تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ }

يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية ، وخص هذه الأمور المذكورة لأنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها ، قال تعالى { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من الدواعي المثيرات ، تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم ، وانقسموا بحسب الواقع إلى قسمين : قسم : جعلوها هي المقصود ، فصارت أفكارهم وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها ، فشغلتهم عما خلقوا لأجله ، وصحبوها صحبة البهائم السائمة ، يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها ، ولا يبالون على أي : وجه حصلوها ، ولا فيما أنفقوها وصرفوها ، فهؤلاء كانت زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب ، والقسم الثاني : عرفوا المقصود منها وأن الله جعلها ابتلاء وامتحانا لعباده ، ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته على لذاته وشهواته ، فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودن منها لآخرتهم ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الاستعانة به على مرضاته ، قد صحبوها بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم ، وعلموا أنها كما قال الله فيها { ذلك متاع الحياة الدنيا } فجعلوها معبرا إلى الدار الآخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد الفاخرة ، فهؤلاء صارت لهم زادا إلى ربهم . وفي هذه الآية تسلية للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء ، وتحذير للمغترين بها وتزهيد لأهل العقول النيرة بها ، وتمام ذلك أن الله تعالى أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين الأبرار ، وأخبر أنها خير من ذلكم المذكور ، ألا وهي الجنات العاليات ذات المنازل الأنيقة والغرف العالية ، والأشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار ، والأنهار الجارية على حسب مرادهم والأزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن ، مع الخلود الدائم الذي به تمام النعيم ، مع الرضوان من الله الذي هو أكبر نعيم ، فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة ، ثم اختر لنفسك أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما { والله بصير بالعباد } أي : عالم بما فيهم من الأوصاف الحسنة والأوصاف القبيحة ، وما هو اللائق بأحوالهم ، يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء . فالجنة التي ذكر الله وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

1

وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف ؛ إذا لم تضبط باليقظة الدائمة ؛ وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى ؛ وإذا لم تتعلق بما عند الله وهو خير وأزكى .

إن الاستغراق في شهوات الدنيا ، ورغائب النفوس ، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار ؛ ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة ؛ ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى ؛ ويغلظ الحس فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة ؛ ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض ؛ واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض .

ولما كانت هذه الرغائب والدوافع - مع هذا - طبيعية وفطرية ، ومكلفة من قبل الباريء - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دورا أساسيا في حفظ الحياة وامتدادها ، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها ، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها ، وتخفيف حدتها واندفاعها ؛ وإلى أن يكون الإنسان مالكا لها متصرفا فيها ، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه ؛ وإلى تقوية روح التسامي فيه والتطلع إلى ما هو أعلى .

ومن ثم يعرض النص القرآني الذي يتولى هذا التوجيه التربوي . . هذه الرغائب والدافع ، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر الوانا من لذائذ الحس والنفس في العالم الآخر ، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحببة ، ويحتفظون بإنسانيتهم الرفيعة .

وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان : النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام . . وهي خلاصة للرغائب الأرضية . إما بذاتها ، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى . . وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر : جنات تجري من تحتها الأنهار . وأزواج مطهرة . وفوقها رضوان من الله . . وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض ، ويصل قلبه بالله ، على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان :

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام ، والحرث . . ذلك متاع الحياة الدنيا ، والله عنده حسن المآب . قل : أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله . والله بصير بالعباد . الذين يقولون : ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار . الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار . . )

( زين للناس ) . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل ؛ فهو محبب ومزين . . وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه . ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه " الشهوات " ، وهو جزء من تكوينه الأصيل ، لا حاجة إلى إنكاره ، ولا إلى استنكاره في ذاته . فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل ، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده ؛ وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها . هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي ، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه " الشهوات " . الحد الباني للنفس وللحياة ؛ مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذيتهتف إليه النفحة العلوية ، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله . . هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول ، وينقيه من الشوائب ، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة ، على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة . . والاتجاه إلى الله ، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة .

( زين للناس حب الشهوات ) . . فهي شهوات مستحبة مستلذة ؛ وليست مستقذرة ولا كريهة . والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها ؛ إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها ، ووضعها في مكانها لا تتعداه ، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى . والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك " الشهوات " في غير استغراق ولا إغراق !

وهنا يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها ، ومحاولة تهذيبها ورفعها ، لا كبتها وقمعها . . والذين يتحدثون في هذه الأيام عن " الكبت " واضراره ، وعن " العقد النفسية " التي ينشئها الكبت والقمع ، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو " الكبت " وليس هو " الضبط " . . وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس ، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين : ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا ، فهي خطيئة ودافع شيطاني ! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة ، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية ، لا تتم إلا بها ، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا . . وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون " العقد النفسية " . . فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية ، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية . بين نوازع الشهوة واللذة ، وأشواق الارتفاع والتسامي . . وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .

( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث . . . ) . .

والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية . . وقد قرن اليهما ( القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ) . . ونهم المال هو الذي ترسمه ( القناطير المقنطرة ) ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال : والأموال . أو والذهب والفضة . ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود . ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة . ذلك أن التكديس ذاته شهوة . بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى !

ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة . . الخيل المسومة . والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة . ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة . وحتى الذين لا يركبونها فروسية ، يعجبهم مشهدها ، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية !

وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث . وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع . . الأنعام والحقول المخصبة . . والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء . وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفتإليه شهوة الملك ، كان الحرث والأنعام شهوة .

وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس ، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ؛ ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان . والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه ، ولا تطغى على ما سواه :

( ذلك متاع الحياة الدنيا ) . .

ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة ، ولا الآفاق البعيدة . . متاع هذه الأرض القريب . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

{ زين للناس حب الشهوات } أي المشتهيات سماها شهوات مبالغة وإيماء على أنهم انهمكوا في محبتها حتى أحبوا شهوتها كقوله تعالى : { أحببت حب الخير } والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي ، ولعله زينة ابتلاء ، أو لأنه يكون وسيلة إلى السعادة الأخروية إذا كان على وجه يرتضيه الله تعالى ، أو لأنه من أسباب التعيش وبقاء النوع . وقيل الشيطان فإن الآية في معرض الذم . وفرق الجبائي بين المباح والمحرم . { من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث } بيان للشهوات ، والقنطار المال الكثير . وقيل مائة ألف دينار . وقيل ملء مسك ثور . واختلف في أنه فعلال أو فنعال ، والمقنطرة مأخوذة منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة . والمسومة المعلمة من السومة وهي العلامة ، أو المرعية من أسام الدابة وسومها ، أو المطهمة . والأنعام الإبل والبقر والغنم { ذلك متاع الحياة الدنيا } إشارة إلى ما ذكر . { والله عنده حسن المآب } أي المرجع ، وهو تحريض على استبدال ما عنده من اللذات الحقيقية الأبدية بالشهوات المخدجة الفانية .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَيۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَٰلِكَ مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلۡمَـَٔابِ} (14)

قرأ جمهور الناس «زُين » على بناء الفعل للمفعول ورفع «حبُّ » على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وقرأ الضحاك ومجاهد «زَين » على بناء الفعل للفاعل ونصب «حبَّ » على أنه المفعول ، واختلف الناس من المزين ؟ فقالت فرقة : الله زين ذلك وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [ آل عمران : 15 ] ، وقالت فرقة : المزين هو الشيطان ، وهذا ظاهر قول الحسن بن أبي الحسن ، فإنه قال من زينها ؟ ما أحد أشد لها ذماً من خالقها .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وإذا قيل زين الله ، فمعناه بالإيجاد والتهيئة لانتفاع وإنشاء الجبلة عن الميل إلى هذه الأشياء{[2989]} ، وإذا قيل زين الشيطان فمعناه بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها . والآية تحتمل هذين النوعين من التزيين ولا يختلف مع هذا النظر ، وهذه الآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس ، وفي ضمن ذلك توضح لمعاصري محمد عليه السلام من اليهود وغيرهم ، و { الشهوات } ذميمة واتباعها مردٍ{[2990]} وطاعتها مهلكة ، وقد قال عليه السلام : «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره »{[2991]} فحسبك أن النار حفت بها ، فمن واقعها خلص إلى النار ، و { والقناطير } جمع قنطار ، وهو العقدة الكبيرة من المال ، واختلف الناس في تحرير حده كم هو ؟ فروى أبي بن كعب ، عن النبي عليه السلام أنه قال : القنطار ألف ومائتا أوقية{[2992]} ، وقال بذلك معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر وأبو هريرة وعاصم بن أبي النجود وجماعة من العلماء ، وهو أصح الأقوال ، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية ، وقال ابن عباس والضحاك بن مزاحم والحسن بن أبي الحسن : القنطار ألف ومائتا مثقال{[2993]} ، وروى الحسن ذلك مرفوعاً عن النبي عليه السلام ، قال الضحاك وهو من { الفضة } ألف ومائتا مثقال ، وروي عن ابن عباس أنه قال : القنطار من { الفضة } اثنا عشر ألف درهم ، ومن { الذهب } ألف دينار ، وروي بذلك عن الحسن والضحاك وقال سعيد بن المسيب : القنطار ثمانون ألفاً ، وقال قتادة : القنطار مائة رطل من { الذهب } أو ثمانون ألف درهم من { الفضة } ، وقال السدي : القنطار ثمانيه آلاف مثقال وهي{[2994]} مائة رطل ، وقال مجاهد القنطار سبعون ألف دينار ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وقال أبو نضرة{[2995]} : القنطار ملء مسك ثور ذهباً .

قال ابن سيده : هكذا هو بالسريانية ، وقال الربيع بن أنس : القنطار المال الكثير بعضه على بعض ، وحكى النقاش عن ابن الكلبي ، أن القنطار بلغة الروم ملء مسك ثور ذهباً{[2996]} ، وقال النقاش : { القناطير } ثلاثة ، { والمقنطرة } تسعة لأنه جمع الجمع ، وهذا ضعف نظر وكلام غير صحيح ، وقد حكى مكي نحوه عن ابن كيسان أنه قال : لا تكون { المقنطرة } أقل من تسعة وحكى المهدوي عنه وعن الفراء ، لا تكون { المقنطرة } أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم .

قال أبو هريرة : القنطار اثنا عشر ألف أوقية ، وحكى مكي قولاً إن القنطار أربعون أوقية ذهباً أو فضة ، وقاله ابن سيده في المحكم ، وقال : القنطار بلغة بربر ألف مثقال ، وروى أنس بن مالك عن النبي عليه السلام في تفسير قوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطاراً }{[2997]} قال ألف دينار{[2998]} ذكره الطبري ، وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهباً أوفضة وأظنها وهماً ، وإن القول مائة رطل فسقطت مائة للناقل ، والقنطار إنما هو اسم المعيار الذي يوزن به ، كما هو الرطل والربع ، ويقال لما بلغ ذلك الوزن هذا قنطار أي يعدل القنطار ، والعرب تقول : قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار ، وقال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وأحكامه والقنطرة المعقودة نحوه ، فكأن القنطار عقدة مال .

واختلف الناس في معنى قوله : { المقنطرة } فقال الطبري : معناه المضعفة ، وكأن { القناطير } ثلاثة و { المقنطرة } تسع ، وقد تقدم ذكر هذا النظر ، وقال الربيع : معناه المال الكثير بعضه فوق بعض ، وقال السدي : معنى { المقنطرة } ، المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم ، وقال مكي : { المقنطرة } المكملة{[2999]} ، والذي أقول : إنها إشارة إلى حضور المال وكونه عتيداً ، فذلك أشهى{[3000]} في أمره وذلك أنك تقول في رجل غني من الحيوان والأملاك : فلان صاحب قناطير مال أي لو قومت أملاكه لاجتمع من ذلك ما يعدل قناطير ، وتقول في صاحب المال الحاضر العتيد هو صاحب قناطير مقنطرة أي قد حصلت كذلك بالفعل بها ، أي قنطرت فهي مقنطرة ، وذلك أشهى للنفوس وأقرب للانتفاع وبلوغ الآمال . وقد قال مروان بن الحكم ، ما المال إلا ما حازته العياب{[3001]} ، وإذا كان هذا فسواء كان المال مسكوكاً ، أو غير مسكوك ، أما أن المسكوك أشهى لما ذكرناه ، ولكن لا تعطي ذلك لفظة { المقنطرة } .

{ والخيل } : جمع خائل عند أبي عبيدة ، سمي الفرس لأنه يختال في مشيه{[3002]} فهو كطائر وطير ، وقال غيره : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه{[3003]} ، واختلف المفسرون في معنى { المسومة } فقال سعيد بن جبير وابن عباس وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى{[3004]} والحسن والربيع ومجاهد ، معناه الراعية في المروج والمسارح تقول : سامت الدابة أو الشاة إذا سرحت وأخذت سومها من الرعي أي غاية جهدها ولم تقصر عن حال دون حال ، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «في سائمة الغنم الزكاة »{[3005]} ومنه قوله عز وجل : { فيه تسيمون }{[3006]} وروي عن مجاهد أنه قال : { المسومة } معناه المطهمة الحسان ، وقاله عكرمة ، سومها الحسن ، وروي عن ابن عباس أنه قال : { المسومة } معناه المعلمة ، شيات{[3007]} الخيل في وجوهها وقاله قتادة{[3008]} ، ويشهد لهذا القول بيت لبيد{[3009]} : [ الكامل ]

وَغَدَاةَ قاعِ الْقرْنَتينِ أتيْنَهُمْ . . . زُجْلاً يلوحُ خِلالها التَّسْوِيمُ{[3010]}

وأما قول النابغة{[3011]} : [ الوافر ] :

بسمرٍ كَالْقِداحِ مُسَوَّمَاتٍ . . . عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جنِّ{[3012]}

فيحتمل أن يريد المطهمة الحسان ، ويحتمل أن يريد المعلمة بالشيات ويحتمل أن يريد المعدة ، وقد فسر الناس قوله تعالى : { مسومة عند ربك }{[3013]} بمعنى معدة ، وقال ابن زيد في قوله تعالى : { والخيل المسومة } معناه : المعدة للجهاد .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : قوله : للجهاد ليس من تفسير اللفظة ، { والأنعام } الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز { والحرث } هنا اسم لكل ما يحرث ، وهو مصدر سمي به ، تقول : حرث الرجل إذا أثار ألأرض لمعنى الفلاحة فيقع اسم الحرث على زرع الحبوب وعلى الجنات وغير ذلك من أنواع الفلاحة . وقوله تعالى : { إذ يحكمان في الحرث }{[3014]} قال جمهور المفسرين ، كان كرماً ، والمتاع ما يستمتع به وينتفع مدة ما منحصرة ، و { المآب } المرجع ، تقول : آب الرجل يؤوب ، ومنه قول الشاعر{[3015]} : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** رضيتُ من الْغَنِيمَةِ بالإيَابِ

وقول الآخر [ بشر بن أبي حازم ] : [ الوافر ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا ما القَارِظُ العنَزِيّ آبا{[3016]}

وقول عبيد : [ مخلع البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَغَائِبُ الموتِ لا يؤوبُ{[3017]}

وأصل مآب مأوب ، نقلت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف ، مثل مقال ، فمعنى الآية تقليل أمر الدنيا وتحقيرها ، والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة ، وفي قوله : { زين للناس } تحسر ما على نحو ما في قول النبي عليه السلام : تتزوج المرأة لأربع -الحديث{[3018]}- وقوله تعالى : { قل أؤنبئكم } [ آل عمران : 15 ] بمثابة قول النبي عليه السلام : «فاظفر بذات الدين » .


