سورة الشعراء مكية ، وآياتها 227 ، نزلت بعد سورة الواقعة ، وسميت بهذا الاسم لذكر الشعراء فيها ، في قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } [ الشعراء : 224 ] .
موضوع السورة الشعراء هو موضوع السور المكية جميعا ، وهو تثبيت العقيدة وتلخيص عناصرها الأساسية ، ويتمثل ذلك في دعوة السورة إلى توحيد الله : { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } [ الشعراء : 213 ] .
وبيان قدرة الله الفائقة ، ونعمه السابغة على لسان إبراهيم الخليل حين يقول : { الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين* والذي يميتني ثم يحيين* والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } [ الشعراء : 78-82 ] .
ثم تستطرد السورة إلى وعيد المكذبين بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة ، حيث تقول : { فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون } [ الشعراء : 6 ]
{ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 227 ] .
ذلك إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] .
وإلى طمأنة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين ، وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا في سبيلها من الظالمين ، كما ثبت من قبلهم من المؤمنين .
القصص غالب على سورة الشعراء ، يشغل معظم السورة ، فمجموع آياتها 227 آية ، منها 180 آية تحتوي على قصص هادف يمس شغاف القلوب ، ويبين رعاية الله للأنبياء والمرسلين ، ومن هذا القصص :
ذكرت قصة موسى وفرعون في الآيات : [ 10-68 ]
وفيها سبعة مشاهد " أولها : مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى وربه ، وثانيها : مشهد مواجهة موسى لفرعون وملئه ، وتأييد موسى بآيتي العصا واليد البيضاء ، وثالثها : مشهد التآمر وجمع السحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى ، ورابعها : مشهد إيمان السحرة وتهديد فرعون ووعيده . وخامسها : مشهد إيحاء الله لموسى أن يسرى بعباده ليلا . وسادسها : مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل ، وسابعها : مشهد المواجهة أمام البحر ، ونهاية القصة بانفلاق البحر ، وغرق الظالمين ، ونجاة المؤمنين .
تستغرق قصة إبراهيم الآيات : [ 69-104 ] والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم- عليه السلام- هي حلقة الرسالة إلى قومه ، وحواره معهم حول العقيدة ، وإنكار الآلهة المدعاة ، والاتجاه بالعبادة إلى الله ، وبيان صفات الله وفضله وعظيم نعمائه ، فهو الذي يخلق ويطعم ويسقي ، ويشفي ويحيي ويميت ، ويغفر الذنب ، ويحاسب الناس ، ويكافئ المؤمنين ، ويعاقب الغاوين .
وفي أعقاب قصة إبراهيم مشهد كامل من مشاهد القيامة ، يتنكر فيه العباد للآلهة ، ويندمون على الشرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه ، كأنهم قد صاروا فعلا في موقف الحساب والجزاء ، وهنا عبرة القصة للمشركين .
ومن ثم يتوسع في الحديث عن مقومات عقيدة التوحيد ، وفساد عقيدة الشرك ، ومصير المشركين في يوم الدين ، لأن التركيز متجه إليه ، وتختصر السورة ما عدا ذلك مما يفصل في سور أخرى .
تستغرق قصة نوح –عليه السلام- الآيات [ 105-122 ] ونلحظ أن القصص في سورة الشعراء لا يتبع التسلسل التاريخي فقد عرضت قصة موسى ، ثم قصة إبراهيم ، ثم قصة نوح ، ولو أراد أن يتبع التسلسل التاريخي لعرض قصة نوح أولا ، ثم قصة إبراهيم ثانيا ، ثم قصة موسى ثالثا .
لكنه في هذه السورة كان يذكر الأحداث ، ثم يرجع القهقري من قصة إبراهيم إلى قصة نوح ، لأن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا ، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب .
وقصة نوح ومن قبلها قصة موسى وقصة إبراهيم قد عرضت في سور شتى سابقة .
لكن الجانب الذي يعرضه من القصة يأتي مناسبا لسياق السورة ، وللعظة والعبرة المقصودة منها .
وتعرض قصة نوح في الغالب في سلسلة مع قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين –كما تشاهد في هذه السورة- وأظهر ما في الحلقة المعروضة في سورة الشعراء هنا هو دعوة نوح قومه إلى تقوى الله ، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى ، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء –وهذا ما كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة سواء بسواء- ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه واستجابة الله له بإغراق المكذبين وإنجاء المؤمنين .
تستغرق قصة نبي الله هود الآيات : [ 123-140 ]
وقبيلة عاد –وهم قوم هود- كانوا يسكنون الأحقاف ، وهي جبال رملية قرب حضر موت من ناحية اليمن ، وقد جاءوا بعد قوم نوح ، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة الطوفان الذي طهر وجه الأرض من العصاة .
واتخذت عاد المساكن المرتفعة والمصانع المشيدة ، وبلغت شأوا بعيدا من الحضارة الصناعية ، وزادتها القوة بطرا وقسوة : فكفرت بنعم الله ، وتطاولت وتجبرت ونسيت الخالق الرازق ، وكذبوا نبي الله هود فأهلكهم الله ودمر مصانعهم ودورهم ، وصب عليهم العذاب من فوقهم ومن تحتهم ، وتركهم عبرة لكل طاغية : { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } [ الشعراء : 139 ] .
تستغرق قصة ثمود الآيات [ 141-159 ] .
وقد دعاهم نبي الله صالح إلى عبادة الله ، وذكرهم بما هم فيه من نعمة ، وكانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز ، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك : فاستحث راحلته وحنى ظهره وجلاً وخشوعا لله وقال للمسلمين : ( لا تمروا على قرى القوم الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم مشفقون ، خشية أن يصيبكم ما أصابهم ) .
لقد كانت ثمود في نعمة فكفروا بنعمة الله عليهم ، وذكرهم صالح بقدر الله ، فطلبوا منه معجزة ؛ فأعطاه الله الناقة ، على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم ، وحذرهم صالح أن ينالوا الناقة بسوء على الإطلاق ، وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم .
ولكنهم استمروا في عنادهم وظلمهم ، فنحروا الناقة ، وكذبوا صالحا ، وأحسوا بالندم بعد فوات الأوان ، فأخذهم عذاب الله العادل : { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين* وإن ربك لهو العزيز الرحيم } [ الشعراء : 158-159 ] .
تستغرق قصة لوط الآيات : [ 160-175 ]
وقد كان قوم لوط يسكنون عدة قرى في وادي الأردن ، واشتهر بينهم الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور وترك النساء ، وهو انحراف شنيع في الفطرة ، فقد برأ الله الذكر والأنثى وفطر كلا منهما على الميل إلى صاحبه لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة عن طريق النسل الذي يتم باجتماع الذكر والأنثى ، فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام .
ولكن قوم لوط خرجوا على الفطرة ، واستباحوا الفاحشة ، وهددوا لوطا بالطرد والنفي : فخسف الله قراهم وغطاها الماء ، ومنها قرية سدوم ، ويظن أنها ثاوية تحت البحر الميت في الأردن .
تستغرق قصة أصحاب الأيكة الآيات : [ 176-191 ]
والأيكة : الشجر الكثيف الملتف ، وهم أهل مدين ، ونبيهم شعيب عليه السلام ، وكان شأنهم تطفيف الكيل والميزان ، وقد أمرهم رسولهم بالعدل والقسط وحسن المعاملة ، فكذبوا نبيهم : فأخذهم عذاب يوم عظيم في يوم حار خانق يكتم الأنفاس ويثقل الصدور ، ثم تراءت لهم سحابة فاستظلوا بها ، فوجدوا لها بردا ثم إذا هي الصاعقة المجلجلة المدوية ، تفزعهم وتدمرهم تدميرا وكان ذلك يوم الظلة ، فالظلة كانت سمة اليوم المعلوم .
{ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم } [ الشعراء : 189 ] .
الآيات الأخيرة من سورة الشعراء تعقيب على قصص المرسلين فيها ، وتأكيد على بعض أهداف الرسالة السماوية ، فقد ذكر الله في هذه القصص : قصة الرسل والرسالات ، وقصة التكذيب والإعراض ، وقصة التحدي والعقاب ، وتمثلت هذه المعاني في قصة موسى مع فرعون ، وقصة إبراهيم مع أبيه وقومه ، وقصة نوح مع قومه ، وقصة هود مع عاد ، وقصة صالح مع ثمود ، وقصة لوط مع قومه ، وقصة شعيب مع أصحاب الأيكة ، فلما انتهى القصص عاد السياق إلى موضوع السورة ، وهو العقيدة والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر . وقد جاء التعقيب الأخير في السورة يتحدث عن القرآن فيؤكد أنه تنزيل من رب العالمين .
ويشير إلى أن علماء بني إسرائيل يعرفون خبر هذا الرسول وما معه من القرآن : لأنه مذكور في كتب الأولين ، إنما المشركون يعاندون الدلائل الظاهرة ، ويزعمون أنه سحر أو شعر ، ولو أن أعجميا لا يتكلم العربية نزل عليه هذا القرآن فتلاه عليهم بلغتهم ما كانوا به مؤمنين ، لأن العناد هو الذي يقعد بهم عن الإيمان ، لا ضعف الدليل ، وما تنزلت الشياطين بهذا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما تتنزل بالأخبار على الكهان ، وما هو كذلك بشعر ، فإن له منهجا ثابتا ، والشعراء يهيمون في كل واد وفق الانفعالات والأهواء ، إنما هو القرآن المنزل من عند الله تذكيرا للمشركين قبل أن يأخذهم الله بالعذاب ، وقبل أن تأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون : { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 227 ] .
وقد استغرق هذا التعقيب الأخيرة على القصص الآيات من 192 إلى 227 ، وختم هذا التعقيب بهذا التهديد المخيف الذي يلخص موضوع السورة .
تلك السورة التي اشتملت على تصوير عناد المشركين ومكابرتهم ، واستهتارهم بالوعيد ، واستعجالهم بالعذاب ، كما اشتملت على مصارع المكذبين على مدار الرسالات والقرون .
{ طسم ( 1 ) تلك آيات الكتاب المبين( 2 ) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين( 3 ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين( 4 ) وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين( 5 ) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون( 6 ) أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم( 7 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 8 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم( 9 ) } .
هذه الأحرف المقطعة في فواتح السور ، للعلماء فيها رأيان :
الأول : أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه ، ولا يعرف معناها أحد سواه .
الثاني : أن لها معنى ، وتعددت الآراء في تحديد هذا المعنى ، فمنهم من قال : هي أسماء للسورة ، وقيل : هي إشارة إلى أسماء الله أو صفاته ، وقيل : هي حروف للتحدي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدلّ ذلك على أنه ليس من صنع بشر . وإنما تنزيل من حكيم حميد .