{ 1 ْ } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ }
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود ، أي : بإكمالها ، وإتمامها ، وعدم نقضها ونقصها . وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه ، من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام ، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا ، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه ، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ، ببرهم وصلتهم ، وعدم قطيعتهم .
والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر ، واليسر والعسر ، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات ، كالبيع والإجارة ، ونحوهما ، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها ، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ْ } بالتناصر على الحق ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع .
فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه ، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها{[251]}
ثم قال ممتنا على عباده : { أُحِلَّتْ لَكُمْ ْ } أي : لأجلكم ، رحمة بكم { بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ْ } من الإبل والبقر والغنم ، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها ، والظباء وحمر الوحش ، ونحوها من الصيود .
واستدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح .
{ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ } تحريمه منها في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ ْ } إلى آخر الآية . فإن هذه المذكورات وإن كانت من بهيمة الأنعام فإنها محرمة .
ولما كانت إباحة بهيمة الأنعام عامة في جميع الأحوال والأوقات ، استثنى منها الصيد في حال الإحرام فقال : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ْ } أي : أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال ، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم ، أي : متجرئون على قتله في حال الإحرام ، وفي الحرم ، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا ، كالظباء ونحوه .
والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش .
{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ْ } أي : فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته ، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم .
وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم ، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض ، من الميتة ونحوها ، صونا لكم واحتراما ، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما .
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، أرسله ربه رحمة للعالمين ، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور ، ولينقذهم من الظلم والفجور .
قال –تعالى- : [ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ] .
ولقد كان من فضل الله علينا ، أن وفقنا لخدمة كتابه ، فأعاننا على كتابة تفسير سور : الفاتحة والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير محرر لسورة المائدة ، حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه هذه السورة من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فإذا هو زاهق .
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها بالتفصيل والتحليل ، أن أسوق كلمة بين يديها تكون بمثابة التعريف بها ، وبيان فضلها ، ووجه اتصالها بالسورة التي قبلها ، وزمان نزولها ، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها .
وقد كان منهجي في تفسير هذه السورة ، هو المنهج الذي سلكته في تفسير السور السابقة .
وملخصه : أني أبدأ بشرح الألفاظ القرآنية شرحاً لغوياً مناسباً ، ثم أبين المراد منها –إذا كان الأمر يقتضي ذلك .
ثم أذكر سبب النزول للآية أو الآيات –إذا وجد وكان مقبولا- .
ثم أذكر المعنى الإجمالي للجملة أو للآية ، مستعرضاً ما اشتملت عليه من وجوه البلاغة وحسن التوجيه .
ثم أتبع هذا ببيان ما يؤخذ من الآية أو الآيات من أحكام وآداب وتشريعات .
وقد حرصت كثيراً على تخريج الأحاديث التي أذكرها ، وعلى بيان المصادر التي أنقل عنها . وتعمدت –عند النقل من المصدر لأول مرة- أن أبين زمان طبعته ومكانها ثم ألتزم النقل عنه بعد ذلك إلى نهاية السورة ، دون أن ألجأ إلى طبعات أخرى إلا عند الضرورة القصوى .
وقد تجنبت التوسع في وجوه الإعراب ، واكتفيت بالراجح منها . .
وذلك لأني توخيت فيما أكتب إبراز ما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة وتشريعات حكيمة وآداب سامية ، وعظات بليغة وتوجيهات نافعة ، وأقوال مأثورة .
والله نسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، وأن يعيننا على إتمام ما بدأناه من خدمة لكتابه ، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
1- سورة المائدة هي السورة الخامسة من سور القرآن الكريم في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء .
2- وهي مدنية باتفاق العلماء . بناء على القول الذي رجحه العلماء من أن القرآن المدني هو الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ولو كان نزوله في غير المدينة .
3- وعدد آياتها عشرون ومائة آية عند الكوفيين ؛ ويرى الحجازيون والشاميون أن عدد آياتها اثنتان وعشرون ومائة آية ، ويرى البصريون أن عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة آية ، ويرى البصريون أن عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة آية .
4- ولهذه السورة الكريمة أسماء أشهرها : المائدة .
وسميت بهذا الاسم ، لأنها انفردت بذكر قصة المائدة التي طلب الحواريون من عيسى –عليه السلام- نزولها من السماء . وقد حكى الله –تعالى- ذلك في أواخر السورة في قوله –تعالى- : [ إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ] ( الآيات من 112 : 115 ) وتسمى أيضاً بسورة العقود ، لأنها السورة الوحيدة التي افتتحت بطلب الإيفاء بالعقود . قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ] وتسمى –أيضاً- المنقذة .
قال القرطبي : وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة . تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب " ( {[1]} ) .
5- ووجه اتصالها بسورة النساء –كما يقول الآلوسي- " أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود : صريحا وضمنا . فالصريح : عقود الأنكحة وعقد الصداق . وعقد الحلف . وعقد المعاهدة والأمان . والضمني : عقد الوصية والوديعة . والوكالة . والعارية . والإجارة . وغير ذلك مما يدخل في قوله –تعالى- [ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ] .
فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود . فكأنه قيل : يأيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت ، وإن كان في هذه السورة –أيضاً- عقود .
ووجه تقديم النساء وتأخير المائدة . أن أول تلك [ يأيها الناس ] وفيها الخطاب بذلك في مواضع ، وهي أشبه بتنزيل المكي . وأول هذه [ يأيها الذين آمنوا ] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني . وتقديم العام وشبه المكي أنسب( {[2]} ) .
6- وقد وردت روايات تفيد أن سورة المائدة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة . ومن هذه الروايات ما أخرجه الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة بزمام ناقة رسول الله العضباء ، إذ نزلت عليه المائدة كلها . فكادت من ثقلها تدق عنق الناقة( {[3]} ) .
وروى الإمام أحمد –أيضاً- عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها( {[4]} ) .
وهناك روايات أخرى تحدثت عن زمان ومكان نزولها ، ومن هذه الروايات ما أخرجه أبو عبيد عن محمد القرظي قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة( {[5]} ) .
وقال القرطبي : وروى أنها نزلت عند منصرف رسول الله من الحديبية( {[6]} ) .
وهناك روايات تحدثت عن زمان ومكان نزول بعض آياتها .
قال السيوطي في كتابه " الإتقان " –عند حديثه عن معرفة الحضرى والسفرى- : وللسفرى أمثلة منها : قوله –تعالى- [ اليوم أكملت لكم دينكم ] ففي الصحيح عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت عشية عرفة يوم الجمعة ، عام حجة الوداع .
ومنها : آية التيمم . ففي الصحيح عن عائشة ، أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة – بعد انتهائهم من غزوة المريسيع كما جاء في بعض الروايات .
ومنها : قوله –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ] فقد نزلت ببطن نخل .
ومنها : قوله –تعالى- [ والله يعصمك من الناس ] فقد نزلت في غزوة ذات الرقاع .
وهذه الآيات جميعها من سورة المائدة " ( {[7]} ) .
والذي تطمئن إليه النفس عند تلاوة سورة المائدة بتدبر وإمعان فكر ، وعند مراجعة الروايات التي وردت في سبيل نزول بعض آياتها ، يرى أن هذه السورة الكريمة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما نزلت متفرقة وفي أوقات مختلفة .
ومما يشهد لذلك ما جاء في كتب الحديث وفي كتب السيرة أن المقداد بن الأسود قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبيل التحام المسلمين مع المشركين في غزوة بدر : يا رسول الله امض لما أمرك الله . فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى . اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .
فقد أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين –في بدر- فقال : لا نقول كما قال قوم موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا . . ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك " ( {[8]} ) .
فهذا النص يفيد أن الصحابة كانوا على علم قبل غزوة بدر بهذه الآيات التي وردت في سورة المائدة ، والتي تحكي موقف بني إسرائيل من نبيهم موسى عندما دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة( {[9]} ) .
كذلك مما يشهد بأن سورة المائدة قد نزلت منجمة ولم تنزل دفعة واحدة ما نقلناه منذ قليل عن السيوطي من أن بعض آياتها قد نزلت في أزمنة وأمكنة مختلفة .
وأيضاً مما يشهد لذلك ، أن المتأمل في بعض آياتها يراها تحكي لنا ألوانا من تعنت اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تحاكمهم إليه لا من أجل الوصول إلى الحق وإنما من أجل إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة .
قال –تعالى- [ ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ، يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ] .
وفعلهم هذا يدل على أنهم كانت لهم قوة ونفوذ في المدينة عند نزول هذه الآيات .
ومن المعروف تاريخياً أن نفوذ اليهود بالمدينة قد تلاشى بعد غزوة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة . وأن قوتهم قد زالت بعد فتح خيبر في أوائل السنة السابعة من الهجرة .
ومن كل هذا نستخلص أن بعض آيات هذه السورة يغلب على ظننا أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في السنوات التي سبقت صلح الحديبية وأن الروايات التي نقلناها قبل ذلك عن بعض المفسرين ، والتي يستفاد منها أن سورة المائدة قد نزلت دفعة واحدة ، أو أنها نزلت عند منصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، أو فتح مكة أو في حجة الوداع ، أو عند رجوعه منها . . كل هذه الروايات فيها مقال –لأنها بجانب- تفرد بعض المحدثين بها فإنها تخالف ما جاء في كتب السنة الصحيحة من أن بعض آياتها قد نزل في حجة الوداع ، وبعضها قد نزل بعد غزوة المريسيع ، وبعضها كان معروفاً للصحابة قبل اشتراكهم في غزوة بدر .
ولأن بعض آيات هذه السورة تحكي لنا أحداثا ومجادلات قد حصلت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود ، وهذه الأحداث وتلك المجادلات من المستبعد أن تكون قد حدثت بعد غزوة بني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة ، لأنه –كما سبق أن أشرنا- لم يبق لليهود نفوذ في المدينة بعد غزوة بني قريظة ، حتى يستطيعوا أن يواجهوا النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهوه من مجادلات ومن تحاكم إليه بقصد إحراجه – كما سنفصل ذلك عند تفسيرنا للآيات المتعلقة بهذا الموضوع .
ومع كل هذا فنحن نرجح أن جانبا كبيراً من آيات سورة المائدة قد نزل متأخراً عن صلح الحديبية ، بل عن فتح مكة ، لأن بعض آياتها تقرر أن المشركين قد صاروا في يأس من التغلب على المسلمين بعد أن فتح المسلمون مكة بعد أن أتم الله لهم دينهم . قال –تعالى- [ اليوم بئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ] .
ولأن هناك آثاراً تشهد بأن سورة المائدة –في مجموعها- من آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن .
قال القرطبي : وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال : " يأيها الناس إن سورة المائدة من آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " .
ونحوه عن عائشة –رضي الله عنها- موقوفاً . قال جبير بن نفير : دخلت على عائشة فقالت : هل تقرأ سورة المائدة ؟ فقلت : نعم . فقالت : فإنها من آخر ما أنزل الله . فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه " ( {[10]} ) .
والخلاصة ، أن الذي يغلب على ظننا أن سورة المائدة لم تنزل دفعة واحدة في وقت معين أو في زمان معين ، وإنما نزل بعضها في السنوات التي سبقت صلح الحديبية ، ونزل معظمها بعد هذا الوقت ، للأسباب التي سبق أن بيناها ، وأن الروايات التي تقول بنزولها دفعة واحدة أو في وقت معين وزمان معين من الممكن أن تحمل على أن المراد بها مجموع السورة لا جميعها .
7- هذا وعندما نستعرض سورة المائدة استعراضا إجمالياً نراها في مطلعها تأمر المؤمنين بالوفاء بالعهود ، وبالتزام التكاليف التي كلفهم الله بها ، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح والحرام منها ، ثم بيان حكم طعام أهل الكتاب ، وحكم الزواج بالكتابيات .
وبعد أن تكلمت عن المباحات التي يحتاج إليها الجسد أتبعت ذلك بالحديث عن الصلاة التي هي غذاء الروح ، فأمرت المؤمنين بأن يدخلوها متطهرين ، ووضحت لهم أنه –سبحانه- لا يريد من وراء ما يشرعه لهم الضيق أو الحرج وإنما يريد لهم الخير والطهر وإتمام النعمة : [ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ] .
ثم أمرت المؤمنين بالتزام العدل مع الأصدقاء . ومع الأعداء ، ووعدت المطيعين لله –تعالى- بالمغفرة والأجر العظيم ، وتوعدت الكافرين بآيات الله بعذاب الجحيم ، ثم ذكرت المؤمنين بجانب من مظاهر فضل الله عليهم ورحمته بهم ، حيث كف أيدي المعتدين عنهم . وحماهم من مكرهم . قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ، فكف أيديهم عنكم ، واتقوا الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ]( {[11]} ) .
- ثم نراها في الربع الثاني( {[12]} ) منها تحكي لنا جانبا من رذائل أهل الكتاب . فتبين كيف أن الله –تعالى- أخذ عليهم العهد والميثاق بأن يؤمنوا به ويطيعوه ولكنهم نقضوا عهودهم ، فكانت نتيجة ذلك أن لعنهم الله ، وأن أدام بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة .
ثم وجهت نداء إلى أهل الكتاب أرشدتهم فيه إلى طريق الحق ، وأمرتهم باتباعه . ووبخت الذين قالوا [ إن الله هو المسيح بن مريم ] . وحكت جانبا من الدعاوي الباطلة التي ادعاها اليهود والنصارى ، حيث قالوا : [ نحن أبناء الله وأحباؤه ] .
ثم وجهت نداء ثانيا إلى أهل الكتاب أمرتهم فيه باتباع محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم بسبب عدم اتباعه سيكون مصيرهم إلى النار ، ولن يقبل الله منهم عذراً بعد أن أرسل إليهم –سبحانه- من يبشرهم وينذرهم .
قال تعالى : [ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فقد جاءكم بشيء ونذير ، والله على كل شيء قدير ] .
ثم حكت السورة الكريمة قصة من قصص موسى –عليه السلام- مع بني إسرائيل .
فقد ساقت بأسلوبها البليغ إغراءه لهم بدخول الأرض المقدسة ، ولكنهم جبنوا واتخذوا عصيانه سبيلهم . فكانت نتيجة ذلك أن عاقبهم الله –تعالى- بالتيه . [ قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ] .
-ثم نراها بعد ذلك في الربع الثالث( {[13]} ) تحكي لناقصة ابني آدم بأسلوب مؤثر : تحكي لنا قصة أول جريمة وقعت على الأرض بسبب الحسد . وتحكي لنا تلك المحاورات التي دارت بين الأخوين : القاتل والقتيل .
وكيف أن القاتل قد تحير في مواراة جثة أخيه ، إلى أن تعلم كيفية مواراتها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله .
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدي إلى القتل وسفك الدماء ، فقد شرع الله القصاص لحماية الأنفس والأموال والأعراض . فقد ذكر –سبحانه- بعد ذلك جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً . وجزاء السارق والسارقة . وجزاء الذين كفروا بالحق بعد أن جاءهم من عند الله .
وخلال ذلك أمر –سبحانه- عباده المؤمنين بتقوى الله . وبالتقرب إليه بالعمل الصالح ، وبمداومة الجهاد في سبيل الله ، حتى ينالوا الفلاح في الدنيا والآخرة .
- وبعد هذه التشريعات الحكيمة ، نراها في الربع الرابع( {[14]} ) تحكي لنا بعض الوسائل الخبيثة التي اتبعها اليهود في محاربتهم للدعوة الإسلامية فذكرت بعض أقوالهم التي كانوا يقولونها عندما يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتحاكموا إليه في منازعاتهم [ يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ] ووصفهم بأنهم [ سماعون للكذب أكالون للسحت ] .
وأرشدت الرسول – صلى الله عليه وسلم إلى طريقة التعامل معهم [ فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ] .
ثم بعد أن مدحت التوراة ، ووصفت الذين لم يحكموا بما أنزل الله بالكفر . والظلم . بعد كل ذلك نوهت بشأن عيسى –عليه السلام- وبشأن الإنجيل ، وأمرت أهله بأن يحكموا بما أنزل الله فيه .
قال : تعالى – [ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ] .
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فوصفته بأنه هو الكتاب المصدق لما بين يديه من الكتب ، وهو المهيمن عليها ، وهو الذي إليه المرجع في الأحكام ، وأن الذين يبغون التحاكم إلى غيره ضالون ظالمون .
قال –تعالى- [ أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ] .
- ثم وجهت السورة الكريمة في مطلع الربع الخامس( {[15]} ) منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يجعلوا ولايتهم لله ولرسوله ولإخوانهم في العقيدة ، ونهتهم عن موالاة الذين يخالفونهم في الدين . ووصفت الذين يتولون من غضب الله عليهم بالنفاق ومرض القلب ، وبشرت المطيعين لله بالنصر والظفر قال –تعالى : [ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ] .
ثم أمرت السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يوبخ أهل الكتاب بسبب كراهيتهم لأهل الحق ، وأن يخبرهم بأن المستحقين للكراهية هم أولئك الذين لعنهم الله وغضب عليهم ، لكفرهم ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان . ولافترائهم على الله –تعالى- الكذب ، حيث وصفوه –سبحانه- بالبخل والشح .
قال –تعالى- : [ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً . وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ، ويسعون في الأرض فساداً ، والله لا يحب المفسدين ] .
وبعد أن بينت السورة الكريمة لأهل الكتاب أنهم لو آمنوا بالحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم لكفر الله عنهم سيئاتهم ، ولأدخلهم جنات النعيم ، ولرزقهم من فضله الرزق الجزيل . بعد أن بينت كل ذلك ، وجهت في مطلع الربع السادس( {[16]} ) منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم نداء أمرته فيه بتبليغ ما أمره الله بتبليغه بدون خشية أو تردد ، ووعدته بعصمة الله –تعالى- له من الناس كما أمرته بمصارحة أهل الكتاب بما هم فيه من باطل وضلال .
