تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أي : عدلا خيارا ، وما عدا الوسط ، فأطراف داخلة تحت الخطر ، فجعل الله هذه الأمة ، وسطا في كل أمور الدين ، وسطا في الأنبياء ، بين من غلا فيهم ، كالنصارى ، وبين من جفاهم ، كاليهود ، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك ، ووسطا في الشريعة ، لا تشديدات اليهود وآصارهم ، ولا تهاون النصارى .

وفي باب الطهارة والمطاعم ، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، ولا يطهرهم الماء من النجاسات ، وقد حرمت عليهم الطيبات ، عقوبة لهم ، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا ، ولا يحرمون شيئا ، بل أباحوا ما دب ودرج .

بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها ، وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، وحرم عليهم الخبائث من ذلك ، فلهذه الأمة من الدين أكمله ، ومن الأخلاق أجلها ، ومن الأعمال أفضلها .

ووهبهم الله من العلم والحلم ، والعدل والإحسان ، ما لم يهبه لأمة سواهم ، فلذلك كانوا { أُمَّةً وَسَطًا } [ كاملين ] ليكونوا { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط ، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ، ولا يحكم عليهم غيرهم ، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول ، فهو مقبول ، وما شهدت له بالرد ، فهو مردود . فإن قيل : كيف يقبل حكمهم على غيرهم ، والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض ؟ قيل : إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين ، لوجود التهمة فأما إذا انتفت التهمة ، وحصلت العدالة التامة ، كما في هذه الأمة ، فإنما المقصود ، الحكم بالعدل والحق ، وشرط ذلك ، العلم والعدل ، وهما موجودان في هذه الأمة ، فقبل قولها .

فإن شك شاك في فضلها ، وطلب مزكيا لها ، فهو أكمل الخلق ، نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فلهذا قال تعالى : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }

ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم ، أنه إذا كان يوم القيامة ، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم ، والأمم المكذبة عن ذلك ، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم ، استشهدت الأنبياء بهذه الأمة ، وزكاها نبيها .

وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة ، حجة قاطعة ، وأنهم معصومون عن الخطأ ، لإطلاق قوله : { وَسَطًا } فلو قدر اتفاقهم على الخطأ ، لم يكونوا وسطا ، إلا في بعض الأمور ، ولقوله : { ولتكونوا شهداء على الناس } يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه ، فإنها معصومة في ذلك . وفيها اشتراط العدالة في الحكم ، والشهادة ، والفتيا ، ونحو ذلك .

يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } وهي استقبال بيت المقدس أولا { إِلَّا لِنَعْلَمَ } أي : علما يتعلق به الثواب والعقاب ، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها .

ولكن هذا العلم ، لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا ، لتمام عدله ، وإقامة الحجة على عباده ، بل إذا وجدت أعمالهم ، ترتب عليها الثواب والعقاب ، أي : شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن { مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } ويؤمن به ، فيتبعه على كل حال ، لأنه عبد مأمور مدبر ، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة ، أنه يستقبل الكعبة ، فالمنصف الذي مقصوده الحق ، مما يزيده ذلك إيمانا ، وطاعة للرسول .

وأما من انقلب على عقبيه ، وأعرض عن الحق ، واتبع هواه ، فإنه يزداد كفرا إلى كفره ، وحيرة إلى حيرته ، ويدلي بالحجة الباطلة ، المبنية على شبهة لا حقيقة لها .

{ وَإِنْ كَانَتْ } أي : صرفك عنها { لَكَبِيرَةٌ } أي : شاقة { إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم ، وشكروا ، وأقروا له بالإحسان ، حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم ، الذي فضله على سائر بقاع الأرض ، وجعل قصده ، ركنا من أركان الإسلام ، وهادما للذنوب والآثام ، فلهذا خف عليهم ذلك ، وشق على من سواهم .

ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : ما ينبغي له ولا يليق به تعالى ، بل هي من الممتنعات عليه ، فأخبر أنه ممتنع عليه ، ومستحيل ، أن يضيع إيمانكم ، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان ، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم ، فلا يضيعه ، وحفظه نوعان :

حفظ عن الضياع والبطلان ، بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة ، والأهواء الصادة ، وحفظ له بتنميته لهم ، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فكما ابتدأكم ، بأن هداكم للإيمان ، فسيحفظه لكم ، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره ، وثوابه ، وحفظه من كل مكدر ، بل إذا وجدت المحن المقصود منها ، تبيين المؤمن الصادق من الكاذب ، فإنها تمحص المؤمنين ، وتظهر صدقهم ، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم ، فدفع هذا الوهم بقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } بتقديره لهذه المحنة أو غيرها .

ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة ، فإن الله لا يضيع إيمانهم ، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها ، وطاعة الله ، امتثال أمره في كل وقت ، بحسب ذلك ، وفي هذه الآية ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : شديد الرحمة بهم عظيمها ، فمن رأفته ورحمته بهم ، أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها ، وأن ميَّزَ عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه ، وأن امتحنهم امتحانا ، زاد به إيمانهم ، وارتفعت به درجتهم ، وأن وجههم إلى أشرف البيوت ، وأجلها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

142

- ثم وصف الله - تعالى - الأمة الإسلامية ، بأنها أمة خيرة عادلة مزكاة بالعلم والعمل فقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .

والمعنى : ومثل ما جعلنا قبلتكم - أيها المسلمون - وسطاً لأنها البيت الحرام الذي هو المثابة للناس ، والأمن لهم ، جعلناكم - أيضاً - { أُمَّةً وَسَطاً } أي : خياراً عدولا بين الأمم ليتحقق التناسب بينكم وبين القبلة التي تتوجهون إليها في صلواتكم ، تشهدون على الأمم السابقة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ، ونصحوهم بما ينفعهم ، ولكي يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم بأنكم صدقتموه وآمنتم به .

أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقال له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته هل بلغكم . فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقال له : من يشهد لك . فيقول : محمد وأمته . فيشهدون أنه قد بلغ ، فذلك قوله - جل ذكره - { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .

ثم بين الله - تعالى - الحكمة في تحويل القبلة إلى الكعبة فقال تعالى :

{ وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } .

أي وما شرعنا التوجه إلى القبلة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس ، إلا لنعامل الناس معاملة الممتحن المختبر ، فنعلم من يتبع الرسول ويأتمر بأوامره في كل حال ممن لم يدخل الدين في قرارة نفسه ، وإنما دخل فيه على حرف ، بحيث يترد عنه لأقل شبهة ، وأدنى ملابسة كما حصل ذلك من ضعاف الإِيمان عند تحويل القبلة إلى الكعبة والله - تعالى - عالم بكل شيء ، ولكنه شاء أن يكون معلومه الغيبي مشاهداً في العيان ، إذ تعلق الشيء واقعاً في العيان ، هو الذي تقوم عليه الحجة ، ويترتب عليه الثواب والعقاب .

ولذا قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قال لنعلم ولم يزل عالماً بذلك ؟ قلت ؛ معناه لنلعمه علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلا ، ونحوه { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } وقيل ليعلم رسول الله والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته ، لأنهنم خواصه وأهل الزلفى عنده ، وقيل معناه . ليميز التابع من الناكص كما قال - تعالى - : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } فوضع العلم موضع التمييز ؛ لأن العلم يقع التميز به " .

ثم بين الله - تعالى - آثار تحويل القبلة في نفوس المؤمنين وغيرهم فقال تعالى : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } .

أي : إنما شرعنا لك - يا محمد - القبلة أولا إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكمية ليظهر حال من يتبعك ويطيعك في كل حالة ممن لا يطيعك ، وإن كانت هذه الفعلة - وهي تحويلنا لك من بيت المقدس إلى الكعبة - لكبيرة وشاقة ، إلا على الذين خلق الله الهداية في قلوبهم فتلقوا أوامرنا بالخضوع والإِذعان ، وقالوا سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا .

وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ . . . } .

بشارة عظيمة للمؤمنين ، وجواب لما جاشت به الصدور ، وتكذيب لما ادعاه اليهود من أن عبادة المؤمنين في الفترة التي سبقت تحويل القبلة إلى الكعبة ضائعة وباطلة .

