قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } . أي فبرحمة من الله وما صلة كقوله ( فبما نقضهم ) .
قوله تعالى : { لنت لهم } . أي سهلت لهم أخلاقك ، وكثرة احتمالك ، ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم يوم أحد .
قوله تعالى : { ولو كنت فظاً } . يعني جافياً سيء الخلق قليل الاحتمال .
قوله تعالى : { غليظ القلب } . قال الكلبي : فظاً في القول غليظ القلب في الفعل .
قوله تعالى : { لانفضوا من حولك } . أي لنفروا وتفرقوا عنك ، يقال : فضضتهم فانفضواأي فرقتهم فتفرقوا .
قوله تعالى : { فاعف عنهم } . تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد .
قوله تعالى : { واستغفر لهم } . حتى أشفعك فيهم .
قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } . أي : استخرج آراهم واعلم ما عندهم ، من قول العرب شرت الدابة ، وشورتها إذا استخرجت جريها ، وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من موضعه واستخرجته . واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ، ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبوا وكرهوا . فقال بعضهم : هو خاص في المعنى ، أي : وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد ، قال الكلبي : يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو . وقال مقاتل وقتادة :أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييباً لقلوبهم ، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم . وقال الحسن : قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده .
أخبرنا أبو طاهر بن علي بن عبد الله الفارسي قال : أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، أخبرنا علي بن العباس المقانعي ، أخبرنا أحمد بن ماهان أخبرني أبي أخبرنا طلحة بن زيد ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } . لا على مشاورتهم ، أي قم بأمر الله وثق به واستعنه .
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
أي : برحمة الله لك ولأصحابك ، منَّ الله عليك أن ألنت{[168]} لهم جانبك ، وخفضت لهم جناحك ، وترققت عليهم ، وحسنت لهم خلقك ، فاجتمعوا عليك وأحبوك ، وامتثلوا أمرك .
{ ولو كنت فظا } أي : سيئ الخلق { غليظ القلب } أي : قاسيه ، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ .
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين ، تجذب الناس إلى دين الله ، وترغبهم فيه ، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين ، وتبغضهم إليه ، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص ، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول ، فكيف بغيره ؟ !
أليس من أوجب الواجبات ، وأهم المهمات ، الاقتداء بأخلاقه الكريمة ، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم ، من اللين وحسن الخلق والتأليف ، امتثالا لأمر الله ، وجذبا لعباد الله لدين الله .
ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم ، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله ، فيجمع بين العفو والإحسان .
{ وشاورهم في الأمر } أي : الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر ، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره :
منها : أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله .
ومنها : أن فيها تسميحا لخواطرهم ، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث ، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي : والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه ، وعلموا أنه ليس بمستبد{[169]} عليهم ، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع ، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته ، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم ، بخلاف من ليس كذلك ، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة ، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة .
ومنها : أن في الاستشارة تنور الأفكار ، بسبب إعمالها فيما وضعت له ، فصار في ذلك زيادة للعقول .
ومنها : ما تنتجه الاستشارة من الرأي : المصيب ، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله ، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب ، فليس بملوم ، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا ، وأغزرهم علما ، وأفضلهم رأيا- : { وشاورهم في الأمر } فكيف بغيره ؟ !
ثم قال تعالى : { فإذا عزمت } أي : على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه ، إن كان يحتاج إلى استشارة { فتوكل على الله } أي : اعتمد على حول الله وقوته ، متبرئا من حولك وقوتك ، { إن الله يحب المتوكلين } عليه ، اللاجئين إليه .
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ } : فبرحمة من الله و«ما » صلة ، وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله : { إنّ اللّهَ لا يَستَجِيي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها } والعرب تجعل «ما » صلة في المعرفة والنكرة ، كما قال : { فبمَا نقضِهِمْ ميثاقهُمْ } والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم . وهذا في المعرفة ، وقال في النكرة : { عمّا قليلٍ ليُصبحنَ نادمينَ } والمعنى : عن قليل . وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة ، فيرفع ما بعدها أحيانا على وجه الصلة ، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها ، كما قال الشاعر :
فكَفَى بِنَا فَضْلاً على مَنْ غيرِناحُبّ النَبِيّ محَمّدٍ إيّانا
إذا جعل غير صلة رفعت بإضمار هو ، وإن حفضت أتبعت من فأعربته ، فذلك حكمة على ما وصفنا مع النكرات ، فأما إذا كانت الصلة معرفة ، كان الفصيح من الكلام الإتباع ، كما قيل : { فبما نَقْضِهْم مِيثَاقَهُمْ } والرفع جائز في العربية .
وبنحو ما قلنا في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ } قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم .
وأما قوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك } فإنه يعني بالفظّ : الجافي ، وبالغليظ القلب : القاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة ، وكذلك صفته صلى الله عليه وسلم ، كما وصفه الله : { بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فتأويل الكلام : فبرحمة الله يا محمد ورأفته بك ، وبمن آمن بك من أصحابك ، لنت لهم لتبّاعك وأصحابك فسهلت لهم خلائقك ، وحسنت لهم أخلاقك ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه ، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه ، وأغضبت عن كثير ممن لو جفوت به ، وأغلظت عليه ، لتركك ففارقك ، ولم يتبعك ، ولا ما بعثت به من الرحمة ، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم ، فبرحمة من الله لنت لهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } : إي والله ، لطهره الله من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبا رحيما بالمؤمنين رءوفا . وذكر لنا أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة : «ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويصفح » .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } قال : ذكر لينه لهم ، وصبره عليهم لضعفهم ، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم .
وأما قوله : { لانْفَضُوا مِنْ حَوْلِكَ } فإنه يعني : لتفرّقوا عنك . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } قال : انصرفوا عنك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { لا نْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } أي لتركوك .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوكّلِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { فاعْفُ عَنْهُمْ } : فتجاوز يا محمد عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك ، وبما جئت به من عندي ، ما نالك من أذاهم ، ومكروه في نفسك . { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جرم ، واستحقوا عليه عقوبة منه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فاعْفُ عَنْهُمْ } : أي فتجاوز عنهم ، { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ذنوب من قارف من أهل الإيمان منهم .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم ، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه ؟ فقال بعضهم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدوّ ، تطييبا منه بذلك أنفسهم ، وتألفا لهم على دينهم ، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم ، وإن كان الله عزّ وجلّ قد أغناه بتدبيره له أموره وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوَكّلِينَ } أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور ، وهو يأتيه وحي السماء ، لأنه أطيب لأنفس القوم ، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا ، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور ، وهو يأتيه الوحي من السماء لأنه أطيب لأنفسهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } : أي لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم وإن كنت عنهم غنيا ، تؤلفهم بذلك على دينهم .
وقال آخرون : بل أمره بذلك في ذلك ، وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير ، لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : ما أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن إياس بن دغفل ، عن الحسن : ما شاور قوم قط ، إلا هدوا لأرشد أمورهم .
وقال آخرون : إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه ، مع إغنائه بتقويمه إياه ، وتدبيره أسبابه عن آرائهم ، ليتبعه المؤمنون من بعده ، فيما حزبهم من أمر دينهم ، ويستنوا بسنته في ذلك ، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابه وتباعه في الأمر ، ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم ، فيتشاوروا بينهم ، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم¹ لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحقّ في ذلك ، لم يخلهم الله عزّ وجلّ من لطفه ، وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه . قالوا : وذلك نظير قوله عزّ وجل الذي مدح به أهل الإيمان : { وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان بن عيينة في قوله : { وَشاوِرهُمْ فِي الأمْرِ } قال : هي للمؤمنين أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أثر .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وسلم بمشاورة أصحابه ، فيما حزبه من أمر عدوّه ومكايد حربه ، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان ، وتعريفا منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها ، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم ، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله . فأما النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإن الله كان يعرّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك . وأما أمته ، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتأخّ للحقّ وإرادة جميعهم للصواب ، من غير ميل إلى هوى ، ولا حيد عن هدى¹ فالله مسدّدهم وموفقهم .
وأما قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } فإنه يعني : فإذا صحّ عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك ، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به ، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها ، وتوكل فيما تأتي من أمورك وتدع وتحاول أو تزاول على ربك ، فثق به في كل ذلك ، وارض بقضائه في جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم ، فإن الله يحبّ المتوكلين ، وهم الراضون بقضائه ، والمستسلمون لحكمه فيهم ، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوكّلِينَ } فإذا عزمت : أي على أمر جاءك مني ، أو أمر من دينك في جهاد عدوّك ، لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك ، فامض على ما أمرت به ، على خلاف من خالفك ، وموافقة من وافقك ، وتوكل على الله : أي ارض به من العباد ، إن الله يحبّ المتوكلين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ، ويستقيم على أمر الله ، ويتوكل على الله .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } . . . الاَية ، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه .
{ فبما رحمة من الله لنت لهم } أي فبرحمة ، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه . { ولو كنت فظا } سيئ الخلق جافيا . { غليظ القلب } قاسيه . { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك . { فاعف عنهم } فيما يختص بك . { واستغفر لهم } فيما لله . { وشاورهم في الأمر } أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه ، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارا برأيهم وتطييبا لنفوسهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة . { فإذا عزمت } فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى . { فتوكل على الله } في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك ، فإنه لا يعلمه سواه . وقرئ { فإذا عزمت } على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحدا . { إن الله يحب المتوكلين } فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح .
وقوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ، معناه : فبرحمة من الله «وما » قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها ، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها ، وهذه بمنزلة قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم }{[3653]} قال الزجاج : الباء بإجماع من النحويين صلة وفيه معنى التأكيد{[3654]} ، ومعنى الآية : التقريع لجميع من أخل يوم - أحد - بمركزه ، أي كانوا يستحقون الملام منك ، وأن لا تلين لهم ، ولكن رحم الله جميعكم ، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم ، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق ، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك { لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، وتفرقوا عنك ، والفظ : الجافي في منطقه ومقاطعه ، وفي صفة النبي عليه السلام في الكتب المنزلة : ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق{[3655]} ، وقال الجواري لعمر بن الخطاب : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله{[3656]} ؛ الحديث ، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين ، والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ومنه قول الشاعر{[3657]} : [ البسيط ]
أخشى فَظَاظَةَ عمٍّ أَوْ جَفَاءَ أخٍ . . . وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذى الْكَلِمِ
وغلظ القلب : عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر{[3658]} : [ البسيط ]
يُبْكَى عَلَيْنا ولا نَبْكي على أحد . . . لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكباداً من الإبلِ
والانفضاض : افتراق الجموع ومنه فض الخاتم .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق ، فإذا صاروا في هذه الدرجة ، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة ، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلاً للاسشارة في الأمور . والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : { وأمرهم شورى بينهم }{[3659]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم :< ما خاب من استخار ولا ندم من استشار>{[3660]} ، وقال عليه السلام :< المستشار مؤتمن>{[3661]} ، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالماً ديناً ، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل ، فقد قال الحسن بن أبي الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير ، والشورى بركة ، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى ، وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، وقد قال في غزوة بدر : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) {[3662]} ، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد{[3663]} ، ثم سعد بن عبادة{[3664]} ، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل ، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع .
{ ما فرطنا في الكتاب من شيء }{[3665]} وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين ، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة - أحد - يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف ، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر » وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل ، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم ، والشورى مبينة على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه ، عزم عليه وأنفذه متوكلاً على الله ، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه ، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية{[3666]} ، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمتُ » - بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزماً منه ، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى : { لتحكم بين الناس بما أراك الله }{[3667]} ونحو قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }{[3668]} فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رمياً ، إذ كان ذلك متصلاً برمي محمد عليه السلام بالحصباء . وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي ، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله ، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد : وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل ، وإنما هو كما قال عليه السلام : ( قيدها وتوكل ) {[3669]} .