معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } . أي فبرحمة من الله وما صلة كقوله ( فبما نقضهم ) .

قوله تعالى : { لنت لهم } . أي سهلت لهم أخلاقك ، وكثرة احتمالك ، ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم يوم أحد .

قوله تعالى : { ولو كنت فظاً } . يعني جافياً سيء الخلق قليل الاحتمال .

قوله تعالى : { غليظ القلب } . قال الكلبي : فظاً في القول غليظ القلب في الفعل .

قوله تعالى : { لانفضوا من حولك } . أي لنفروا وتفرقوا عنك ، يقال : فضضتهم فانفضواأي فرقتهم فتفرقوا .

قوله تعالى : { فاعف عنهم } . تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد .

قوله تعالى : { واستغفر لهم } . حتى أشفعك فيهم .

قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } . أي : استخرج آراهم واعلم ما عندهم ، من قول العرب شرت الدابة ، وشورتها إذا استخرجت جريها ، وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من موضعه واستخرجته . واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ، ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبوا وكرهوا . فقال بعضهم : هو خاص في المعنى ، أي : وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد ، قال الكلبي : يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو . وقال مقاتل وقتادة :أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييباً لقلوبهم ، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم . وقال الحسن : قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده .

أخبرنا أبو طاهر بن علي بن عبد الله الفارسي قال : أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، أخبرنا علي بن العباس المقانعي ، أخبرنا أحمد بن ماهان أخبرني أبي أخبرنا طلحة بن زيد ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .

قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } . لا على مشاورتهم ، أي قم بأمر الله وثق به واستعنه .

قوله تعالى : { إن الله يحب المتوكلين } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته ، المتبعين لأمره ، التاركين لزجره ، وأطاب لهم لفظه : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم .

قال قتادة : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم . و " ما " صلة ، والعربُ تصلها بالمعرفة كقوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] وبالنكرة كقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] وهكذا{[5981]} هاهنا قال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : برحمة من الله{[5982]} .

وقال الحسن البصري : هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به .

وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حَيْوة ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال : أخد بيدي أبو أمَامة الباهلي وقال : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَا أبَا أُمامَةَ ، إنَّ مِنَ الْمُؤْمِنينَ مَنْ يَلِينُ لِي قَلْبُه " . {[5983]} انفرد{[5984]} به أحمد{[5985]} .

ثم قال تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الفظ : الغليظ ، [ و ]{[5986]} المراد به هاهنا غليظ الكلام ؛ لقوله بعد ذلك : { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي : لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : أنه ليس بفَظٍّ ، ولا غليظ ، ولا سَخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح{[5987]} .

وروى أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي ، أنبأنا بشْر بن عُبَيد الدارمي ، حدثنا عَمّار بن عبد الرحمن ، عن المسعودي ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله أمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاس كَمَا أمَرني بِإقَامَة الْفَرَائِضِ " {[5988]} حديث غريب{[5989]} .

ولهذا قال تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } ولذلك{[5990]} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حَدَث ، تطييبًا لقلوبهم ؛ ليكونوا فيما يفعلونه{[5991]} أنشط{[5992]} لهم [ كما ]{[5993]} شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير{[5994]} فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب ، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [ شمالك ] {[5995]} مقاتلون .

وشاورهم - أيضا - أين يكون المنزل ؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموتَ ، بالتقدم إلى أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو ، فأشار جمهُورُهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم .

وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى عليه ذلك السَعْدَان : سعدُ بن معاذ وسعدُ بن عُبَادة ، فترك ذلك .

وشاورهم يومَ الحُدَيبية في أن يميل على ذَرَاري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لم نجيء{[5996]} لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال .

وقال عليه السلام{[5997]} في قصة{[5998]} الإفك : " أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا{[5999]} أهلِي ورَمَوهُم ، وايْمُ اللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ ، وأبَنُوهم بمَنْ - واللهِ - مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلا خَيْرًا " . واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة ، رضي الله عنها .

فكان{[6000]} [ صلى الله عليه وسلم ]{[6001]} يشاورهم في الحروب ونحوها . وقد اختلف الفقهاء : هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم ؟ على قولين .

وقد قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف{[6002]} بمصر ، حدثنا سعيد بن [ أبي ]{[6003]} مريم ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عَمْرو بن دينار ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[6004]} .

وهكذا رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر وعمر ، وكانا حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبَوَي المسلمين .

وقد روى الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شَهْرَ بن حَوْشَب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : " لوِ اجْتَمَعْنا{[6005]} فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا " {[6006]} .

وروى ابن مَرْدُويه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَزْم ؟ قال{[6007]} " مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ " {[6008]} .

وقد قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير{[6009]} عن شيبان{[6010]} عن عبد الملك بن عُمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " .

ورواه أبو داود والترمذي ، وحسّنه [ و ]{[6011]} النسائي ، من حديث عبد الملك بن عُمير بأبسط منه{[6012]} .

ثم قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، حدثنا أسود بن عامر ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي عَمْرو الشيباني ، عن أبي{[6013]} مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " . تفرد به{[6014]} .

