تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي : عدلا خيارا ، وما عدا الوسط ، فأطراف داخلة تحت الخطر ، فجعل الله هذه الأمة ، وسطا في كل أمور الدين ، وسطا في الأنبياء ، بين من غلا فيهم ، كالنصارى ، وبين من جفاهم ، كاليهود ، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك ، ووسطا في الشريعة ، لا تشديدات اليهود وآصارهم ، ولا تهاون النصارى .

وفي باب الطهارة والمطاعم ، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، ولا يطهرهم الماء من النجاسات ، وقد حرمت عليهم الطيبات ، عقوبة لهم ، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا ، ولا يحرمون شيئا ، بل أباحوا ما دب ودرج .

بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها ، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، وحرم عليهم الخبائث من ذلك ، فلهذه الأمة من الدين أكمله ، ومن الأخلاق أجلها ، ومن الأعمال أفضلها .

ووهبهم الله من العلم والحلم ، والعدل والإحسان ، ما لم يهبه لأمة سواهم ، فلذلك كانوا { أُمَّةً وَسَطًا } [ كاملين ] ليكونوا { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط ، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ، ولا يحكم عليهم غيرهم ، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول ، فهو مقبول ، وما شهدت له بالرد ، فهو مردود . فإن قيل : كيف يقبل حكمهم على غيرهم ، والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض ؟ قيل : إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين ، لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة ، وحصلت العدالة التامة ، كما في هذه الأمة ، فإنما المقصود ، الحكم بالعدل والحق ، وشرط ذلك ، العلم والعدل ، وهما موجودان في هذه الأمة ، فقبل قولها .

فإن شك شاك في فضلها ، وطلب مزكيا لها ، فهو أكمل الخلق ، نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قال تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }

ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم ، أنه إذا كان يوم القيامة ، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم ، والأمم المكذبة عن ذلك ، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم ، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة ، وزكاها نبيها .

وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة ، حجة قاطعة ، وأنهم معصومون عن الخطأ ، لإطلاق قوله : { وَسَطًا } فلو قدر اتفاقهم على الخطأ ، لم يكونوا وسطا ، إلا في بعض الأمور ، ولقوله : { ولتكونوا شهداء على الناس } يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه ، فإنها معصومة في ذلك . وفيها اشتراط العدالة في الحكم ، والشهادة ، والفتيا ، ونحو ذلك .

يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } وهي استقبال بيت المقدس أولا { إِلَّا لِنَعْلَمَ } أي : علما يتعلق به الثواب والعقاب ، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها .

ولكن هذا العلم ، لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا ، لتمام عدله ، وإقامة الحجة على عباده ، بل إذا وجدت أعمالهم ، ترتب عليها الثواب والعقاب ، أي : شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن { مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } ويؤمن به ، فيتبعه على كل حال ، لأنه عبد مأمور مدبر ، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة ، أنه يستقبل الكعبة ، فالمنصف الذي مقصوده الحق ، مما يزيده ذلك إيمانا ، وطاعة للرسول .

وأما من انقلب على عقبيه ، وأعرض عن الحق ، واتبع هواه ، فإنه يزداد كفرا إلى كفره ، وحيرة إلى حيرته ، ويدلي بالحجة الباطلة ، المبنية على شبهة لا حقيقة لها .

{ وَإِنْ كَانَتْ } أي : صرفك عنها { لَكَبِيرَةٌ } أي : شاقة { إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم ، وشكروا ، وأقروا له بالإحسان ، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم ، الذي فضله على سائر بقاع الأرض ، وجعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، وهادما للذنوب والآثام ، فلهذا خف عليهم ذلك ، وشق على من سواهم .

ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : ما ينبغي له ولا يليق به تعالى ، بل هي من الممتنعات عليه ، فأخبر أنه ممتنع عليه ، ومستحيل ، أن يضيع إيمانكم ، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان ، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم ، فلا يضيعه ، وحفظه نوعان :

حفظ عن الضياع والبطلان ، بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة ، والأهواء الصادة ، وحفظ له بتنميته لهم ، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فكما ابتدأكم ، بأن هداكم للإيمان ، فسيحفظه لكم ، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره ، وثوابه ، وحفظه من كل مكدر ، بل إذا وجدت المحن المقصود منها ، تبيين المؤمن الصادق من الكاذب ، فإنها تمحص المؤمنين ، وتظهر صدقهم ، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم ، فدفع هذا الوهم بقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } بتقديره لهذه المحنة أو غيرها .

ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة ، فإن الله لا يضيع إيمانهم ، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها ، وطاعة الله ، امتثال أمره في كل وقت ، بحسب ذلك ، وفي هذه الآية ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : شديد الرحمة بهم عظيمها ، فمن رأفته ورحمته بهم ، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها ، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه ، وأن امتحنهم امتحانا ، زاد به إيمانهم ، وارتفعت به درجتهم ، وأن وجههم إلى أشرف البيوت ، وأجلها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

{ وكذلك } إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة ، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل . { جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا ، أو عدولا مزكين بالعلم والعمل . وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها ، مستويا فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها ، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } علة للجعل ، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج ، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم ، بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا . ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات ، والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم ، أو بعدكم . روي " أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالبهم الله ببينة التبليغ -وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيشهد بعدالتهم " وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى ، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم . { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أي الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة ، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود . أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ ، وعلى الثاني المنسوخ . والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس .

{ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه . أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه ، وما كان لعارض يزول بزواله . وعلى الأول معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها ، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه . فإن قيل : كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالما . قلت : هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء ، والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا . وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه ، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه ، ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول ، والعلم إما بمعنى المعرفة ، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب ، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب .

{ وإن كانت لكبيرة } إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفاصلة . وقال الكوفيون هي النافية واللام بمعنى إلا . والضمير لما دل عليه قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } من الجعلة ، أو الردة ، أو التولية ، أو التحويلة ، أو القبلة . وقرئ لكبيرة بالرفع فتكون كان زائدة { إلا على الذين هدى الله } إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي ثباتكم على الإيمان . وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، أو صلاتكم إليها لما روي : أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم ، ولعله قدم الرؤوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص لرؤوف بالمد ، والباقون بالقصر .