ثم ساقت جملة من الرذائل التي انغمس فيها أهل الكتاب ، فحكت نقضهم للعهود والمواثيق ، وتكذيبهم للرسل تارة وقتلهم إياهم تارة أخرى ، كما حكت قولهم الباطل : [ إن الله هو المسيح ابن مريم ] . وقولهم : [ إن الله ثالث ثلاثة ] .
وقد هددتهم بالعذاب الأليم إذا ما تمادوا في ضلالهم وطغيانهم ، وحثتهم على التوبة والاستغفار ، وأقامت لهم الأدلة على بطلان عقائدهم ، وبينت لهم القول الحق في شأن عيسى وأمه مريم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم .
قال –تعالى- : [ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ] .
ثم كشفت السورة عن الأسباب التي أدت إلى طرد الكافرين من بني إسرائيل من رحمة الله ، فذكرت أنهم قد استحقوا ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه ، وولايتهم لأهل الكفر وعداوتهم لأهل الإيمان .
قال –تعالى- [ ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا ، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ، ولكن كثيراً منهم فاسقون ] .
ثم وضحت السورة الكريمة في مطلع الربع السابع( {[17]} ) منها مراتب أعداء المؤمنين ، فصرحت بأن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والذين أشركوا . وأن أقربهم مودة إلى المؤمنين أولئك الذين قالوا إنا نصارى [ ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون ] .
ثم وجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن تحريم الطيبات التي أحلها الله لهم وأرشدتهم إلى ما يجب عليهم فعله إذا ما حنثوا في أيمانهم . وأمرتهم بحفظ هذه الأيمان ، وعدم اللجوء إليها إلا عند وجود المقتضى لها .
ثم أخبرتهم بأنه إذا كان الله –تعالى- قد أحل لهم الطيبات ، فإنه في الوقت نفسه قد حرم عليهم الخبائث ، وعلى رأس هذه الخبائث : الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، فعليهم أن يجتنبوا هذه الأرجاس لينالوا رضا الله في عاجلتهم وآجلتهم .
ثم ساقت السورة الكريمة ألوانا من مظاهر نعم الله على عباده ورحمته بهم حيث أباح لهم أن يتمتعوا بما أحله الله لهم مع مراقبته وخشيته في كل ما يأتون وما يذرون ، ومع التزامهم بتعاليم شريعة الله في الحل وفي الحرم .
وبعد هذا الحديث المستفيض عما أحله الله وعما حرمه ، أخذت السورة في مطلع الربع الثامن( {[18]} ) منها في التنويه بشأن الكعبة وبشأن البيت الحرام ، ووظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم نهت المؤمنين عن الأسئلة التي لا منفعة من ورائها ، فإن هذا يتنافى مع ما يقتضيه إيمانهم من أدب في القول ، ومن تطلع إلى ما ينفع ويفيد ، قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها ، والله غفور حليم . قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ] .
ثم حكت السورة أنواعاً من الأوهام التي تعلق بها أهل الجاهلية ، حيث حرموا على أنفسهم بعض المطاعم التي أحلها الله ، مستندين في تحريمهم ما حرموه إلى عادات جاهلية اعتنقوها ، وهذه العادات أبعد ما تكون عن شرع الله وعما تقتضيه العقول السليمة .
وفي وسط هذا الحديث عما أحله الله وحرمه ، ساقت السورة توجيها حكيماً للمؤمنين ، حيث بينت لهم أن الداعي إلى الله من قام بواجبه نحو ربه ، ونحو نفسه ، ونحو غيره ، فإنه لا يكون بعد ذلك مسئولا عن ضلال من يضل .
قال –تعالى- [ يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون ] .
وبعد أن بينت بعض الأحكام التي تتعلق بالوصية ووسائل إثباتها ، نوهت السورة الكريمة في الربع الأخير منها( {[19]} ) بشأن عيسى –عليه السلام- وحكت بعض المعجزات التي أيده الله بها في رسالته ، وقصت ما طلبه الحواريون منه حيث قالوا له –كما حكى القرآن عنهم :
[ هل يستطع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ] وساقت ما دار بينهم وبين عيسى –عليه السلام- من محاورات في هذه المسألة .
ثم ختمت السورة حديثها عن عيسى بتلك الآيات التي تحكي براءته من كل ما افتراه المفترون عليه ، وأنه –عليه السلام- لم يأمر قومه إلا بعبادة الله وحده ، وأنه لم يكن إلا رسولا من رسل الله الذين أخلصوا له –سبحانه- العبادة والطاعة . استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكي هذا المعنى بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
[ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال : سبحانك . ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق . إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ، أن اعبدوا الله ربي وربكم ، وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ] .
8- هذا عرض مجمل للتشريعات والقصص والآداب والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة . ومن هذا العرض نستطيع أن نستخلص بعض الحقائق البارزة في هذه السورة بصورة أظهر منها في غيرها . ومن تلك الحقائق ما يأتي :
1- أن السورة الكريمة زاخرة بالأحكام الشرعية المتنوعة ، فأنت تقرؤها بتدبر وخشوع فتراها قد بينت أحكاما شرعية منها ما يتعلق بالحلال والحرام من الذبائح ومن الصيد ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام في فترة الإحرام وفي المسجد الحرام . ومنها ما يتعلق بالحلال والحرام من النكاح ، ومنها ما يتعلق بالطهارة والصلاة والتيمم ، ومنها ما يتعلق بوجوب التزام العدل في القضاء وفي الشهادة وفي غيرهما . ومنها ما يتعلق بالحدود في السرقة وفي قطع الطريق والإفساد في الأرض . ومنها ما يتعلق بأهل الكتاب إذا ما تحاكموا إلينا . ومنها ما يتعلق بكفارات الأيمان وكفارات قتل الصيد في حالة الإحرام . ومنها ما يتعلق بالخمر والميسر والأنصاب والأزلام . ومنها ما يتعلق بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي من الأنعام . ومنها ما يتعلق بالوصية عند الموت . . إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي أفاضت في الحديث عنها هذه السورة الكريمة .
قال القرطبي : قال أبو ميسرة : المائدة من آخر ما نزل ليس فيها منسوخ . وفيها ثماني عشرة فريضة ليست في غيرها ، وهي : [ المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ] [ وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام ] [ وما علمتم من الجوارح مكلبين ] [ وطعام الذين أوتوا الكتاب ] [ والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ] ، وتمام الطهور : [ إذا قمتم إلى الصلاة ] أي : إتمام ما لم يذكر في سورة النساء – [ والسارق والسارقة ] [ ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ] إلى قوله : [ عزيز ذو انتقام ] . [ ما جعل الله من بحيرة ، ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ] . وقوله –تعالى- [ شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ] الآية .
ثم قال القرطبي : قلت : وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله –تعالى- : [ وإذا ناديتم إلى الصلاة ] إذ ليس للآذان ذكر في القرآن إلى في هذه السورة أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة . وهو في هذه السورة عام لجميع الصلوات " ( {[20]} ) .
2- إن الذي يقرأ سورة المائدة يراها قد وجهت جملة من النداءات إلى المؤمنين وقد تجاوزت هذه النداءات في كثرتها ، تلك النداءات التي وردت في أطول سورة في القرآن وهي سورة البقرة .
فقد وجهت سورة المائدة إلى المؤمنين ستة عشر نداء . وقد تضمن كل نداء تشريعاً من التشريعات ، أو أمرا من الأوامر : أو نهيا من النواهي ، أو توجيها من التوجيهات ؛ مما يدل على أن هذه السورة قد اهتمت اهتماماً ملحوظاً بتربية المؤمنين على المنهج الذي اختاره الله لهم . ولاسيما بعد أن أكمل –سبحانه- لهم دينهم ، وأتم عليهم نعمته .
وهذه هي النداءات التي وجهها الله –تعالى- إلى المؤمنين نسوقها مرتبة كما وردت في السورة .
1- قال – تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ] الآية 1
2- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر ا لله ] الآية 2 .
3- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ] الآية 6 .
4- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ] الآية 8 .
5- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ] الآية 11 .
6- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة ] الآية 35 .
7- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ] الآية 51 .
8- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ] الآية 54 .
9- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا ]الآية 57 .
10- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ] الآية 87 .
11- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب ] الآية 90 .
12- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد ] الآية 94 .
13- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ] الآية 95 .
14- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ]الآية 101 .
15- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم ] الآية 105 .
16- وقال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ] الآية 106 .
هذه هي النداءات التي وجهها –سبحانه- إلى المؤمنين في سورة المائدة ، وأنت إذا تأملت فيها ترى كل نداء منها يعتبر قانوناً منظما لناحية من نواحي الحياة عند المسلمين فيما يختص بأنفسهم ، أو فيما يختص بعلاقتهم بغيرهم .
وسنفصل القول في هذه الآيات المشتملة على تلك النداءات عند تفسيرنا لها –إن شاء الله- .
3- أن السورة الكريمة حافلة بالحديث عن أحوال أهل الكتاب ، فقد تحدثت عن عقائدهم الفاسدة ، وردت عليهم بما يبطل معتقداتهم بأسلوب منطقي رصين : ولم تكتف بهذا بل أرشدتهم في كثير من آياتها إلى طريق الحق حتى يسلكوه ، وحتى لا يكون لهم عذر يوم القيامة . وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من آياتها –أيضاً- أن يكشف لهم عن ضلالهم وفسوقهم عن أمر ربهم .
ومن ذلك قوله –تعالى- : [ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ] .
وقوله –تعالى- : [ قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيراً ، وضلوا عن سواء السبيل ] .
وقد ذكرت السورة الكريمة –كما سبق أن أشرنا- ألوانا من مسالك اليهود الخبيثة لكيد الدعوة الإسلامية ، كتحاكمهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا بقصد الوصول إلى الحق ، وإنما بقصد إظهاره بمظهر الجاهل بأحكام التوراة ولكن الله –تعالى- خيب سعيهم ، وأبطل مكرهم ، وكاستهزائهم بالدين الإسلامي وشعائره :
قال –تعالى- : [ وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ] .
كما ذكرت –أيضاً- أنواعاً من رذائلهم التي من أشنعها : نقضهم للعهود والمواثيق ، ومسارعتهم في الإثم والعدوان ، وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وتكذيبهم للرسل تارة ، وقتلهم لهم تارة أخرى .
أما فيما يتعلق بالنصارى فقد تميزت سورة المائدة بالإفاضة في الحديث عنهم بصورة لا تكاد توجد في غيرها بهذه السعة .
فقد تحدثت عن عقائدهم الباطلة ، وعن أقوالهم الكاذبة في شأن عيسى –عليه السلام- وفي شأن أمه مريم ، وردت عليهم بما يدحض حجتهم ، وبما يرشدهم إلى الصراط المستقيم .
وقد أنصفت السورة من يستحق الإنصاف منهم ، وبشرت أولئك الذين اتبعوا الحق منهم بالثواب الجزيل من الله –تعالى .
4- أن الذي ينظر في الأحكام والتشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها سورة المائدة يراها تمتاز بأنها أحكام نهائية لا تقبل النسخ .
وخذ على سبيل المثال ما ورد في هذه السورة بشأن تحريم الخمر ، فإنك تراه قاطعا وحاسما في التحريم .
فلقد مر تحريم الخمر بمراحل كان أولها قوله –تعالى- في سورة البقرة : [ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ] ( الآية 219 ) .
وكان ثانيها قوله –تعالى- هنا في سورة المائدة : [ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ] .
والسر في أن الأحكام الشرعية التي وردت في هذه السورة تعتبر نهائية ولا تقبل النسخ . أن معظم آياتها –كما سبق ذكرنا- كان من آخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن ، وكان نزول كثير من آياتها بعد أن انزوى الشرك في مخابئه ، وصار المسلمون في قوة ومنعة ، كانوا بها أصحاب السلطان في مكة وفي بيت الله الحرام ، دون أن يتعرض لهم متعرض ، أو ينازعهم منازع ، فقد تم فتح مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً .
ولهذا فأنت لا ترى السورة الكريمة تتحدث عن الشرك أو عن المشركين ، أو عن الجهاد في سبيل الله وما يتعلق به من حض عليه ومن أحكام تختص به .
وإنما سورة المائدة تتحدث عن قضايا أخرى كان المسلمون في حاجة إليها عند نزولها . ومن أهم هذه القضايا : حث المؤمنين على التزام العهود والمواثيق وتحذيرهم من الإخلال بشيء منها ، وإنزال التشريعات التي هم في حاجة إليها بعد أن تم لهم النصر على أعدائهم ، وإرشادهم إلى طرق المحاجة والمناقشة التي يردون بها على ما يثيره أهل الكتاب من شبهات حول تعاليم الإسلام وآدابه وتشريعاته . وبيان وجه الحق فيما حكته السورة عن أهل الكتاب من أقوال باطلة ، ومن معتقدات فاسدة .
أما فيما يتعلق بالشرك والمشركين أو بالجهاد في سبيل الله ، فلم يكن مقتضى حال المسلمين يستدعي الكلام في ذلك ، لأن نزول معظمها كان بعد أن تم للمسلمين النصر على أعدائهم ، وبعد أن أصبحت كلمتهم هي العليا ، وكلمة المشركين هي السفلى .
وقد تكفلت السور المدنية الأخرى التي نزلت قبل سورة المائدة بالحديث المستفيض عن الشرك وعن المشركين ، ون الحض على الجهاد في سبيل الله ، وعن غير ذلك من القضايا التي تقتضيها حالة المسلمين .
وبعد : فهذا تمهيد بين يدي السورة الكريمة تعرضنا خلاله لمكان نزولها ولزمانه ، ولوجه تسميتها بسورة المائدة . وللمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها وللأمور البارزة فيها .
وقد قصدنا بهذا التمهيد إعطاء القارئ الكريم فكرة واضحة عن هذه السورة ، قبل البدء في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل . والله الهادي إلى سواء السبيل .
قوله : { أَوْفُواْ } من الإِيفاء . ومعناه : الإِتيان بالشيء وافياً تاماً لا نقص فيه ، ولا نقض معه . يقال وفي بالعهد وأوفى به إذا أدى ما التزم به .
قال صاحب الكشاف : ورد في الكتاب العزيز { وفى } بالتضعيف في قوله - تعالى - : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } . وورد " أوفى " كثيراً . ومنه { أَوْفُواْ بالعقود } . وأما { وفى } ثلاثياً فلم يرد إلا في قوله - تعالى - : ( وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ ) لأنه بني أفعل التفضيل من " وفى " : إذ لا يبنى إلا من ثلاثي " .
والعقود : جمع عقد - بفتح العين - . وهو العهد الموثق .
قال الراغب : الجمع بين أطراف الشيء . ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل ، وعقد البناء . ثم يستعار ذلك للمعاني نحو عقد البيع والعهد وغيرهما : فيقال : عاقدته ، وعقدته ، وتعاقدنا .
وهو مصدر استعمل اسماً فجمع نحو . { أَوْفُواْ بالعقود } .
وقد فرق بعضهم بين العقد والعهد فقال : " والعقود جمع عقد وهو بمعنى المعقود وهو أوكد العهود . والفرق بين العقد والعهد أن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ، ولا يكون إلا بين متعاقدين . والعهد قد ينفرد به الواحد . فكل عقد عهد ولا يكون كل عهد عقدا " .
والمراد بالعقود هنا : ما يشمل العقود التي عقدها الله علينا وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمندوبات ، وما يشمل العقود التي تقع بين الناس بعضهم مع بعض في معاملاتهم المتنوعة وما يشمل العهود التي يقطعها الإِنسان على نفسه ، والتي لا تتنافى مع شريعة الله - تعالى - .
وبعضهم يرى أن المراد بالعقود هنا : ما يتعاقد عليه الناس فيما بينهم كعقود البيع وعقود النكاح .
وبعضهم يرى أن المراد بها هنا : العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة للمظلوم حتى ينال حقه .
والأول لأنه أولى أليق بعموم اللفظ ، إذ هو جمع محلى بأل المفيدة للجنس وأوفى بعموم الفائدة .
قال القرطبي : والمعنى : أوفوا بعقد الله عليكم ، وبعقدكم بعضكم على بعض . وهذا كله راجع إلى القول بالعمم وهو الصحيح في الباب . قال - صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون عند شروطهم " وقال : " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط " .
فبين أن الشرط أو العقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله : أي : دين الله . فإن ظهر فيها ما يخالف رد ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
والبهيمة : اسم لذوات الأربع من دواب البر والبحر .
قال الفخر الرازي : قالوا كل حي لا عقل له فهو بهيمة من قولهم : استبهم الأمر على فلان إذا أشكل عليه .
وهذا باب مبهم أي : مسدود الطريق . ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر " .
والأنعام جمع نعم - بفتحتين - وأكثر ما يطلق على الإِبل ، لأنها أعظم نعمة عند العرب .
والمراد بالأنعام هنا : ما يشمل الإِبل والبقر والغنم ويلحق بها كل حيوان أو طير يتغذى من النبات ، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبي وحمار وغيرهما من آكلات العشب ، كما تدخل الطيور غير الجارحة وإضافة البهيمة إلى الأنعام إضافة بيانية من إضافة الجنس إلى ما هو أخص منه كشجر الأراك ، وثوب الخز .
أي : أحل الله لكم أيها المؤمنون الانتفاع ببهيمة الأنعام . وهذا الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها وما أشبه ذلك مما أحله الله منها .
وقال الآلوسي ما ملخصه : وقال غير واحد : البهيمة اسم لكل ذات أربع من دواب البر والبحر . وإضافتها إلى الأنعام للبيان كثوب خز . أي : أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام .
وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها .
وأفردت البهيمة لإرادة الجنس : وجزع الأنعام ليشمل أنواعها . وألحق بها الظباء وبقر الوحش . وقيل : هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب .
وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما .
وقيل : المراد ببهيمة الأنعام : ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة ، فيكون مفاد الآية صريحاً حل أكلها . وبه قال الشافعي .
وقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } أي يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله - تعالى - في الآية الثالثة من السورة نفسها - { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } إلخ وقوله صلى الله عليه وسلم " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام " .
فإن قيل : الذي يتلى علينا الكتاب وليس السنة ؟ قلنا : كل سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي كتاب الله . والدليل عليه أمران :
أحدهما : حديث العسيف " لأقضين بينكما بكتاب الله " والرجم ليس منصوصاً عليه في كتاب الله .
الثاني : حديث عبد الله بن مسعود : " ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله " .
ويحتمل : ألا ما يتلى عليكم الآن . أو ما يتلى عليكم فيما بعد من مستقبل الزمان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون فيه دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة .
وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } بيان لما حرم عليهم في أحوال معينة ، وبسبب أمور اقترنت به .
وقوله : { حُرُمٌ } جمع حرام . يقال . أحرم الرجل فهو محرم وحرام وهم حرم .
وقوله : { مُحِلِّي } جمع محل بمعنى مستحل . والصيد مصدر بمعنى الاصطياد . أو اسم للحيوان المصيد .
وقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصيد } حال من الضمير في { لَكُمْ } .
وقوله : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } حال من الضمير في { مُحِلِّي } .
والمعنى : يأأيها الذين آمنوا كونوا أوفياء بعهودكم مع الله ومع أنفسكم ومع غيركم ، فقد أحل الله - تعالى - بهيمة الأنعام لتنتفعوا بها فضلا منه وكرما ، إلا أنه - سبحانه - حرم عليكم أشياء رحمة بكم فاجتنبوها . كما حرم عليكم الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، سواء أكنتم في الحل أم كنتم في الحرم ، ويدخل في حكم المحرم من كان في الحرم وليس محرما .
وذلك لأن المحرم أو من كان في أرض الحرم يجب عليه أن يكون مشتغلا بما يرضى الله ، وأن يحترم هذه الأماكن المقدسة التي جعلها الله أماكن أمان ، واطمئنان وعبادة لله رب العالمين .
وقد دعا الله - تعالى - المؤمنين إلى الوفاء بالعقود وناداهم بوصف الإِيمان ، ليحثهم على امتثال ما كلفهم به ، لأن الشأن في المؤمن أن يمتمثل لما أمره الله به أو لما نهاه عنه .
روى ابن أبي حاتم ، أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلى . فقال له : إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الذين } فارعها سمعك فإنك خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه وقوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيد } تذييل قصد به بيان مشيئة الله النافذة ، وإرادته الشاملة ، وحكمه الذي لا يعقب عليه معقب .
أي : إن الله يحكم بما يريد أن يحكم به من الأحكام التي تتعلق بالحلال وبالحرام وبغيرهما ، بمقتضى مشيئته المبنية على الحكم البالغة ، دون أن ينازعه منازع ، أو يعارضه معارض ، فاستجيبوا - أيها المؤمنون - لحكمة لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة .
هذا ، وقد أخذا العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب الوفاء بالعهود التي شرعها الله - تعالى - وهذا المعنى ترى سورة المائدة زاخرة به في كثير من آياتها .
فأنت ترى في مطلعها هذه الآية الكريمة التي تحض على الوفاء بالعقود ، ثم ترى الآية الثانية منها تنهى عن الإخلال بشيء من شعائر الله ، ثم تراها بعد ذلك بقليل تذكر المؤمنين بنعم الله عليهم وبميثاقه الذي أوثقهم به : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ } ثم تحكى أن من الأسباب التي أدت إلى طرد بني إسرائيل من رحمة الله ، نقضهم لمواثيقهم . { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } وهكذا نرى السورة الكريمة حافلة بالتوجيهات التي تحض المؤمنين على التزام العهود والموثيق التي شرعها الله وتحذرهم عاقبة إهمالها ، أو الإِخلال بشيء منها .
كما أخذا العلماء منها حل بهيمة الأنعام من جهة الانتفاع بلحومها وجلودها وأصوافها .
وحرمة ما حرم الله - تعالى - منها في مواطن أخرى .
كما أخذوا منها حرمة الاصطياد أو الانتفاع بالمصيد على من كان محرما بحج أو عمرة ، وعلى من كان في أرض الحرم ولو لم يكن محرما .
قال القرطبي : وهذه الآية تلوح فصاحتها .
وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام فإنه تضمنت خمسة أحكام :
الأول : الأمر بالوفاء بالعقود .
الثاني : تحليل بهيمة الأنعام .
الثالث : استثناء ما يلي بعد ذلك .
الرابع : استثناء حال الإِحرام فيما يصاد .
الخامس : ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم .
وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا شيئاً مثل هذا القرآن فقال : نعم أعمل مثل بعضه . فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد . إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة . فنظرت فإذا هو نطق بالوفاء ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاماً ، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا .
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } الوفاء هو القيام بمقتضى العهد وكذلك الإيفاء والعهد الموثق قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم *** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال ، ولعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها الله سبحانه وتعالى على عباده وألزمها إياهم من التكاليف ، وما يعقدون بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به ، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب والندب . { أحلت لكم بهيمة الأنعام } تفصيل للعقود ، والبهيمة كل حي لا يميز . وقيل كل ذات أربع ، وإضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك : ثوب خز ، ومعناه البهيمة من الأنعام . وهي الأزواج الثمانية وألحق بها الظباء ويقر الوحش . وقيل هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب ، وإضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه . { إلا ما يتلى عليكم } إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه . { غير محلي الصيد } حال من الضمير في { لكم } وقيل من واو { أوفوا } وقيل استثناء وفيه تعسف و{ الصيد } يحتمل المصدر والمفعول . { وأنتم حرم } حال مما استكن في { محلي } ، وال{ حرم } جمع حرام وهو المحرم . { إن الله يحكم ما يريد } من تحليل أو تحريم .
هذه السورة مدنية بإجماع{[1]} ، وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال : ( يا علي ، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ، ونعمت الفائدة ) .
وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم{[2]} .
ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع ، ومنها ما نزل عام الفتح ، وهو قوله تعالى : { ولا يجرمنكم شنئان قوم } الآية ، وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني ، سواء ما نزل بالمدينة ، أو في سفر من الأسفار ، أو بمكة ، وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة{[3]} ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة ، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب ) .
قال علقمة : كل ما في القرآن { يا أيها الذين آمنوا } فهو مدني ، وقد تقدم القول في مثل هذا . ويقال : وفى وأوفى بمعنى واحد{[4408]} ، وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود . وهي الربوط في القول ، كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح أو بيع أو غيره . ولفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب . إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولفظ «العقود » يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه ، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام ، فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر الناس لفظ «العقود » بالعهود{[4409]} . وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة ( أوفوا بالعقود ) معناه بعهد الجاهلية . روي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام »{[4410]} .
قال القاضي أبو محمد : وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين ، إذ كان الجمهور على ظلم وضلال ، والإسلام قد ربط الجميع وجعل المؤمنين إخوة فالذي يريد أن يختص به المتعاقدان قد ربطهما إليه الشرع مع غيرهم من المسلمين اللهم إلا أن يكون التعاهد على دفع نازلة من نوازل الظلامات فيلزم في الإسلام التعاهد على دفع ذلك والوفاء بذلك العهد ، وأما عهد خاص لما عسى أن يقع يختص المتعاهدون بالنظر فيه والمنفعة كما كان في الجاهلية فلا يكون ذلك في الإسلام ، قال الطبري : وذكر{[4411]} أن فرات بن حيان العجلي{[4412]} سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية ، فقال لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله ؟ قال نعم يا نبي الله ، قال لا يزيده الإسلام إلا شدة . وقال ابن عباس رضي الله عنه { أوفوا بالعقود } معناه بما أحل وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء ، قاله مجاهد وغيره .
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما «العقود » في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أن ونكاح أو غيره .
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف .
قال القاضي أبو محمد : وقد تنحصر إلى أقل من خمس ، وقال ابن جريج قوله تعالى : { أوفوا بالعقود } قال : هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم ، وقال ابن شهاب وقرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره : هذا بيان من الله ورسوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } فكتب الآيات منها إلى قوله : { إن الله سريع الحساب }{[4413]} . قال القاضي أبو محمد : وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة ، في مظهر الإيمان_ إن لم يبطنه_ وفي المؤمنين حقيقة . ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع . ومن لفظ العقد قول الحطيئة :
قومٌ إذا عقدوا عقداً لجارهم . . . شدوا العناجَ وشدوا فوقَهُ الكربا{[4414]}
وقوله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } خطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله وكانت للعرب سنن في «الأنعام » من السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك فنزلت هذه الآية رافعة لجميع ذلك واختلف في معنى { بهيمة الأنعام } فقال السدي والربيع وقتادة والضحاك : هي «الأنعام » كلها .
قال القاضي أبو محمد : كأنه قال أحلت لكم «الأنعام » فأضاف الجنس إلى أخص منه وقال الحسن : { بهيمة الأنعام } الإبل والبقر والغنم . وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال { بهيمة الأنعام } الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات فهي تؤكل دون ذكاة ، وقال ابن عباس : هذه الأجنة من { بهيمة الأنعام } ، قال الطبري : وقال قوم { بهيمة الأنعام } وحشها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك . وذكره غير الطبري عن الضحاك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن ، وذلك أن «الأنعام » هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن حد «الأنعام » فصار له نظر ما ، ف { بهيمة الأنعام } هي الراعي من ذوات الأربع{[4415]} وهذه على ما قيل إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع ، وما هي عندي إلا إضافته الشيء إلى جنسه وصرح القرآن بتحليلها . واتفقت الآية وقول النبي عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام »{[4416]} ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد إذ أحدهما استثني فيه حال للمخاطبين وهي الإحرام والحرم ، والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج ، فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع . والبهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم ومنه باب مبهم وحائط مبهم ، وليل بهيم ، وبهمة ، للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له .
وقوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } استثناء ما تلي في قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } [ المائدة : 3 ] و { ما } في موضع نصب على أصل الاستثناء وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون { إلا } عاطفة وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك جاء الرجال إلا زيد كأنك قلت غير زيد بالرفع{[4417]} .
وقوله : { غير محلي الصيد } نصب { غير } على الحال من الكاف والميم في قوله { أحلت لكم } ، وقرأ ابن أبي عبلة «غيرُ » بالرفع ووجهها الصفة للضمير في { يتلى } لأن «غيرُ محلي الصيد » هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً أو يتخرج على الصفة ل { بهيمة } على مراعاة معنى الكلام كما ذكرت .
قال القاضي أبو محمد : وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب «غيرَ » وقدروا فيها تقديمات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء و[ حُرم ] جمع حرام ، وهو المحرم ومنه قول الشاعر :
فقلت لها فيئي إليك فإنني *** حرام وإني بعد ذاك لبيب{[4418]}
أي ملبّ وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب «حرْم » بسكون الراء و قال أبو الحسن هذه لغة تميمية يقولون في رُسُل رُسْل وفي كُتُب كُتْب ونحوه ، وقوله : { إن الله يحكم ما يريد } تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب أي فأنت أيها السامع لنسخ تلك العهود التي عهدت تنبه فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه . وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام : الأمر بالوفاء بالعقود ، وتحليل بهيمة الأنعام ، واستثناء ما تلي بعد ، واستثناء حال الإحرام فيما يصاد ، وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم ، وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا للكندي : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلاً عاماً ثم استثنى استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد . .