التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

{ فبما رحمة } ما زائدة للتأكيد { لانفضوا } أي تفرقوا .

{ فاعف عنهم } فيما يختص بك واستغفر لهم فيما يختص بحق الله .

{ وشاورهم } المشاورة مأمور بها شرعا ، وإنما يشاور النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الرأي في الحروب وغيرها لا في الأحكام الشرعية ، وقال ابن عباس : وشاورهم في بعض الأمر .

{ فإذا عزمت فتوكل على الله } التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها ، وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها ، وهو من أعلى المقامات ، لوجهين :

أحدهما : قوله : { إن الله يحب المتوكلين } .

والآخر : الضمان الذي في قوله :{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، وقد يكون واجبا لقوله تعالى :{ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، فجعله شرطا في الإيمان ، والظاهر قوله جل جلاله :{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ، فإن الأمر محمول على الوجوب .

واعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب :

الأولى : أن يعتمد العبد على ربه كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له ، وقيامه بمصالحه .

والثانية : أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه فإنه لا يعرف سواها ، ولا يلجأ إلا إليها .

والثالثة : أن يكون العبد مع ربه : كالميت بين يدي الغاسل ، قد أسلم نفسه إليه بالكلية ، فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه بخلاف صاحب الثانية وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختبار بخلاف صاحب الثالثة وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله : وإلهكم إله واحد ، فهي تقوى بقوته ، وتضعف بضعفه ، فإن قيل : هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا ؟ فالجواب : أن الأسباب على ثلاثة أقسام :

أحدها : سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى : فهذا لا يجوز تركه ؛ كالأكل لدفع الجوع ، واللباس لدفع البرد .

والثاني : سبب مظنون : كالتجارة وطلب المعاش ، وشبه ذلك ، فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب ، لا من أعمال البدن ، ويجوز تركه لمن قوي عليه .

والثالث : سبب موهوم بعيد ، فهذا يقدم فعله في التوكل ، ثم إن فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية ، فإن المتوكل له مراد واختيار ، وهو يطلب مراده باعتماده على ربه ، وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار ، بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى ، فهو أكمل أدبا مع الله تعالى .