التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

المجلد السادس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه .

وبعد فهذا تفسير لسورة الأنفال أسأل الله –تعالى- أن يجعله خالصاً لوجهه ونافعاً لعباده إنه سميع مجيب .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي

سورة الأنفال

تمهيد بين يدي تفسير السورة

1- سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف . فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية ، ثم جاءت بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية ، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم ، وهن سور : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، سورتا الأنعام والأعراف . ثم جاءت سورة الأنفال بعد ذلك ، فكانت الثامنة في ترتيب المصحف .

2- وعدد آياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي ، وست وسبعون في الحجازي ، وسبع وسبعون في الشامي .

3- وقد سميت سورة الأنفال بهذا الاسم ، لحديثها عن الأنفال أي الغنائم في أكثر من موضع .

وقط أطلق عليها بعض الصحابة سورة بدر ، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها فقال : تلك سورة بدر( {[1]} ) .

4- وسورة الأنفال كلها مدنية ، وممن قال بذلك : زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وعطاء بن أبي رباح والحسن ، وعكرمة .

قال صاحب المنار : وقيل إنها مدنية إلا آية " 64 " وهي قوله –تعالى- : [ يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ] فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب ، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام ، وروى عن مقاتل استثناء قوله –تعالى- [ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك ] . . . " الآية " 30 " ؛ لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة ، بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار ، وهذا استنباط من المعنى ، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت في المدينة .

وزاد بعضهم استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية ، وهي قوله –تعالى- : [ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا ] . . إلى قوله : [ بما كنتم تكفرون ] " الآيات من " 31-35 " ؛ لأن موضوعها حال كفار قريش في مكة ، وهذا لا يقتضي نزولها في مكة ، بل ذكَّر الله بها رسوله بعد الهجرة ، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني " ( {[2]} ) .

والذي ترتاح إليه النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية ، وأن ما في بعض آياتها من أوصافٍ لأحوال المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعني كون هذه الآيات مكية ؛ لأن هذه الآيات إنما هي من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عتاد ومكابرة وانحراف عن الطريق القويم ، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر فيها للمؤمنين .

5- وقد ذكر بعض المفسرين –ومنهم الزمخشري- أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة ، ولعل مرادهم بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة ، لأنه من المعروف أن سورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة ، ثم امتد هذا النزول لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمدة قصيرة .

6- قال الآلوسي : ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها [ خذ العفو وأمر بالمعروف . . . ] وفي هذه –أي الأنفال- كثير من أفراد المأمور به ، وفي الأعراف ذكر قصص الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم ، وفي هذه ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه .

وقد فصل –سبحانه- في تلك –قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال : [ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم . . . ] .

وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله –تعالى- [ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها . . . ] وصرح بذلك هنا إذ يقول . . . [ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا . . . ] إلى غير ذلك من المناسبات .

ثم قال الآلوسي : " والظاهر أن وضعها هنا توقيفي ، وكذا وضع براءة بعدها ، وإلى ذلك ذهب غير واحد . . . " ( {[3]} ) .

والحق أنه بمطالعتنا لما يقوله الآلوسي وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي قبلها ، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف ، وأن كثيراً مما ذكروه من مناسبات بين سورتين معينتين لا يختص بهما ، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما .

فالآلوسي –مثلاً- يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها [ وأمر بالعرف ] . وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به . .

وهذا المعنى نراه في كثير من السور المتتالية ، فسورة آل عمران –مثلاً- من بين آياتها قوله –تعالى- : [ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . . ]( {[4]} ) .

وسورة النساء –التي بعدها- فيها –أيضاً- كثير من أفراد المأمور به ؛ لأن الأمر بالمعروف من الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي .

والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي ، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها .

7- وسورة الأنفال عندما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات ، نراها تحدثنا –في مجموعها- عن غزوة بدر ، فتعرض أحداثها الظاهرة ، كما تعرض بشارات النصر فيها ، وتكشف عن قدرة الله وتدبيره في وقائع هذه الغزوة الحاسمة ، وتبين كثيراً من الإرشادات والتشريعات الحربية التي يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح .

أخرج البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر( {[5]} ) :

( أ‌ ) لقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أي –الغنائم- مردها إلى الله ورسوله ، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم صلى الله عليه وسلم ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف ، وبشرتهم بأسمى المنازل ، وأرفع الدرجات .

قال –تعالى- : [ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ] .

( ب‌ ) وبعد هذا الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين ، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر ، لأنهم لم يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من بلاد الشام لكن الله –تعالى- أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره ، لا فيما يقدرون ويريدون .

استمع إلى السورة الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فنقول .

[ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ] .

( ج ) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألواناً من البشارات التي تُشعِر المؤمنين بأن الله –تعالى- قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه –سبحانه- سيجعل النصر في هذه المعركة حليفاً لهم .

ومن مظاهر هذه البشارات أن الله –تعالى- أمدهم بألف من الملائكة مردفين ، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم ، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها ، ولتثبت الأرض من تحتهم ، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الإقدام والشجاعة .

قال –تعالى- : [ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ] .

( د ) ثم وجهت السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين ، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم .

فقد أمرتهم في النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم ، ونهتهم عن الفرار منهم ، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير ، وأخبرتهم بأن الله معهم ما داموا معتمدين عليه ، ومستجيبين لما يدعوهم إليه .

وأمرتهم في النداء الثاني بطاعة الله ورسوله ، وحذرتهم من المعصية ، ومن التشبه بالكافرين الذين " قالوا سمعنا وهم لا يسمعون "

وأمرتهم في النداء الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم ، وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم ، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره .

ونهتهم في النداء الرابع عن خيانة الله ورسوله ، أي : عن ترك فرائض الله وعن هجر سنة رسوله . . وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله وعن أداء واجباته .

ثم بشرتهم في النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته ، فإنه –سبحانه- سيرزقهم الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه .

تدبر معي –أخي القارئ- هذه النداءات ، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية ، حيث يقول –سبحانه- :

[ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ] . .

[ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ] . .

[ يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ] . .

[ يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ] . .

( ه ) ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكراً ، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران .

فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة .

وحكت استهزاءهم بالدين ، وإمعانهم في الجحود ، وتعجلهم للعذاب . .

وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن ، حتى يشغلوا الناس عن سماعه . .

وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم ، لا في وجوه الخير ، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير .

وبعد أن حكت كل هذه الرذائل عن الكافرين ، أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم ، فإن الله –تعالى- سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم . أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم ، فستدور الدائرة عليهم .

قال –تعالى- : [ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا ، لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين . وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو اثتنا بعذاب أليم . وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ] .

( و ) وبعد أن افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب .

بعد كل ذلك عادت السورة إلى الحديث عن الغنائم ، ففصلت ما أجملته في مطلعها ، وذكَّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم الله إياها في بدر .

ومن ذلك : أنه –سبحانه- هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم ، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون موعد سابق . . وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضي –سبحانه- قضاءه النافذ . .

قال –تعالى- : [ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير . إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ] .

( ز ) ثم يأتي بعد ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين ، فيأمرهم –سبحانه- فيه بالثبات عند لقائهم لأعدائهم ، وبالإكثار من ذركه ، وبالطاعة التامة له ولرسوله ، وبالابتعاد عن التنازع والاختلاف .

ثم ينهاهم عن التشبه بالمرائين ، والمتكبرين ، والمغرورين ، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم –ولكنه عندما تراءى الجمعان نكص على عقبيه- والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات الله ، وإيثارهم الضلالة على الهداية .

قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط . وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ] .

( ح ) ثم تمضي السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين ، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم ، وإعداد العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم . . ، فإن جنحوا للسلم . ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك –أيها الرسول الكريم ، واحترس من خداعهم وغدرهم ، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد .

قال –تعالى- : [ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا لا يؤمنون ، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ] .

( ط ) ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في شأنهم ، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما عند الله من ثواب عظيم ، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه ، فإنه حلال طيب ، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق ، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة . .

تأمل معي –أخي القارئ- هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى .

[ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم . يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ] .

( ي ) وإذا كانت السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين . . الصادقين ، وعن حال الذين كرهوا الخروج إلى القتال في بدر . . فإنها قد تحدثت في ختامها –أيضا- عن أصناف المؤمنين . . فمدحت المهاجرين السابقين ، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا ، لأنهم قد اشتركوا جميعاً في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله . . ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، بل ظلوا في أرض الشرك . ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية – وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين .

قال –تعالى- : [ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ، والذين آمنوا ولم يهاجر ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعلمون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم ] .

8- هذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وتشريعات حكيمة . . .

ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي :

( 1 ) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة ، وعلى الطاعة لله ولرسوله . وإصلاح ذات بينهم ، والثبات في وجه أعدائهم ، والإكثار من التقرب إلى خالقهم ، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره ، فهو الذي هداهم للإيمان ، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات . . بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض .

ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا –في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم- فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله ، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي . .

( ب‌ ) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد ، وبما كان منهم من مكر برسولهم صلى الله عليه وسلم ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله ، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلاً لاستحواذ الشيطان عليهم . . .

وهذا التذكير قد تكرر كثيراً في سورتنا هذه ، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم ، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء ، وما يبيتونه لهم من سوء وشر .

( ج ) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم ، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر ، وصاحبهم التوفيق .

ففي حالة الحرب : أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة . وأن يبذلوا أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق . . وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام ، وأن يكثروا من التقرب إلى الله بصالح الأقوال والأعمال –خصوصاً في مواطن القتال- . . وأن يجعلوا غايتهم في قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل [ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . . ] .

وأن يؤثروا السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه ، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها . . أما في حالة سلمهم : فقد أمرتهم السورة الكريمة بالتآخي والتناصر والتواد والتراحم والتصالح . . ونبذ التنازع والتخاصم والاختلاف والبطر .

كما أمرتهم بتقوى الله وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد .

قال –تعالى- : [ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ] .

وهناك موضوعات أخرى تعرضت لها السورة :

كحديثها عن الغنائم ، وعن الأسرى ، وعن المعاهدات ، وعن أحداث غزوة بدر ، وعن الشاعر التي تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها .

وقد ساقت السورة الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدي القلوب ، ويشرح الصدور ، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم وسعادتهم .

هذا ، ونرى من المناسب –أخي القارئ- أن نختم هذا العرض المجمل لسورة بدر –كما سماها ابن عباس- بتلخيص لقصة هذه الغزوة لنتنسم الجو الذي نزلت فيه هذه السورة ، ولندرك مرامي النصوص فيها . . لأننا نعتقد أن ما يعين على فهم الآيات القرآنية فهماً قويماً مستتيراً ، أن يكون القارئ أو المفسر لها ملماً بأسباب نزولها وبالجو التاريخي الذي نزلت فيه ، وبالأحداث التي لابست نزولها . . بجانب إلمامه بمدلولاتها اللغوية والبيانية . .

قال الإمام ابن هشام عند حديثه عن " غزوة بدر الكبرى " ( {[6]} ) .

قال ابن إسحاق : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة . . ندب المسلمين إليها وقال : " هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها " فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً .

وكان أبو سفيان –حين دنا من الحجاز- يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان : تخوفاً على أمر الناس –أي : على أموالهم التي معه في القافلة حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمر الغفاري فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .

فلما وصلها أخذ يصرخ ببطن الوادي . . ويقول يا معشر قريش : اللطيمة اللطيمة –أي : العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب . . - أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها . الغوث الغوث .

فتجهز الناس سراعاً وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً ، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد .

- خرجوا بالقيان والدفوف يغنين في كل منهل ، وينحرون الجزر ، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً ، وقادوا مائة فرس ، عليها مائة درع سوى درع المشاة ، وكان إبلهم سبعمائة بعير .

قال ابن إسحاق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه : واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس ، واستعمل على المدينة أبا لبابة . . ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير .

وكان إبل المسلمين يومئذ سبعين بعيراً ، فاعتقبوها –أي كانوا يركبونها بالتعاقب- وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ .

وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة ، ثم على العقيق ، ثم على ذي الحليفة . . ثم نزل قريباً من بدر . . وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال وأحسن . ثم قام عمر بن الخطب فقال وأحسن . ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : [ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك لأنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا .

فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله : لقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، وإنا لصُبُر في الحرب صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله .

ففرح –رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد . .

ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله –تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم .

قال ابن إسحاق : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فسارا حتى وقفا على شيخ من العرب . فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك . قال : أذاك بذاك ؟ قال : نعم ، قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون .

وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي فيه قريش .

فلما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء ، ثم انصرف عنه .

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى أرسل بعضهم إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له . . فأصابوا ساقيين لقريش فأتوا بهما . . فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أخبراني عن قريش .

قالا : هم والله وراء الكثيب الذي نرى بالعدوة القصوى .

فقال لهما : كم القوم ؟ قالا كثير قال : ما عددهم ؟ قالا لا ندري قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً . فقال : القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأمية بن خلف . . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها . .

قال ابن إسحاق : ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله فارجعوا . فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، فنقيم عليه ثلاثة ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها .

وقال الأخنس بن شريق لبني زهرة ، يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم فارجعوا فرجعوا فلم يشهد غزوة بدر زهري واحد .

ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي : وبعث الله السماء بالماء فأصاب المسلمون منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء ماء نزل به . .

فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله ؟ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والمكيدة والحرب ؟ .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل هو الرأي والمكيدة والحرب .

فقال الحباب يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القُلُب –أي : ثم نغطي ما خلفه من الآبار- ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي " ثم نهض ومعه الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء . ثم قال سعد بن معاذ يا رسول الله ، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا . كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا . فقد تخلف عنك أقوام –يا نبي الله- ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك .

فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير ، ثم بنى لرسول الله عريش فكان فيه .

ثم ارتحل قريش حين أصبحت ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمة من الكثيب إلى الوادي قال : " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني . اللهم احثهم الغداة " .

ثم أرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي فقالوا له : احزر لنا أصحاب محمد ، فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً . .

ولقد رأيت –يا معشر قريش- البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت النافع . قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم . والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ، فرَوْا رأيكم .

فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك إلى أن تفعل شيئاً تذكر به بخير إلى آخر الدهر ؟ فقال عتبة : وما ذاك يا حكيم ؟

قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي . . .

قال عتبة : قد فعلت . . قم قام عتبة خطيباً في الناس فقال :

يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه . قتل ابن عمه أو ابن خاله . . فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ؛ فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون . .

وبلغ كلام عتبة أبا جهل فسبه . . ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال له : هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك –أي : فقم فاطلب من الناس الوفاء بالعهد والأخذ بثأر أخيك . .

فقام ابن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ : واعمراه ، واعمراه ، فحميت الحرب ، واشتد أمر الناس ، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد أبو جهل الرأي الذي دعا عتبة الناس إليه . .

قال ابن إسحاق : ثم خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي –وكان شرساً سيئ الخلق- فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه فلما دنا منه خرج إليه حمزة بن عبد المطلب . فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه –أي أطارها- وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه . ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، فضربه حمزة حتى قتله في الحوض . .

ثم خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة . . فنادى يا محمد : أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يا عبيدة وقم يا حمزة وقم يا علي . . أما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه –أي : جرحه جرحاً شديداً لا يملك معه الحركة- وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه ، واحتملا عبيدة فحازاه إلى أصحابه .

قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله الناس أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : " إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل " . . .

ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله –ومعه أبو بكر الصديق . . وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويقول فيما يقول : " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، وأبو بكر يقول : يا رسول الله بعض مناشدتك ربك ، فإن ا لله منجز لك ما وعدك " .

ثم خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال : " أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله . هذا جبريل آخذ بعنان فرس . . يقوده على ثناياه النقع " –أي الغبار .

وكان قد رمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل . . من المسلمين .

ثم رمى حارثة بن سراقة وهو يشرب من الحوض بسهم فقتل .

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال : " والذي نفس محمد بيده . لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة " . .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشاً بها ، ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال : " شدوا " فكانت الهزيمة فقتل الله –تعالى- من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم . .

فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ! " .

فقال سعد : أجل والله يا رسول الله ؟ كانت هذه أول موقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال . .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يومئذ : " إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً ، ولا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البحتري فلا يقتله . .

قال ابن إسحاق : -وبعد انتهاء المعركة- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن يطرحوا في القليب فلما طرحوا وقف عليهم فقال : " بئس العشيرة كنتم لنبيكم- يا أهل القليب- لقد كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس " .

ثم قال : " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً " فقال المسلمون : يا رسول الله ! أتنادي قوماً قد جَيَّفوا ؟

فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني " .

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع ، فاختلف فيه المسلمون ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو . . : والله لولا نحن ما أصبتموه . .

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر الله لهم على المشركين .

ثم فرق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم :

" استوصوا بالأسارى خيراً "

قال ابن إسحاق : وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له : ما وراءك ؟ فقال ، قتل عتبة ، وشيبة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف . . فلما جعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا ، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر : والله إن يعقل هذا فاسألوه عني ! ! فقالوا له : ما فعل صفوان بن أمية ؟ فقال : ها هو ذاك في الحجر ، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا . .

ولما قدم أبو سفيان بن الحارث قال له أبو لهب : هلم إلى ، فعندك لعمري الخير ! ! فجلس إليه الناس قيام عليه فقال له أبو لهب : يا بن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟

فقال أبو سفيان : والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا . ويأسروننا كيف شاءوا . .

أما بعد : فهذا ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلي لسورة الأنفال ، وقصدنا من ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة : أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة –كما سبق وأشرنا- وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحاً مستنيراً . .

لأن سورة الأنفال هي سورة بدر كما سماها ابن عباس –رضي الله عنه- وفي ختام هذا التعريف بسورة الأنفال ، نسأل الله –تعالى- أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحاً مقبولاً ، بعيداً عن الانحراف . محرراً من لغو القول وباطله . .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .

المؤلف

د . محمد سيد طنطاوي

لعل من الخير قبل أن نتكلم في تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التي وردت في سبب نزولها . فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم .

قال الإِمام ابن كثير - ما ملخصه - روى الإِمام أحمد بن عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرا فالتقى الناس . فهزم الله - تعالى - العدو ، فانطلقت طائفة في آثام يهزمون ويقتلون . وأقبلت طائفة على العسكر يجوزونه ويجمعونه . وأحدثت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكى لا يصيب العدو منه غرة . حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لستم أحق بها منا . نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم مخافة أن صيب منه غرة فاشتغلنا به - فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } . . فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين .

وروى أبو داود والنسائى وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - عن ابن عباس قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقى الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم . فقال الشيوخ : لا تسأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، لو انكشفتم لبثتم إينا . فتنازعوا ، فأنزل الله - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } " .

وقال الثورى ، عن الكلبى ، عن أبى صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " ، فجاء أبو اليسر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شئ ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } " .

وقال الإِمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدنا وجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بين المسلمين عن بواء - أى : على السواء .

هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، ومنها يتبين لنا أن نزاعاً حدث بين بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، حول الغنائم التي ظفروا بها من هذه الغزوة ، فأنزل الله - تعالى - في هذه الآيات بيان حكمه فيها .

والضمير في قوله { يَسْأَلُونَكَ } يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأن السورة نزلت في هذه الغزوة ، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها ، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها .

قال الإِمام الرازى - ما ملخصه - : فإن قيل من هم الذين سألوا ؟ فالجواب : إن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } إخبار عمن لم يسبق ذكرهم ، وحسن ذلك ههنا ، لأنه في حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً فانصرف اللفظ إليهم . ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا في غزوة بدر .

والأنفال جمع نفل - بفتح النون والفاء - كسبب وأسباب - وهو في أصل اللغة من النفل - بفتح فسكون - أى : الزيادة ، ولذا قيل للتطوع نافلة ، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد الولد نافلة ، لأنه زيادة على الولد . قال - تعالى - : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قال الآلوسى : ثم صار النفل حقيقة في العطية ، لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كان زيادة ، ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإِمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص معين أو لغير معين ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإِمام لمن صدر منه اثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام ، وغيرهما .

وإطلاقه على الغنيمة ، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله ، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة ، أو باعتبار أنها منحة من الله - تعالى - من غير وجوب .

ثم قال : ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص . فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء أكان بتعب أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما كان قبل الظفر ، أو ما كان بغير قتال وهو " الفئ " .

والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما ورى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وطائفة من الصحابة وغيرهم .

هذا ، وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأنفال - أي الغنائم - إنما هو حكمها وعن المستحق لها ، فيكون المعنى :

يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ؟ ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال يحكم فيها بحكمه - سبحانه - وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها .

وفى هذه الإِجابة على سؤالهم تريبة حكيمة لهم - وهم في أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم من أجل إعلاء كملة الله . أما الغنائم والأسلوب وأعراض الدنيا التي تأتيهم من وراء جهاده فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم ، وأن يفوضوا الأمر فيها لله ورسوله عن إذعان وتسليم .

وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء ، وأن المراد بالأنفعال ما شرط للغازى زيادة على سهمه ، وأن حرف " عن " زائدة ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفعال التي وعدتهم بها زايدة على سهامهم فيها . قل لهم : الأنفال لله ولرسوله .

والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها :

1- بعض الروايات التي وردت في أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييداً صريحاً ، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبادة بن الصامت أنه قال : " فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا . فجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء " .

2- ولأن غزوة بدر كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين ، وكانت غنائهما الضخمة التي ظفر بها المؤمنون من المشركين ، حافزاً لسؤال بعض المؤمنين رسولهم - صلى الله عليه وسلم -عن حكمها وعن المستحق لها .

3- ولأن الجواب عن السؤال بقوله - تعالى - : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها ، إذ أن هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد سواهما .

ولو كان السؤال للاستعطاء لما كان هذا جواباً له ، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا ينافى إعطاءه إياهم بل يحققه ، لأنهم إنما يسألونه بموجب شطره لهم الصادر عنه بإذن الله - تعالى - لا بحكم سبق أيديهم إليهم أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور .

4- ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ . . } إلخ يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها بعد أن تنازعوا في شأنها ، فهو - سبحانه - ينهاهم عن هذا التنازع ، وبأمرهم بأن يصونوا أنفهسم عن كل ما يغضب الله . . . ولو كان السؤال للاستعطاء - بناء على ما شرطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض زيادة على سهامهم - لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه ، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما وعدهم به وهذا لا محظور فيه .

5- ولأن الآية الكريمة بمطوقها الواضح ، وبتركيبها البليغ ، وبتوجيهها السامى ، تفيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن المستحق لها . . أما القول بأن السؤال سؤال استعطاء وأن عن زائدة أو بمعنى من فهو تكلف لا ضرورة إليه .

والمعنى الواضح الجلى للآية الكريمة - كما سبق أن بينا - : يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ، ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، ولرسوله يقسمها بحسب حكم الله فيها ، فهو - سبحانه - العليم بمصالح عباده ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وحه الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } ؟

قلت : معناه أن حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، و يمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأى أحد ، والمراد : " أن الذي اقتضته حكمته الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافى " .

وقوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حض لهم على تقوى الله وامتثال أمره ، وإصلاح ذات بينهم ، وتحذير لهم من الوقوع في المعاصى والنزاع والخلاف .

وكلمة { ذَاتَ } بمعنى حقيقة الشئ ونفسه . ، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الظاهر ، كذات الصدور ، وذات الشوكة .

وكلمة { بِيْنِكُمْ } ، من البين ، وهو مصدر بان يبين بيناً ، متى بعد ، ويطلق على الاتصال والفراق ، أى : على الضدين ، ومنه قول الشاعر :

فوالله لولا البين لم يكن الهوى . . . ولولا الهوى ما حس للبين آلف

والمراد به في الآية الاتصال .

أى : فاتقوا الله - أيها المؤمنون - ، واصلحوا نفس ما بينكم وهى الحال والصفة التي بينكم والتى تربط بعضكم ببضع وهى رابطة الإِسلام . وإصلاحها يكون بما يقتضيه كمال الإِيمان من الموادة والمصافاة ، وترك الاختلاف والتنازع ، والتمسك بفضيلة الإِيثار .

وكلمة { ذَاتَ } على هذا المعنى مفعول به .

ومنهم من يرى أن كلمة " ذات " بمعنى صاحبة ، وأنها صفة لمفعول محذوف ، فيكون المعنى : فاتقوا الله وأصلحوا أحوالا ذات بينكم .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : ما حقيقة قوله : { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } " .

قلت : أحوال بينكم ، يعنى ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومودة واتفاق .

كقوله : { بِذَاتِ الصدور } وهى مضمراتها .

ولما كانت أحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : استقنى ذا إنائك ، يريدون ما في الإِناء من الشراب . .

وقوله { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } معطوف على ما قبله ، وهو قوله : { فاتقوا الله } .

أى : فاتقوا الله - أيها المؤمنون - في كل أقوالكم وأفعالكم ، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة ومودة ، وأطيعوا الله ورسوله في حكمه الذي قضاه في الأنفال وفى غيرها ، من كل أمر ونهى ، وقضاء وحكم . .

وقد كر - سبحانه - الاسم الجليل في هذه الآية ثلاث مرات ، لتربية المهابة في القلوب ، وتعليل الحكم حتى تقبله النفوس بإذعان وتسليم .

وذكر - سبحانه - رسوله معه مرتين في هذه الآية ، لتعظيم شأنه ، وإظهار شرفه ، والإِذيان بأن طاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله - تعالى - ، ومخالفته مخالفة لأمر الله - تعالى ؟ قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ووسَّط - سبحانه - الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة ، لإِظهار كمال العناية بالإِصلاح ، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة .

وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالأوامر الثلاثة السابقة ، وهى : التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله .

وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أى : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة السابقة .

قال الآلوسى : قوله { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه ، أو المذكور هو الجواب على الخلاف المشهور . وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم ، وهو يكفى التعليق بالشرط .

والمراد بالإِيمان : التصديق . ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر ، على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة .

وقد يراد بالإِيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر ، فالمعنى : إن كنتم كاملى الإِيمان ، فإن كمال الإِيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة : الاتقاء ، والإِصلاح ، وإطاعة الله - تعالى - .

ويؤيد إرادة الكمال قوله - سبحانه - بعد ذلك { إِنَّمَا المؤمنون } إذ المراد به قطعا الكاملون في الإِيمان وإلا لم يصح الحصر . .

وعلى أية حال ففى هذا التذييل تنشيط للمخاطبين ، وحث لهم على الامتثال والطاعة ، ودعوة لهم إلى أن يكون إيمانهم إيمانا عميقا راسخا ، متفقا مع كل ما جاءهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من هدايات وإرشادات ، ومتساميا عن كل ما يخدش صفاءه ونقاءه من متع وشهوات .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[3]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
[4]:- سورة الجن: الآيتان 1، 2.
[5]:- سورة البقرة: الآيتان 23، 24.
[6]:- الأترجة: ثمرة حلوة الطعم، طيبة الرائحة، جميلة اللون، تشبه التفاحة.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنفال مدنية وأياتها خمس وسبعون

بسم الله الرحمن الرحيم

نعود الآن إلى القرآن المدني - بعد سورتي الأنعام والأعراف المكيتين - وقد سبقت منه في هذه الظلال - التي نسير فيها وفق ترتيب المصحف لاوفق ترتيب النزول - سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء والمائدة . . ذلك أن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشيء - اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال ، على ما في هذا من خلافات قليلة - فأما الترتيب الزمني المقطوع به من ناحية زمن نزول كل آية أو كل مجموعة من الآيات أو كل سورة ، فيكاد يكون متعذراً ؛ ولا يكاد يجد الإنسان فيه اليوم شيئاً مستيقناً - إلا في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات أو تقطع بشأنها بعض الروايات . . وعلى كل ما في محاولة تتبع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمني للنزول من قيمة ، ومن مساعدة على تصور منهج الحركة الإسلامية ومراحلها وخطواتها ، فإن قلة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقاً ؛ كما أنها تجعل النتائج التي يتوصل إليها تقريبية ظنية ، وليست نهائية يقينية . . وقد تترتب على هذه النتائج الظنية التقريبية نتائج أخرى خطيرة . . لذلك آثرت في هذه الظلال أن أعرض القرآن بترتيب سوره في المصحف العثماني ؛ مع محاولة الإلمام بالملابسات التاريخية لكل سورة - على وجه الإجمال والترجيح - والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص - على وجه الإجمال والترجيح أيضاً - على النحو الذي سبق في التعريف بالسور الماضية في هذه الطبعة الجديدة من الظلال . . وعلى هذا النحو نمضي - بعون الله - في هذه السورة . .

نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة . . نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهراً من الهجرة على الأرجح . . ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية . فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة ؛ بل أن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة ، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد . وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات ! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين ؛ وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة ؛ تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين ؛ وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي . ولكن المعول عليه في قولهم : إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة ، هو نزول أوائل السور . كما ذكرنا ذلك في التعريف بسورة البقرة .

وفي بعض الروايات أن الآيات من 30 إلى غاية 36 من سورة الأنفال مكية . . وهي هذه الآيات :

( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا . لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين . وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم . وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لايعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . . )

ولعل الذي دعا أصحاب هذه الروايات إلى القول بمكية هذه الآيات أنها تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة . . ولكن هذا ليس بسبب . . فإن هناك كثيراً من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة . وفي هذه السورة نفسها آية : 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن :

( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .

كما أن الآية : 36 وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر ، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد :

( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، ثم يغلبون ، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) . .

والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض . فقد جاء فيها : أن أبا طالب قال لرسول الله [ ص ] ما يأتمر به قومك ? قال : يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني ! فقال : من أخبرك بهذا ? قال : ربي . قال : نعم الرب ربك . فاستوص به خيراً ! فقال رسول الله [ ص ] : أنا استوصي به ! بل هو يستوصي بي خيراً ! فنزلت : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) . . الآية . .

وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله : " وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً ، بل منكر . لأن هذه الآية مدنية . ثم إن هذه القصة ، واجتماع قريش على هذا الائتمار ، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كانت ليلة الهجرة سواء . وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين . لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه " . .

وقد ذكر ابن إسحاق . عن عبد الله ابن أبي نجيح . عن مجاهد . عن ابن عباس - وعنه كذلك من طريق آخر - حديثاً طويلاً عن تبييت قريش ومكرهم هذا ، جاء في نهايته قوله : " . . وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه - بعد قدومه المدينة - " الأنفال " يذكره نعمه عليه ، وبلاءه عنده : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين ) " . .

وهذه الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها . من تذكير الله سبحانه لنبيه [ ص ] وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله ؛ في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل الله والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف . . إلى آخر ما تعالجه السورة من هذاالأمر كما سنبين . . والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى . .

وبعد ، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول ، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان - رضي الله عنه - لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين . . مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع .

والله المستعان . .

هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى . . وغزوة بدر - بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة - تقوم معلماً ضخماً في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ .

وقد سمى الله - سبحانه - يومها ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . . كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها ؛ ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها . فقال سبحانه : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود . ولهم مقامع من حديد . كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق . . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير . وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد . . ) . . [ الحج : 19 - 24 ] وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر . . يوم الفرقان . . لا في الدنيا وحدها ، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها ؛ ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل . . وتكفي هذه الشهادة من الجليل - سبحانه - لتصوير ذلك اليوم وتقديره . . وسنعرف شيئاً من قيمة هذا اليوم ، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها . .

ومع كل عظمة هذه الغزوة ، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات " الجهاد في الإسلام " ، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه . كذلك نحن لا ندرك طبيعة " الجهاد في الإسلام " وبواعثه وأهدافه ، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته . .

لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في " زاد المعاد " ، في الفصل الذي عقده باسم : " فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل : أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته . فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ . ثم أنزل عليه : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر )فنبأه بقوله : ( اقرأ )وأرسله ب( يا أيها المدثر ) . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ؛ ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة . وأهل حرب . وأهل ذمة . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد . وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام . وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم . فجاهد الكفار بالسيفوالسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان . وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ؛ أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ؛ فإذا انسلخت قاتلهم . . فقتل الناقض لعهده ؛ وأجل من لا عهد له ، أو له عهد مطلق ، أربعة أشهر . وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ؛ فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . . فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه . فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به . ومسالم له آمن . وخائف محارب . . وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ؛ ويكل سرائرهم إلى الله ؛ وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ؛ وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم . . فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين " . .

ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً . ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :

السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين . . فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً . . وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي . . إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ؛ تقوم عليها أنظمة واقعية عملية ؛ تسندها سلطات ذات قوة مادية . . ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه . . تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ؛ تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ؛ وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل . . إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي . كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد . . وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء . .

والسمة الثانية في منهج هذا الدين . . هي الواقعية الحركية . فهو حركة ذات مراحل . كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية . وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها . . فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة . كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة . . والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها . . الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ؛ ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية . ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً ؛ يمثل القواعد النهائية في هذا الدين . ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً ، وتعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته . ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة . . بعد تحطيمالأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها . .

والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة . فهو منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشاً ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين ، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ؛ ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد . . هو إخلاص العبودية لله ، والخروج من العبودية للعباد . . لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين . ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد ، في خطة مرسومة ؛ ذات مراحل محددة ؛ لكل مرحلة وسائلها المتجددة . على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة .

والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " . وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ؛ أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية . وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته . ولكن لا يقاومه ولا يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه !

والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام ! " . . يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة ، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه ؛ والتي تعبد الناس للناس ؛ وتمنعهم من العبودية لله . . وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما . . ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : " الحرب الدفاعية " . . والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك . . إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته ، ودوره في هذه الأرض ، وأهدافه العليا التي قررها الله ؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات . .

إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين . . إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ؛ والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور . . أو بتعبير آخر مرادف : الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور . . ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله ؛ وطرد المغتصبين له ؛ الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ؛ ويقوم الناس منهم مقام العبيد . . إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض . . أو بالتعبير القرآني الكريم :

( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . .

( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه . . ذلك الدين القيم . . ) . .

( قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) . .

ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال في ما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس ! ! ! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ؛ وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة .

وقيام مملكة الله في الأرض ، وإزالة مملكة البشر . وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده . وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية . . كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان . لأن المتسلطين على رقاب العباد ، المغتصبين لسلطان الله في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان . وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال !

إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله ، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً . . إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً . . إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ؛ ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " . . ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه .

والواقع الإنساني ، أمس واليوم وغداً ، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية . وعقبات مادية واقعية . . عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة . . وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد . .

وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات ، فإن " الحركة " تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية ، والعنصرية والطبقية ، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة . . وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان " الواقع البشري " بجملته ، بوسائل مكافئة لكل مكوناته . . وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض . . " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى !

إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! . . إن موضوعه هو " الإنسان " . . نوع " الإنسان " . . ومجاله هو " الأرض " . . كل الأرض . إن الله - سبحانه - ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم . . إن الله هو ( رب العالمين ) . . وهذا الدين يريد أن يرد( العالمين )إلى ربهم ؛ وأن ينتزعهم من العبودية لغيره . والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر . . وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله . وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين . ولقد نص رسول الله [ ص ] على أن " الاتباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين " مخالفين لما أمروا به من " عبادة " الله وحده . .

أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدى بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله [ ص ] فر إلى الشام . وكان قد تنصر في الجاهلية . فأسرت أخته وجماعة من قومه . ثم منّ رسول الله [ ص ] على أخته وأعطاها . فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله [ ص ] فتحدث الناس بقدومه . فدخل على رسول الله [ ص ] وفي عنقه [ أي عدي ] صليب من فضة وهو [ أي النبي [ ص ] ] يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) . . قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : " بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " . .

وتفسير رسول الله [ ص ] لقول الله سبحانه ، نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض . . الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير " الإنسان " ، في " الأرض " من العبودية لغير الله . .

ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام . . بالبيان وبالحركة مجتمعين . . وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى " البيان " واعتناق " العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان . ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة ، أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد !

إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته . . ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة " . . إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد . فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان . . ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه الحرية ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم ؛ أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد ! وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ! . . إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده ؛ وذلك بتلقي الشرائع منه وحده . ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله . أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله . . إن مدلول " الدين " أشمل من مدلول " العقيدة " . . إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة . ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة . . وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام . .

والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح " الحرب الدفاعية " - كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " . . بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري ؛ وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة .

وإذا لم يكن بد من أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية ، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة " دفاع " .

ونعتبره " دفاعاً عن الإنسان " ذاته ، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره . . هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ؛ كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ؛ والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !

وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في " الأرض " بالجهاد ؛ ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ؛ وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان . .

أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ؛ ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي ! " _وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض . كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ؛ وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !

ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ? وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية - من أنظمة الدولة السياسية ؛ وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ? !

إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير " الإنسان " . . نوع الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان ! . . إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد ، تخاطبهم بحرية ، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات . . فهنا ( لا إكراه في الدين ) . . أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله ؛ وهو طليق من هذه الأغلال !

إن الجهاد ضرورة للدعوة . إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ؛ ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي ! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمنا أم مهدداً من جيرانه . فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة ؛ وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية . إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله . أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله ؛ والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها . . ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : " فاستقر أمر الكفار معه - بعد نزول براءة - على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام . . فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه . . فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به . ومسالم له آمن [ وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة ] وخائف محارب " . . وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه . لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر !

ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة ؛ وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة . . وقيل للمسلمين : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . ثم أذن لهم فيه ، فقيل لهم : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق - إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ) . . ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) . . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقيل لهم : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) . . وقيل لهم : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . . فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - " محرماً ، ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين " . .

إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد ؛ وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه ؛ وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام ، وعلى مدى طويل من تاريخه . . إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !

ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله [ ص ] ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ؛ ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء ؛ ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود ? !

لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، لدفع الفساد عن الأرض : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ) . . وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة . الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض . وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط ؛ وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن " الإنسان " في " الأرض " ذلك السلطان الغاصب . . حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله .

إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة . كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة . والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة . . هذا هدف أولي لا بد منه . . ولكنه ليس الهدف الأخير . . إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ؛ ويؤمن قاعدة الانطلاق . . الانطلاق لتحرير " الإنسان " ، ولإزالة العقبات التي تمنع " الإنسان " ذاته من الانطلاق !

وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم . لأنه كان مكفولاً للدعوة في مكة حرية البلاغ . . كان صاحبها [ ص ] يملك بحماية سيوف بني هاشم ، أن يصدع بالدعوة ؛ ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ؛ ويواجه بها الأفراد . . لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة ، أو تمنع الأفراد من سماعه ! فلا ضرورة - في هذه المرحلة - لاستخدام القوة . وذلك إلى أسباب أخرى لعلها

كانت قائمة في هذه المرحلة . وقد لخصناها عند تفسير قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . . )من سورة النساء . ولا نرى بأساً في إثبات بعض هذا التلخيص هنا مرة أخرى :

" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج ، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ، المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي !

" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً و أنفذ ، في مثل بيئة قريش ، ذات العنجهية والشرف ؛ والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس ، أعواماً طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها . وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبداً . ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبداً !

" وربما كان ذلك أيضاً ، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه ! " ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمداً يفرق بين الوالد وولده ، فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وفي كل محلة ?

" وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته . . ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ? !

" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عاراً على العرب ! وعُرض عليه جواره وحمايته . . وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من بيئات " الحضارة " القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !

" وربما كان ذلك ، أيضاً ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة ، أو بلغت أخبارها متناثرة ، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة . " . . . الخ . . . "

فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله [ ص ] مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك . .

أولاً : لأن هناك مجالاً للتبليغ والبيان ، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه ، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ؛ وبقيادة رسول الله [ ص ] في تصريف شؤونها السياسية . فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحاً ولا يثير حرباً ، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله [ ص ] وكان واضحاً أن السلطة الحقيقية في المدينة في يد القيادة المسلمة . فالمجال أمام الدعوة مفتوح ، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة .

ثانياً : أن الرسول [ ص ] كان يريد التفرغ - في هذه المرحلة - لقريش ؛ التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى ؛ الواقفة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول الله [ ص ] بإرسال " السرايا " وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة .

ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة أشهر . ثم على رأس ثلاثة عشر شهراً . ثم على رأس ستة عشر شهراً . ثم كانت سرية عبدالله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً . وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال . وكان ذلك في الشهر الحرام . والتي نزلت فيها آيات البقرة : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ! قل : قتال فيه كبير ، وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، والفتنة أكبر من القتل . ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . . . ) .

ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة . . وهي التي نزلت فيها هذه السورة التي نحن بصددها .

ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالاً للقول بأن " الدفاع " بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية . كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر !

إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم تعد للمسلمين شوكة بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان إلا سلطان الله ، ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !

والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية :

( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً . وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ? الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) . . . [ النساء : 74 - 76 ] .

( قل للذين كفروا : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم ، نعم المولى ونعم النصير ) . . . [ الأنفال : 38 - 40 ] . .

( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله . ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ، لا إله إلّا هو ، سبحانه عما يشركون . يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ؛ ولو كره الكافرون ) . . [ التوبة : 29 - 32 ] .

إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ؛ وتحقيق منهجه في حياة الناس . ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ؛ وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد الله وحده يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي . . مع تقرير مبدأ : ( لا إكراه في الدين ) . . أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ؛ والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله . أو أن الدين كله لله . بهذا الاعتبار .

إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . وهذه وحدها تكفي . . ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !

لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر ، وحذيفة بن محصن ، والمغيرة بن شعبة ، جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم ? فيكون الجواب : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر " .

إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ؛ وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة . . وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية . . لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة !

وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله . . ( في سبيل الله ) . في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ؛ ولا يخرجه لها مغنم ذاتي . .

إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان . . مع هواه وشهواته . . مع مطامعه ورغباته . . مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه . . مع كل شارة غير شارة الإسلام . . ومع كل دافع إلا العبودية لله ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله . .

والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية " الوطن الإسلامي " يغضون من شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الموطن " ! وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . . إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها . وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار الإسلام " ونقطة الانطلاق لتحرير " الإنسان " . .

وحقيقة أن حماية " دار الإسلام " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها هي ليست الهدف النهائي . وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي . إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها . ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين ، والأرض هي مجاله الكبير !

وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة . . وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة . كي يخلو له وجه الأ

( يسألونك عن الأنفال . قل : الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ، وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) .

ذكرنا من قبل في التعريف الإجمالي بالسورة جانباً من الروايات التي وردت عن نزول هذه الآيات . ونضيف هنا إليها بعض الروايات ؛ زيادة في استحضار الجو الذي نزلت فيه السورة جملة ، والذي نزلت فيه الآيات الخاصة بالغنائم والأنفال بوجه خاص ؛ واستحضار الملامح الواقعية للجماعة المسلمة في أول وقعة كبيرة بعد قيام الدولة المسلمة في المدينة .

قال ابن كثير في التفسير : روى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا " . فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لها ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا رداء لكم ، لو انكشفتم لفئتم إلينا . فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال ) . . . إلى قوله : ( وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) . . وقال الثوري ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " . فجاء أبو اليسير بأسيرين ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ، ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : ( يسألونك عن الأنفال قل : الأنفال لله والرسول ) . . . قال : ونزل القرآن :

إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( 19 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ( 20 ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 21 ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ( 22 )

( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) . . . إلى آخر الآية . . .

وروى الإمام أحمد قال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا أبو إسحق الشيباني ، عن محمد بن عبيدالله الثقفي . عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر ، وقتل أخي عمير ، قتلت سعيد بن العاص ؛ وأخذت سيفه . وكان يسمى ذا الكثيفة . فأتيت به النبي [ ص ] فقال : " اذهب فاطرحه في القبض " قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي . قال : فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله [ ص ] " اذهب فخذ سلبك " .

وقال الإمام أحمد أيضاً : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن مصعب ابن سعد ، عن سعد بن مالك ، قال : قلت يا رسول الله ، قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف . فقال : " إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه " . قال : فوضعته ثم رجعت ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي . قال : فإذا رجل يدعوني من ورائي . قال : قلت : قد أنزل الله فيّ شيئاً ? قال : " كنت سألتني السيف ، وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي ، فهو لك " . قال : وأنزل الله هذه الآية : ( يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول ) . . [ ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به ، وقال الترمذي : حسن صحيح . ]

فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال . . ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم ؛ وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء ، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم ، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا ؛ وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين ، وشاركوهم ديارهم وأموالهم ، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم : ( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها . لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة ؛ وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء ؛ وكان الناس - يومئذ - حريصين على هذه الشهادة من رسول الله [ ص ] ومن الله سبحانه وتعالى ، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين ! . . ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم الله سبحانه به ، وردهم إليه . . ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل ، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر ؛ حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : " فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله [ ص ] . . " .

ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً . نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله [ ص ] حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها ، فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه ؛ إنما أصبح فضلاً من الله عليهم ؛ يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه . . . وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل ، الذي بدأ بهذه الآيات ، واستطرد فيما تلاها كذلك .

( يسألونك عن الأنفال . قل : الأنفال لله والرسول . فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله ، إن كنتم مؤمنين ) . .

لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال ، هو الهتاف بتقوى الله . . وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب . . إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا ، والنزاع عليها - وإن كانهذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى . . إن قلباًلا يتعلق باللّه ، يخشى غضبه ويتلمس رضاه ، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض ، ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق !

إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة . . وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها :

( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) . .

وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله :

( وأطيعوا اللّه ورسوله ) .

وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال . فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق ، وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول ، فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول . فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه ؛ طيبة قلوبهم ، راضية نفوسهم ؛ وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم ، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم . . ذلك :

( إن كنتم مؤمنين ) . .

فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية . يتجلى فيها ، ليثبت وجوده ، ويترجم عن حقيقته . وكما قال رسول اللّه - [ ص ] - : " ليس الإيمان بالتمني ، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " . ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه - [ ص ] - ولتعريف الإيمان وتحديده ؛ وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان ، أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع .

ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان " الحق " كما يريده رب هذا الدين ؛ ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى :

( إن كنتم مؤمنين ) . .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الأنفال مدنية كلها غير آية واحدة {وإذ يمكر بك الذين كفروا...}.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

مدنية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء، وقال ابن عباس: إلا سبع آيات من قوله عز وجل: {وإذ يمكر بك الذين كفروا...} إلى آخر سبع آيات...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

وأكثر السورة في غزوة بدر.

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

مدنية... قيل: إلا سبع آيات من قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} إلى آخر سبع آيات، فإنها نزلت بمكة. والأصح أنها نزلت بالمدينة، وإن كانت الواقعة بمكة...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب، كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب. وأخرج أيضاً عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

سورة الأنفال مدنية كلها كما روي عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت. وقال ابن عباس إنها نزلت في بدر، وفي لفظ تلك سورة بدر. وقيل إنها مدنية إلا آية {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام. وروي عن مقاتل استثناء قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الأنفال: 30] الآية موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه بقصد الهجرة وباتا في الغار، وهذا استنباط من المعنى وقد صح عن ابن عباس أن الآية نفسها نزلت في المدينة. وزاد بعضهم عنه استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية أي إلى الآية 35 للمعنى الذي ذكرناه آنفا وهو أن موضوعها حال كفار قريش في مكة وهذا لا يقتضي نزولها في مكة، بل ذكر الله بها رسوله بعد الهجرة. وكل ما نزل بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا فهو مدني.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

نعود الآن إلى القرآن المدني -بعد سورتي الأنعام والأعراف المكيتين- وقد سبقت منه في هذه الظلال -التي نسير فيها وفق ترتيب المصحف لا وفق ترتيب النزول- سور: البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة.. ذلك أن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشيء -اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال، على ما في هذا من خلافات قليلة- فأما الترتيب الزمني المقطوع به من ناحية زمن نزول كل آية أو كل مجموعة من الآيات أو كل سورة، فيكاد يكون متعذراً؛ ولا يكاد يجد الإنسان فيه اليوم شيئاً مستيقناً -إلا في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات أو تقطع بشأنها بعض الروايات.. وعلى كل ما في محاولة تتبع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمني للنزول من قيمة، ومن مساعدة على تصور منهج الحركة الإسلامية ومراحلها وخطواتها، فإن قلة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقاً؛ كما أنها تجعل النتائج التي يتوصل إليها تقريبية ظنية، وليست نهائية يقينية.. وقد تترتب على هذه النتائج الظنية التقريبية نتائج أخرى خطيرة.. لذلك آثرت في هذه الظلال أن أعرض القرآن بترتيب سوره في المصحف العثماني؛ مع محاولة الإلمام بالملابسات التاريخية لكل سورة- على وجه الإجمال والترجيح -والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص- على وجه الإجمال والترجيح أيضاً -على النحو الذي سبق في التعريف بالسور الماضية في هذه الطبعة الجديدة من الظلال.. وعلى هذا النحو نمضي- بعون الله -في هذه السورة..

نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة.. نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهراً من الهجرة على الأرجح.. ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية. فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة؛ بل أن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد. وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين؛ وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة؛ تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين؛ وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي. ولكن المعول عليه في قولهم: إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة، هو نزول أوائل السور. كما ذكرنا ذلك في التعريف بسورة البقرة.

وفي بعض الروايات أن الآيات من 30 إلى غاية 36 من سورة الأنفال مكية.. وهي هذه الآيات:

(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا. لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين. وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لايعلمون. وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون..)

ولعل الذي دعا أصحاب هذه الروايات إلى القول بمكية هذه الآيات أنها تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة.. ولكن هذا ليس بسبب.. فإن هناك كثيراً من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة. وفي هذه السورة نفسها آية: 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن:

(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)..

كما أن الآية: 36 وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد:

(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)..

والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض. فقد جاء فيها: أن أبا طالب قال لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي. قال: نعم الرب ربك. فاستوص به خيراً! فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: أنا استوصي به! بل هو يستوصي بي خيراً! فنزلت: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك).. الآية..

وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله: "وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً، بل منكر. لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين. لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه"..

وقد ذكر ابن إسحاق. عن عبد الله ابن أبي نجيح. عن مجاهد. عن ابن عباس- وعنه كذلك من طريق آخر -حديثاً طويلاً عن تبييت قريش ومكرهم هذا، جاء في نهايته قوله:".. وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه- بعد قدومه المدينة -"الأنفال "يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله. والله خير الماكرين)"..

وهذه الرواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها. من تذكير الله سبحانه لنبيه [صلى الله عليه وسلم] وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله؛ في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل الله والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف.. إلى آخر ما تعالجه السورة من هذا الأمر كما سنبين.. والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى..

وبعد، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان -رضي الله عنه- لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين.. مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع.

والله المستعان..

هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى.. وغزوة بدر -بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة- تقوم معلماً ضخماً في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ.

وقد سمى الله -سبحانه- يومها (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان).. كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها؛ ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها. فقال سبحانه: (هذان خصمان اختصموا في ربهم: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود. ولهم مقامع من حديد. كلما أرادوا أن يخرجوا منها -من غم- أعيدوا فيها، وذوقوا عذاب الحريق.. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير. وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد..).. [الحج: 19 -24] وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر.. يوم الفرقان.. لا في الدنيا وحدها، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها؛ ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل.. وتكفي هذه الشهادة من الجليل- سبحانه -لتصوير ذلك اليوم وتقديره.. وسنعرف شيئاً من قيمة هذا اليوم، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها..

ومع كل عظمة هذه الغزوة، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات "الجهاد في الإسلام"، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه. كذلك نحن لا ندرك طبيعة "الجهاد في الإسلام" وبواعثه وأهدافه، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته..

لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في "زاد المعاد"، في الفصل الذي عقده باسم:"فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: (يا أيها المدثر. قم فأنذر) فنبأه بقوله: (اقرأ) وأرسله ب (يا أيها المدثر). ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية؛ ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة. وأهل حرب. وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده.. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:

قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم.

وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.

وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه؛ أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر؛ فإذا انسلخت قاتلهم..

فقتل الناقض لعهده؛ وأجل من لا عهد له، أو له عهد مطلق، أربعة أشهر. وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته؛ فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية.. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب.. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم؛ ويكل سرائرهم إلى الله؛ وأن يجاهدهم بالعلم والحجة؛ وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"..

ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:

السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية؛ تقوم عليها أنظمة واقعية عملية؛ تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها؛ تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات؛ وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء..

والسمة الثانية في منهج هذا الدين.. هي الواقعية الحركية. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً؛ ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً؛ يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون- وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان -: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة.. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها..

والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول -سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة؛ ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد.. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة؛ ذات مراحل محددة؛ لكل مرحلة وسائلها المتجددة. على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.

والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى- على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن "زاد المعاد". وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه؛ أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه!

...

.

لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي -كما بينا من قبل- فقد سبقتها عدة سرايا، لم يقع قتال إلا في واحدة منها، هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. وكانت كلها تمشياً مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام. والتي أسلفت الحديث عنها من قبل.. نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين الكرام؛ ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام! ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي. إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله؛ وبتقرير ألوهية الله في الأرض؛ وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس، وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.. وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده؛ والدخول في سلطانه وحده. فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت، تمشياً مع خطته العامة؛ وانتصافاً في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام؛ ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان.. وإن كان ينبغي دائماً ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر -ولا ننسى- طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه. وهي ألا يترك في الأرض طاغوتاً يغتصب سلطان الله؛ ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال!

أما أحداث هذه ا لغزوة الكبرى فنجملها هنا قبل استعراض سورة الأنفال التي نزلت فيها، ذلك لنتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة؛ وندرك مرامي النصوص فيها؛ وواقعيتها في مواجهة الأحداث من ناحية؛ وتوجيهها للأحداث من الناحية الأخرى.. ذلك أن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب!! إنما تدرك أولاً وقبل كل شيء بالحياة في جوها التاريخي الحركي؛ وفي واقعيتها الإيجابية، وتعاملها مع الواقع الحي. وهي -وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثراً من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه- لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلا في ضوء ذلك الواقع التاريخي.. ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم، وفاعليتها المستمرة، ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم؛ ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة؛ ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان هؤلاء يواجهون! ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين، الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب.. وهم قاعدون!..

...

...

...

في هذه الغزوة [غزوة بدر]، نزلت سورة الأنفال.. نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة، وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة، وتكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة، وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله؛ وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز.. وسيأتي تفصيل هذه المعاني في ثنايا استعراض النصوص القرآنية.. فأما الآن فنكتفي باستعراض الخطوط الأساسية في السورة:

إن هنالك حادثاً بعينه في الغزوة يلقي ضوءاً على خط سيرها. ذلك هو ما رواه ابن إسحاق -عن عبادة ابن الصامت- رضي الله عنه، قال:

" فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقسمه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] -عن بواء [يقول: على السواء].

هذا الحادث يلقي ضوءا على افتتاح السورة وعلى خط سيرها كذلك:

لقد اختلفوا على الغنائم القليلة في الوقعة التي جعلها الله فرقاناً في مجرى التاريخ البشري إلى يوم القيامة!

ولقد أراد الله- سبحانه -أن يعلمهم، وأن يعلم البشر كلهم من بعدهم أموراً عظاماً...

أراد أن يعلمهم ابتداء أن أمر هذه الوقعة أكبر كثيراً من أمر الغنائم التي يختلفون عليها. فسمى يومها: (يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان)..

وأراد أن يعلمهم أن هذا الأمر العظيم إنما تم بتدبير الله وقدره، في كل خطوة وفي كل حركة، ليقضي من ورائه أمراً أراده، فلم يكن لهم في هذا النصر وما وراءه من عظائم الأمور يد ولا تدبير، وسواء غنائمه الصغيرة وآثاره الكبيرة، فكلها من فعل الله وتدبيره. إنما أبلاهم فيه بلاء حسناً من فضله!

وأراد أن يريهم مدى الفرق بين ما أرادوه هم لأنفسهم من الظفر بالعير؛ وما أراده الله لهم، وللبشريةكلها من ورائهم من إفلات العير، ولقاء النفير. ليروا على مد البصر مدى ما بين إرادتهم بأنفسهم وإرادة الله بهم ولهم من فرق كبير!

لقد بدأت السورة بتسجيل سؤالهم عن الأنفال وبيان حكم الله فيها وردها إلى الله والرسول ودعوتهم إلى تقوى الله، وإصلاح ذات بينهم- بعدما ساءت أخلاقهم في النفل كما يقول عبادة بن الصامت -ودعوتهم إلى طاعة الله وطاعة الرسول، وتذكيرهم بإيمانهم وهذا مقتضاه. ورسم للمؤمنين صورة موحية تجف لها القلوب: (يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول. فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين. إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)..

ثم جعل يذكرهم بأمرهم وتدبيرهم لأنفسهم وتدبير الله لهم، ومدى ما يرونه من واقع الأرض ومدى قدرة الله من ورائه ومن ورائهم: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون..

ثم ذكرهم بما أمدهم به من العون، وما يسره لهم من النصر، وما قدره لهم بفضله من الأجر: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم. إذ يغشيكم النعاس أمنة منه، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام. إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب. ذلكم فذوقوه، وأن للكافرين عذاب النار).

وهكذا يمضي سياق السورة في هذا المجال؛ يسجل أن المعركة بجملتها من صنع الله وتدبيره بقيادته وتوجيهه. بعونه ومدده. بفعله وقدره. له وفي سبيله.. ومن ثم تجريد المقاتلين ابتداء من الأنفال وتقرير أنها لله وللرسول، حتى إذا ردها الله عليهم كان ذلك مَناً منه وفضلاً. وكذلك يجردهم من كل مطمع فيها ومن كل مغنم، ليكون جهادهم في سبيله خالصاً له وحده.. فترد أمثال هذه النصوص:

(فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت- إذ رميت -ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً، إن الله سميع عليم. ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين).

(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)..

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. والله على كل شيء قدير. إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. إذ يريكهم الله في منامكقليلاً، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم، إنه عليم بذات الصدور. وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلاً، ويقللكم في أعينهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وإلى الله ترجع الأمور)..

ولأن المعركة- كل معركة يخوضها المؤمنون -من صنع الله وتدبيره. بقيادته وتوجيهه. بعونه ومدده. بفعله وقدره. له وفي سبيله. تتكرر الدعوة في السورة إلى الثبات فيها، والمضي معها، والاستعداد لها، والاطمئنان إلى تولي الله فيها، والحذر من المعوقات عنها من فتنة الأموال والأولاد، والاستمساك بآدابها، وعدم الخروج لها بطراً ورئاء الناس. ويؤمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بتحريض المؤمنين عليها.. وترد أمثال هذه النصوص في بيان هذه المعاني:

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره- إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة -فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير)..

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون)..

(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون. واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم).

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط)..

(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون)..

يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا الفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون...

وفي ذات الوقت الذي تتكرر الأوامر بالتثبيت في المعركة يتجه السياق إلى توضيح معالم العقيدة وتعميقها ورد كل أمر وكل حكم وكل توجيه إليها. فلا تبقى الأوامر معلقة في الفراغ، إنما ترتكز على ذلك الأصل الواضح الثابت العميق:

أ في مسألة الأنفال يردون إلى تقوى الله، والوجل عند ذكره، وتعلق الإيمان بطاعة الله وطاعة رسوله: يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين. إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون... الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.

ب وفي خطة المعركة يردون إلى قدر الله وتدبيره، وتصريفه لمراحلها جميعاً: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً..).

ج وفي أحداثها ونتائجها يردون إلى قيادة الله لها، ومدده وعونه فيها: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً...)..

د وفي الأمر بالثبات فيها يردون إلى ما يريده الله لهم بها من حياة، وإلى قدرته على الحيلولة بينهم وبين قلوبهم، وإلى تكفله بنصر من يتوكل عليه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون).. (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)..

ه وفي تحديد الهدف من وراء المعركة يقرر: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).. (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض).. (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون)..

و وفي تنظيم العلاقات في المجتمع المسلم وبينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى تبرز العقيدة قاعدة للتجمع وللتميز، وتجعل القيم العقيدية هي التي تقدم في الصف أو تؤخر: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر- إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، والله بما تعملون بصير. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم. والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم..

ويبرز في سياق السورة بصفة خاصة -إلى جانب خط العقيدة- خط آخر هو خط الجهاد، وبيان قيمته الإيمانية والحركية. وتجريده كذلك من كل شائبة شخصية؛ وإعطاؤه مبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان.. والسورة بجملتها تتضمن هذا الإيحاء. فنكتفي ببعض النصوص في هذا التعريف، وندع تفصيلها إلى موضعه عند مواجهة النصوص:

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير).

(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة، وهم لا يتقون. فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون).

(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون)..

(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون..

(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة. والله عزيز حكيم)..

(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم)..

وأخيراً فإن السورة تنظم ارتباطات الجماعة المسلمة على أساس العقيدة كما أسلفنا؛ وبيان الأحكام التي تتعامل بها مع غيرها من الجماعات الأخرى في الحرب والسلم -إلى هذه الفترة التي نزلت فيها السورة- وأحكام الغنائم والمعاهدات وتضع خطوطاً أصيلة في تنظيم تلك الروابط وهذه الأحكام في مثل هذه النصوص الواضحة المحددة:

(يسألونك عن الأنفال.. قل الأنفال لله والرسول)..

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير)..

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله، ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون. ولا تكونوا كالذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون)..

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون).

(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)..

(قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)..

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)..

(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط)..

(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون. فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون. وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا، إنهم لا يعجزون. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين...)...

(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)..

(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة واللهعزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم. يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى: إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم، ويغفر لكم والله غفور رحيم. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم).

إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر -إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق- والله بما تعملون بصير. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا، أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم. والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم، وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم..

هذا مجمل لخطوط السورة الرئيسية.. فإذا كانت السورة بجملتها إنما نزلت في غزوة بدر، وفي التعقيب عليها، فإننا ندرك من هذا طرفاً من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة، وإعدادها لقيادة البشرية؛ وجانباً من نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما يجري في الأرض وفي حياة البشر؛ مما يقوم منه تصور صحيح لهذه الحقيقة: لقد كانت هذه الغزوة هي أول وقعة كبيرة لقي فيها المسلمون أعداءهم من المشركين، فهزموهم تلك الهزيمة الكبيرة.. ولكن المسلمين لم يكونوا قد خرجوا لهذه الغاية.. لقد كانوا إنما خرجوا ليأخذوا الطريق على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأموالهم! فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة.. أراد لها أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من عتاة قريش الذين جمدوا الدعوة في مكة؛ ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بعدما بلغوا بأصحابه الذين تابعوه على الهدى غاية التعذيب والتنكيل والأذى..

لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الوقعة فرقاناً بين الحق والباطل؛ وفرقاناً في خط سير التاريخ الإسلامي. ومن ثم فرقاناً في خط سير التاريخ الإنساني.. وأراد أن يظهر فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير لهم. وتدبير رب البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر. كما أراد أن تتعلم العصبة المؤمنة عوامل النصر وعوامل الهزيمة؛ وتتلقاها مباشرة من يد ربها ووليها، وهي في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.

وتضمنت السورة التوجيهات الموحية إلى هذه المعاني الكبيرة؛ وإلى هذه الحقائق الضخمة الخطيرة. كما تضمنت الكثير من دستور السلم والحرب، والغنائم والأسرى، والمعاهدات والمواثيق، وعوامل النصر وعوامل الهزيمة. كلها مصوغة في أسلوب التوجيه المربي، الذي ينشئ التصور الاعتقادي، ويجعله هو المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني.. وهذه هي سمة المنهج القرآني في عرض الأحداث وتوجيهها.

ثم إنها تضمنت مشاهد من الموقعة، ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدما.. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها؛ كأن قارئ القرآن يراها فيتجاوب معها تجاوباً عميقاً.

واستطرد السياق أحياناً إلى صور من حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وحياة أصحابه في مكة، وهم قلة مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس. ذلك ليذكروا فضل الله عليهم في ساعة النصر، ويعلموا أنهم إنما سينصرون بنصر الله، وبهذا الدين الذي آثروه على المال والحياة. وإلى صور من حياة المشركين قبل هجرة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وبعدها. وإلى أمثلة من مصائر الكافرين من قبل كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، لتقرير سنة الله التي لا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير على أعدائه.

هذه موضوعات السورة وملامحها -وهي وحدة واحدة- وإن كنا سنجتزئ في هذا الجزء بشطر منها. ثم تجيء بقيتها في الجزء العاشر بإذن الله تعالى..

فنكتفي بهذا القدر في التعريف المجمل بها؛ وننتقل إلى مواجهة النصوص القرآنية في سياقها..

موضوع هذا الدرس الأول في السورة، هو بيان حكم الله في الأنفال.. المغانم التي يغنمها المسلمون في جهادهم في سبيل الله.. بعد ما ثار بين أهل بدر من الجدال حول تقسيمها. فردهم الله إلى حكمه فيها؛ كما ردهم إلى تقواه وطاعته وطاعة رسوله؛ واستجاش في قلوبهم وجدان الإيمان والتقوى.

ثم أخذ يذكرهم بما أرادوا لأنفسهم من العير والغنيمة، وما أراده الله لهم من النصر والعزة. وكيفسارت المعركة، وهم قلة لا عدد لها ولا عدة، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد. وكيف ثبتهم بمدد من الملائكة، وبالمطر يستقون منه ويغتسلون ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال، وبالنعاس يغشاهم فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان. وكيف ألقى في قلوب أعدائهم الرعب وأنزل بهم شديد العقاب.

ومن ثم يأمر المؤمنين أن يثبتوا في كل قتال، مهما خيل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم، فإن الله هو الذي يقتل، وهو الذي يرمي، وهو الذي يدبر، وإن هم إلا ستار لقدر الله وقدرته، يفعل بهم ما يشاء..

ثم يسخر من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم، فيقول لهم: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).

ويحذر المؤمنين أن يتشبهوا بالمنافقين الذين يسمعون ولكنهم لا يسمعون، لأنهم لا يستجيبون!

وينتهي الدرس بنداءات متكررة للذين آمنوا. ليستجيبوا الله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم -ولو خيل إليهم أنه الموت والقتل- وليذكرهم كيف كانوا قليلاً مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم وأيدهم بنصره؛ وليعدهم أن يجعل لهم فرقاناً في قلوبهم وفي حركتهم إن هم اتقوه. ذلك إلى تكفير السيئات وغفران الذنوب؛ وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه الغنائم والأنفال..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

[سورة الأنفال] عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:... أخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.

وتسمى أيضا (سورة بدر)، ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال قال تلك سورة بدر...

أغراض هذه السورة:

ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.

والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.

والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.

وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.

وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.

وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء.

ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.

والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.

والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.

والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.

ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.

وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.

وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.

ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.

والتحذير من المنافقين.

وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.

وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.

وأحكام الأسرى.

وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

بالإجمال فإن هذه السورة الكريمة وضعت الحجر الأساسي للسياسة الحربية العامة التي يجب أن يطبقها الإسلام كلما اضطر المسلمون إلى خوض غمار الحرب للدفاع عن أنفسهم، ولم يجدوا من خصومهم عدلا ولا استعدادا للسلام...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

... موضوع السورة:

في هذه السورة حديثٌ طويلٌ متنوعٌ عن معركة بدر في الأجواء التي سبقت الإعداد لها، وفي الحالة النفسية التي كان يعيشها المسلمون إزاءها، وفي حركة المعركة في أجواء الغيب تارةً، وفي آفاق الواقع أخرى، وفي نهاياتها ونتائجها على مستوى أوضاع الأسرى والغنائم أو على مستوى الحالة الروحية التي عاشوها بعد ذلك. وقد نلاحظ أن السورة لا تتحدث عن المعركة كقصّةٍ تلاحق التفاصيل التي تثير الفضول وتبهر النفوس، بل تتحدث عنها كتجربةٍ جديدةٍ تشتمل على السلبيات والإيجابيات، وعلى نقاط الضعف ونقاط القوة... وقد أكّدت السورة على كل هذه العناصر في عملية تقييم ودراسةٍ ونقدٍ وتوعيةٍ من أجل أن يقوم المسلمون بتنمية إيجابيات القوة، وتحويل السلبيات في نقاط الضعف إلى مصدر قوّةٍ...