[2989]:- قال الزمخشري: الله سبحانه وتعالى هو المزين للابتلاء، كقوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}، وقراءة: (زيّن) على البناء للفاعل تؤيد هذا المعنى لأن نسق الكلام قبلها ينسب الأفعال إلى الله في قوله: {والله يؤيد..}.
[2990]:- مردٍ: مهلك.
[2991]:- أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي (عن أنس)، وأخرجه مسلم (عن أبي هريرة)، كما أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن ابن مسعود موقوفا، (الجامع الصغير 1/507).
[2992]:- أخرجه ابن جرير (عن أبي بن كعب)، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي (عن معاذ بن جبل)، وأخرجه ابن جرير (عن ابن عمر)، وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي (عن أبي هريرة)، وأخرجه ابن جرير البيهقي (عن ابن عباس)، (فتح القدير 1/294)، وذكره ابن كثير ثم قال: "وهذا حديث منكر أيضا".
[2993]:- انظر تفسير الطبري 3/ 200، والبغوي على هامش الخازن 1/374
[2994]:- في بعض النسخ: وهو.
[2995]:- هو المنذر بن مالك بن قطعة العبدي البصري، روى عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وأنس، وجابر، وغيرهم، وروى عنه سليمان التيمي، وحميد الطويل، وعاصم الأحول، وقتادة، وآخرون، ثقة، كثير الحديث، توفي سنة: 108هـ (تهذيب التهذيب10/302).
[2996]:-أخرجه عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن أبي سعيد الخدري. (فتح القدير للشوكاني.1/294) والمسك (بفتح الميم وسكون السين) هو: الجلد-وجمعه: مسوك ومسك.
[2997]:- من الآية 20 من سورة النساء.
[2998]:- أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس (فتح القدير: 1/294)، وفي ابن كثير: رواه ابن أبي حاتم عن أنس بلفظ "قنطار يعني ألف دينار" قال: وهكذا رواه الطبراني (تفسير ابن كثير1/352).
[2999]:- هو كما تقول: بدرة مبدّرة وألف مؤلفة، وهذا أيضا قول ابن قتيبة.
[3000]:- في بعض النسخ: أشهر.
[3001]:- العياب: جمع عيبة وهي وعاء تحفظ فيه الثياب والمتاع، وقد قال الشاعر: يمرون بالدهنا خفافا عيابهم ويرجعن من دارين بجر الحقائب.
[3002]:- في بعض النسخ: مشيته.
[3003]:- ذهب ابن كثير إلى أن حبّ الخيل يكون إما استعدادا للغزو، أو رغبة في الفخر والتباهي، أو للتعفف واقتناء النسل.
[3004]:- كوفي مولى خزاعة، روى عن أبيه، وروى عنه الأجلح الكندي وأسلم المنقري وسلمة بن كهيل ومنصور بن المعتمر وغيرهم، وثقه ابن حبان. (تهذيب التهذيب 5/290)
[3005]:-أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الزكاة، صدقة الماشية: 2/112.
[3006]:- من الآية (10) من سورة النحل.
[3007]:- شيات: جمع شية، وهي العلامة، سواد في بياض أو بياض في سواد، وكل ما خالف اللون في جميع الجسد في الدواب، وشية الفرس: لونه.
[3008]:- زيادة من بعض النسخ.
[3009]:- البيت في ديوانه: 133.
[3010]:- القاع: الأرض المستوية؛ قاع القرنتين: موضع كانت فيه وقعة بين كنانة وغطفان، والنون في (أتينهم) ضمير الخيل، وزجلا: جماعات، والتسويم: الإعلام بعلامة تعرف بها في الحرب.
[3011]:- البيت في ديوانه: 128 (تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم).
[3012]:- سمر: صفة للخيل، ويروى: بضمر، أي خيل ضامرة، شبهها في ضمورها بقداح المسير، وشبه الفرسان بالجن لشدة صولتهم وخفتهم في الحرب على الخيل.
[3013]:- من الآية (34) من سورة الذاريات.
[3014]:- من الآية (78) من سورة الأنبياء.
[3015]:- هو امرؤ القيس، وهذا الذي أورده هو عجز البيت، وصدره. وقد طوفت في الآفاق حتى ........................... وقد جرى قوله: رضيت ...الخ" مجرى المثل، يضرب عند القناعة بالسلامة لمن سعى في شيء ولم يبلغه، أو لمن يشقى في طلب الحاجة ثم يرضى بالخلاص سالما.
[3016]:- هذا عجز بيت لبشر بن أبي حازم، وصدره: فرجي الخير وانتظري إيابي. والقارظ: الذي يجمع ورق السلم للدباغ، وفي أوبة القارظين يضرب المثل، وهما رجلان خرجا يجمعان القرظ ولم يعودا، (انظر فصل المقال: 374، والميداني:1/142، وجمهرة العسكري 1/123).
[3017]:- هذا عجز بيت لعدي بن الأبرص الشاعر الجاهلي، وصدره: وكل ذي غيبة يئوب.
[3018]:-أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة، عن أبي هريرة (الجامع الصغير1/132 ط. دار الكتب العلمية، بيروت).