فقد أخرج البخاري من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا ، فلم ندر ما تقول فيهم ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .

وقال ابن عباس : كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ماتوا على القبلة الأولى ، منهم : أسعد بن زرارة ، وأبو أمامة . . . وأناس آخرون فجاءت عشائرهم فقالوا : يا رسول الله : مات إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم ، فكيف بإخواننا ، فأنزل الله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } .

وروى أن حيي بن أخطب وجماعة من اليهود قالوا للمسلمين : أخبرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس إن كانت على هدى لقد تحولتم عنه ، وإن كانت على ضلالة فقد عبدتم الله بها مدة ، ومن مات عليها فقد مات على ضلالة فقال المسلمون إنما الهدى فيما أمر الله - تعالى - والضلالة فيما نهى الله عنه فقالوا : فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا ؟ - وكان قد مات من المسلمين جماعة قبل تحويل القبلة - فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .

والمعنى - وما كان الله - تعالى - ليذهب صلاتكم وأعمالكم الصالحة التي قمتم بها خلال توجهكم إلى بيت المقدس ، لأنه - سبحانه - بعباده رءوف رحيم ولا يضيع أجر من أحسن عملا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

142

ثم يحدث هذه الأمة عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون ، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض ، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية ، وعن دورها الأساسي في حياة الناس ؛ مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة ، وشخصيتها الخاصة ؛ وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم :

( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ) . .

إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ؛ وتضع لهم الموازين والقيم ؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها ، وتقول : هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ؛ فيقرر لها موازينها وقيمها ؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها ؛ ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة . . وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها . . لتعرفها ، ولتشعر بضخامتها . ولتقدر دورها حق قدره ، وتستعد له استعدادا لائقا . .

وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .

( أمة وسطا ) . . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال .

( أمة وسطا ) . . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ؛ وشعارها الدئم : الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين .

( أمة وسطا ) . . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ؛ وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .

( أمة وسطا ) . . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ؛ ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .

( أمة وسطا ) . . في المكان . . في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .

( أمة وسطا ) . . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ؛ وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء ؛ وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك .

وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها ، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها ، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها ، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها .

وأمة تلك وظيفتها ، وذلك دورها ، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية ، فللقيادة تكاليفها ، وللقوامة تبعاتها ، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى ، ليتأكد خلوصها لله وتجردها ، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة .

وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها ، بمناسبة تحويلهم الآن عنها :

( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )

ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة ، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة ، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة . إنه يريد لها أن تخلص له ؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها ؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة ؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية ، ومن كل شعار اتخذته ، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر ، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .

ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة ؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك ، ومن عصبية الجنس ، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس ، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره ، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .

لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى ، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة ، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول [ ص ] ثانيا ، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله ، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة ، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .

إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة . . إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا ؛ ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح ؛ إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) . . والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس ، حتى يحاسبهم عليه ، ويأخذهم به . فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم ، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .

ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية ، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة . . أمر شاق ، ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق ، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه :

( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) . .

فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات ، وأن تنفض عنها تلك الرواسب ؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع ، حيثما وجهها الله تتجه ، وحيثما قادها رسول الله تقاد .

ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال ، وإن صلاتهم لم تضع ، فالله سبحانه لا يعنت العباد ، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه ؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها :

( وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . .

إنه يعرف طاقتهم المحدودة ، فلا يكلفهم فوق طاقتهم ؛ وإنه يهدي المؤمنين ، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان ، حين تصدق منهم النية ، وتصح العزيمة . وإذا كان البلاء مظهرا لحكمته ، فاجتياز البلاء فضل رحمته : ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . .

بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ، ويذهب عنها القلق ، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

{ وكذلك } إشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة ، أي كما جعلناكم مهديين إلى الصراط المستقيم ، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل . { جعلناكم أمة وسطا } أي خيارا ، أو عدولا مزكين بالعلم والعمل . وهو في الأصل اسم للمكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب ، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط ، كالجود بين الإسراف والبخل ، والشجاعة بين التهور والجبن ، ثم أطلق على المتصف بها ، مستويا فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي وصف بها ، واستدل به على أن الإجماع حجة إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } علة للجعل ، أي لتعلموا بالتأمل فيما نصب لكم من الحجج ، وأنزل عليكم من الكتاب أنه تعالى ما بخل على أحد وما ظلم ، بل أوضح السبل وأرسل الرسل ، فبلغوا ونصحوا . ولكن الذين كفروا حملهم الشقاء على اتباع الشهوات ، والإعراض عن الآيات ، فتشهدون بذلك على معاصريكم وعلى الذين من قبلكم ، أو بعدكم . روي " أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالبهم الله ببينة التبليغ -وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين ، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون ، فتقول الأمم من أين عرفتم ؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته ، فيشهد بعدالتهم " وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول عليه السلام كالرقيب المهيمن على أمته عدى بعلى ، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدا عليهم . { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } أي الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها بمكة ، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود . أو الصخرة لقول ابن عباس رضي الله عنهما ( كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ ، وعلى الثاني المنسوخ . والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وما جعلنا قبلتك بيت المقدس .

{ إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } إلا لنمتحن به الناس ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ، ممن يرتد عن دينك إلفا لقبلة آبائه . أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لا يتبعه ، وما كان لعارض يزول بزواله . وعلى الأول معناه : ما رددناك إلى التي كنت عليها ، إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقه وضعف إيمانه . فإن قيل : كيف يكون علمه تعالى غاية الجعل وهو لم يزل عالما . قلت : هذا وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء ، والمعنى ليتعلق علمنا به موجودا . وقيل : ليعلم رسوله والمؤمنون لكنه أسنده إلى نفسه لأنهم خواصه ، أو لتميز الثابت من المتزلزل كقوله تعالى : { ليميز الله الخبيث من الطيب } فوضع العلم موضع التمييز المسبب عنه ، ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول ، والعلم إما بمعنى المعرفة ، أو معلق لما في من من معنى الاستفهام ، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب ، أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب .

{ وإن كانت لكبيرة } إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفاصلة . وقال الكوفيون هي النافية واللام بمعنى إلا . والضمير لما دل عليه قوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } من الجعلة ، أو الردة ، أو التولية ، أو التحويلة ، أو القبلة . وقرئ لكبيرة بالرفع فتكون كان زائدة { إلا على الذين هدى الله } إلى حكمة الأحكام الثابتين على الإيمان والاتباع { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي ثباتكم على الإيمان . وقيل : إيمانكم بالقبلة المنسوخة ، أو صلاتكم إليها لما روي : أنه عليه السلام لما وجه إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات يا رسول الله قبل التحويل من إخواننا فنزلت { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } فلا يضيع أجورهم ولا يدع صلاحهم ، ولعله قدم الرؤوف وهو أبلغ محافظة على الفواصل وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص لرؤوف بالمد ، والباقون بالقصر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 143 )

وقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } ، الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله { يهدي من يشاء }( {[1338]} ) ، أي كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، و { أمة } مفعول ثان ، و { وسطاً } نعت ، والأمة القرن من الناس( {[1339]} ) ، و { وسطاً } معناه عدولاً ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم( {[1340]} ) ، وتظاهرت به عبارة المفسرين( {[1341]} ) .

والوسط الخيار والأعلى من الشيء ، كما تقول وسط القوم ، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها ، والأمير وسط الجيش ، وكقوله تعالى { قال أوسطهم }( {[1342]} ) [ القلم : 28 ] ، والوسط بإسكان السين ظرف مبني على الفتح( {[1343]} ) ، وقد جاء متمكناً( {[1344]} ) في بعض الروايات في بيت الفرزدق :

فجاءت بمَجْلُوم كأن جبينه . . . صلاءة ورس وسطُها قد تفلقا( {[1345]} )

برفع الطاء والضمير عائد على الصلاءة ، وروي بفتح الطاء والضمير عائد على الجاثية ، فإذا قلت حفرت وسْطَ الدار أو وَسَطَ الدار فالمعنى مختلف( {[1346]} ) .

