تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

الآية 159 وقوله تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم } يحتمل هذا وجهين : يحتمل فبرحمة من الله عليك { لنت لهم } فيجب أن يكون الإنسان رحيما على ( خلق الله ) {[4533]} على ما جاء في الخبر قال لأصحابه " لن تدخلوا الجنة حتى تراحموا " فقيل : كلنا نرحم يا رسول الله فقال : " ليس تراحم الرجل ولده أو أخاه ولكن تراحم بعضهم بعضا " ( بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد 8/187 وعزاه للطبراني ) أو كلام نحو هذا ، وما جاء : " من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا " ( الترمذي 1921 ) وما جاء : " من لم يرحم أهل الأرض لم يرحمه أهل السماء " ( المنذري في الترغيب 3334 ) كما قال الله تعالى : { قل للذين آمنوا يغفرون للذين لا يرجون أيام الله } الآية ( الجاثية 14 ) وقد أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين إلا عند المعاندة والمكابرة فحينئذ أمر بالقتال كقوله لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون فقال : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } ( طه 44 ) وكان اللين من القول أنفذ في{[4534]} القلوب وأسرع إلى الإجابة وادعى إلى الطاعة من الخشن من القول وذلك ظاهر في الناس لذلك أمر الله عز وجل رسله{[4535]} باللين من المعاملة والرحمة على خلقه وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله : { ولو كنت فظا } في القول { غليظ القلب لانفضوا من حولك } أي لو كنت في الابتداء فظا غليظا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك .

وقوله تعالى : { فاعف عنهم } بأذاهم إياك ولا تكافئهم { واستغفر لهم } / 72- أ/ فيما بينهم وبين ربهم ويحتمل قوله : { فاعف عنهم واستغفر لهم } بما عصوك وألا تنتصر منهم . وكذلك أمر الله المؤمنين جملة أن يعفوا عنهم وألا ينتصروا منهم بقوله { فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } ( البقرة 109 ) وكان أرجى آية للمؤمنين بقوله { واستغفر لهم } كما قال الله عز وجل : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون } الآية ( الجاثية 14 ) وقوله أيضا { واستغفر لذنبك } ( غافر 55 ) وللمؤمنين والمؤمنات لا جائز أن يأمر بالاستغفار لهم ، ثم لا يفعل . وإذا فعل الإيجاب فدل أنه ما ذكرنا دعاء إبراهيم صلوات الله عليه { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } ( إبراهيم 41 ) ودعاء نوح : { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات } ( نوح 28 ) ولا يجوز أن يدعو هؤلاء الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ثم لا يجاب لهم .

وقوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمر ففيه ( وجهان اثنان :

أحدهما ){[4536]} : انه لا يجوز أن يأمره بالمشاورة في ما فيه النص وإنما يأمر بها في ما لا نص فيه ففيه دليل جواز العمل بالاجتهاد .

والثاني : لا يخلو أمره بالمشاورة إما لعظم قدرهم وعلو منزلتهم عند الله أو لفضل العقل ورجحان اللب . فكيف ما كان فلا يجوز لمن دونهم أن يسووا أنفسهم بهم ، ولا جائز أن يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه صلى الله عليه وسلم ثم لا يعمل برأيهم . دل أنهم إذا اجتمعوا كان الحق لا يشذ عنهم . وقال بعضهم : إنما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم في أمر الحرب والقتال .

وعن الحسن رضي الله عنه لما أنزل الله تعالى قوله : { وشاورهم في الأمر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ورسوله غنيان عن مشاورتكم " ( البيهقي في الشعب 7542 ) ولكنه أن يكون سنة لأمته وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقرأ { وشاورهم } في بعض الأمور وهو يأتيه وحي السماء لانه أطيب لأنفس القوم وأن القوم إذا شاورهم : بعضهم بعضا فأرادوا بذلك وجه الله عزم الله لهم على أرشده وقيل : إن العرب في الجاهلية كانوا إذا ( رأوا سيدها ){[4537]} يقطع أمر دونهم لا يشاورهم في الأمر شق عليهم فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم في الأمر إذا أراد فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم .

في بعض الأخبار قيل : يا رسول اله : ما العزم{[4538]} قال : " أن تستشير ذا الرأي ثم تطيعه " ( البيهقي في الكبرى 10/112 ) وكان يقال : ما هلك امرؤ عن مشورة ولا سعد بتور ، قيل البتور الذي لا يستشير ويعمل برأيه .

وقوله تعالى{[4539]} { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أي لا تتكلن إلى نفسك ولا تعتمدن على أحد ولكن اعتمد على الله ، وكل الأمر إليه . وقيل : فإذا فرق ذلك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك فإن كان في أمر الحرب على ما قيل فهو والله أعلم : لا تعجبن بالكثرة ولا ترين النصر به ، ولكن اعتمد بالنصر على الله كقوله تعالى : { إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا } ( التوبة 25 ) والله أعلم بما أراد بذلك وكقوله{[4540]} : { وما النصر إلا من عند الله } ( آل عمران 162 ) .


[4533]:في الأصل و م: خلقه.
[4534]:في الأصل و م: من
[4535]:في الأصل و م: ارسلهم.
[4536]:في الأصل و م: وجوه ثلاثة أحدهما.
[4537]:في الأصل و م: أرادوا سيدها أن.
[4538]:من م، في الأصل الحزم.
[4539]:في م: عز وجل.
[4540]:الواو ساقطة من الأصل و م.