ثم بين - سبحانه - أهم الشهوات التي يؤدى الانهماك في طلبها إلى الانحراف في التفكير ، وإلى عدم التبصر والاعتبار ، ودعا الناس إلى التزود من العمل الصالح الذي يفضى بهم إلى رضاه - سبحانه - فقال : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ . . . } .
فأنت ترى في هذه الآيات الكريما بيانا حكيما من الله - تعالى - لأهم متع الحياة الدنيا وشهواتها ، ولما هو خير من هذه المتع والشهوات ، مما أعده الله لعباده المتقين من جنات وخيرات .
وقوله { زُيِّنَ } من التزيين وهو تصيير الشيء زينا أى حسنا . والزينة هى ما فى الشيء من المحاسن التي ترغب الناظرين في اقتنائه .
قال الراغب : " والزينة بالقول المجمل ثلاث : زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة ، وزينة بدنية كالقوة وطول القامة ، وزينة خارجية كالمال والجاه . . وقد نسب الله التزيين في مواضع إلى نفسه كما في قوله - تعالى - { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } ونسبه في مواضع إلى الشيطان كما في قوله { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ } وذكره في مواضع غير مسمى فاعله كما في قوله - تعالى - { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } .
والشهوات جمع شهوة ، وهي ثوران النفس وميلها نحو الشيء المشتهى . والمراد بها هنا الأشياء المشتهاة من النساء والبنين . . . إلخ . وعبر عنها بالشهوات للإشارة - كما يقول الألوسي - إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى لكأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض : ما تشتهي ؟ فقال : أشتهي أن أشتهى . أو تنبيها على خستها : لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله ، ثم قال : والتزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب ، وهو بهذا المعنى مضاف إليه - تعالى - حقيقة ؛ لأنه لا خالق إلا هو . ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها " .
ثم بين - سبحانه - أهم المشتهيات التي يحبها الناس ، وتهفوا إليها قلوبهم ، وترغب فيها نفوسهم ، فأجملها في أمور ستة .
أما أولها : فقد عبر عنه القرآن بقوله : " من النساء ولا شك أن المحبة بين الرجال والنساء شيء فطري في الطبيعة الإنسانية ، ويكفي أن الله - تعالى - قد قال في العلاقة بين الرجل والمرأة { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } وقال تعالى - في آية ثانية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } وإن بعض الرجال قد يستهين بكل شيء في سبيل الوصول إلى المرأة التي يهواها ويشتهيها والأمثال على ذلك كثيرة ولا مجال لذكرها هنا وصدق رسول الله حيث يقول : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " ، ولذا قدم القرآن اشتهاءهن على كل شهوة . و { مِنَ } في قوله { مِنَ النساء والبنين } بيانية ، وهي مع مجرورها في محل نصب على الحال من الشهوات .
واكتفى القرآن بذكر محبة الرجل للمراة مع أن المرأة كذلك تحب الرجل بفطرتها لأن ذكر محبة أحدهما للآخر يغني عن ذكر الطرفين معاً ، وما يستفاد بالإشارة يستغنى فيه عن العبارة خصوصاً في هذا المجال الذي يحرص فيه القرآن على تربية الحياء والأدب في النفوس ، ولأن المرأة في هذا الباب يهمها أن تكون مطلوبة لا طالبة . وحتى لو كانت محبتها للرجل أشد فإنها تحاول أن تثير فيه ما يجعله هو الذي يطلبها لا هي التي تطلبه .
وأما ثاني المشتهيات : فقد عبر عنه القرآن بقوله { والبنين } جمع ابن ، وهو معطوف على ما قبله ، وقد ذكر حب البنين بعد حب النساء لأن البنين ثمرة حب النساء ، واكتفى بذكر البنين ، لأنهم موضع الفخر في العادة وحب الأولاد طبيعة في النفس البشرية فهم ثمرات القلوب ، وقرة الأعين ومهوى ألفئدة ، ومطمح الآمال ، ولقد تمنى الذرية جميع الناس حتى الأنبياء فهذا سيدنا إبراهيم يقول : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } وسيدنا زكريا يقول : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } والإنسان في سبيل حبه لأولاده يضحى براحته ، وقد يجمع المال من أجلهم من حلال ومن حرام ، وقد يرتكب بعض الأعمال التي لا يريد ارتكابها إرضاء لهم ، وقد يمتنع عن فعل أشياء هو يريد فعلها لأن مصلحتهم تقتضي ذلك .
وصدق الله إذ يقول : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة " أى أن الأبناء يجعلون آباءهم يجبنون خوفا من الموت لئلا يصيب أبناءهم اليتم وآلامه ، ويجعلونهم يبخلون فلا ينفقون فيما ينبغي أن ينفق فيه إيثاراً لهم بالمال ، ويجعلونهم يحزنون عليهم إن أصابهم مرض ونحوه .
أما الأمر الثالث من المشتهيات : فقد عبر عنه القرآن بقوله { والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة } والقناطير جمع قنطار ، وهو مأخوذ من عقد الشىء وإحكامه ، تقول العرب : قنطرت الشىء إذا أحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها .
قال الفخر الرازى " القنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون : إنه وزن لا يحد . واعلم أن هذا هو الصحيح ، ومن الناس من حاول تحديده . فعن ابن عباس : القنطار ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية " .
ولفظ { المقنطرة } مأخوذ من القنطار . ومن عادة العرب أن يصفوا الشىء بما يشتق منه للمبالغة أي والقناطير المضاعفة المتكاثرة المجموعة قنطاراً كقولهم : دراهم مدرهمة وإبل مؤبلة .
وقوله { مِنَ الذهب والفضة } بيان للناطير ، وهو فى موضع الحال هنا .
والمراد أن الإنسان محب للمال حباً شديداً ، قال - تعالى - { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } وقال تعالى - { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً }
وفي الحديث الشريف الذى رواه الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً . ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب . ويتوب الله على من تاب " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وقالت السيدة - عائشة - رضي الله عنها - " رأيت ذا المال مهيبا ، ورأيت ذا الفقر مهينا " وقالت : " إن أحساب ذوى الدنيا بنيت على المال " .
وإنما كان الذهب والفضة مبحوبين ، لأنهما - كما يقول الرازى - جعلا ثمنا لجميع الأشياء ، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء " وصفة المالكية هي القدرة ، والقدرة صفة كمال ، والكمال محبوب لذاته ، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذى هو محبوب لذاته - وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب - لا جرم كانا محبوبين " .
وأما المشتهيات الرابعة والخامسة والسادسة فتتجلى في قوله - تعالى - { والخيل المسومة والأنعام والحرث } .
ولفظ الخيل يرى سيبويه أنه اسم جمع لا واحد له من لفظة ، بل مفرده فرس فهو نظير قوم - ورهط ونساء . ويرى الأخفش أنه جمع تكسير وواحده خائل ، فهو نظير راكب ، وطائر وطير . وهو مشتق من الخيلاء لأنها تختال في مشيتها .
والمسومة : أى الراعية في المروج والمسارح . يقال : سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى . أو المطهمة الحسان ، من السيما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل من السمة بمعنى العلامة .
والخيل كانت وما زالت زينة محببة مرغوبة ، مهما تفنن البشر في اختراع صنوف من المراكب براً وبحراً فمع وجود هذه المراكب المتنوعة ما زال للخيل عشاقها الذين يعجبهم ما فيها من جمال وانطلاق وألفة . ويقتنونها للركوب والمسابقات . . . { والأنعام } جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها .
والأنعام فيها زينة . والإنسان في حاجة شديدة إليها في مركبه ومطعمه وغير ذلك . قال - تعالى - { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } و { والحرث } مصدر بمعنى المفعول أى المحروث . والمراد به المزروع سواء أكان حبوباً أم بقلا ، أم ثمراً إذ من هذه الأشياء يتخذ الإنسان مطعمه وملبسه وأدوات زينته .
تلك هى أهم المشتهيات في هذه الحياة إلى نفس الإنسان قد جمعها القرآن في آية واحدة ، وقد اختصها - سبحانه - بالذكر لأنها أوضح من غيرها في الاحتياج إليها والتلذذ بها ، ولأن فيها إشارة إلى أنواع المتع كلها سواء أكانت متعة جسدية أم روحية ، أم مالية ، أم غير ذلك من ألوان المتع ، ومن مستلزمات الحياة .
وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } . واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى كل ما تقدم ذكره من الأمور الستة التي سبق الحديث عنها ، والمآب : مصدر ميمى بوزن مفعل ، من آب . كقال - إياباً وأوباً ومآباً ، إذا رجع . وأصله مأوب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ثم قلبت الواو ألفاً مثل مقال .
أى ذلك المذكور من النساء والبنين وما عطف عليهما هو موضع الزينة ، ومطلب الناس الذى يستمتعون به ، . . . .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المشتهيات التي جبل الإنسان على الميل إليها ، وصياغة الفعل للمجهول { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } للإشارة إلى أن محبة هذه الأشياء واشتهاءها مركوز في الفطرة الإنسانية منذ أوجد الله الإنسان في هذه الحياة الدنيا .
وهذه المشتهيات ليست خسيسة في ذاتها ، ولا يقصد الإسلام إلى تخسيسها في ذاتها أو إلى التنفير منها ، وإنما الإسلام يريد من أتباعه أن يقتصدوا في طلبها ، وأن يطلبوها من وجوهها المشروعة ، وأن يضعوها في مواضعها المشروعة ، وأن يشكروا الله عليها ، وألا يجعلوها غاية مقصدهم في هذه الحياة إن الإسلام لا يحارب الفطرة الإنسانية التي تشتهي هذه الأشياء ، وإنما يهذبها ويضبطها ويرشدها إلى أن تضع هذه الأشياء في موضعها المناسب ، بحيث لا تطغى على غيرها ولا تستعمل فى غير ما خلقها الله من أجله ، وبذلك يسعد الإنسان في دينه ودنياه وآخرته .
وللإمام ابن كثير كلام حسن عند تفسيره لهذه الآية فقد قال ما ملخصه : يخبر الله - تعالى - عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد . . فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بذلك . . وحب المال كذلك تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر . . . فيكون مذموما ، وتارة يكون للنفقة في وجوه البر فيكون محموداً . . وحب الخيل على ثلاثة أقسام ، تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء يثابون . وتارة تربط فخرا ومناوأة لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر . وتارة تربط للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس صاحبها حق الله فيها فهذه لصاحبها تر . وفى الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " والسكة النخل المصطف ، والمأبورة الملقحة ، . وفي الصحيحن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم غرس أو زرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه " .
هذا ، وختام الآية الكريمة بقوله { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } إشارة إلى أن متع الدنيا مهما كثرت وتنوعت وتلذذ بها الإنسان فهى زوال ، وأما اللذائذ الباقية الخالدة فهي التي أعدها الله - تعالى - لعباده المتقين في الدار الآخرة ، ولذا قال - سبحانه - بعد ذلك { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } .
استئناف نشأ عن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } [ آل عمران : 10 ] إذ كانت إضافة أموالٍ وأولاد إلى ضمير « هم » دالة على أنّها معلومة للمسلمين . قُصد منه عِظة المسلمين ألاّ يغترّوا بحال الذين كفروا فتعجبهم زينة الدنيا ، وتلهيهم عن التهمّم بما بِه الفوز في الآخرة ؛ فإنّ التحذير من الغايات يستدعي التحذير من البدايات . وقد صُدّر هذا الوعظ والتأديب ببيان مدخل هذه الحالة إلى النفوس ، حتى يكونوا على أشدّ الحذر منها ؛ لأنّ ما قرارته النفس ينساب إليها مع الأنفاس .
والتزيين تصْيير الشيء زَيناً أي حسَناً ، فهو تحسين الشيء المحتاج إلى التحسين ، وإزالةُ ما يعتريه من القبْح أو التشويه ، ولذلك سمّي الحَلاق مزيِّناً .
الحرب أول ما تكون فتيَّة *** تَسْعى بِزِينتها لكلّ جهول
فالزينة هي ما في الشيء من المحاسن : التي ترغِّب الناظرين في اقتنائه ، قال تعالى : { تريد زينة الحياةِ الدنيا } [ الكهف : 28 ] . وكلمة زَيْن قليلة الدوران في كلام العرب مع حسنِها وخفّتها قال عمر بن أبي ربيعة :
أزمَعَتْ خُلَّتِي مع الفجر بَيْنَا *** جَلَّل اللَّهُ ذلك الوَجْهَ زيْنا
وفي حديث « سنن أبي داود » : أنّ أبا بَرزة الأسلَمِيّ دخل على عُبيد الله بن زياد وقد أرسل إليه ليسأله عن حديث الحوض فلمّا دخل أبو برزة قال عبيدُ اللَّه لجلسائه : إنّ محمَّدِيَّكُم هذا الدحْداح . قال أبو برزة : « ما كنتُ أحسب أنّي أبقَى في قوم يعيّرونني بصحبة محمد » . فقال عبيد الله : « إنّ صُحبة محمد لك زَيْنٌ غيرُ شَيْن » .
والشهوات جمع شهوة ، وأصل الشهوة مصدر شهِي كرضي ، والشهوة بزنة المَرّة ، وأكثر استعمال مصدر شَهِي أن يكون بزنة المَرة . وأطلقت الشهوات هنا على الأشياء المشتهاة على وجه المبالغة في قوة الوصف . وتعليقُ التزيين بالحبّ جرى على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأنّ المزيَّن للناس هو الشهواتُ ، أي المشتهيات نفسها ، لا حبُّها ، فإذا زُينت لهم أحَبُّوها ؛ فإنّ الحبّ ينشأ عن الاستحسان ، وليس الحبّ بمزيَّن ، وهذا إيجاز يغني عن أن يقال زينت للناس الشهوات فأحبّوها ، وقد سكت المفسّرون عن وجه نظم الكلام بهذا التعليق .
والوجه عندي إمّا أن يجعل { حبّ الشهوات } مصدراً نائباً عن مفعول مطلق ، مبيّناً لنوع التزيين : أي زيّن لهم تزيين حب ، وهو أشدّ التزيين ، وجُعل المفعول المطلق نائباً عن الفاعل ، وأصل الكلام : زُيّن للناس الشهواتُ حُبَّاً ، فحُوِّل وأضيف إلى النائب عن الفاعل ، وجعل نائباً عن الفاعل ، كما جعل مفعولاً في قوله تعالى : { فقال إنّي أحببت حُبّ الخير عن ذكر ربي } [ ص : 32 ] . وإما أن يجعل حبّ مصدراً بمعنى المفعول ، أي محبوبُ الشهوات أي الشهوات المحبوبة . وإمّا أن يجعل زُين كناية مراداً به لازم التزيين وهو إقبال النفس على ما في المزيَّن من المستحسنات مع ستر ما فيه من الأضرار ، فعبّر عن ذلك بالتزيين ، أي تحسِين ما ليس بخالص الحسن فإنّ مشتهيات الناس تشتمل على أمور ملائمة مقبولة ، وقد تكون في كثير منها مضارّ ، أشدُّها أنّها تشغل عن كمالات كثيرة فلذلك كانت كالشيء المزيَّن تغطَّى نقائصه بالمزيّنات ، وبذلك لم يبق في تعليق زيّن بحُب إشكال .
وحذف فاعل التزيين لخفائه عن إدراك عموم المخاطبين ، لأنّ ما يدل على الغرائز والسجايا ، لما جُهل فاعله في متعارف العموم ، كان الشأن إسناد أفعاله للمجهول : كقولهم عُني بكذا ، واضْطُرّ إلى كذا ، لا سيما إذا كان المراد الكناية عن لازم التزيين ، وهو الإغضاء عمّا في المزيَّن من المساوي ؛ لأنّ الفاعل لم يبق مقصوداً بحال ، والمزيِّنُ في نفس الأمر هو إدراك الإنسان الذي أحبّ الشهواتتِ ، وذلك أمر جبلِيٌّ جعله الله في نظام الخلقة قال تعالى : { وذلّلناها لهم فمنها رَكوبهم ومنها يأكلون } [ يس : 72 ] .
ولما رجع التزيين إلى انفعال في الجبلّة ، كان فاعلُه على الحقيقة هو خالقَ هذه الجبلاّت ، فالمزيِّن هو الله بخَلْقه لا بِدَعوته ، وروى مثل هذا عن عُمر بن الخطاب ، وإذا التفتنا إلى الأسباب القريبة المباشرة . كان المزّيِّن هو مَيْلَ النفس إلى المشتهى ، أو ترغيبَ الداعين إلى تناول الشهوات : من الخِلاّن والقُرناء ، وعن الحسن : المزيِّن هو الشيطان ، وكأنّه ذهب إلى أنّ التزيين بمعنى التسويل والترغيب بالوسوسة للشهوات الذميمة والفساد ، وقصَرَه على هذا وهو بعيد لأنّ تزيين هذه الشهوات في ذاته قد يوافق وجه الإباحة والطاعة ، فليس يلازمها تسويل الشيطان إلاّ إذا جعلها وسائل للحرام ، وفي الحديث : « قالوا : يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوَته ولَهُ فيها أجْر فقال : أرأيتم لو وضعَها في حرام أكان عليه وِزر ، فكذلك إذا وضَعها في الحلال كان له أجر » وسياق الآية تفضيل معالي الأمور وصالِح الأعمال على المشتهيات المخلوطةِ أنواعُها بحلال منها وحرام ، والمعرَّضة للزوال ، فإنّ الكمال بتزكية النفس لتبلُغ الدرجات القدسية ، وتنال النعيم الأبدي العظيم ؛ كما أشار إليه قوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب } .
وبيان الشهوات بالنساء والبنين وما بعدهما ، بيان بأصول الشهوات البشرية : التي تجمع مشتهيَات كثيرة ، والتي لا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأقطار ، فالميْل إلى النساء مركوز في الطبع ، وضعه الله تعالى لحكمةِ بقاء النوع بداعي طلب التناسل ؛ إذ المرأة هي موضع التناسل ، فجُعل ميل الرجل إليها في الطبع حتى لا يحتاج بقاء النوع إلى تكلّف رُبَّمَا تعقبه سآمة ، وفي الحديث : « ما تركتُ بعدي فتنةً أشدّ على الرجال من فتنة النساء » ولم يُذكر الرجالُ لأنّ ميل النساء إلى الرجال أضعف في الطبع ، وإنّما تحصل المحبّة منهن للرجال بالإلف والإحسان .
ومحبّة الأبناء أيضاً في الطبع : إذ جعل الله في الوالدين ، من الرجال والنساء ، شعوراً وجدانياً يُشعر بأنّ الولد قطعة منهما ، ليكون ذلك مدعاة إلى المحافظة على الولد الذي هو الجيل المستقبل ، وببقائه بقاء النوع ، فهذا بقاءُ النوع بحفظه من الاضمحلال المكتوب عليه ، وفي الولد أيضاً حفظ للنوع من الاضمحلال العارض بالاعتداء على الضعيف من النوع ؛ لأنّ الإنسان يعرض له الضعف ، بعد القوة ، فيكون ولده دافعاً عنه عداء من يعتدي عليه ، فكما دفع الوالد عن ابنه في حال ضعفه ، يدفع الولد عن الوالد في حال ضعفه .
والذهب والفضة شهوتان بِحسن منظرهما وما يتّخذ منهما من حلي للرجال والنساء ، والنقدان منهما : الدنانيرُ والدراهم ، شهوة لما أوْدَع الله في النفوس منذ العصور المتوغّلة في القدم من حبّ النقود التي بها دفع أعواض الأشياء المحتاج إليها .
{ والقناطير } جمع قنطار وهو ما يزن مائة رطل ، وأصله معرّب قيل عن الرومية اللاتينية الشرقية ، كما نقله النقّاش عن الكلبي ، وهو الصحيح ؛ فإن أصله في اللاّتينية « كِينْتال » وهو مائة رطل . وقال ابن سيده : هو معرّب عن السريانية . فما في « الكشاف » في سورة النساء أنّ القنطار مأخوذ من قنطَرت الشيءَ إذا رفعتَه ، تكلّف . وقد كان القنطار عند العرب ، وزنا ومقداراً ، من الثروة ، يبلغه بعض المثرين : وهو أن يبلغ مالُه مائةَ رطل فضة ، ويقولون : قنطَر الرجلُ إذا بلغ ماله قنطاراً وهو اثنا عشر ألف دينارٍ أي ما يساوي قنطاراً من الفضة ، وقد يقال : هو مقدار مائة ألف دينار من الذهب .
و{ المقنطرة } أريد بها هنا المضاعفة المتكاثرة ، لأنّ اشتقاق الوصف من اسم الشيء الموصوفِ ، إذا اشتهر صاحب الاسم بصفةِ ، يؤذن ذلك الاشتقاقُ بمبالغة في الحاصل به كقولهم : لَيْلٌ ألْيَلُ ، وظِلٌ ظَلِيلٌ ، وداهِيَةٌ دَهْيَاء ، وشِعْرٌ شَاعِر ، وإبِل مُؤَبَّلَة ، وآلاف مُؤَلَّفَة .
{ والخيل } محبوبة مرغوبة ، في العصور الماضية وفيما بعدها ، لم يُنسها ما تفنّن فيه البشر من صنوف المراكب برّاً وبحراً وجوّاً ، فالأمم المتحضّرة اليوم مع ما لديهم من القطارات التي تجري بالبخار وبالكهرباء على السكك الحديدية ، ومن سَفائن البحر العظيمة التي تسيّرها آلات البخار ، ومن السيّارات الصغيرة المسيّرة باللوالب تحرّكها حرارة النفظ المصفَّى ، ومن الطيّارات في الهواء ممّا لم يبلغ إليه البشر في عصر مضى ، كلّ ذلك لم يغن الناس عن ركوب ظهور الخيل ، وجرّ العربات بمطهّمات الأفراس ، والعناية بالمسابقة بين الأفراس .
وذكر الخيل لتواطؤ نفوس أهل البَذخ على محبّة ركوبها ، قال امرؤ القيس
* كأنِّيَ لَمْ أركَبْ جَوادَا لِلَذّةٍ *
و { المسوّمة } الأظهر فيه ما قيل : إنّه الراعية ، فو مشتق من السَّوْم وهو الرعْي ، يقال : أسام الماشية إذا رعَى بها في المرعى ، فتكون مادة فعَّل للتكثير أي التي تترك في المراعي مدداً طويلة وإنّما يكون ذلك لسعة أصحابها وكثرة مراعيهم ، فتكون خيلهم مكرمة في المروج والرياض وفي الحديث في ذكر الخيل " فأطال لَها في مَرْج أو روضة " .
وقيل : المسوّمة من السُّومَة بضم السين وهي السِّمة أي العلامة من صوف أو نحوه ، وإنّما يجعلون لها ذلك تنويهاً بكرمها وحسن بلائها في الحرب ، قال العَتَّابي :
ولَوْلاَهُنّ قد سَوّمْتُ مُهري *** وفي الرحمان للضعفاء كاف
يريد جعلت له سُومة أفراسِ الجهاد أي علامتَها وقد تقدم اشتقاق السمة والسومة عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهم } في سورة [ البقرة : 273 ] .
و { الأنعام } زينة لأهل الوبر قال تعالى : { ولكم فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] . وفيها منافع عظيمة أشار إليها قوله تعالى : { والأنعامَ خلقها لكم فيها دفء } الآيات في سورة [ النحل : 5 ] ، وقد لا تتعلّق شهوات أهل المدن بشدّة الإقبال على الأنعام لكنّهم يحبّون مشاهدها ، ويُعنَون بالارتياح إليها إجمالاً .
{ والحرث } أصله مصدر حرث الأرض إذا شقّها بآلة ليزرع فيها أو يغرس ، وأطلق هذا المصدر على المَحروث فصار يطلق على الجَنّات والحوائطِ وحقول الزرع ، وتقدم عند قوله تعالى : { نساؤكم حَرث لكم } في سورة [ البقرة : 223 ] وعند قوله : { ولا تَسقي الحرث } [ البقرة : 71 ] فيها .
والإشارة بقوله : { ذلك متاع الحياة الدنيا } إلى جميع ما تقدم ذكره ، وأُفرد كاف الخطاب لأنّ الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم أو لغير معيَّن ، على أنّ علامة المخاطب الواحد هي الغالب في الاقتران بأسماء الإشارة لإرادة البُعد ، والبُعد هنا بُعد مجازي بمعنى الرفعة والنفاسة .
والمتاع مؤذن بالقلة وهو ما يستمتع به مدة .
ومعنى { والله عنده حسن مئاب } أنّ ثواب الله خير من ذلك . والمآب : المرجع ، وهو هنا مصدرٌ ، مَفْعَل من آب يَؤوب ، وأصله مَأوَب نقلت حركة الواو إلى الهمزة ، وقلبت الواو ألفاً ، والمراد به العاقبة في الدنيا والآخرة .