قال بعض العلماء : أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تغل في الدين كما فعلت اليهود ، ولا افترت كالنصارى ، فهي متوسطة ، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة( {[1347]} ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «خير الأمور أوساطها( {[1348]} ) » أي خيارها ، وقد يكون العلو والخير في الشيء إما بأنه أنفس جنسه ، وإما أن يكون بين الإفراط والتقصير فهو خيار من هذه الجهة و { شهداء } جمع شاهد في هذا الموضع .

واختلف المفسرون في المراد ب { الناس } في هذا الموضع ، فقالت فرقة : هم جميع الجنس ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ ، وذلك أن نوحاً تناكره أمته في التبليغ ، فتقول له أمة محمد نحن نشهد لك ، فيشهدون ، فيقول الله لهم : كيف شهدتم على ما لم تحضروا ؟ ، فيقولون : أي ربنا جاءنا رسولك ونزل إلينا كتابك فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به ، فيقول الله تعالى : صدقتم ، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم( {[1349]} ) ، وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه( {[1350]} ) ، وقال مجاهد : معنى الآية تشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس( {[1351]} ) .

وقالت طائفة : معنى الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير ، فقال : وجبت ، ثم مر بأخرى ، فأثني عليها بشرّ ، فقال : وجبت ، ويعني الجنة والنار ، فسئل عن ذلك ، فقال : «أنتم شهداء الله في الأرض »( {[1352]} ) ، وروي في بعض الطرق أنه قرأ { لتكونوا شهداء على الناس } .

{ ويكون الرسول عليكم شهيداً } قيل : معناه بأعمالكم يوم القيامة ، وقيل : عليكم بمعنى لكم أي يشهد لكم بالإيمان ، وقيل : أي يشهد عليكم بالتبليغ إليكم( {[1353]} ) .

وقوله تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } الآية ، قال قتادة والسدي وعطاء وغيرهم : القبلة هنا بيت المقدس : والمعنى لم نجعلها حين أمرناك بها أولاً إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون مسجد مكة ، أو من اليهود على ما قال الضحاك من أن الأحبار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء ، فإن صليت إليه اتبعناك ، فأمره الله بالصلاة إليه امتحاناً لهم فلم يؤمنوا ، وقال بعض من ذكر( {[1354]} ) : القبلة بيت المقدس ، والمعنى : وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها وتحويلها ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وقال ابن عباس : القبلة في الآية الكعبة ، وكنت بمعنى أنت( {[1355]} ) كقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس }( {[1356]} ) [ آل عمران : 110 ] بمعنى أنتم ، أي وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة ، وروي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول( {[1357]} ) إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود والمنافقون وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية ، وقال ابن جريج : بلغني أن ناساً ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام ، ومعنى قوله تعالى : { لنعلم } أي ليعلم رسولي والمؤمنون به( {[1358]} ) ، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته ، وهذا شائع في كلام العرب كما تقول : فتح عمر العراق وجبى خراجها ، وإنما فعل ذلك جنده وأتباعه ، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله( {[1359]} ) تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم لم يزل ، ووجه آخر : وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول واستمر العلم حتى وقع حدوثهم واستمر في حين الاتباع والانقلاب ويستمر بعد ذلك ، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم( {[1360]} ) ، فأراد بقوله { لنعلم } ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب ، فليس معنى { لنعلم } لنبتدىء العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجوداً ، وحكى ابن فورك أن معنى { لنعلم } لنثيب( {[1361]} ) ، فالمعنى لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب ، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى( {[1362]} ) الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه ، وحكى ابن فورك( {[1363]} ) أيضاً أن معنى { لنعلم } لنميز( {[1364]} ) ، وذكره الطبري عن ابن عباس ، وحكى الطبري أيضاً أن معنى { لنعلم } لنرى( {[1365]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله متقارب ، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن ، وقرأ الزهري { ليعلم } على ما لم يسم فاعله .

و { ينقلب على عقبيه } عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته ، فلذلك شبه المرتد في الدين به( {[1366]} ) ، وظاهر التشبيه أنه بالمتقهقر ، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب منه ، ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه( {[1367]} ) فإنه عند انقلابه إنما ينقلب على عقبيه .

وقوله تعالى : { وإن كانت لكبيرة } الآية ، الضمير في { كانت } راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس أو إلى التحويلة إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة ، وقال ابن زيد : «هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس » ، وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية ، و { كبيرة } هنا معناه شاقة صعبة تكبر في الصدور ، و { إن } هي المخففة من الثقيلة ، ولذلك لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية( {[1368]} ) ، وإذا ظهر التثقيل في { إن } فلربما لزمت اللام وربما لم تلزم ، وقال الفراء : { إن } بمعنى ما واللام بمنزلة إلا .

ولما حولت القبلة كان من قول اليهود : يا محمد إن كانت الأولى حقاً فأنت الآن على باطل ، وإن كانت هذه حقاً فكنت في الأول على ضلال( {[1369]} ) . فوجست( {[1370]} ) نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة : فنزلت { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ، وخاطب الحاضرين والمراد من حضر ومن مات ، لأن الحاضر يغلب ، كما تقول العرب : ألم نقتلكم في موطن كذا ؟ ، ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره ، وقرأ الضحاك { ليضَيّع } بفتح الضاد وشد الياء ، وقال ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي والربيع وغيرهم : الإيمان هنا الصلاة . وسمى الصلاة إيماناً لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل( {[1371]} ) ، ولما كان الإيمان قطباً عليه تدور الأعمال وكان ثابتاً في حال التوجه هنا وهنا ذكره ، إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي . ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر ، وأيضاً فسميت إيماناً إذ هي من شعب الإيمان ، والرأفة أعلى منازل الرحمة ، وقرأ قوم { لرَؤُف } على وزن فَعُل ، ومنه قول الوليد بن عقبة( {[1372]} ) : [ الطالبان ] : [ الوافر ]

وشرُّ الطالِبَيْنِ فلا تكنْهُ . . . بقاتِلِ عمِّهِ الرَّؤُفِ الرحيمِ

تقول العرب : رؤف ورؤوف ورئف كحذر ورأف وقرأ أبو جعفر ابن القعقاع { لرووف } بغير همز ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى ساكنة كانت أو متحركة .


[1338]:- أي: مرتبطة بذلك ارتباطا معنويا.
[1339]:- القرن: عبارة عن مدة معينة في اعتبار المؤرخين والاجتماعيين، والمراد أن كل قرن من قرون هذه الأمة المحمدية محكوم له في الجملة بالعدالة والاستقامة، وأول من يدخل في ذلك قرن الصحابة رضوان الله عليهم، ومن ثم خص الله هذه الأمة بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب.
[1340]:- رواه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي. وفي الآية إثبات العدالة لهذه الأمة من دون استثناء، وذلك يقضي باستقامتها وجَرَيان أحوالها على الموافقة دون المخالفة، ونحو الآية قوله تعالى: [وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون]، وقوله تعالى: [كنتم خير أمة] الآية، هذا –والله أعلم- من حيث المجموع لا من حيث الجميع كما يشهد لذلك حديث البخاري: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) إلخ. وهذه الطائفة هي الأمة الوسط، كما قال الإمام البخاري في خلق أفعال العباد.
[1341]:- أي: أظهرته عباراتهم واتفقت عليه.
[1342]:- من الآية (28) من سورة (القلم).
[1343]:- الوسط بالتسكين هو بمعنى (بَيْنَ) يقال: جلستُ وسْط القوم: أي بينهم، والوسط بالتحريك اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه، كقولك: جلست وسط الدار، ويُنْصَب على الظرف اتساعا، وليس نصبه على الظرف على معنى بيْنَ، تقول: وسَط رأسه صلب لأن وسَط الرأٍس بعضها، وتقول: وسط رأٍسه دهن، فتنصب وسط على الظرف وليس هو بعض الرأس، ولذا قيل: كلّ موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين، وإلا فبالتحريك.
[1344]:- أي: مُعْرَباً.
[1345]:- المَجْلُومُ: المَحْلُوق. أراد به هَنُ المرأة، والصلاءة: مدق الطيب، والوَرْسُ: نَبْت أصفر. والمؤلف يريد أن (وَسْط) ساكن السين يكون ظرفا وغير ظرف كما رُوي ذلك في بيت الفرزدق. وفي رواية: «أتته بمجلوم كأن جبينه» إلخ. وفي رواية: رمته بمجْمُوشٍ. والمجموش: المحلوق بالنورة، ووسطها: نصفها، وكما أن (وَسْط) تخرج عن الظرفية كذلك (بيْن) نحو قوله تعالى: [لقد تقطّع بينكم] على قراءة الرفع.
[1346]:- معناه على الفتح: جعلت الوسَط كلّه حفيراً، وذلك خلاف معنى السكون.
[1347]:- عبارة القرطبي في هذا الموضع: أي هذه الأمة لم تَغْل غُلُو النصارى في أنبيائهم، ولا قصَّروا تقصير اليهود في أنبيائهم – وعبارة أبي حيان في تفسير الوسط، «وقيل: متوسطين في الدين بين المُفْرط والمقصِّر، لم يتخذوا واحدا من الأنبياء إلها كما فعلت النصارى، ولا قتلوه كما فعلت اليهود»، ففيهما نسبة الغُلُوِّ إلى النصارى، ونسبة التقصير إلى اليهود، على عكس ما في ابن عطية، تأمل.
[1348]:- رواه ابن السمعاني في «ذيل تاريخ بغداد» بسند مجهول، عن علي رضي الله عنه مرفوعاً، وهو عند ابن جرير في التفسير من قول مطرف بن عبد الله ويزيد بن مرة الجعفي، ورواه الديلمي بلا سند عن ابن عباس بلفظ: (خير الأعمال أوسطها)، هذا ما يتصل بلفظه كما قاله الإمام السخاوي، وأما معناه فهو صحيح وثابت في الكتاب والسنة.
[1349]:- رواه البخاري، والإمام أحمد، والترمذي، والنسائي.
[1350]:- مِمَّن رواه الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري، وأبو بكر بن مردويه، عن جابر بن عبد الله.
[1351]:- كل ما يروى مرفوعاً أو غير مرفوع في تأويل الآية فإنه يقبل، لأن للآية عموماً تشمل به ما ذكر، وهو ما قرره المحققون في التفسير.
[1352]:- روى ذلك البخاري، ومسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. تنبيه: مما يدل على أفضلية هذه الأمة ما ثبت من احتلالها لنصف الجنة – ففي صحيح الإمام مسلم، عن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جماعة: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قال: قلنا: نعم. قال أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ فقلنا: نعم، فقال: والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض ا.هـ. يعني والنصف الآخر من المؤمنين الآخرين.
[1353]:- أي من دون حاجة إلى من يشهد له بالتبليغ، فهو المدعي وهو الشهيد، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم يشهد على الناس ولا يشهد عليه أحد.
[1354]:- أي: جعل القبلة هي بيت المقدس، وهم قتادة، والسدي، وعطاء، وغيرهم.
[1355]:- قال (ح): هذا من ابن عباس (إن صح) تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم، والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد.
[1356]:- من الآية (110). من سورة (آل عمران).
[1357]:- أيْ أُمر بتحويل القبلة إلى الكعبة.
[1358]:- هذا التأويل على حذف مضاف – أي: ليعلم رسولنا والمؤمنون. وجاء مسنداً إلى الله تعالى لأنهم حزبه وخواصه، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب، وعليه فالكلام من مجاز الحذف.
[1359]:- والقرينة استحالة حدوث علم الله تعالى، والقاعدة في هذا نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن عن الله تعالى أي إحالته.
[1360]:- معنى هذا الوجه أنه أُريد العلم بعد وجود الاتباع والانقلاب، لأنه كما يعلم الله الشيء قبل وجوده يعلمه بعد وجوده، ويكون العلم على هذا كناية عن التعلق، أي يتعلق علمنا بذلك وقت وجوده، أي وقت مواقعتهم الطاعة أو المعصية، ومواقعة الأمور مُدَاناتها، والعلم في كل ذلك مستمر لا يتغير وإن تغيرت أحوال الشيء المعلوم.
[1361]:- لأن الثواب مبني على عمل الإنسان، وعلى ما يعلمه الله منه، وقد قال تعالى: [وما تفعلوا من خير يعلمه الله].
[1362]:- وفي بعض النسخ: (لتقوم الحجة).
[1363]:- بضم الفاء أبو بكر، إمام جليل فقهاً وأُصولا وكلاما من أصبهان. مات مسموما سنة 400هـ.
[1364]:- من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، أي لنميز أهل اليقين من أهل الشك.
[1365]:- العرب تضع العلم مكان الرؤية كما هنا، والرؤية مكان العلم كما في قوله تعالى: [ألم تر كيف فعل ربك]، أي: ألم تعلم. والمؤلف –رحمه الله- ذكر ستة وجوه لتأويل الآية فراراً من حدوث العلم وتجدده إذ ذلك مستحيل على الله تعالى – الأول: أن المقصود بالإسناد الخواص والقرينة ظاهرة. الثاني: أن المراد تعلق العلم بالموجود. الثالث: المراد بالعلم الجزاء. الرابع: المراد به التمييز والفصل بين المتبع والمنقلب. الخامس: المراد بالعلم الرؤية والمعاينة. السادس: أن الفعل مبني للمفعول وهي قراءة الزهري، أي إلا ليُعْلَمَ من يتبِّع الرسول ومن ينقلب على عقبيه، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله، وعلم الغَير حادث.
[1366]:- الانقلاب على العقب حقيقته الرجوع إلى خلف متقهقراً، وليس المراد هذا، وإنما المراد الرجوع من الإيمان إلى الكفر، فهو استعارة تمثيلية، بجامع قطع العمل وسواءِ الاتجاه، ووقع تمثيل هذا الرجوع بالنكوص على العقبين لأنه من أسوإ ما يكون في حالة المشي.
[1367]:- أي رجع في الطريق الذي جاء منه.
[1368]:- هذا أقوى من قول الفراء – الذي سيذكره بعد ذلك- باعتبار المعنى والإعراب، ولا يعدو أن يكون مقام هذه الآية كمقام قوله تعالى: [وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين] الآية.
[1369]:- أشار بهذا إلى سبب نزول قوله تعالى: [وما كان الله ليضيع إيمانكم]، وفي الصحيح عن البراء بن عازب، والترمذي، عن ابن عباس أن سبب نزول الآية سؤال الناس عن الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس وماتوا.
[1370]:- أي: هَجَسَتْ والهواجس والهاجس ما يقع في النفس وما يخطر بالبال.
[1371]:- عبر بالإيمان عن الصلاة لأنه الأصل – ولأنه لا يمكن أن تكون صلاة بدون إيمان – ولأن الصلاة إيمان عملي كما في الحديث: الإيمان بضع وسبعون شعبة – ولئلا يدخل في الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس، وهذا ما ألم به ابن عطية رحمه الله في وجه تسمية الصلاة إيمانا، وكما سميت الصلاة إيمانا في الآية الكريمة سميت إسلاما في حديث سعد بن أبي وقاص حيث قال: ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، لقد خبت إذا وضلّ عملي، وكانوا وشوا به إلى عمر، قالوا: لا يحسن الصلاة، فسماها إسلاما لأنها رأسه وعماده، ثم إن قوله تعالى: [قد نرى تقلّب وجهك] الآية هي أول القصة فهي متأخرة في التلاوة ومتقدمة في المعنى.
[1372]:- وهو ابن أبي معيط، أسلم يوم الفتح هو وأخوه خالد بن عقبة، وهو من رجال قريش وشعرائها، وقد قال ذلك لمعاوية رضي الله عنه يحرضه على الأخذ بثأر عثمان، ويقول: إن شر الطالبين بثأره أن يرأف ويرحم بقتلة عثمان، والرؤف الرحيم خبر عن قوله: شر الطالبين.