تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

لنت لهم : ترفّقت بهم .

الفظ : الشرس الأخلاق ، الجافي العشرة .

القلب الغليظ : القاسي الذي لا يتأثر باللطف والرقة .

انفض : تفرق .

المشاورة : أخذ آراء الذين حولك من العقلاء وذوي الرأي .

التوكل : تفويض الأمر إلى الله ، للثقة بحسن تدبيره ، مع أخذ الأهبة واستكمال العدة .

بعد أن أرشد الله المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ، اتجه في الخطاب هنا إلى الرسول الكريم بهذا التعبير الدقيق اللبق ، والمدح العظيم . فهو يريد أن يلطّف الجو بعد معركة أحد ، ويخفف مما في نفس الرسول على القوم الذين كانوا سبباً في تلك النكبة .

ويتوجه سبحانه إلى الرسول بهذه الآية والتي بعدها يطيّب قلبه ، وإلى المسلمين يشعرهم بنعمة الله عليهم به ، ويذكّرهم رحمة الله الممثلة في خُلقه الكريم .

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } من رحمة الله عليك أن عاملتَ أصحابك بعد رجوعهم باللين والرفق ، وهذا شيء خصّك الله به ، فقد حباك بآداب القرآن العالية وحِكمه السامية ، فهانت عليك المصائب . هذا مع أنَّ كثيرا من أصحابك قد استحقوا اللوم والتعنيف ، إذ تركوك وقت اشتداد الهول فيما الحرب قائمة على أشدها .

{ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } ولو كنت يا محمد ، رجلاً خشناً جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك ، ونفرت قلوبهم منك ، فلم تتم هدايتُهم وإرشادهم إلى الصراط المستقيم .

هكذا يجب أن تكون أخلاق الزعيم والقائد والحاكم ، فإن الناس في حاجة إلى رعاية فائقة وقلب رحيم ، وحلِم لا يضيق بجهلهم وأخطائهم ، لا إلى حاكم متعالٍ يتطاول بالغطرسة وادّعاء العظمة في غير حق . وما أرحمَ ما كان قلب الرسول الكريم ، وما أجمل ما كانت سيرته مع الناس ، ما غضِب لنفسه قط ، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري ، بل وَسِعَهم حلمُه وبره وعطفه . وسيرته طافحة بذلك .

{ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } ما أحلى هذا الكلام وما أرقّه وأعطفه ! وما أعظم قوله سبحانه { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } ، فهو نص قاطع في تقرير مبدأ الشورى في الحكم الإسلامي ، لا الاستئثار بالسلطة الفردية المتحكمة . وإنه لمبدأ عظيم هذا الذي يقرره القرآن بصدد ذلك ، وهو المعمول به اليوم عند الأمم الراقية التي سبقتنا . أما نحن فقد تأخرنا لأننا أدرنا ظهرنا لهذه التعاليم الحكيمة الراشدة ، واتّبعنا مبدأ التسلُّط والقهر . واتخذنا اسم «الرعيّة » وكأنه من الرعي للسائمة لا من الرعاية للبشَر .

فإذا عقدت عزمك يا محمد ، على أمر بعد المشاورة ، فامض فيه متوكلاً على الله ، إن الله يحب الواثقين به ، فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم .

إذنْ فالتوكل يجب أن يكون مقروناً بالسعي والعزم والعمل ، لا نابعاً من التقصير ورغبة في التخلص من العناء ، وإلا فهو تواكلٌ يمقُتُه الله .

في الحديث المعروف الذي رواه الترمذي والبيهقي وأبو نعيم وابن أبي الدنيا وابن حبّان . «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أعقلُ ناقتي وأتوكل أو أطلقها وأتوكل ؟ فقال له الرسول الكريم : «اعقِلها وتوكل » .

وقد سار هذا الحديث مثلاً .