.

تفسير الشافعي 204 هـ :

غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر بسَيْرٍ -شعْبٌ من شِعَاب الصفراء قريب من بدر -وكانت غنائم بدر كما يروي عبادة ابن الصامت غنمها المسلمون قبل تنزل الآية في سورة الأنفال، فلما تشاحوا عليها، انتزعها الله من أيديهم بقوله عز وجل: {يَسْألُونَكَ عَنِ اِلأنفَالِ قُلِ اِلأنفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلها خالصة، وقسمها بينهم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في معنى الأنفال التي ذكرها الله في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: هي الغنائم، وقالوا: معنى الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي؟ فقل هي لله ولرسوله... وقال آخرون: هي أنفال السرايا...

وقال آخرون: الأنفال ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابّة وما أشبه ذلك... فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء.

وقال آخرون: النفل: الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس...

وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال قول من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم إما من سلبه على حقوقهم من القسمة، وإما مما وصل إليه بالنفل، أو ببعض أسبابه، ترغيبا له وتحريضا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين، أو صلاح أحد الفريقين. وقد يدخل في ذلك... الفرس والدرع ونحو ذلك، ويدخل فيه... ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس لأن ذلك أمره إلى الإمام إذا لم يكن ما وصلوا إليه لغلبة وقهر، يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقهر.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأن النّفَل في كلام العرب إنما هو الزيادة على الشيء، يقال منه: نفلتك كذا، وأنفلتك: إذا زدتك...

فإذ كان معناه ما ذكرنا، فكلّ من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة، إن كان ذلك لبلاء أبلاه أو لغناء كان منه عن المسلمين، بتنفيل الوالي ذلك إياه، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل، فهو منفل ما زيد من ذلك لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحقّ، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة، وكذلك كلّ ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل، لأنه وإن كان مغلوبا عليه فليس مما وقعت عليه القسمة. فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين الغنيمة والنفل، أن الغنيمة هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل أو لم ينفل، والنفَل: هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة. وإذ كان ذلك معنى النفل، فتأويل الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر لمن هو قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله دونكم، يجعله حيث شاء.

واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية؛ فقال بعضهم: نزلت في غنائم بدر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان نفّل أقواما على بلاء، فأبلى أقوام وتخلّف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب، فأنزل الله هذه الآية على رسوله، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماض جائز... عن ابن عباس، قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَنَعَ كَذَا وكَذَا، فَلَهُ كَذَا وكَذَا» قال: فتسارع في ذلك شبان الرجال، وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنائم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءا لكم، وكنا تحت الرايات، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا، فأنزل الله: يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...

عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن سواء، يقول: على السواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين.

وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئا قبل قسمتها، فلم يعطه إياه، إذ كان شركا بين الجيش، فجعل الله جميع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم... وقال آخرون: بل نزلت لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر فأعلمهم الله أن ذلك لله ولرسوله دونهم ليس لهم فيه شيء. وقالوا: معنى «عن» في هذا الموضع «من» وإنما معنى الكلام: يسألونك من الأنفال، وقالوا: قد كان ابن مسعود يقرأه: «يَسْألُونَكَ الأنْفالَ» على هذا التأويل...

عن ابن عباس، قوله: "يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ "قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها، قال الله ": يَسألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفَالُ "لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء "فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، ثم أنزل الله: "واعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ" ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن سمي في الآية...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبر في هذه الآية عن قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يعطيهموها، فأخبرهم الله أنها لله وأنه جعلها لرسوله. وإذا كان ذلك معناه جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه، وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش.

واختلفوا فيها، أمنسوخة هي أم غير منسوخة؟

فقال بعضهم: هي منسوخة، وقالوا: نسخها قوله: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ..." وقال آخرون: هي محكمة وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك: قل الأنفال لله، وهي لا شكّ لله مع الدنيا بما فيها والآخرة، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه...

والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم ينفل من شاء، فنفل القاتل السلب، وجعل للجيش في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس، ونفل قوما بعد سهمانهم بعيرا بعيرا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين، وعلى من بعده من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك، وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ إلاّ بحجة يجب التسليم لها...

"فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"

يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه، وأصلحوا الحال بينكم.

واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله: "وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فقال بعضهم: هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في الغنيمة أن يردّوا ما أصابوا منها بعضهم على بعض...

وقال آخرون: هذا تحريج من الله على القوم، ونهي لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره...

وأما قوله: "وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ" فإن معناه: وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم، فقد بين لكم وجوهه وسبُله. "إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" يقول: إن كنتم مصدّقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول)... فالسؤال يحتمل وجهين: يحتمل أنهم سألوا عن حِلها وحرمتها... فقال: (الأنفال لله والرسول) أي الحكم فيها لله يجعلها لمن يشاء.

ويحتمل السؤال عنها: عن قسمتها...

ويحتمل أن تكون الأنفال هي فضول المغانم على ما قال بعضهم نحو ما روي في الأخبار أن منهم من أخذ كبة، فقال: اجعلها لي يا رسول الله، وأخذ الآخر سيفا، وقال: اجعله لي، ونحو ذلك فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: (قل الأنفال لله والرسول)...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

... "ذات بينكم "معناه حقيقة وصلكم، والبين: الوصل، لقوله تعالى "لقد تقطع بينكم" أي وصلكم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

... قوله جلّ ذكره: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}. أي أجيبوا لأمر الله، ولا تطيعوا دَوَاعِيَ مناكم والحكمَ بمقتضى أحوالكم، وابتغوا إيثارَ رضاء الحقِّ على مراد النَّفْس، وأصلحوا ذات بَيْنِكم، وذلك بالانسلاخ عن شُحِّ النَّفْس، وإيثار حقِّ الغير على مَا لَكُم من النصيب والحظِّ، وتنقية القلوب عن خفايا الحَسَد والحقد.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه...

والنفل: ما ينفله الغازي، أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب: من قتل قتيلاً فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه... ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟ فقيل له: قل لهم: هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم...

فإن قلت: ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله: {قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول}؟ قلت: معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأي أحد، والمراد: أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي. {فاتقوا الله} في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله

{وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم...

فإن قلت: ما حقيقة قوله: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ}؟ قلت: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله: {بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 199] وهي مضمراتها. لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كنتم كاملي الإيمان.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

النْفل والنَفل والنافلة في كلام العرب: الزيادة على الواجب، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل،...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}... معناه: فاتقوا عقاب الله ولا تقدموا على معصية الله، واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأحوال، وارضوا بما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ...

...

قوله: {وأصلحوا ذات بينكم} أي: وأصلحوا ذات بينكم من الأقوال، ولما كانت الأقوال واقعة في البين، قيل لها ذات البين، كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور.

ثم قال: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} والمعنى أنه تعالى نهاهم عن مخالفة حكم الرسول بقوله: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ثم أكد ذلك بأن أمرهم بطاعة الرسول بقوله: {وأطيعوا الله ورسوله} ثم بالغ في هذا التأكيد فقال: {إن كنتم مؤمنين} والمراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه ورغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة، فاحذروا الخروج عنها...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{فاتقوا الله} في الاختلاف والمشاجرة. {وأصلحوا ذات بينكم} الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول. {وأطيعوا الله ورسوله} فيه. {إن كنتم مؤمنين} فإن الإيمان يقتضي ذلك، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة: طاعة الأوامر، والاتقاء عن المعاصي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي: اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه.

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: في قسمه بينكم على ما أراده الله، فإنه قسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

قوله تعالى: {يسألونك} أي الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك -وسيأتي بيانه، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات وإنما همهم العبادة، والذين عندك إنما جعلتهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون {عن الأنفال} التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعاذة بالله منها- كما نبه عليه آخر الأعراف -لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداد، وهو جمع نفل- بالتحريك، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه، والمراد بها هنا الغنيمة، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سميت هنا بذلك لأن أصلها في اللغة الزيادة، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم.

ولما كان السؤال عن حكمها، كان كأنه قيل: فماذا يفعل؟ فقال دالاًّ على أنهم سألوا عن مصرفها وحكمها -ليطابق الجواب السؤال: {قل} أي لهم في جواب سؤالهم {الأنفال لله} أي الذي ليس النصر إلا من عنده لما له من صفات الكمال {والرسول} أي الذي كان جازماً بأمر الله مسلماً لقضائه ماضياً فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بمواقعة العدى...

ولما أخبر سبحانه أنه لا شيء لهم فيها إلا عن أمر الله ورسوله، وكان ذلك موحباً لتوقفهم إلى بروز أمره سبحانه على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت التقوى موجبة للوقوف خوفاً حتى يأتي الدليل الذي يجسّر على المشي وراءه، سبب عن ذلك قوله: {فاتقوا الله} أي خافوا خوفاً عظيماً في جميع أحوالكم من الذي لا عظمة لغيره ولا أمر لسواه، فلا تطلبوا شيئاً بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتخاصموا، فإن الله تعالى الذي رحمكم بإرسال رسول لنجاتكم وإنزال كتاب لعصمتكم غير مهمل ما يصلحكم، فهو يعطيكم ما سبق في علمه الحكم بأنه لكم، ويمنعكم ما ليس لكم {وأصلحوا ذات بينكم} أي الحال التي هي صاحبة افتراقكم واجتماعكم، فإن أغلب أمرها البين الذي هو القطيعة، وقد أشرفت على الفساد بطلب كل فريق الأثرة على صاحبه فأقبلوا على رعايتها بالتسليم لأمر الله ورسوله الأمرين بالإعراض عن الدنيا ليقسمها بينكم على سواء، القوي والضعيف سواء، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، لتجتمع كلمتكم فيشتد أمركم ويقوى أزركم فتقدروا على إقامة الدين وقمع المفسدين {وأطيعوا الله} أي الذي له جميع العظمة {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته في كل ما يأمرانكم به من تنفيل لمن يراه وإنفاذ شرط ووفاء عهد لمن عاهده.

ولما أمر ونهى هيج وألهب فقال مبيناً كون الإيمان مستلزماً للطاعة: {إن كنتم مؤمنين} أي صادقين في دعوى الإيمان، فليس كل من يدعي شيئاً يكون صادقاً في دعواه حتى يحصل البيان بالامتحان، ولذلك وصل به قوله مؤكداً غاية التأكيد لأن التخلص من الأعراض الدنيوية عسر: {إنما المؤمنون...}

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله. وفيه من التهييج والإلهاب ما لا يخفى، مع كونهم في تلك الحال على الإيمان، فكأنه قال: إن كنتم مستمرّين على الإيمان بالله، لأن هذه الثلاثة الأمور التي هي تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول، لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلاً لمن لم يمتثلها، فإن من ليس بمتق، وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... {فاتقوا الله} في المشاجرة والخلاف والتنازع وسيأتي في السورة مضار ذلك ولاسيما في حال الحرب {وأصلحوا ذات بينكم} أي أصلحوا نفس ما بينكم وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمساواة وترك الأثرة والتفوق، وبالإيثار أيضا. والبين في أصل اللغة يطلق على الاتصال والافتراق وكل ما بين طرفين كما قال: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] ويعبر عن هذه الرابطة بذات البين. وأمرنا في الكتاب والسنة بإصلاح ذات البين فهو واجب شرعا تتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها وتحفظ به وحدتها.

{وأطيعوا الله ورسوله} في الغنائم وفي كل أمر ونهي وقضاء وحكم، فالله تعالى يطاع لذاته لأنه رب العالمين ومالك أمرهم، والرسول يطاع في أمر الدين لأنه مبلغ له عن الله تعالى ومبين لوحيه فيه بالقول والفعل والحكم. وهذه الطاعة له تعبدية لا رأي لأحد فيها وتتوقف عليها النجاة في الآخرة والفوز بثوابها، ويطاع في اجتهاده في أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولاسيما الحرب من حيث إنه الإمام والقائد العام، فمخالفته إخلال بالنظام العام وإفضاء إلى الفوضى التي لا تقوم معها للأمة قائمة. فهذه الطاعة واجبة شرعا كالأولى إلا أنها معقولة المعنى، فقد أمره الله تعالى في تنفيذ أحكامه وإدارته بمشاورة الأمة كما تقدم في سورة آل عمران وأشرك معه في هذه الطاعة أولي الأمر كما تقدم في سورة النساء، وسيأتي كيف راجعه بعضهم في هذه الغزوة المفضلة أحكامها في هذه السورة ورجع عن رأيه صلى الله عليه وسلم إلى الرأي الذي ظهر صوابه، ولكن الأمر الأخير لابد أن يكون له كما شاورهم في غزوة أحد في الخروج من المدينة أو البقاء فيها. فلما انتهت المشاورة وعزم على تنفيذ رأي الجمهور راجعوه فلم يقبل مراجعة، وقد بينا هذا مع حكمته في تفسير {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] وترى في تلك السورة كيف كانت مخالفة الرماة له صلى الله عليه وسلم سببا في ظهور العدو على المسلمين فراجع تفسير {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 156] في الجزء الرابع.

ولأئمة المسلمين منهم من حق الطاعة في تنفيذ الشرع وإدارة الأمور العامة وقيادة الجند ما كان له صلى الله عليه وسلم منه مقيدا بعدم معصية الله تعالى وبمشاورة أولي الأمر كما تقدم تفصيله في تفسير {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] الآية.

ثم قال تعالى: {إن كنتم مؤمنين} أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة فإن الإيمان يقتضي ذلك كله لأن الله تعالى أوجبه، والمؤمن بالله غير المرتاب بوعده ووعيده يكون له سائق من نفسه إلى طاعته إلا أن يعرض ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب، ثم لا يلبث أن يفيء إلى أمر الله ويتوب إليه مما عرض له كما تقدم في تفسير {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17]

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم؛ وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا؛ وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).. ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة؛ وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء؛ وكان الناس -يومئذ- حريصين على هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ص] ومن الله سبحانه وتعالى، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين!.. ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم الله سبحانه به، وردهم إليه.. ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر؛ ...

.ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها، فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه؛ إنما أصبح فضلاً من الله عليهم؛ يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه... وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل، الذي بدأ بهذه الآيات، واستطرد فيما تلاها كذلك. (يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول. فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين).. لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله.. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب.. إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا، والنزاع عليها -وإن كان هذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء- إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى.. إن قلباً لا يتعلق باللّه، يخشى غضبه ويتلمس رضاه، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض، ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق! إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة.. وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)..

وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله: (وأطيعوا اللّه ورسوله). وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق، وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول، فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول. فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه؛ طيبة قلوبهم، راضية نفوسهم؛ وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم.. ذلك: (إن كنتم مؤمنين).. فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها، ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته. وكما قال رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] -:"ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل". ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -ولتعريف الإيمان وتحديده؛ وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان، أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتاح السورة ب {يسألونك عن الأنفال} مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم {الأنفال} وكان ذلك يومَ بدر، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْماً في هذا الشأن،... والسؤال حقيقته الطلب، فإذا عدّي ب (عن) فهو طلب معرفة المجرور ب (عن) وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء، فالمعنى، هنا: يسألونك معرفة الأنفال، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات، والمراد حالها بحسب القرينة مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمناً في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها. ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد. ولذلك كان قوله {يسألونك} مؤذناً بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية...

{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] الآية. وعطف « وللرسول» على اسم الله لأن المقصود: الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقاً للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين: أولاهما: أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفاً أو تفويضاً. والثانية: لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقاً لله كان التصرف فيه لخلفائه...

وتفريع {فاتقوا الله} على جملة {الأنفال لله والرسول} لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال، أو في طلب التنفيل، ...

...

وقدم الأمر بالتقوى، لأنها جامع الطاعات. وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها...

.

والإصلاح: جعل الشيء صالحاً، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم، وهو فساد التنازع والتظالم...

. وجواب شرط {إنْ كنتم مؤمنين} دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله: {فاتقوا الله} إلى آخرها، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعاً إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية: إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال، لظهور أن ليس المراد: فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال. وليس الإتيان في الشرط ب {بأنْ} تعريضاً بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم، بناء على أن شأن (إنْ) عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف (إذا) على ما تقرر في المعاني، ولكن اجتلاب (إنْ) في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي: التقوى الجامعة لخصال الدين، وإصلاح ذات بينهم، والرضى بما فعله الرسول، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم} [الأنفال: 2] كما سيأتي.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

بعد الإجابة عن التساؤل عن الأنفال، وكانت بادرة خلاف، وإن كان قد حسمه الإيمان والجهاد واحتساب النية لله، وأن الأمر آل إلى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. ولكن الله تعالى دعا إلى الادراع بالتقوى، حتى يسد منافذ الخلاف ومثارات الشيطان فقال آمرا بكل ما يقتضي على الخلاف في موطنه، فقال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. أمرهم سبحانه بأمور أربعة وقاية من النزاع، وإبقاء للمودة: أولها – التقوى، فإن القلوب إذا امتلأت بالتقوى لم يكن للشيطان منفذ، ولم يكن للخلاف موضع، و (الفاء) في قوله تعالى: {فاتقوا الله} فاء الإفصاح؛ لأن المعنى إذا كان الأمر في القسمة لله ورسوله، ففرغوا أنفسكم لتقوى الله، ولا تشغلوا أنفسكم بالمال وتقسيمه، فقسمة الله هي العدل والمصلحة معا، وهي العدل والحق والنظام. وثانيها – في قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} وهي الأمر الذي يربطكم، فليس المراد البين نفسه، إنما المراد ذات الرابط، وهو كما قلنا المودة الواصلة، ومعنى إصلاحه رعايته، وتعهده، بأن تكون المودة ملاحظة في كل ما يربطنا، فيكون الإيثار بدل الأثرة، والمحبة الموصولة بدل الحرص المفرق. الأمر الثالث والرابع – طاعة الله ورسوله بألا تجعلوا لأنفسكم إرادة بجوار إرادة الله، وأن تجعلوا الله ملء أسماعكم، وطاعة رسوله هي سنة حياتكم. وقد بين سبحانه أن ملاحظة هذه الأمور هي نور الإيمان وموجبته، ولا إيمان إلا كانت معه هذه الأمور، ولذا قال تعالى: {إن كنتم مؤمنين} أي إن كان الإيمان حالة نفسية ملازمة لكم.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

المسلمون يسألون.. والجواب يتحرك في تنمية الشخصية:

للسؤال في القرآن دورٌ تربويٌ روحيٌّ يتعدى جانب تقديم المعرفة المجرّدة للسائل في نطاق الجواب، ليكون منطلقاً للنصح والموعظة والدعوة إلى الالتزام بخط الإيمان، وليدخل بالتالي في تحديد المفاهيم الإسلامية للإنسان المسلم بطريقةٍ واضحة حاسمة. وهذا ما نستوحيه من هذه الآيات...

{قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ما معنى أن تكون الأنفال لله وللرسول؟ ربما يقال: إن المعنى هو أن يكون أمرها راجعاً لله وللرسول، في مواجهة الفكرة القائلة بأنّها من شؤون المقاتلين الذين قاتلوا، أو دافعوا، أو غنموا، كأمرٍ واقعٍ...

لكنّ هناك فكرةً أخرى، وهي أنها ملكٌ لله وللرسول بمعنى الاختصاص بهما من ناحيةٍ قانونية، فتكون مصارفها أو توزيعها من الشؤون التابعة للملك، تماماً كما يتصرف المالك في ملكه، مما هو من مسؤوليته العامة أو الخاصة. وعلى ضوء هذا، كانت الأراضي الداخلة في مفهوم الأنفال ملكاً لله وللرسول. إلا أن هذا قد لا ينسجم مع الحكم الثابت للغنائم التي هي للمقاتلين، في ما عدا الخمس الذي جُعل فيه سهمٌ لله وللرسول بالإضافة إلى الفئات الأخرى، والمفروض أنها مورد الآية، كما ذكر في مناسبة النزول. ولهذا التزم جماعة بنسخ هذه الآية بآية الخمس؛ فلا بد للخروج من هذا المأزق من التزام أحد أمرين، فإما القول بأن المقصود من الأنفال غير الغنائم، وذلك بطرح الروايات الدالّة على ذلك؛ وإما القول بأن المقصود من جعلها لله وللرسول، هو إيكال أمرها إليه بعيداً عن اقتراح المقترحين، ونزاع المتنازعين، فليس للمقاتلين أو الغانمين أن يقرّروا شيئاً من ذلك في ما يؤخذ، وما لا يؤخذ، أو في تحديد المستحق وغير المستحق، كما يوحي به نزاعهم. وبذلك كانت آية الخمس واردةً في مورد التحديد للمسألة، كما كانت أحاديث الأنفال في غير الغنائم مبينةً لحدود الحكم الشرعي فيها، وتحقيق الأمر في ملكية الله والرسول موكولٌ إلى الأبحاث الفقهية، فليُطلب من هناك. الله يدعو المسلمين لإصلاح ذات بينهم {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} فإن التقوى هي التي تعرِّف الإنسان حدوده في ما يملك وما لا يملك، وهي التي توحي له بضبط الخلافات الحاصلة بينه وبين الناس، والبعد عن الأجواء الذاتية والعدوانية التي تسيء إلى إنسانيّة العلاقات وسلام الحياة.. {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، أي الحالة السيّئة الممزّقة الواقعة بينكم، من خلال التفاهم على النقاط المشتركة التي يمكن أن تكون أساساً للِّقاء في الفكر والعمل، فإن ذلك هو السبيل لرأب الصدع، وردم الهوّة، وإصلاح الفساد، وتركيز العلاقات على قاعدةٍ ثابتةٍ، لأن اكتشاف مواطن اللقاء هو الذي يقود إلى حلّ مواطن الخلاف. {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فذلك هو الخطّ المستقيم الذي يحفظ للإنسان المؤمن خطواته من الزلل، ويصونه من الانحراف، ويؤمن لحركته التوازن في مواجهة تعقيدات الحياة وتشابك الخطوط التي تحفل بها. فتكون طاعة الله في ما يشرعه، وطاعة الرسول في ما يفصّله ويطبّقه، هي النهج السليم الذي يمثّل الخطّ الفاصل بين الهدى والضلال. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأن الإيمان ليس فكراً مجرّداً يحدد للإنسان خط النظرية فحسب، بل هو ممارسة عملية فاعلة، في انطلاقته من أجل تغيير ذاته، وتغيير الحياة على أساس تلك النظرية...