( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين159 ) .
( فبما رحمة من الله لنت لهم ) أي للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام ، وللمؤمنين عموما كما قال تعالى : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) . و ( ما ) مزيدة للتوكيد أو نكرة . و ( رحمة ) بدل منها مبين لإبهامها . والتنوين للتفخيم ، أي ما لنت هذا اللين الخارق للعادة ، مع ما سبب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة ، لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به ، الا بسبب رحمة عظيمة ( ولو كنت فظا ) أي سيء الخلق خشن الكلام ( غليظ القلب ) أي قاسيه وشديده . تعاملهم بالعنف والجفا ( لانفضوا ) أي تفرقوا ( من حولك ) فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك . ولكن الله جعلك سهلا سمحا طلقا لينا لطيفا بارا رؤوفا رحيما . ( فاعف عنهم ) أي فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم ( واستغفر لهم ) إتماما للشفقة عليهم ( وشاورهم في الأمر ) أي أمر الحرب وغيره توددا إليهم وتطييبا لنفوسهم واستظهارا بآرائهم وتمهيدا لسنة المشاورة في الأمة . وقد ساق العلامة الرازي وجوها أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم . منها : أنه صلى الله عليه وسلم ، وان كان أكمل الناس عقلا ، إلا أن علوم الخلق متناهية . فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله . لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا . فإنه صلى الله عليه وسلم قال : " أنتم أعرف / بأمور دنياكم " . ومنها أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل أنه صلى الله عليه وسلم محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله . وهذا هو السر عن الاجتماع في الصلوات ، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . انتهى .
وقد ثبت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عدة أمور : منها أنه شاورهم في يوم بدر في الذهاب / إلى العير . فقالوا : " يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) . ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك ، وعن يمينك وشمالك مقاتلون " . وشاروهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو . فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم . وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار عامئذ . فأبى ذلك عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك . وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين فقال له الصديق : إنا لم نجئ لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال .
وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الافك : " أشيروا علي ، معشر المسلمين ، في قوم أبنوا أهلي / ورموهم . وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء . وأبنوهم بمن ، والله ، ما علمت عليه إلا خيرا " . واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها . فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها . أفاده الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى .
قال الخفاجي : في الآية إرشاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم . وقال الرازي : دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي . والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة . انتهى .
وقال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف . ( فإذا عزمت ) أي بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك ( فتوكل على الله ) في الإعانة على إمضاء ما عزمت ، لا على المشورة وأصحابها . قال الرازي : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه ، كما يقول بعض الجهال . وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق ( إن الله يحب المتوكلين ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.