سورة التوبة وآياتها تسع وعشرون ومائة
هذه السورة مدنية من أواخر ما نزل من القرآن - إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن - ومن ثم قد تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض ؛ كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته ، وتحديد قيمه ومقاماته ، وأوضاع كل طائفة فيه وكل طبقة من طبقاته ، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا .
والسورة - بهذا الاعتبار - ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته - حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها - وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج وعن مدى حسمه كذلك . وبدون هذه المراجعة تختلط الصور والأحكام والقواعد ، كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاما مرحلية فجعلت نهائية ؛ ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية ؛ وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي ، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى . مما نرجو أن يوفقنا الله لإيضاحه وبيانه في هذا التقديم ؛ وفي ثنايا استعراض النصوص القرآنية للسورة .
ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية ؛ ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته ؛ ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك . . يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة . . ولكنها لم تنزل دفعة واحدة . . ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع ، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل . . المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام . والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها . والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها . أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها فقد نزلتمتأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة أو في ذي الحجة . . وهذا - على الإجمال - هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه .
وقد تضمنت السورة في المقطع الأول منها - من أولها إلى ختام الآية الثامنة والعشرين - تحديدا للعلاقات النهائية بين المعسكر الإسلامي والمشركين عامة في الجزيرة ؛ مع إبراز الأسباب الواقعية والتاريخية والعقيدية التي يقوم عليها هذا التحديد ، بالأسلوب القرآني الموحي المؤثر ، وفي تعبيرات قوية الإيقاع حاسمة الدلالة ، عميقة التأثير ؛ هذه نماذج منها :
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، واعلموا أنكم غير معجزي الله ، وأن الله مخزي الكافرين . وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ، فإن تبتم فهو خير لكم ، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم . إلا الذين عاهدتم من المشركين ، ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين ، فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم . وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله - إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ? - فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، إن الله يحب المتقين . كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ، يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون . فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون . وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ، إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون . ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم ، وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة ? أتخشونهم ? فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم ، وينصركم عليهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهم ، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم . أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ? والله خبير بما تعملون . . . .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء - إن استحبوا الكفر على الإيمان - ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون . قل : إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم ، وأموال اقترفتموها ، وتجارة تخشون كسادها ، ومساكن ترضونها . . أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . . فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
. . . ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس ، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله - إن شاء - إن الله عليم حكيم ) . .
وظاهر من الأسلوب القرآني في الآيات التي اقتطفناها هنا ، وفي آيات المقطع كله ؛ ومن القوة في التحضيضوالتأليب على قتال المشركين ومقاطعتهم في الجزيرة قاطبة ، مدى ما كان يعتلج في نفوس الجماعة المسلمة - أو فريق منها على الأقل له وزنه - من التحرج والتخوف والتردد في اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة في ذلك الحين ، بسبب عوامل شتى نرجو أن نكشف عنها في هذا التقديم وفي أثناء استعراض النصوص القرآنية قريبا .
أما المقطع الثاني - في السورة - فقد تضمن تحديدا للعلاقات النهائية كذلك بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب عامة ؛ مع بيان الأسباب العقيدية والتاريخية والواقعية التي تحتم هذا التحديد ؛ وتكشف كذلك عن طبيعة الإسلام وحقيقته المستقلة ؛ وعن انحراف أهل الكتاب عن دين الله الصحيح عقيدة وسلوكا ؛ بما يجعلهم - في اعتبار الإسلام - ليسوا على دين الله الذي نزله لهم ؛ والذي به صاروا أهل كتاب :
( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . )
( وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله . . ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل . . قاتلهم الله ! أنى يؤفكون ? اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ، لا إله إلا هو ، سبحانه عما يشركون . )
( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون . )
( يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) ،
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم . يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم . . هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) .
وظاهر كذلك من الأسلوب القرآني في هذا المقطع أنه مواجهة لما كان في النفوس يومذاك من تهيب وتردد في مواجهة أهل الكتاب عامة - أو الغالبية العظمى منهم - بهذا اللون من العلاقات التي تنص عليها الآية الأولى في المقطع . . وحقيقة إن المقصود - كان - بالمواجهة ابتداء هم الروم وحلفاؤهم من نصارى العرب في الشام وما وراءها ؛ وهذا وحده كان يكفي للتردد والتهيب ؛ لما كان للروم من بأس وسمعة تاريخية بين أهل الجزيرة . . ولكن النص عام في أهل الكتاب عامة ؛ ممن تنطبق عليهم الأوصاف الواردة في الآية كما سنفصل - إن شاء الله - عند مواجهة النصوص .
وفي المقطع الثالث يبدأ النعي على المتثاقلين الذين دعوا إلى التجهز للغزوة فتثاقلوا إلى الأرض وتكاسلوا عن النفير . . وهؤلاء ليسوا كلهم من المنافقين كما سيتبين ، مما يشي بمشقة هذه الخطوة ، وهذه الغزوة ، على النفوس في ذلك الحين للأسباب التي نرجو أن نفصلها - بإذن الله - ونقف عندها في حينها :
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم : انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ? أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ? فما متاع الحياة الدنيا في الآخره إلا قليل . إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ، ويستبدل قوما غيركم ، ولا تضروه شيئا . والله على كل شيء قدير . إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار ، إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم . انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .
وظاهر من صيغ التأنيب والتهديد والتوكيد المكررة في هذا المقطع ؛ ومن تذكير الذين آمنوا بنصر الله للرسول [ ص ] إذ أخرجه الذين كفروا ؛ دون أن يكون لأحد من البشر مشاركة في هذا النصر ؛ ومن الأمر الجازم لهم بأن ينفروا خفافا وثقالا . . ظاهر من هذا كله ما كان في الموقف من مشقة ومن تخلف ومن قعود ومن تهيب ومن تردد ، اقتضى هذا الحشد من التأنيب والتهديد والتوكيد والتذكير والأمر الشديد . .
ثم يجيء المقطع الرابع في سياق السورة - وهو أطول مقاطعها ، وهو يستغرق أكثر من نصفها - في فضح المنافقين وأفاعيلهم في المجتمع المسلم ، ووصف أحوالهم النفسية والعملية ، ومواقفهم في غزوة تبوك وقبلها وفي أثنائها وما تلاها ، وكشف حقيقة نواياهم وحيلهم ومعاذيرهم في التخلف عن الجهاد وبث الضعف والفتنة والفرقة في الصف ، وإيذاء رسول الله [ ص ] والخلص من المؤمنين . يصاحب هذا الكشف تحذير الخلصاء من المؤمنين من كيد المنافقين ، وتحديد العلاقات بين هؤلاء وهؤلاء ، والمفاصلة بين الفريقين وتمييز كل منهما بصفاته وأعماله . . وهذا القطاع يؤلف في الحقيقة جسم السورة ؛ ويتجلى من خلاله كيف عاد النفاق بعد فتح مكة فاستشرى بعد ما كاد أن يتلاشى من المجتمع المسلم قبيل الفتح ، مما سنكشف عن أسبابه في فقرة تالية . ولن نملك أن نستعرض هنا هذا القطاع بطوله فنكتفي بفقرات منه تدل على طبيعته :
( لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون . . . ) .
. . . ( ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ، وقيل : اقعدوا مع القاعدين . لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ، ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم . . والله عليم بالظالمين . لقد ابتغوا الفتنة من قبل ، وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ) .
( ومنهم من يقول : ائذن لي ولا تفتني ، ألا في الفتنة سقطوا ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . إن تصبك حسنة تسؤهم ، وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل ، ويتولوا وهم فرحون ) . . .
. . . ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم ، وما هم منكم ، ولكنهم قوم يفرقون . لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ) .
( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون . ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ، وقالوا : حسبنا الله ، سيؤتينا الله من فضله ورسوله ، إنا إلى الله راغبون ) . . .
. . . ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن . قل أذن خير لكم ، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، ورحمة للذين آمنوا منكم ، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) .
( يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين . ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ، ذلك الخزي العظيم ) .
( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم ، قل : استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون . ولئن سألتهم ليقولن : إنما كنا نخوض ونلعب ، قل : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ? . لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ، إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ) .
( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ، ويقبضون أيديهم ، نسواالله فنسيهم ، إن المنافقين هم الفاسقون . وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ، ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ) . . .
. . . ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، ومأواهم جهنم وبئس المصير . يحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ، فإن يتوبوا يك خيرا لهم ، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ) . .
( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه ، وبما كانوا يكذبون ) . .
( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم . استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) .
( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وقالوا : لا تنفروا في الحر ، قل : نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون . فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون . فإن رجعك الله إلى طائفة منهم ، فاستأذنوك للخروج . فقل : لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين . ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون . ولا تعجبك أموالهم وأولادهم ، إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) . . .
وهذه الحملة الطويلة الكاشفة تشي بما كان للمنافقين في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته وشغله بشتى الفتن والدسائس والأكاذيب عن وجهته . كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة من الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي للمجتمع الإسلامي في هذه الفترة ؛ يشير إليها قول الله سبحانه : ( وفيكم سماعون لهم )كما يشير إليها النهي المشدد عن الاستغفار للمنافقين أو الصلاة عليهم . . هذه الحالة التي نشأت عن دخول جماعات كثيرة في الإسلام بعد الفتح لم يكن الإيمان قد استقر في قلوبهم ، ولا كانوا قد انطبعوا بالطابع الإسلامي الصحيح ؛ مما سنفصل القول فيه بعد استعراض التصنيف القرآني الوارد في السورة لهذه الجماعات المتنوعة التي كان المجتمع المسلم يتألف منها في هذه الفترة .
والمقطع الخامس في سياق السورة هو الذي يتولى هذا التصنيف . ومنه نعلم أنه كان إلى جوار السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار - وهم الذين كانوا يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية - جماعات أخرى . . الأعراب وفيهم المخلصون والمنافقون والذين لم تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان والمنافقون من أهل المدينة . وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولم يتم انطباعهم بالطابع الإسلامي ولم يصهروا في بوتقة الإسلام تماما . وطائفة مجهولة الحال لا تعرف حقيقة مصيرها متروك أمرها لله وفق ما يعلمه من حقيقة حالها ومآلها . ومتآمرون يتسترون باسم الدين ! . . والنصوص القرآنية تتحدث عن هذه الجماعات كلها في اختصار مفيد ؛ وتقرر كيف تعامل في المجتمع المسلم ، وتوجه رسول الله [ ص ] والخلص منالمسلمين إلى طريقة التعامل مع كل منهم :
( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، والله عليم حكيم . ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ، ويتربص بكم الدوائر ، عليهم دائرة السوء ، والله سميع عليم . ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ؛ ألا إنها قربة لهم ، سيدخلهم الله في رحمته ، إن الله غفور رحيم ) .
( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم ) .
( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة ، مردوا على النفاق ، لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ، ثم يردون إلى عذاب عظيم ) .
( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، عسى الله أن يتوب عليهم ، إن الله غفور رحيم . خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ، والله سميع عليم . . . ) .
. . . ( وآخرون مرجون لأمر الله ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، والله عليم حكيم ) .
( والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لا تقم فيه أبدا ، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا ، والله يحب المطهرين . . )الخ .
وظاهر من تعدد الطوائف والطبقات والمستويات الإيمانية في المجتمع المسلم - كما تصفه هذه النصوص - مدى الخلخلة التي وجدت فيه بعد الفتح ، مما كان المجتمع قد برئ منه أو كاد قبيل فتح مكة كما سيجيء .
والمقطع السادس في سياق السورة يتضمن تقريرا لطبيعة البيعة الإسلامية مع الله على الجهاد في سبيله وطبيعة هذا الجهاد وحدوده ، وواجب أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب فيه ، وأنه لا يحل لهم أن يتخلفوا عنه وما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ؛ وضرورة المفاصلة مع المشركين والمنافقين . . وفي ثنايا هذا المقطع يرد بيان لما قضى الله به في شأن بعض الذين تخلفوا عن الغزوة مخلصين غير منافقين ؛ ووصف لبعض أحوال المنافقين وموقفهم تجاه ما يتنزل من القرآن الكريم :
( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، يقاتلون في سبيل الله ، فيقتلون ويقتلون ، وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ? فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ، وذلك هو الفوز العظيم ) . . .
. . . ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) . . .
. . . ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ، ثم تاب عليهم ، إنه بهم رؤوف رحيم . وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرضبما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، ثم تاب عليهم ليتوبوا ، إن الله هو التواب الرحيم ) . . .
. . . ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ، ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ، إن الله لا يضيع أجر المحسنين . ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون واديا ، إلا كتب لهم ، ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون . وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ، ليتفقهوا في الدين ، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، لعلهم يحذرون ) .
( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ، واعملوا أن الله مع المتقين . . . )
. . . ( وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض : هل يراكم من أحد ? ثم انصرفوا ، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) . .
وفي النهاية تختم السورة بصفة رسول الله [ ص ] وبتوجيهه من ربه إلى التوكل عليه وحده والاكتفاء بكفالته سبحانه :
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تولوا فقل : حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ) .
ولقد أطلنا الاقتباس من نصوص السورة في هذا الاستعراض الإجمالي - قبل مواجهة هذه النصوص فيما بعد بالتفصيل - عن قصد ! ذلك أن سياق السورة يرسم صورة كاملة للمجتمع المسلم في فترة ما بعد الفتح ، ويصف تكوينه العضوي . . وفي هذه السورة يتجلى نوع من الخلخلة وقلة التناسق بين مستوياته الإيمانية ؛ كما تتكشف ظواهر وأعراض من الشح بالنفس والمال ، ومن النفاق والضعف ، والتردد في الواجبات والتكاليف ، والخلط وعدم الوضوح في تصور العلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى ، وعدم المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة - وإن كان هذا كله لا يتعارض مع وجود القاعدة الصلبة الأمينة الخالصة من المهاجرين والأنصار - مما استدعى حملات طويلة مفصلة ومنوعة للكشف والتوعية والبيان والتقرير ، تفي بحاجة المجتمع إليها .
ولقد سبق أن أشرنا إجمالا إلى أن سبب هذه الحالة هو دخول جماعات كثيرة متنوعة من الناس في الإسلام بعد الفتح ؛ لم تتم تربيتها ؛ ولم تنطبع بعد بالطابع الإسلامي الأصيل . إلا أن هذه الإشارة المجملة لا يمكن فهمها بوضوح إلا بمراجعة الواقع التاريخي الحركي قبل الفتح وبعده . . وسنحاول أن نلم به هنا بأشد اختصار ممكن ؛ قبل التعليق بشيء على دلالة هذا الواقع التاريخي ومغزاه ، ودلالة النصوص القرآنية التي وردت في سياق هذه السورة كذلك .
لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة ؛ فلم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش - تحس بالخطرالحقيقي الذي يتهددها من دعوة : " أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " وما تمثله من ثورة على كل سلطان أرضي لا يستمد من سلطان الله ؛ ومن تمرد نهائي على كل طاغوت في الأرض والفرار منه إلى الله . ثم بالخطر الجدي من التجمع الحركي العضوي الجديد الذي أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة رسول الله [ ص ]
هذا التجمع الذي يدين منذ اليوم الأول بالطاعة لله ورسوله الله ؛ ويتمرد ويخرج على القيادة الجاهلية الممثلة في قريش والأوضاع السائدة في هذه الجاهلية .
لم تكد الجاهلية - ممثلة في قريش أول الأمر - تحس بهذا الخطر وذاك حتى شنتها حربا شعواء على الدعوة الجديدة ، وعلى التجمع الجديد ، وعلى القيادة الجديدة ؛ وحتى أرصدت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن فتنة ومن حيلة . .
لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه . . وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى ربوبية الله للعالمين ؛ في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من ربوبية العباد للعباد ؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد ، يتبع في تحركه قيادة جديدة ، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض !
وعندئذ تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها ، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان . . ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد ، والدينونة لقيادته الجديدة ، إلا كل من نذر نفسه لله ؛ وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان . .
بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي ؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى ؛ وكان هذا النوع قليلا ، فقد كان الأمر كله معروفا مكشوفا من قبل ؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام ، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين .
وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة ، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة ؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة ؛ مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون ، إلا أن بيعتهم لرسول الله [ ص ] [ بيعة العقبة ] قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين . . قال ابن كثير في التفسير : " وقال محمد بن كعب القرظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله [ ص ] [ يعني ليلة العقبة ] : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " قالوا : فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ? قال : " الجنة " . قالوا : ربح البيع ، ولا نقيل ولا نستقيل " .
ولقد كان هؤلاء الذين يبايعون رسول الله هذه البيعة ؛ ولا يرتقبون من ورائها شيئا إلا الجنة ؛ ويوثقون هذا البيع فيعلنون أنهم لا يقبلون أن يرجعوا فيه ولا أن يرجع فيه رسول الله [ ص ] ! يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين ؛ بل كانوا مستيقنين أن قريشا وراءهم ، وأن العرب كلها سترميهم ؛ وأنهملن يعيشوا بعدها في سلام مع الجاهلية الضاربة الأطناب من حولهم في الجزيرة وبين ظهرانيهم في المدينة .
ومن رواية ابن كثير في كتابه : " البداية والنهاية " : " قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ابن خيثم ، عن أبي الزبير ، عن جابر . قال : مكث رسول الله [ ص ] بمكة عشر سنين ، يتبع الناس في منازلهم . . عكاظ والمجنة . . وفي المواسم ، يقول : " من يؤويني ? من ينصرني ? حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة " . فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره . حتى إن الرجل ليخرج من اليمن ، أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون : احذر غلام قريش لا يفتنك . ويمضي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب ، فآويناه وصدقناه ، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ، ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه ، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الأسلام . ثم ائتمروا جميعا ، فقلنا : حتى متى نترك رسول الله [ ص ] يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف ? فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم ، فواعدناه شعب العقبة ، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين ، حتى توافينا . فقلنا : يا رسول الله علام نبايعك ? قال : " تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، والنفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة " . فقمنا إليه وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي - وهو أصغر السبعين - إلا أنا . فقال : رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة ، وقتل خياركم ، وتعضكم السيوف . فإنا أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله ، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه ، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله . . قالوا : أبط عنا يا أسعد ! فوالله لا ندع هذه البيعة ، ولا نسلبها أبدا ! قال : فقمنا إليه ، فبايعناه ، وأخذ علينا وشرط ، ويعطينا على ذلك الجنة " [ وقد رواه الإمام أحمد أيضا والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي إدريس به نحوه . وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه . وقال البزار : وروى غير واحد غير ابن خيثم ، ولا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه ] .
فقد كان الأنصار إذن يعلمون - عن يقين واضح - تكاليف هذه البيعة ؛ وكانوا يعلمون أنهم لم يوعدوا على هذه التكاليف شيئا في هذه الحياة الدنيا - حتى ولا النصر والغلبة - وأنهم لم يوعدوا عليها إلا الجنة . . ثم كان هذا مدى وعيهم بها ومدى حرصهم عليها . . فلا جرم أن يكونوا - مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البناء وأعدوا هذا الإعداد - هم القاعدة الصلبة للمجتمع المسلم أول العهد بالمدينة . .
ولكن مجتمع المدينة لم يظل بهذا الخلوص والنقاء . . لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة ؛ واضطر أفراد كثيرون - ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم - أن يجاروا قومهم احتفاظا بمكانتهم فيهم . . حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول : هذا أمر قد توجه ! وأظهر الإسلام نفاقا . ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليدا - ولو لم يكونوا منافقين - ولكنهم لم يكونوا بعد قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه . . مما أنشأ تخلخلا في بناء المجتمع المدني ناشئا عن اختلاف مستوياته الإيمانية .
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 5 )
وهنا أخذ المنهج القرآني التربوي الفريد ، بقيادة رسول الله [ ص ] يعمل عمله في هذه العناصر الجديدة ؛ ويعمل كذلك على إعادة التناسق والتوافق بين المستويات العقيدية والخلقية والسلوكية للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد .
وحين نراجع السور المدنية - بترتيب النزول التقريبي - فإننا نطلع على الجهد الكبير الذي بذل في عملية الصهر الجديدة للعناصر المتنوعة في المجتمع المسلم ؛ وبخاصة أن هذه العناصر ظلت تتوارد على هذا المجتمع - على الرغم من وقفة قريش العنيدة وتأليبها لكل قبائل الجزيرة ، ومن وقفة اليهود البشعة وتأليبهم كذلك للعناصر المعادية للدين الجديد والتجمع الجديد - وظلت الحاجة مستمرة لعمليات الصهر والتنسيق بصورة دائمة لا تفتر ولا تغفل لحظة . .
ومع هذا الجهد كله كانت ما تزال تظهر بين الحين والحين - وبخاصة في فترات الشدة - أعراض من الضعف ، والنفاق والتردد ، والشح بالنفس والمال ، والتهيب من مواجهة المخاطر . . وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية . . والنصوص القرآنية في السور المتوالية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة . . نذكر منها على سبيل المثال :
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون . . . [ الأنفال : 5 - 8 ]
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات . فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا ، وما يذكر إلا أولو الألباب . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب . ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، إن الله لا يخلف الميعاد . . . [ آل عمران : 7 - 9 ]
( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب : لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، والله يشهد إنهم لكاذبون . لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون . لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ) . . . [ الحشر : 11 - 13 ]
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا . إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكمفارجعوا ، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون : إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة - إن يريدون إلا فرارا . ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا . . . الخ )[ الأحزاب : 9 - 14 ]
يا أيها الذين أمنوا خذوا حذركم ، فانفروا ثبات أو انفروا جميعا . وإن منكم لمن ليبطئن ، فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما . . . [ النساء : 71 - 73 ]
ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ? لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ، وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله ، وإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك . قل : كل من عند الله ، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا . . . . . . [ النساء : 77 - 78 ] .
( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم . إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم . ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله . فمنكم من يبخل ، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) . . [ محمد : 36 - 38 ] .
ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ، ما هم منكم ولا منهم ، ويحلفون على الكذب وهم يعلمون . أعد الله لهم عذابا شديدا ، إنهم ساء ما كانوا يعملون . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين . لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ، ألا إنهم هم الكاذبون . استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، أولئك حزب الشيطان ، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون . إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ، إن الله قوي عزيز . لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون . . . [ المجادلة : 14 - 22 ] .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة ، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين . ويقول الذين آمنوا : أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ? حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين . . . [ المائدة : 51 - 53 ] .
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، تسرون إليهم بالمودة ، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم ، يوم القيامة يفصل بينكم ، والله بما تعملون بصير . قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه : لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ) . . . [ الممتحنة : 1 - 4 ] .
وحسبنا هذه النماذج العشرة من شتى السور ، للدلالة على ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض . . نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة ، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة . .
إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان يظل سليما في جملته بسبب اعتماده أساسا على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار ؛ وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحيانا ، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعد صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها .
وشيئا فشيئا كانت هذه العناصر تنصهر وتتطهر وتتناسق مع القاعدة ؛ ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين ؛ ومن المترددين كذلك والمتهيبين ؛ وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين . . حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة ؛ وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد . .
نعم إنه كانت في هذا المجتمع ما تزال هناك أقدار متفاوتة أنشأتها الحركة العقيدية ذاتها ؛ فتميزت مجموعات من المؤمنين بأقدارها على قدر بلائها في الحركة وسبقها وثباتها . . تميز السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . وتميز أهل بدر . وتميز أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية . ثم تميز بصفة عامة الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا . وجاءت النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، والأوضاع العملية في المجتمع المسلم ، تؤكد هذه الأقدار التي أنشأتها الحركة بالعقيدة وتنص عليها .
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم . . . [ التوبة : 100 ] .
" لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد وجبت لكم الجنة " . . [ من حديث أخرجه البخاري ] . وكان هذا رد رسول الله [ ص ] على عمر - رضي الله عنه - وقد استأذن رسول الله [ ص ] في أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة حينما أدركته لحظة ضعف فأرسل إلى قريش سرا ينبئهم بتجهز رسول الله [ ص ] لفتح مكة .
( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما ) . . . [ الفتح : 18 - 19 ] .
( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ، والله بما تعملون خبير ) . . . [ الحديد : 10 ] .
" مهلا يا خالد ، دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا ، ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحة " . . . [ أورده ابن القيم في زاد المعاد ] وهو رد رسول الله [ ص ] على خالد بن الوليد إذ تلاحى مع عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنهما - وخالد هو سيف الله . ولكن عبدالرحمن من السابقين الأولين . فقال رسول الله [ ص ] لخالد : " دع عنك أصحابي " وهو يعني هذه الطبقة ذات القدر الخاص المتميز في المجتمع المسلم في المدينة .
ولكن تميز هذه الطبقات بأقدارها الإيمانية التي أنِشأتها الحركة الإسلامية ، لم يكن مانعا أن تتقارب المستويات الإيمانية وتتناسق في مجتمع المدينة قبيل الفتح ؛ وأن يتوارى الكثير من أعراض الخلخلة في الصف ، والكثير من ظواهر الضعف والتردد ، والشح بالنفس والمال ، وعدم الوضوح العقيدي ، والنفاق . . من ذلك المجتمع بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية .
إلا أن فتح مكة في العام الثامن الهجري ، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة ، قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجا جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية ؛ وفيهم كارهون للإسلام منافقون ؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر ، وفيهم المؤلفة قلوبهم ، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية .
لقد كانت وقفة قريش العنيدة الطويلة حاجزا قويا دون انسياح الإسلام في الجزيرة العربية . فقد كانت قريش هي صاحبة الكلمة العليا في الشؤون الدينية في الجزيرة - فوق ما كان لها من نفوذ اقتصادي وسياسي وأدبي كذلك - فكانت وقفتها في وجه الدين الجديد ، بهذه الصورة العنيدة ، مدعاة لصرف العرب في أنحاء الجزيرة عن الدخول فيه ، أو على الأقل مدعاة للتردد والانتظار حتى تنجلي المعركة بين قريش وهذا النبي من أبنائها ! . . . فلما دانت قريش بالفتح ، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف ؛ وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد خضدت شوكتها نهائيا فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام ، وأبيدت بنو قريظة ، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير . . . كان ذلك إيذانا بدخول الناس في دين الله أفواجا ، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في خلال عام واحد .
غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر - ولكن على نطاق أوسع - بعد ما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى ، المستمرة التأثير في خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى ! ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة ، والأساس الركين لهذا المجتمع ؛ لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة . ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه ، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر ؛ كما أنه - سبحانه - كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة . . والله أعلم حيث يجعل رسالته . .
وأول ما ظهر من ذلك كان يوم حنين الذي جاء عنه في هذه السورة : " التوبة " : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ؛ وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين . ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين . . )
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من " الطلقاء " الذين أسلموا يوم الفتح ، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة . فكان وجود هذين الألفين - مع عشرة آلاف - سببا في اختلال التوازن في الصف - بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن - ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح .
كذلك كان ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع ؛ ودخول تلك الأفواج الجديدة ، بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة . . هذه الظواهر والأعراض التي تحدثت عنها سورة التوبة ، والتي اقتضت تلك الحملات الطويلة المفصلة المنوعة الأساليب ، التي أشرنا إليها في المقتطفات الممثلة لكل مقاطع السورة .
ونستطيع أن نستطرد هنا لنتابع خطوات الواقع التاريخي للمجتمع المسلم بعد عامين اثنين من الفتح ؛ عندما قبض رسول الله [ ص ] فارتدت الجزيرة العربية كلها ؛ ولم يثبت إلا مجتمع المدينة - القاعدة الصلبة الخالصة - فهذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها . . إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين الله بعد الفتح ، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة . فلما قبض رسول الله - [ ص ] - ارتجت الجزيرة المخلخلة ، وثبتت القاع
{ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } . .
هذا الإعلان العام ، بهذا الإيقاع العالي ؛ يتضمن المبدأ العام للعلاقة بين المسلمين والمشركين في ذلك الحين في جزيرة العرب قاطبة . إذ كانت العهود المشار إليها هي التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمشركين في الجزيرة . والإعلان ببراءة الله وبراءة رسوله من المشركين ، يحدد موقف كل مسلم ؛ ويوقع إيقاعاً عميقاً عنيفاً على قلب كل مسلم ، بحيث لا يبقى بعد ذلك مراجعة ولا تردد !
ثم تأتي بعد الإعلان العام البيانات والمخصصات والشروح لهذا الإعلان :
{ بَرَآءَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُواْ فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ هذه براءة من الله ورسوله . ف «براءة » مرفوعة بمحذوف ، وهو «هذه » ، كما في قوله : سُورَةٌ أنْزَلْناها مرفوعة بمحذوف هو «هذه » ، ولو قال قائل : براءة مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله : إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها ، إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله : مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ كالمعرفة ، وصار معنى الكلام : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين كان مذهبا غير مدفوعة صحته ، وإن كان القول الأول أعجب إليّ ، لأن من شأن العرب أن يضمروا لكل معاين نكرة كان أو معرفة ذلك المعاين ، هذا وهذه ، فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسن : حسن والله ، والقبيح : قبيح والله ، يريدون : هذا حسن والله ، وهذا قبيح والله فلذلك اخترت القول الأوّل . وقال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ والمعنى : إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين لأن العهود بين المسلمين والمشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره ، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه ، وأن عقود النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم ، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين ، ولعقوده عليهم مسلمين ، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم ، فلذلك قال : إلى الّذِينَ عاهَدْتُم مِنَ المُشْرِكِينَ لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده .
وقد اختلف أهل التأويل فيمن برىء الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر ، فقال بعضهم : صنفان من المشركين : أحدهما : كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلّ من أربعة أشهر ، وأمهل بالسياحة أربعة أشهر ، والاَخر منهما كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين يقتل حيثما أدرك ويؤسر إلا أن يتوب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه أميرا على الحاجّ من سنة تسع ليقيم للناس حجهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم . فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين ، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم : أن لا يصدّ عن البيت أحد جاءه ، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام . وكان ذلك عهدا عامّا بينه وبين الناس من أهل الشرك ، وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى ، فنزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك وفي قول من قال منهم ، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون ، منهم من سمي لنا ، ومنهم من لم يسمّ لنا ، فقال : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ أي لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب ، فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ . . . إلى قوله : أنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي بعد هذه الحجة .
وقال آخرون : بل كان إمهال الله عزّ وجلّ بسياحة أربعة أشهر من كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فأما من لم يكن له من رسول الله عهد فإنما كان أجله خمسين ليلة ، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرّم كله . قالوا : وإنما كان ذلك كذلك ، لأن أجل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم ، كما قال الله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . . . الآية ، قالوا : والنداء ببراءة كان يوم الحجّ الأكبر ، وذلك يوم النحر في قول قوم وفي قول آخرين : يوم عرفة ، وذلك خمسون يوما . قالوا : وأما تأجيل الأشهر الأربعة ، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت براءة . قالوا : ونزلت في أوّل شوّال ، فكان انقضاء مدة أجلهم انسلاخ الأشهر الحرم . وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول : ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدا ، أعني الذي له العهد والذي لا عهد له غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر ، والذي لا عهد له : انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك انقضاء المحرّم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال : حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون فيها حيثما شاءوا ، وحدّ أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، فذلك خمسون ليلة فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ . . . إلى : وأنّ اللّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ يقول : براءة من المشركين الذين كان لهم عهد ، يوم نزلت براءة . فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر ، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن ينزل براءة انسلاخ الأشهر الحرم ، وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أُذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم وهي خمسون ليلة : عشرون من ذي الحجة ، وثلاثون من المحرّم . فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ إلى قوله : وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصدٍ يقول : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة ، وانسلخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول ربيع الاَخر ، فذلك أربعة أشهر .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قبل أن تنزل براءة عاهد ناسا من المشركين من أهل مكة وغيرهم ، فنزلت براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم ، فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون حيث شاءوا من الأرض آمنين ، وأجل من لم يكن بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة وأذن بها يوم النحر ، فكان عشرين من ذي الحجة والمحرّم ثلاثين ، فذلك خمسون ليلة . فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرّم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عهد يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام ، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة من يوم النحر أن يضع فيهم السيف أيضا يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام . فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر ، ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ . . . إلى قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ ألِيمٍ قال : ذكر لنا أن عليّا نادى بالأذان ، وأمر على الحاج أبو بكر رضي الله عنهما ، وكان العام الذي حجّ فيه المسلمون والمشركون ، ولم يحجّ المشركون بعد ذلك العام . قوله : الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ . . . إلى قوله : إلى مُدّتِهِمْ قال : هم مشركو قريش الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر وأمر الله نبيه أن يوفي بعهدهم إلى مدتهم ومن لا عهد له انسلاخ المحرم ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده ، وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ولا يقبل منهم إلا ذلك .
وقال آخرون : كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر ، وانقضاء ذلك لجميعهم وقتا واحدا . قالوا : وكان ابتداؤه يوم الحجّ الأكبر ، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الاَخر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال : لما نزلت هذه الآية ، بريء من عهد كلّ مشرك ، ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد ، وأجرى لكل مدتهم . فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ لمن دخل عهده فيها من عشر ذي الحجة والمحرّم ، وصفر وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من ربيع الاَخر .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، قال : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره ، قالوا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بثلاثين أو أربعين آية من براءة ، فقرأها على الناس يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجل المشركين عشرين من ذي الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وشهر ربيع الأوّل ، وعشرا من ربيع الاَخر ، وقرأها عليهم في منازلهم ، وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ عشرون من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من ربيع الاَخر كان ذلك عهدهم الذي بينهم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى أهل العهد : خزاعة ، ومدلج ، ومن كان له عهد من غيرهم . أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجّ ، ثم قال : «إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فلا أحبّ أن أحجّ حتى لا يكون ذلك » . فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، فطافا بالناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر ، ثم لا عهد لهم . وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ قال : أهل العهد مدلج ، والعرب الذين عاهدهم ، ومن كان له عهد . قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحجّ ، ثم قال : «إنّهُ يَحْضُرُ البَيْتَ مُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ عُرَاةً فَلا أُحِبّ أنْ أحجّ حتى لا يكُون ذلكَ » فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، فطافا بالناس بذي المجاز ، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالموسم كله ، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر ، في الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات : عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الاَخر ، ثم لا عهد لهم . وآذان الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا ، فآمن الناس أجمعون حينئذ ولم يسح أحد . وقال : حين رجع من الطائف مضى من فوره ذلك ، فغزا تبوك بعد إذ جاء إلى المدينة .
وقال آخرون ممن قال : «ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدا » . كان ابتداؤه يوم نزلت براءة ، وانقضاؤه انقضاء الأشهر الحرم ، وذلك انقضاء المحرم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الأزهري : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ قال : نزلت في شوّال ، فهذه الأربعة الأشهر : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة والمحرّم .
وقال آخرون : إنما كان تأجيل الله الأشهر الأربعة المشركين في السياحة لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقلّ من أربعة أشهر ، أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يتمّ له عهده إلى مدته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمّ له الأربعة . ومن كان له عهدا أكثر من أربعة أشهر فهو الذي أمر أن يتمّ له عهده ، وقال : أتِمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ .
قال أبو جعفر رحمه الله : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه ، فإن الله جلّ ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله : إلا الذين عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكينَ ثُمّ لَمْ يُنْقُصُوكُمْ شِيْئا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أحَدا فَأتمّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدّتِهِمْ إنّ الله يُحِبّ المُتّقِينَ .
فإن ظنّ ظانّ أن قول الله تعالى ذكره : فإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يدلّ على خلاف ما قلنا في ذلك ، إذ كان ذلك ينبىء عن أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم قتل كل مشرك ، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن ، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تنبىء عن صحة ما قلنا وفساد ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر الحرم كان يبيح قتل كل مشرك كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يكن له منه عهد ، وذلك قوله : كَيْفَ يَكُونُ للْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلاّ الّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتّقِينَ فهؤلاء مشركون ، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم وترك مظاهرة عدوّهم عليهم . وبعد : ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين بعث عليّا رضي الله عنه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فعهده إلى مدته أوضح الدليل على صحة ما قلنا وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهده بترك نقضه ، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود ، فأما من كان أجل عهده محدودا ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورا ، بذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا قيس ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : ثني محرر بن أبي هريرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنت مع عليّ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي ، فكان إذا صَحِلَ صوته ناديت ، قلت : بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال : بأربع : لا يطف بالكعبة عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، قال : حدثنا الشيباني ، عن الشعبيّ ، قال : أخبرنا المحرر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، قال : كنت مع عليّ رضي الله عنه ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : «ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلمعهد فعهده إلى أجله » .
وقد حدث بهذا الحديث شعبة ، فخالف قيسا في الأجل .
فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن الشعبيّ ، عن المحرّر بن أبي هريرة ، عن أبيه ، قال : كنت مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة ، فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، فقلت : بأي شيء كنت تنادي ؟ قال : أمرنا أن ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر ، فإذا حلّ الأجل فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يطف بالبيت عريان ، ولا يحجّ بعد العام مشرك .
قال أبو جعفر رحمه الله : وأخشى أن يكون هذا الخبر وهما من ناقله في الأجل ، لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث الأعور عن عليّ رضي الله عنه ، قال : أمرت بأربع : أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطف رجل بالبيت عريانا ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة ، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع قال : نزلت براءة ، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، ثم أرسل عليّا فأخذها منه . فلما رجع أبو بكر ، قال : هل نزل فيّ شيء ؟ قال : لا ، ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي . فانطلق إلى مكة ، فقام فيهم بأربع : أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطف بالكعبة عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن عليّ ، قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت براءة بأربع : أن لا يطف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن الحرث ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : بعثت إلى أهل مكة بأربع ، ثم ذكر الحديث .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا حسين بن محمد ، قال : حدثنا سليمان بن قرم ، عن الأعمش عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة ، ثم أتبعه عليّا ، فأخذها منه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله حدث فيّ شيء ؟ قال : «لا ، أنْتَ صَاحِبي فِي الغارِ وعَلى الحَوْضِ ، ولاَ يُؤَدّي عَنّي إلاّ أنا أوْ عليّ » ، وكان الذي بعث به عليّا أربعا : لا يدخلَ الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر ، قال : بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه ، فنادى : ألا لا يحجنّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته ، والله بريء من المشركين ورسولُه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف ، عن أبي جعفر محمد بن عليّ بن حسين بن عليّ ، قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم الحجّ للناس قيل له : يا رسول الله لو بعثت إلى أبي بكر فقال : «لا يُؤَدّي عَنّي إلاّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِي » ثم دعا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : «اخْرُجْ بِهَذِهِ القِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ ، وأذّن في النّاسِ يَوْمَ النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى : أنّه لا يَدْخُلُ الجَنّة كافِرٌ ، ولاَ يَحُجّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ ، ولاَ يَطُفْ بالبَيْتِ عُرْيانٌ ، وَمَنْ كانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَهُوَ إلى مُدّتِهِ » فخرج عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ، حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق فلما رآه أبو بكر ، قال : أمير أو مأمور ؟ قال : مأمور . ثم مضيا رضي الله عنهما ، فأقام أبو بكر للناس الحجّ والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر ، قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذّن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أيها الناس لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما نزلت هذه الاَيات إلى رأس أربعين آية ، بعث بهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمرّه على الحجّ ، فلما سار فبلغ الشجرة من ذي الحليفة أتبعه بعليّ فأخذها منه ، فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء ؟ قال : «لا ، ولَكِنْ لا يُبَلّغُ عَنّي غَيرِي أوْ رَجُلٌ مِنّي أما تَرْضَى يا أبا بَكْرٍ أنّكَ كُنْتَ مَعِي في الغارِ ، وأنّكَ صَاحِبي على الحَوْض ؟ » قال : بلى يا رسول الله . فسار أبو بكر على الحاجّ ، وعليّ يؤذن ببراءة ، فقام يوم الأضحى ، فقال : لا يقربنّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوفنّ بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته ، وإن هذه أيام أكل وشرب ، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما . فقالوا : نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب فرجع المشركون فلام بعضهم بعضا ، وقالوا : ما تضعون وقد أسلمت قريش ؟ فأسلموا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يثيع ، عن عليّ ، قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده قال معمر : وقاله قتادة .
قال أبو جعفر رحمه الله ، فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا ، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا ، فأما كان عهده إلى مدة معلومة فلم يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لنقضه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلاً ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَفّى له عهده إلى مدته عن أمر الله إياه بذلك ، وعلى ذلك دلّ ظاهر التنزيل وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم . وأما الأشهر الأربعة فإنها كانت أجلَ من ذكرنا ، وكان ابتداؤها يوم الحجّ الأكبر وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الاَخر ، فذلك أربعة أشهر متتابعة ، جعل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم فيها السياحة في الأرض ، يذهبون حيث شاءوا ، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحد بحرب ولا قتل ولا سلب .
فإن قال قائل : فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت ، فما وجه قوله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُموهُمْ وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرم ، وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر ، وإنما بين الحج الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يوما أكثره ، فأين الخمسون يوما من الأشهر الأربعة ؟ قيل : إن انسلاخ الأشهر الحرم إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأشهر الأربعة لمن له عهد ، إما إلى أجل غير محدود وإما إلى أجل محدود قد نقضه ، فصار بنقضه إياه بمعنى من خيف خيانته ، فاستحق النبذ إليه على سواء غير أنه جعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر ، ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة ، ويصفهم بأنهم أهل عهد بَرَاءةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إلى الّذِينَ عاهَدْتُمُ مِنَ المُشْرِكينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مُعْجِزِي الله ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرام أجلاً بأنهم أهل شرك لا أهل عهد ، فقال : وأذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى النّاسِ يَوْمَ الحَجّ الأكْبَرِ أنّ الله بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ . . . الآية إلاّ الّذينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ . . . الآية ، ثم قال : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكيِنَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ؟ فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ، وبإتمام عهد الذين لهم عهد إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين وإدخال النقص فيه عليهم .
فإن قال قائل : وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحجّ الأكبر دون أن يكون كان من شوّال على ما قاله قائلوا ذلك ؟ قيل له : إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول براءة ، وذلك غير جائز أن يكون صحيحا لأن المجعول له أجل السياحة إلى وقت محدود إذا لم يعلم ما جعل له ، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه ، فكمن لم يجعل له ذلك لأنه إذا لم يعلم ماله في الأجل الذي جعل له وما عليه بعد انقضائه فهو كهيئته قبل الذي جعل له من الأجل ، ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جعل لهم من ذلك إلا حين نودي فيهم بالموسم ، وإذا كان ذلك كذلك صحّ أن ابتداءه ما قلنا وانقضاءه كان ما وصفنا .
وأما قوله : فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ فإنه يعني : فسيروا فيها مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، يقال منه : ساح فلان في الأرض يسيح سياحة وسُيُوحا وسيحانا .
وأما قوله : واعْلَمُوا أنّكُمْ غيرُ مَعْجِزي الله فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبل نزول هذه الآية : اعملوا أيها المشركون أنكم إن سحتم في الأرض واخترتم ذلك مع كفركم بالله على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله ، غَيْرُ مُعْجِزي الله يقول : غير مفيتيه بأنفسكم لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض ففي قبضته وسلطانه ، لا يمنعكم منه وزير ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقل ولا موئل إلا الإيمان به وبرسوله والتوبة من معصيته . يقول : فبادروا عقوبته بتوبة ، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم .
وأما قوله : وأنّ اللّهَ مُخْزي الكافِرِينَ يقول : واعلموا أن الله مذلّ الكافرين ، ومورثهم العار في الدنيا والنار في الاَخرة .
سورة التوبة وقيل إلا آيتين من قوله : { لقد جاءكم رسول } وهي آخر ما نزل ولها أسماء أخر ، " التوبة " و " المقشقشة " و " البحوث " و " المبعثرة " و " المنقرة " و " المثيرة " و " الحافرة " و " المخزية " و " الفاضحة " و " المنكلة " و " المشردة " و " المدمدمة " و " سورة العذاب " لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبري منه ، والبحث عن حال المنافقين وإثارتها ، والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم .
وآيها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون ، وإنما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الأمان وبسم الله أمان . وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة أو آية بين موضعها ، وتوفي ولم يبين موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتناسبها لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها . وقيل لما اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة السبع الطوال أو سورتان تركت بينهما فرجة ولم تكتب بسم الله .
{ براءة من الله ورسوله } أي هذه براءة ، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره وأصله { من الله ورسوله } ، ويجوز أن تكون { براءة } مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر { إلى الذين عاهدتم من المشركين } وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة ، والمعنى : أن الله ورسوله برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وإنما علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت صادرة بإذن الله تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها ، وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلا أناسا منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فقال : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } .
سميت هذه السورة ، في أكثر المصاحف ، وفي كلام السلف : سورة براءة ففي الصحيح عن أبي هريرة ، في قصة حج أبي بكر بالناس ، قال أبو هريرة : فأذن معنا علي بن أبي طالب في أهل منى ببراءة . وفي صحيح البخاري ، عن زيد بن ثابت قال : آخر سورة نزلت سورة براءة ، وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه . وهي تسمية لها بأول كلمة منها .
وتسمى سورة التوبة في كلام بعض السلف في مصاحف كثيرة ، فعن ابن عباس سورة التوبة هي الفاضحة ، وترجم لها الترمذي في جامعه باسم التوبة . ووجه التسمية : أنها وردت فيها توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وهو حدث عظيم .
ووقع هذان الاسمان معا في حديث زيد بن ثابت ، في صحيح البخاري ، في باب جمع القرآن ، قال زيد فتتبعت القرآن حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } ، حتى خاتمة سورة براءة .
وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف التي رأيناها .
ولهذه السورة أسماء أخر ، وقعت في كلام السلف ، من الصحابة والتابعين ، فروي عن ابن عمر ، عن ابن عباس : كنا ندعوها أي سورة براءة المقشقشة بصيغة اسم الفاعل وتاء التأنيث من قشقشة إذا أبراه من المرض ، كان هذا لقبا لها ولسورة { الكافرون } لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك ، لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص ، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين .
وكان ابن عباس يدعوها الفاضحة : قال ما زال ينزل فيها ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد إلا ذكر فيها .
وأحسب أن ما تحكيه من أحوال المنافقين يعرف به المتصفون بها أنهم المراد ، فعرف المؤمنون كثيرا من أولئك مثل قوله تعالى { ومنهم من يقول ائذن ولا تفتني } فقد قالها بعضهم وسمعت منهم ، وقوله { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } فهؤلاء نقلت مقالتهم بين المسلمين . وقوله { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم } .
وعن حذيفة : أنه سماها سورة العذاب لأنها نزلت بعذاب الكفار ، أي عذاب القتل والأخذ حين يثقفون .
وعن عبيد بن عمير أنه سماها المنقرة بكسر القاف مشددة لأنها نقرت عما في قلوب المشركين لعله يعني من نوايا الغدر بالمسلمين والتمالي على نقض العهد وهو من نقر الطائر إذا أنفى بمنقاره موضعا من الحصى ونحوه ليبيض فيه .
وعن المقداد بن الأسود ، وأبي أيوب الأنصاري : تسميتها البحوث بباء موحدة مفتوحة في أوله وبمثلثة في آخره بوزن فعول بمعنى الباحثة وهو مثل تسميتها المنقّرة .
وعن الحسن البصري أنه دعاها الحافرة كأنها حفرت عما في قلوب المنافقين من النفاق ، فأظهرته للمسلمين .
وعن قتادة : أنها تسمى المثيرة لأنها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها . وعن ابن عباس أنه سماها المبعثرة لأنها بعثرت عن أسرار المنافقين ، أي أخرجتها من مكانها .
وفي الإتقان : أنها تسمى المخزية بالخاء والزاي المعجمة وتحتية بعد الزاي وأحسب أن ذلك لقوله تعالى { إن الله مخزي الكافرين } .
وفي الإتقان أنها تسمى المنكلة ، أي بتشديد الكاف .
وعن سفيان أنها تسمى المدمدمة بصيغة اسم الفاعل من دمدم إذا أهلك لأنها كانت سبب هلاك المشركين . فهذه أربعة عشر اسما .
وهي مدنية بالاتفاق . قال في الإتقان : واستثنى بعضهم قوله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } الآية ففي صحيح البخاري أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب . فكان آخر قول أبي طالب : أنه على ملة عبد المطلب ، فقال النبي " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " . وتوفي أبو طالب فنزلت { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } .
وشذ ما روي عن مقاتل : أن آيتين من آخرها مكيتان ، وهما { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } إلى آخر السورة . وسيأتي ما روي أن قوله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج } . الآية . نزل في العباس إذ أسر يوم بدر فعيره علي بن أبي طالب بالكفر وقطيعة الرحم ، فقال : نحن نحجب الكعبة الخ .
وهذه السورة آخر السور نزولا عند الجميع ، نزلت بعد سورة الفتح ، في قول جابر بن زيد ، فهي السورة الرابعة عشر بعد المائة في عداد نزول سور القرآن . وروي : أنها نزلت في أول شوال سنة تسع ، وقيل آخر ذي القعدة سنة تسع ، بعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة للحجة التي أمره عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : قبيل خروجه .
والجمهور على أنها نزلت دفعة واحدة ، فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال .
وفسر كثير من المفسرين بعض آيات هذه السورة بما يقتضي أنها نزلت أوزاعا في أوقات متباعدة ، كما سيأتي ، ولعل مراد من قال إنها نزلت غير متفرقة : أنه يعني إنها لم يتخللها ابتداء نزول سورة أخرى .
والذي يغلب على الظن أن ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى { فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } نزلت متتابعة ، كما سيأتي في خبر بعث علي بن أبي طالب ليؤذن بها في الموسم . وهذا ما اتفقت عليه الروايات . وقد قيل : إن ثلاثين آية منها ، من أولها إلى قوله تعالى { قاتلهم الله أنى يؤفكون } أذن بها يوم الموسم ، وقيل : أربعين آية : من أولها إلى قوله { وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } أذن به في الموسم ، كما سيأتي أيضا في مختلف الروايات ، فالجمع بينها يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة ، على أن نزول جميع السورة دفعة واحدة ليس ببعيد عن الصحة .
وعدد آيها ، في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة : مائة وثلاثون آية ، وفي عد أهل الكوفة مائة وتسع وعشرون آية .
اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك ، في رمضان سنة تسع ، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه ولكنه كره عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحج معه ، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك ، أي قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وطوافهم عراة ، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض والمعنى أن مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرا من الكفر ولا يغيره بيده لأن ذلك أقوى الإيمان . فأمسك عن الحج تلك السنة ، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين ، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وأكثر الأقوال على أن براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة ، فكان ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } إلى قوله { أولئك أن يكونوا من المهتدين } وقوله { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } الآية . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لنبي بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدة . واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح . واستصرخت خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم فوعدهم بالنصر وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ثم حنين ثم الطائف ، وحج بالمسلمين تلك السنة سنة ثمان عتاب بن أسيد ، ثم كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . من تبوك أمر أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على الناس . ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك .
وقد يقع خلط في الأخبار بين قضية بعث أبي بكر الصديق ليحج بالمسلمين عوضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين قضية بعث علي بن أبي طالب ليؤذن في الناس بسورة براءة في تلك الحجة اشتبه به الغرضان على من أراد أن يتلبس وعلى من لبس عليه الأمر فأردنا إيقاظ البصائر لذلك . فهذا سبب نزولها وذكره أول أغراضها . فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن .
وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم .
ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج .
وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها .
وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم .
وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية ، وأنهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم .
وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية .
وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه . وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين ، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة . والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك .
وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر . وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها .
وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول . وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين .
والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب . ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة ، ومن التكالب على الأموال .
وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين .
ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم .
ونهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على موتاهم .
وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية ، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة .
وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم . وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين وذكر ما أعد لهم من الخير .
وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر . وفضل المهاجرين والأنصار .
والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح .
والجهاد وأنه فرض على الكفاية . والتذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم .
والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها .
والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كل خير لهم .
وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين . اعلم أنه قد ترك الصحابة الذين كتبوا المصحف كتابة البسملة قبل سورة براءة كما نبهت عليه عند الكلام على سورة الفاتحة . فجعلوا سورة براءة عقب سورة الأنفال بدون بسملة بينهما ، وتردد العلماء في توجيه ذلك . وأوضح الأقوال ما رواه الترمذي والنسائي ، عن ابن عباس ، قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمان الرحيم . فقال عثمان : إن رسول الله كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيها بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمان الرحيم .
ونشأ من هذا قول آخر : وهو أن كتبة المصاحف في زمن عثمان اختلفوا في الأنفال . وبراءة ، هل هما سورة واحدة أو هما سورتان ، فتركوا فرجة فصلا بينهما مراعاة لقول من عدهما سورتين ، ولم يكتبوا البسملة بينهما مراعاة لقول من جعلهما سورة واحدة ، وروى أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب : أنهم إنما تركوا البسملة في أولها لأن البسملة أمان وبشارة ، وسورة براءة نزلت بنبذ العهود والسيف ، فلذلك لم تبدأ بشعار الأمان ، وهذا إنما يجري على قول من يجعلون البسملة آية من أول كل سورة عدا سورة براءة ففي هذا رعي لبلاغة مقام الخطاب كما أن الخاطب المغضب يبدأ خطبته بأما بعد دون استفتاح . وشأن العرب وإذا كان بينهم عهد فأرادوا نقضه ، كتبوا إلى القوم الذين ينبذون إليهم بالعهد كتابا ولم يفتتحوه بكلمة باسمك اللهم فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين بعث عليا إلى الموسم فقرأ صدر براءة ولم يبسمل جريا على عادتهم في رسائل نقض العهود . وقال ابن العربي في الأحكام : قال مالك فيما روى عنه ابن وهب ، وابن القاسم ، وابن عبد الحكم : إنه لما سقط أولها ، أي سورة براءة سقط بسم الله الرحمان الرحيم معه . ويفسر كلامه ما قاله ابن عطية : روي عن مالك أنه قال : بلغنا أن سورة براءة كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه . وما نسبه ابن عطية إلى مالك عزاه ابن العربي إلى ابن عجلان فلعل في نسخة تفسير ابن عطية نقصا . والذي وقفنا عليه من كلام مالك في ترك البسملة من سورة الأنفال وسورة براءة : هو ما في سماع ابن القاسم في أوائل كتاب الجامع الأول من العتبية قال مالك في أول براءة إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم ، كأنه رآه من وجه الاتباع في ذلك ، كانت في آخر ما نزل من القرآن . وساق حديث ابن شهاب في سبب كتابة المصحف في زمن أبي بكر وكيف أخذ عثمان الصحف من حفصة أم المؤمنين وأرجعها إليها . قال ابن رشد في البيان والتحصيل ما تأوله مالك من أنه إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم من وجه الاتباع ، المعنى فيه والله أعلم أنه إنما ترك عثمان بن عفان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وبراءة ، وإن كانتا سورتين بدليل أن براءة كانت آخر ما أنزل الله من القرآن ، وأن الأنفال أنزلت في بدر سنة أربع ، اتباعا لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة . ولم يذكر ابن رشد عن مالك قولا غير هذا .
افتتحت السورة كما تفتتح العهودُ وصكوك العقود بأدَلّ كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم : هذا ما عهد به فلان ، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان ، وقول الموثّقين : باع أو وكّل أو تزوّج ، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائِل والمواثيق ونحوها .
وتنكير { براءة } تنكير التنويع ، وموقع { براءة } مبتدأ ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أنّ هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدّم في قوله تعالى : { المص كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 1 ، 2 ] .
والمجروران في قوله : { من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم } في موضع الخبر ، لأنّه المقصود من الفائِدة أي : البراءة صدرت من الله ورسوله .
و { من } ابتدائية ، و { إلى } للانتهاء لما أفاده حرف { من } من معنى الابتداء . والمعنى أنّ هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغاً إلى الذين عاهدتم من المشركين .
والبراءة الخروج والتفصّي مما يتعب ورفعُ التبِعة . ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويُعد الإخلاف بشيء منه غدراً على المخلف ، كان الإعلان بفسخ العهد براءةً من التبِعات التي كانت بحيثُ تنشأ عن إخلاف العهد ، فلذلك كان لفظ { براءة } هنا مفيداً معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهَدون حِذرهم . وقد كان العرب ينبذون العهد ويردّون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما ، كما فعل ابن الدُّغُنَّه في ردّ جوار أبي بكر عن قريش ، وما فعل عثمان بن مظعون في ردّ جوار الوليد بن المغيرة إيّاه قائلاً : « رضيتُ بجوار ربّي ولا أريد أن أستجير غيره » . وقال تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58 ] أي : ولا تخنهم لظنّك أنّهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم .
ولمّا كان الجانب ، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته ، هو جانب النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من الله ، جعلت هذه البراءة صادرة من الله ، لأنّه الآذن بها ، ومن رسوله ، لأنّه المباشر لها . وجُعل ذلك منهَّى إلى المعاهدين من المشركين ، لأنّ المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصالُه ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدراً .
والخطاب في قوله : { عاهدتم } للمؤمنين . فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها .
واعلم أنّ العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة ، فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عَهد الحديبية : أن لا يُصَدّ أحد عن البيت إذا جاء ، وأن لا يُخاف أحد في الشهر الحرام ، وقد كان معظم قبائل العرب داخلاً في عقد قريش الواقع في الحديبية ؛ لأنّ قريشاً كانوا يومئذٍ زعماء جميع العرب ، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ : أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش دخل فيه ، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمَن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية .
وهذا العهد ، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين ، فقد كان عَديلُهُ لازماً لفائِدة المشركين على المسلمين ، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكّة ، فزال ما زال منه بعد فتح مكّة وإسلام قريش وبعض أحْلافهم .
وكان بين المسلمين وبعض قبائِل المشركين عهود ؛ كما أشارت إليه سورة النساء ( 90 ) في قوله تعالى : { إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } الآية ، وكما أشارت إليه هذه السورة ( 4 ) في قوله تعالى : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } الآية .
وبعض هذه العهود كان لغير أجل معيّن ، وبعضها كان لأجل قد انقضى ، وبعضها لم ينقض أجله . فقد كان صلح الحديبية مؤجّلاً إلى عَشر سنين في بعض الأقوال وقيل : إلى أربع سنين ، وقيل : إلى سنتين . وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ ، فيكون قد انقضت مدّته على بعض الأقوال ، ولم تنقض على بعضها ، حين نزول هذه الآية . وكانوا يحسبون أنّه على حكم الاستمرار ، وكان بعض تلك العهود مؤجلاً إلى أجل لم يتمّ ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير العاهدين ، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين ، فقد ذُكر أنّه لمّا وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أنّ المسلمين غُلبوا فنقض كثير من المشركين العهد ، وممّن نقض العهد بعضُ خزاعة ، وبنُو مُدلِج ، وبنو خزيمة أو جَذِيمة ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحدا } [ التوبة : 4 ] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حِذرهم ، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك ، لأنّ الأرض صارت لأهل الإسلام كما دلّ عليه قوله تعالى بعدُ : { فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله } [ التوبة : 3 ] .
وإنّما جعلت البراءة شأنا من شؤون الله ورسوله ، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين : للإشارة إلى أنّ العهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه بأنفسهم ، لأنّ عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنّما كانت لمصلحة المسلمين ، في وقت عدم استجماع قوتهم ، وأزمانَ كانت بقية قوةٍ للمشركين ، وإلاّ فإنّ أهل الشرك ما كانوا يستحقّون من الله ورسوله توسعة ولا عهداً لأنّ مصلحة الدين تكون أقْوَمُ إذا شّدد المسلمون على أعدائه ، فالآن لمّا كانت مصلحة الدين متمحّضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن اللَّهُ رسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من ذلك العهد ، فلا تبعة على المسلمين في نبذه ، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنّ ذلك توسعة على المسلمين ، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية ، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين ، على أنّ في الكلام احتباكاً ، لما هو معروف من أنّ المسلمين لا يعملون عملاً إلاّ عن أمر من الله ورسوله ، فصار الكلام في قوَّة براءة من الله ورسوله ومنكم ، إلى الذين عاهد الله ورسولُه وعاهدتم .
فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلّها الموصول في قوله : { إلى الذين عاهدتم من المشركين } . فالتعريف بالموصولية هنا ، لأنّها أخصر طريق للتعبير عن المقصود ، مع الإشارة إلى أنّ هذه البراءة براءة من العهد ، ثم بيّن بعضها بقوله : { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً } [ التوبة : 4 ] الآية .