[ وقال أيضا ]{[6015]} وحدثنا أبو بكر ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذَا اسْتَشَارَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَليشِر{[6016]} عليْهِ . تفرد به أيضا{[6017]} .

وقوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : إذا شاورتهم في الأمر وعزَمْت عليه فتوكل على الله فيه { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }


[5981]:في جـ، أ، و: "كذا".
[5982]:في أ: "فبما رحمة من الله - أي برحمة من الله - لنت لهم".
[5983]:في جـ، ر، أ، و"له قلبي".
[5984]:في جـ، ر، أ، و: "تفرد".
[5985]:المسند (5/267).
[5986]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[5987]:رواه البخاري في صحيحه برقم (4838).
[5988]:في أ: "الصلاة".
[5989]:ورواه ابن مرديه في ثلاثة مجالس من الأمالى برقم (42) وابن عدي في الكامل (2/15) والديلمي في مسند الفردوس برقم (659) من طريق بشر بن عبيد به. وبشر بن عبيد قال ابن عدي: منكر الحديث عن الأئمة. وساق له الذهبي أحاديث، منها هذا الحديث، ثم قال: "وهذه الأحاديث غير صحيحة فالله المستعان".
[5990]:في جـ، ر، أ، و: "وكذلك".
[5991]:في و: "ليكون ما يفعلونه".
[5992]:في ر: "أبسط".
[5993]:زيادة من جـ.
[5994]:في أ، و: "النفير".
[5995]:زيادة من جـ، أ، و.
[5996]:في أ: "لم نأت".
[5997]:في أ: "صلى الله عليه وسلم".
[5998]:في جـ، أ: "قضية".
[5999]:في جـ، ر: "آنبوا".
[6000]:في أ: "وكان".
[6001]:زيادة من و.
[6002]:في أ: "العلائي".
[6003]:زيادة من جـ، ر.
[6004]:المستدرك (3/70).
[6005]:في جـ، ر، أ، و: "اجتمعتما".
[6006]:المسند (4/227).
[6007]:في أ، و: "فقال".
[6008]:ذكره السيوطي في الدر (2/360) وعزاه إلى ابن مردويه.
[6009]:في جـ، أ: "بكر".
[6010]:في جـ، ر، أ: "سفيان".
[6011]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[6012]:سنن ابن ماجة برقم (3745) وسنن أبي داود برقم (5128) وسنن الترمذي برقم (2822، 2369، 2370).
[6013]:في جـ، ر: "ابن".
[6014]:سنن ابن ماجة برقم (3746) وقال البوصيري في الزوائد (3/181): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
[6015]:زيادة من و.
[6016]:في أ: "فليشير".
[6017]:سنن ابن ماجة برقم (3747).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

{ فبما رحمة من الله لنت لهم } أي فبرحمة ، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه . { ولو كنت فظا } سيئ الخلق جافيا . { غليظ القلب } قاسيه . { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك . { فاعف عنهم } فيما يختص بك . { واستغفر لهم } فيما لله . { وشاورهم في الأمر } أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه ، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارا برأيهم وتطييبا لنفوسهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة . { فإذا عزمت } فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى . { فتوكل على الله } في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك ، فإنه لا يعلمه سواه . وقرئ { فإذا عزمت } على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحدا . { إن الله يحب المتوكلين } فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

وقوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ، معناه : فبرحمة من الله «وما » قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها ، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها ، وهذه بمنزلة قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم }{[3653]} قال الزجاج : الباء بإجماع من النحويين صلة وفيه معنى التأكيد{[3654]} ، ومعنى الآية : التقريع لجميع من أخل يوم - أحد - بمركزه ، أي كانوا يستحقون الملام منك ، وأن لا تلين لهم ، ولكن رحم الله جميعكم ، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم ، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق ، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك { لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، وتفرقوا عنك ، والفظ : الجافي في منطقه ومقاطعه ، وفي صفة النبي عليه السلام في الكتب المنزلة : ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق{[3655]} ، وقال الجواري لعمر بن الخطاب : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله{[3656]} ؛ الحديث ، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين ، والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ومنه قول الشاعر{[3657]} : [ البسيط ]

أخشى فَظَاظَةَ عمٍّ أَوْ جَفَاءَ أخٍ . . . وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذى الْكَلِمِ

وغلظ القلب : عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر{[3658]} : [ البسيط ]

يُبْكَى عَلَيْنا ولا نَبْكي على أحد . . . لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكباداً من الإبلِ

والانفضاض : افتراق الجموع ومنه فض الخاتم .

قوله تعالى :

{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق ، فإذا صاروا في هذه الدرجة ، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة ، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلاً للاسشارة في الأمور . والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : { وأمرهم شورى بينهم }{[3659]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم :< ما خاب من استخار ولا ندم من استشار>{[3660]} ، وقال عليه السلام :< المستشار مؤتمن>{[3661]} ، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالماً ديناً ، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل ، فقد قال الحسن بن أبي الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير ، والشورى بركة ، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى ، وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، وقد قال في غزوة بدر : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) {[3662]} ، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد{[3663]} ، ثم سعد بن عبادة{[3664]} ، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل ، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع .

{ ما فرطنا في الكتاب من شيء }{[3665]} وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين ، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة - أحد - يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف ، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر » وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل ، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم ، والشورى مبينة على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه ، عزم عليه وأنفذه متوكلاً على الله ، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه ، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية{[3666]} ، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمتُ » - بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزماً منه ، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى : { لتحكم بين الناس بما أراك الله }{[3667]} ونحو قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }{[3668]} فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رمياً ، إذ كان ذلك متصلاً برمي محمد عليه السلام بالحصباء . وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي ، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله ، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد : وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل ، وإنما هو كما قال عليه السلام : ( قيدها وتوكل ) {[3669]} .


[3653]:- تكررت في الآيتين: (155) من سورة (النساء) و(13) من سورة (المائدة).
[3654]:- للعلماء في (ما) هذه كثيرة من الآراء، قيل: إنها نكرة تامة و(رحمة) بدل منها- وقيل: إنها استفهامية للتعجب، وقيل: إنها نافية- وكل قول من هذه الأقوال مردد وموضع مناقشة وبخاصة كونها استفهامية، وأصح الأقوال قول الزجاج وهي أنها للتأكيد. قال النابغة: المرء يهوى أن يعيــ ـش وطول عيش ما يضره
[3655]:- أخرجه ابن جرير في التفسير، والترمذي في الشمائل في باب ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم (بضم الخاء واللام). وأخرجه البيهقي، وأبو نعيم عن أم الدرداء أو امرأة أبي الدرداء. (القسطلاني في المواهب بشرح الزرقاني 6/193).
[3656]:- أخرجه البخاري في فضل عمر، وفي صفة إبليس، ومسلم في الفضائل، والنسائي في المناقب، وفي اليوم والليلة. (القسطلاني5/302). والجواري: جمع جارية.
[3657]:- نسبه أبو تمام في الحماسة (شرح المرزوقي: (282-284) إلى إسحاق بن خلف وهو من أبيات يشكو فيها الفقر ويحاذر على بنته أميمة من ذل اليتم والفقر ويتمنى لشدة محبته لها موتها.
[3658]:- قائل البيت: المخبل السعدي، وهو شاعر مخضرم، قيل: اسمه ربيعة بن مالك، وقيل: كعب بن ربيعة، وقيل الربيع بن ربيعة. "الشعر والشعراء" و"الأغاني" و"الإصابة".
[3659]:- من الآية (38) من سورة الشورى.
[3660]:- أخرجه الطبراني في الأوسط، عن أنس (الجامع الصغير2/ 425)
[3661]:- أخرجه الأربعة عن أبي هريرة، والترمذي عن أم سلمة، وابن ماجة- عن ابن مسعود (الجامع الصغير1/575).
[3662]:- ذكره ابن هشام في سيرته (2/447) كما نقله عنه القسطلاني في "المواهب اللدنية" بهذا اللفظ (1/412).
[3663]:- هو المقداد بن عمرو الكندي البهراني، وقيل: الحضرمي، تبنّاه الأسود صغيرا فنسب إليه، وهو ممن شهد بدرا فارسا مع بقية المشاهد بعدها، وهاجر الهجرتين، وهو أحد السبعة الذين هم أول من أظهر الإسلام، واشتهرت كلمته التي سر بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، توفي بمصر، ودفن بالمدينة، صلى عليه عثمان بن عفان. "الإصابة" و"الاستيعاب".
[3664]:- هو سعد بن عبادة الأنصاري، سيد الخزرج المكني أبا ثابت وأبا قيس، ويقال له: الكامل، شهد العقبة، وهو أحد النقباء، وصاحب راية ورياسة الأنصار، كما عرف هو وأهله بالجود والكرم، واختلف في شهوده بدرا، وتوفي بحوران في الشام سنة: 15 وقيل: 16 "الإصابة" و"الاستيعاب".
[3665]:- من الآية (38) من سورة الأنعام.
[3666]:- والشورى تعطى معنى استخراج رأي المستشار، ولهذا يقال: إنها مأخوذة من قولهم: (شرت العسل). وأنشدوا قول خالد بن زهير: وقاسمتها بالله حقا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها والسلوى على كلامه: العسل، وقد جاء في (اللسان): قال الزجاج: أخطأ خالد، إنما السلوى طائر. وقال الفارسي: السلوى: كل ما سلاك، وقيل للعسل: سلوى لأنه يسليك بحلاوته وتأتيه عن غيره يرد بذلك على أبي إسحاق الزجاج. وقال الأعشى: كأن جنيا من الزنجبيـ ـل خالط فاها وأريا مشورا وجني: فعيل من جني الثمر يجنيه، والزنجبيل: نبات طيب الرائحة معروف، والأري: عسل النحل، وشار العسل واشتاره: جمعه.
[3667]:- من الآية (105) من سورة النساء.
[3668]:- من الآية (17) من سورة الأنفال.
[3669]:- أخرجه البيهقي في "الشعب" عن عمرو بن أمية الضمري. "الجامع الصغير 2/219"، كما رواه الترمذي عن أنس بلفظ: (اعقلها وتوكل). ورواية البيهقي أصح كما في "الجامع الصغير" 1/155".