وله شاهد من حديث معقل بن يسار، رواه أحمد في مسنده (5/27).
[4858]:رواه أبو داود في السنن برقم (2050) والنسائي في السنن (6/65) وابن حبان في صحيحه برقم (1229) "موارد" والحاكم في المستدرك (2/162) وصححه وأقره الذهبي من حديث معقل بن يسار.ورواه أحمد في المسند (3/158) وابن حبان في صحيحه برقم (1228) والبيهقي في السنن الكبرى (7/81، 82) من حديث أنس بن مالك.
[4859]:في ر: "محسود".
[4860]:في جـ: "عن".
[4861]:المسند (2/363) وابن ماجة في السنن برقم (3660) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (663) "موارد". قال البوصيري في مصباح الزجاجة: "إسناده صحيح ورجاله ثقات" والأرجح تحسينه للكلام في عاصم بن بهدلة. ورواه ابن جرير الطبري في تفسيره (6/244) موقوفا.
[4862]:تفسير الطبري (6/245) وفي إسناده مخلد بن عبد الواحد، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن حبان: "منكر الحديث جدا".
[4863]:في جـ، ر: "الترمذي".
[4864]:في جـ، ر: "يحنس".
[4865]:ورواه عبد بن حميد في تفسيره، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/107) من طريق وكيع به، وهو مضطرب، فتارة يروى خمسين، وتارة يروى ألفا، وتارة يروى مائة، وقد اختلف فيه على موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
[4866]:في ر: "تبتيس".
[4867]:في المخطوطة أ، و: "محمد بن عمرو بن أبي سلمة" وهو خطأ.
[4868]:المستدرك (2/178) وصححه الحاكم وأقره الذهبي، وفي إسناده عمرو بن أبي سلمة الشامي ضعيف خاصة إذا روى عن زهير. قال الإمام أحمد: "روى عن زهير أحاديث بواطيل كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله فغلط فقلبها زهير".
[4869]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[4870]:في و: "عن".
[4871]:تفسير ابن أبي حاتم (1/111) وفي إسناده عمرو بن أبي سلمة وهو ضعيف كما سبق كلام الإمام أحمد عنه.
[4872]:في و: "وهو".
[4873]:في هـ، جـ، أ، و: "الجرشي" وهو خطأ.
[4874]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[4875]:تفسير ابن أبي حاتم (2/115) ورواه الطبري في تفسيره (6/248) من طريق سعيد الجريري عن أبي نضرة موقوفا.
[4876]:زيادة من جـ، أ.
[4877]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[4878]:في جـ، ر، أ، و: "عبد الله بن عبد الرحمن".
[4879]:في جـ، ر: "حدثني".
[4880]:زيادة من جـ، ر، أ، و، والمسند.
[4881]:المسند (5/170) ورواه الحاكم في المستدرك (2/144) من طريق يحيى بن سعيد به، وقال: صحيح الإسناد على شرطهما ووافقه الذهبي.
[4882]:في جـ، ر: "الأراضي".
[4883]:في جـ: "للزراعة والغراس".
[4884]:في أ: "نديل".
[4885]:المسند (3/468) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (10/64) والطبراني في المعجم الكبير (7/107) من طريق مسلم بن بديل به، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/258): "رجال أحمد ثقات".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

استئناف نشأ عن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } [ آل عمران : 10 ] إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير « هم » دالة على أنّها معلومة للمسلمين . قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة ؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات . وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها ؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس .

والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه ، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً .

وقال امرؤ القيس :

الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول

فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : { تريد زينة الحياةِ الدنيا } [ الكهف : 28 ] . وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة :

أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا

وفي حديث « سنن أبي داود » : أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه : إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح . قال أبو برزة : « ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد » . فقال عبيد الله : « إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن » .

والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي ، والشهوة بزنة المَرّة ، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة . وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف . وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبُّها ، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها ؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحبّ بمزيَّن ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها ، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق .

والوجه عندي إمّا أن يجعل { حبّ الشهوات } مصدراً نائباً عن مفعول مطلق ، مبيّناً لنوع التزيين : أي زيّن لهم تزيين حب ، وهو أشدّ التزيين ، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل ، وأصل الكلام : زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً ، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائباً عن الفاعل ، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى : { فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي } [ ص : 32 ] . وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول ، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة . وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبّر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضارّ ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات ، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال .

وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جُهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عُني بكذا ، واضْطُرّ إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي ؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال ، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى : { وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون } [ يس : 72 ] .

ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة ، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت ، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته ، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة . كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى ، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات : من الخِلاّن والقُرناء ، وعن الحسن : المزيِّن هو الشيطان ، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث : « قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال : أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر ، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر » وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام ، والمعرَّضة للزوال ، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ؛ كما أشار إليه قوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب } .

وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيَات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل ؛ إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة ، وفي الحديث : « ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء » ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان .

ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين ، من الرجال والنساء ، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف ، بعد القوة ، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه .

والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانيرُ والدراهم ، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها .

{ والقناطير } جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية ، كما نقله النقّاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ؛ فإن أصله في اللاّتينية « كِينْتال » وهو مائة رطل . وقال ابن سيده : هو معرّب عن السريانية . فما في « الكشاف » في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قنطَرت الشيءَ إذا رفعتَه ، تكلّف . وقد كان القنطار عند العرب ، وزنا ومقداراً ، من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة ، ويقولون : قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب .

و{ المقنطرة } أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوفِ ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم : لَيْلٌ ألْيَلُ ، وظِلٌ ظَلِيلٌ ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء ، وشِعْرٌ شَاعِر ، وإبِل مُؤَبَّلَة ، وآلاف مُؤَلَّفَة .

{ والخيل } محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً ، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار ، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى ، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس .

وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها ، قال امرؤ القيس

* كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *

و { المسوّمة } الأظهر فيه ما قيل : إنّه الراعية ، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي ، يقال : أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى ، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل " فأطال لَها في مَرْج أو روضة " .

وقيل : المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العَتَّابي :

ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف

يريد جعلت له سُومة أفراسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في سورة [ البقرة : 273 ] .

و { الأنعام } زينة لأهل الوبر قال تعالى : { ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] . وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : { والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء } الآيات في سورة [ النحل : 5 ] ، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها ، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً .

{ والحرث } أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : { نساؤكم حَرث لكم } في سورة [ البقرة : 223 ] وعند قوله : { ولا تَسقي الحرث } [ البقرة : 71 ] فيها .

والإشارة بقوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا } إلى جميع ما تقدم ذكره ، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن ، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد ، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة .

والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة .

ومعنى { والله عنده حسن مئاب } أنّ ثواب الله خير من ذلك . والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدرٌ ، مَفْعَل من آب يَؤوب ، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفاً ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة .