وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف ؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة ؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى ؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى .
إن الاستغراق في شهوات الدنيا ، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار ؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة ؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى ؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة ؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض ؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض .
ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية ، ومكلفة من قبل الباريء - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها ، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها ، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها ، وتخفيف حدتها واندفاعها ؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها ، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه ؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى .
ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي . . هذه الرغائب والدافع ، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر الوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر ، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة ، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة .
وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام . . وهي خلاصة للرغائب الأرضية . إما بذاتها ، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى . . وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر : جنات تجري من تحتها الأنهار . وأزواج مطهرة . وفوقها رضوان من الله . . وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض ، ويصل قلبه بالله ، على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان :
( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث . . ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب . قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله . والله بصير بالعباد . الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار . . )
( زين للناس ) . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل ؛ فهو محبب ومزين . . وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه . ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه " الشهوات " ، وهو جزء من تكوينه الأصيل ، لا حاجة إلى إنكاره ، ولا إلى استنكاره في ذاته . فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل ، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده ؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها . هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي ، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه " الشهوات " . الحد الباني للنفس وللحياة ؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذيتهتف إليه النفحة العلوية ، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله . . هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول ، وينقيه من الشوائب ، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة ، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة . . والاتجاه إلى الله ، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة .
( زين للناس حب الشهوات ) . . فهي شهوات مستحبة مستلذة ؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها ؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك " الشهوات " في غير استغراق ولا إغراق !
وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن " الكبت " واضراره ، وعن " العقد النفسية " التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو " الكبت " وليس هو " الضبط " . . وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا ، فهي خطيئة ودافع شيطاني ! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا . . وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون " العقد النفسية " . . فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي . . وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .
( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث . . . ) . .
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية . . وقد قرن اليهما ( القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) . . ونهم المال هو الذي ترسمه ( القناطير المقنطرة ) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى !
ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . . الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية !
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع . . الأنعام والحقول المخصبة . . والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفتإليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :
( ذلك متاع الحياة الدنيا ) . .
ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة ، ولا الآفاق البعيدة . . متاع هذه الأرض القريب . .
{ زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }
يعني تعالى ذكره : ( زين للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ . وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثروا الدنيا وحبّ الرياسة فيها على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه . وكان الحسن يقول : من زَيْنها ما أحدٌ أشدّ لها ذما من خالقها . )
حدثني بذلك أحمد بن حازم : قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو الأشعث ، عنه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد ، قال : قال عمر : لما نزل : { زُيّنَ للنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ } قلت : الاَن يا ربّ حين زينتها لنا ! فنزلت : { قُلْ أَؤنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلّذِينَ اتّقَوْا عِنْدَ رَبّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ } . . . الاَية .
وأما القناطير : فإنها جمع القنطار .
واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار ، فقال بعضهم : هو ألف ومائتا أوقية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معاذ بن جبل ، قال : القنطار : ألف ومائتا أوقية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا أبو حصين ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معاذ ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ، يعني حفص بن ميسرة ، عن أبي مروان ، عن أبي طيبة ، عن ابن عمر ، قال : القنطار : ألف ومائتا أوقية .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا قاسم بن مالك المزني ، قال : أخبرني العلاء بن المسيب ، عن عاصم بن أبي النّجود ، قال : القنطار : ألف ومائتا أوقية .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عاصم بن بهدلة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، مثله .
حدثني زكريا بن يحيى الصديق ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا مخلد بن عبد الواحد ، عن عليّ بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زرّ بن حبيش ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القِنْطَارُ ألْفُ أُوقِيّةٍ وَمِائَتا أُوقِيّة » .
وقال آخرون : القنطار : ألف دينار ومائتا دينار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا يونس عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القِنْطَارُ ألْفٌ وَمِائَتا دِينارٍ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا يونس ، عن الحسن ، قال : القنطار : ألف ومائتا دينار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : القنطار ألف ومائتا دينار ، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : القناطير المقنطرة ، يعني : المال الكثير من الذهب والفضة ، والقنطار : ألف ومائتا دينار ، ومن الفضة : ألف ومائتا مثقال .
وقال آخرون : القنطار : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : القنطار : اثني عشر ألف درهم ، أو ألف دينار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : القنطار : ألف دينار ، ومن الورِق : اثنا عشر ألف درهم .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أن القنطار اثنا عشر ألفا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن : القنطار : اثنا عشر ألفا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن : اثنا عشر ألفا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن بمثل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : القنطار : ألف دينار ، دية أحدكم .
وقال آخرون : هو ثمانون ألفا من الدراهم ، أو مائة رطل من الذهب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : القنطار ، ثمانون ألفا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : القنطار : ثمانون ألفا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألفا من الورِق .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : القنطار : مائة رطل من ذهب ، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : القنطار : مائة رطل .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : القنطار يكون مائة رطل ، وهو ثمانية آلاف مثقال .
وقال آخرون : القنطار سبعون ألفا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { القَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ } قال : القنطار : سبعون ألف دينار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا عمر بن حوشب ، قال : سمعت عطاء الخراساني ، قال : سئل ابن عمر عن القنطار ، فقال : سبعون ألفا .
وقال آخرون : هي ملء مَسْك ثور ذهبا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سالم بن نوح ، قال : حدثنا سعيد الجريري ، عن أبي نضرة ، قال : ملء مسك ثور ذهبا .
حدثني أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو الأشعث ، عن أبي نضرة : ملء مسك ثور ذهبا .
وقال آخرون : هو المال الكثير . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : { القناطير المقنطرة } : المال الكثير بعضه على بعض .
وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن ، ولكنها تقول : هو قدر ووزن . وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك ، لأن ذلك لو كان محدودا قدره عندها لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كل هذا الاختلاف .
( فالصواب في ذلك أن يقال : هو المال الكثير ، كما قال الربيع بن أنس ، ولا يحدّ قدر وزنه بحدّ على تعنف ، وقد قيل ما قيل مما روينا . وأما المقنطرة : فهي المضعفة ، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة ، وهو كما قال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض . ) كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : القناطير المقنطرة من الذهب والفضة : والمقنطرة المال الكثير بعضه على بعض .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { القَنَاطِير المُقَنْطَرة } : يعني المال الكثير من الذهب والفضة .
وقال آخرون : معنى المقنطرة : المضروبة دراهم أو دنانير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : { المُقْنَطَرَة } فيقول : المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم .
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا } خبر لو صح سنده لم نعده إلى غيره ، وذلك ما :
حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي ، قال : ثني عمرو بن أبي سلمة ، قال : حدثنا زهير بن محمد ، قال : ثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنّ قِنْطارا } قال : «ألْفَا مِئِين » . يعني ألفين .
القول في تأويل قوله تعالى : { والخَيْلُ المُسَوّمَةِ } .
اختلف أهل التأويل في معنى المسوّمة ، فقال بعضهم : هي الراعية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير : الخيل المسوّمة ، قال : الراعية التي ترعى .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير : هي الراعية ، يعني السائمة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن طلحة القناد ، قال : سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول : الراعية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : الراعية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } المسرّحة في الرعي .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : الخيل الراعية .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد أنه كان يقول : الخيل الراعية .
وقال آخرون : المسوّمة : الحسان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، قال : قال مجاهد : المسوّمة : المطهمة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن مجاهد في قوله : { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : المطهمة الحسان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : المطهمة حسنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن مجاهد : المطهمة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، قال : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني ، قال : سألت عكرمة عن الخيل المسوّمة ، قال : تسويمها : حسنها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني ، قال : سمعت عكرمة يقول : { الخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : تسويمها : الحسن .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ والأنْعَامِ } الرائعة .
وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غير موسى ، قال : الراعية .
وقال آخرون : { الخَيْلِ المُسَوّمَةِ } المعلمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } يعني : المعلمة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } وسيماها شِيَتها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : شية الخيل في وجوهها .
وقال غيرهم : المسوّمة : المعدّة للجهاد . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد { وَالخَيْلِ المُسَوّمَةِ } قال : المعدة للجهاد .
قال أبو جعفر : أولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : { والخَيْلِ المُسَوّمَةِ } المعلمة بالشيات الحسان الرائعة حسنا من رآها ، لأن التسويم في كلام العرب : هو الإعلام ، فالخيل الحسان معلمة بإعلام إياها بالحسن من ألوانها وشياتها وهيئاتها ، وهي المطهمة أيضا ، ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل :
بِسُمْرٍ كالْقِدَاحٍ مُسَوّماتٍ *** عليها مَعْشَرٌ أشباهُ جِنّ
يعني بالمسوّمات : المعلمات¹ وقول لبيد :
وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَيْنِ أتَيْنَهُمْ *** زُجَلاً يَلُوحُ خِلالَها التّسْويمُ
فمعنى تأويل من تأول ذلك : المطهمة ، والمعلمة ، والرائعة واحد . وأما قول من تأوّله بمعنى الراعية فإنه ذهب إلى قول القائل : أسَمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة : إذا رعيتها الكلأ والعشب ، كما قال الله عزّ وجلّ : { ومنهُ شجرٌ فِيهِ تسيمونَ } بمعنى ترعون ، ومنه قول الأخطل :
مثلِ ابن بَزْعَةَ أو كآخَرَ مِثْلِهِ *** أوْلى لكَ ابنَ مُسِيمَةِ الأجْمالِ
يعني بذلك راعية الأجمال ، فإذا أريد أن الماشية هي التي رعت ، قيل : سامت الماشية تسوم سوما ، ولذلك قيل : إبل سائمة ، بمعنى راعية ، غير أنه مستفيض في كلامهم سوّمت الماشية ، بمعنى أرعيتها ، وإنما يقال إذا أريد ذلك : أسمتها . فإذا كان ذلك كذلك ، فتوجيه تأويل المسوّمة إلى أنها المعلمة بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها أصحّ . وأما الذي قاله ابن زيد من أنها المعدّة في سبيل الله ، فتأويل من معنى المسوّمة بمعزل .
القول في تأويل قوله تعالى : { والأنْعامِ والحَرْثِ } .
( فالأنعام جمع نعم : وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه من الضأن والمعز والبقر والإبل . وأما الحرث : فهو الزرع . وتأويل الكلام : زين للناس حبّ الشهوات من النساء ومن البنين ، ومن كذا ومن كذا ، ومن الأنعام والحرث . )
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ مَتاعُ الحَيَاةِ الدّنْيا وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } .
يعني بقوله جل ثناؤه : ذلك جميع ما ذكر في هذه الاَية من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسوّمة ، والأنعام والحرث ، فكنى بقوله «ذلك » عن جميعهن ، وهذا يدلّ على أن «ذلك » يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني ، ويكنى به عن جميع ذلك . وأما قوله : { مَتاعُ الحَيَاةِ الدّنْيا } فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يستمتع به في الدنيا أهلها أحياء ، فيتبلغون به فيها ، ويجعلونه وصلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم ، التي زين لهم حبها ، في عاجل دنياهم ، دون أن يكون عدّة لمعادهم ، وقربة لهم إلى ربهم ، إلا ما أسلك في سبيله ، وأنفق منه فيما أمر به .
وأما قوله : { وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } فإنه يعني بذلك جل ثناؤه : وعند الله حسن المآب ، يعني حسن المرجع . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } يقول : حسن المنقلب ، وهي الجنة .
وهو مصدر على مثال مفْعَل ، من قول القائل : آب الرجل إلينا : إذا رجع ، فهو يؤوب إيابا وأوبة وأيبة ومآبا ، غير أن موضع الفاء منها مهموز ، والعين مبدلة من الواو إلى الألف بحركتها إلى الفتح ، فلما كان حظها الحركة إلى الفتح ، وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها وهو فاء الفعل انقلبت فصارت ألفا ، كما قيل : قال : فصارت عين الفعل ألفا ، لأن حظها الفتح والمآب ، مثل المقال والمعاد والمحال ، كل ذلك مَفْعَلْ ، منقولة حركة عينه إلى فائه ، فتصير وواه أو ياؤه ألفا لفتحة ما قبلها .
فإن قال قائل : وكيف قيل : { وَاللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ } وقد علمت ما عنده يومئذٍ من أليم العذاب وشديد العقاب ؟ قيل : إن ذلك معنيّ به خاصّ من الناس ، ومعنى ذلك : والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم ، وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الاَية التي تليها . فإن قال : وما حسن المآب ؟ قيل : هو ما وصفه به جلّ ثناؤه ، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مخلدا فيها ، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله .