السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

{ فبما رحمة } أي : فبرحمة { من الله لنت لهم } فما مزيدة للتأكيد والجار والمجرور مقدّم للدلالة على أنّ لينه صلى الله عليه وسلم ما كان إلا برحمة من الله ، ومعنى الرحمة توفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه { ولو كنت فظاً } أي : سيئ الخلق { غليظ القلب } أي : جافياً { لانفضوا } أي : تفرّقوا { من حولك } أي : عنك وذلك ؛ لأنّ المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله تعالى إلى الخلق وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه وسكون نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم كريماً يتجاوز عن ذنوبهم ويعفو عن سيئاتهم ويخصهم بالبر والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وغلظ القلب ويكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء كثير القيام بإعانة الفقراء . وحمل القفال هذه الآية على واقعة أحد قال : فبما رحمة من الله لنت لهم يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام ، ولو كنت فظاً غليظ القلب فشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام ، فكان ذلك مما يطمع العدوّ فيك وفيهم { فاعف } أي : تجاوز { عنهم } أي : ما أتوه { واستغفر لهم } ذنوبهم حتى أشفعك فيهم فأغفر لهم .

واختلفوا في معنى قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } على وجوه أحدها : إنّ ذلك يقتضي شدّة محبته لهم فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة لهم فيحل سوء الخلق والفظاظة وثانيها : إنه عليه الصلاة والسلام وإن كان أكمل الناس عقلاً إلا أنّ عقول الخلق غير متناهية ، فقد يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر ببال آخر لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا ، قال عليه الصلاة والسلام : ( أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم ) ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم : ( ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم ) وثالثها : قال الحسن وسفيان بن عيينة : إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة وتصير سنة ورابعها : أنه عليه الصلاة والسلام شاورهم في وقعة أحد أشاروا عليه بالخروج وكان ميله أن لا يخرج ، فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم شيء ، فأمر الله تعالى بمشاورتهم بعد تلك الواقعة ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة وخامسها : أمره بالمشاورة لا ليستفيد منهم رأياً ولكن ليعلم مقادير عقولهم ومحبتهم له . وذكروا أيضاً وجوهاً أخر ، وفي هذا القدر كفاية واتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور الأمّة فيه ؛ لأنّ النص إذا جاء بطل الرأي { فإذا عزمت } أي : قطعت الأمر على إمضاء ما تريد بعد المشاورة { فتوكل على الله } أي : ثق به لا بالمشاورة فليس التوكل إهمال التدبير بالكلية بل بمراعاة الأسباب مع تفويض الأمر إلى الله تعالى { إن الله يحب المتوكلين } عليه فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح .