فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

( فبما رحمة من الله لنت لهم ) " ما " فاصلة غير كافية مزيدة للتأكيد قاله سيبويه وغيره ، وقال ابن كيسان والأخفش : إنها نكرة في موضع الجر بالباء ، ورحمة بدل منها ، والأول أولى بقواعد العربية ، ومثله قوله تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم ) والجار والمجرور متعلق بقوله ( لنت ) وقدم عليه لإفادة القصر ، وتنوين رحمة للتعظيم .

والمعنى أن لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه ، وقيل إن ما استفهامية والمعنى فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وفيه معنى التعجب وهو بعيد ، ولو كان كذلك لقيل فيم رحمة بحذف الألف ، والمعنى سهلت لهم أخلاقك وكثرت احتمالك ، ولم تسرع إليهم بتعنيف :على ما كان يوم أحد منهم .

وفيه تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاقهم للملامة والتعنيف بموجب الجبلة البشرية أو من سعة ساحة مغفرته تعالى ورحمته .

( ولو ) لم تكن كذلك بل ( كنت فظا غليظ القلب ) أي جافيا قاسي الفؤاد سئ الخلق قليل الاحتمال ، والفظ الغليظ الجافي ، وقال الراغب :الفظ هو الكريه الخلق ، وذلك مستعار من الفظ وهو ماء الكرش وذلك مكروه شربه إلا في ضرورة ، وغلظ القلب قساوته ، وقلة إشفاقه وعدم انفعاله للخير ، وجمع بينهما تأكيدا .

( لانفضوا من حولك ) أي لنفروا عنك وتفرقوا حتى لا يبقى منهم أحد عندك ، والانفضاض التفرق في الأجزاء وانتشارها ، ومنه فض ختم الكتاب ، ثم استعير هنا لانفضاض الناس وغيرهم أي لتفرقوا عن حولك هيبة لك واحتشاما منك بسبب ما كان من توليتهم ، وإذا كان الأمر كما ذكر ( فاعف عنهم ) فيما يتعلق بك من الحقوق ( واستغفر لهم ) الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه .

( وشاورهم في الأمر ) الذي يرد عليك أي أمر كان مما يشاور في مثله او في أمر الحرب خاصة كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم ، واستجلاب مودتهم ، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منهم أحد بعدك .

قال السمين :جاء على أحسن النسق وذلك انه امر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا انتهوا إلى هذا المقام امر ان يستغفر لهم ما بينهم وبين الله لتنزاح عنهم التبعات ، فلما صاروا إلى هنا امر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين متصفين منهما انتهى .

والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها ، قال أهل اللغة الاستشارة مأخوذة من قول العرب شرت الدابة وشورتها إذا علمت خيرها ، وقيل من قولهم شرت العسل إذا أخذته من موضعه .

قال ابن خواز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها .

وحكى القرطبي عن ابن عطية انه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين .

وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب قال السيوطي بسند حسن عن ابن عباس قال لما نزلت ( وشاورهم في المر ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن الله جعلها رحمة لأمتي ، فمن استشار من أمتي لم يعدم رشدا ، ومن تركها لم يعدم غيا .

وعنه في الآية قال هم أبو بكر وعمر ، وقال الحسن قد علم الله ان ما به إلى مشاورتهم حاجة ، ولكن أراد أن يستن به من بعده من أمته .

وقيل أمره بها ليعلم مقادير عقولهم و أفهامهم لا يستفيد منهم رأيا ، وروى البغوي بسنده عن عائشة انها قالت ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وللاستشارة فوائد كثيرة ذكرها بعض المفسرين لا نطول بذكرها ، ويغني عنها امر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بها ، ولنعم ما قيل في ذلك .

وشاور إذا شاورت كل مهذب لبيب أخي حزم لترشد الأمر

ولا تك ممن يستبد برأيه فتعجز أو لا تستريح من الفكر

ألم تر ان الله قال لعبده وشاورهمو في الأمر حتما بلا نكر

( فإذا عزمت ) على امضاء ما تريد عقب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك ( فتوكل على الله )

في فعل ذلك أي اعتمد عليه وفوض إليه ، وقيل إن المعنى فإذا عزمت على أمر ان تمضي فيه فتوكل على الله وثق به لا على المشاورة ، والعزم في الأصل قصد الإمضاء أي قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله .

وفيه إشارة إلى ان التوكل ليس هو إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل بل هو مراعاة الأسباب الظاهرة ، مع تفويض الأمر إلى الله ، والاعتماد عليه بالقلب .

عن علي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم قال مشاورة أهل الرأي ثم أتباعهم ، أخرجه ابن مردويه ( إن الله يحب المتوكلين ) عليه في جميع أمورهم .