مكية ، وهي مائة وخمس وستون آية ، نزلت بمكة جملة ، ليلاً معها سبعون ألف ملك ، قد سدوا ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبحان ربي العظيم ، سبحان ربي العظيم ، وخر ساجداً ) . وروي مرفوعاً : ( من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره ) . وقال الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " نزلت سورة الأنعام بمكة ، إلا قوله : { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر ثلاث آيات ؛ وقوله تعالى : { قل تعالوا } إلى قوله : { لعلكم تتقون } ، فهذه الست آيات مدنيات " .
قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } ، قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة ، قوله تعالى : { الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً } الآية ، [ الإسراء :111 ] . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد ، فقال : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } ، وختمه بالحمد فقال :{ وقضي بينهم بالحق } ، أي : بين الخلائق ، { وقيل الحمد لله رب العالمين } [ الزمر :75 ] . قوله : { الحمد لله } حمد الله نفسه تعليماً لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض ، خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع للعباد .
قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ، والجعل بمعنى الخلق ، وقال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان ، إلا في هذه الآية ، فإنه يريد بهما الليل والنهار . وقال الحسن : { وجعل الظلمات والنور } يعني الكفر والإيمان ، وقيل : أراد بالظلمات الجهل ، وبالنور العلم . وقال قتادة : يعني الجنة والنار . وقيل معناه : خلق الله السموات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنور ، لأنه خلق السموات والنور قبل السموات ولأرض ، قال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض ، وخلق الظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ) .
قوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } ، أي : ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي : يشركون ، وأصله من مساواة الشيء بالشيء ، ومنه العدل ، أي : يعدلون بالله غير الله تعالى ، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته ، وبه قال النضر بن شميل : الباء بمعنى " عن " ، أي : عن ربهم يعدلون ، أي يميلون ، وينحرفون ، من العدول ، قال الله تعالى : { عيناً يشرب بها عباد الله } أي : منها . وقيل : تحت قوله { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معنى لطيف ، وهو مثل قول القائل : أنعمت عليكم بكذا ، وتفضلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون بنعمتي ؟ .
{ 1 ، 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }
هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال عموما ، وعلى هذه المذكورات خصوصا . فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض ، الدالة على كمال قدرته ، وسعة علمه ورحمته ، وعموم حكمته ، وانفراده بالخلق والتدبير ، وعلى جعله الظلمات والنور ، وذلك شامل للحسي من ذلك ، كالليل والنهار ، والشمس والقمر . والمعنوي ، كظلمات الجهل ، والشك ، والشرك ، والمعصية ، والغفلة ، ونور العلم والإيمان ، واليقين ، والطاعة ، وهذا كله ، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى ، هو المستحق للعبادة ، وإخلاص الدين له ، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه ، يسوونهم به في العبادة والتعظيم ، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال ، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة الأنعام ، حاولت فيه أن أكشف عما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وهدايات محكمة ، ووصايا جليلة ، وحجج باهرة تقذف حقها على باطل الملحدين فتدمغه فإذا هو زاهق ، وتقيم الأدلة الساطعة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى صحة البعث والحساب ، والثواب والعقاب .
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، أن أقدم بين يديها تعريفاً لها ، أتحدث فيه عن زمان ومكان نزولها ، وعن طبيعة الفترة التي نزلت فيها ، وعن سبب تسميتها بهذا الاسم ، وعن مناسبتها لما قبلها وعن المقاصد والأهداف التي اشتملت عليها ، وعن فضائل هذه السورة الكريمة ومزاياها . .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سورة الأنعام عدد آياتها خمس وستون ومائة آية وهي أول سورة مكية من طوال المفصل بالنسبة لترتيب المصحف ، وتعتبر بالنسبة لهذا الترتيب السورة السادسة ، فقد سبقتها سور : الفاتحة ، والبقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، وهي سور مدنية باستثناء سورة الفاتحة .
أما ترتيبها في النزول فقد قال العلماء : إنها السورة السادسة والخمسون ، وإن نزولها كان بعد نزول سورة " الحجر " .
ويغلب على الظن أن نزول سورة الأنعام كان في السنة الرابعة من البعثة النبوية الشريفة ، وذلك لأن سورة الحجر التي نزلت قبلها فيها آية تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجهر بدعوته وهي قوله –تعالى- [ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ]( {[1]} ) .
ومن المعروف تاريخيا أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث يدعو الناس سرا إلى عبادة الله زهاء ثلاث سنين ، ثم بدأت مرحلة الجهر بالدعوة في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمره الله بأن يصدع بما يؤمر به ، أي يجهر بما يكلف بتبليغه للناس ، مأخوذ من صدع بالحجة إذا جهر بها .
قال ابن إسحاق عند حديثه عن مرحلة الجهر بالدعوة الإسلامية : " ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به ، ثم إن الله –تعالى- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه ، وأن يبادي الناس بأمره ، وأن يدعو إليه ، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله –تعالى- بإظهار دينه ثلاث سنين –فيما بلغني- من مبعثه ، ثم قال الله –تعالى- له : [ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ] ( {[2]} ) .
2- طبيعة الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام :
قلنا إن سورة الأنعام نزلت –غالبا في السنة الرابعة من البعثة النبوية ، وهذه من تاريخ الدعوة الإسلامية كانت فترة نضال فكري عنيف بين الإسلام والشرك ، ففيها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بدعوته ويصارح قريشا برسالته ، ويدعوهم بأعلى صوته إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ويبين لهم بجرأة ووضوح بطلان عقائدهم ، وسخافة تفكيرهم واعوجاجهم عن الطريق المستقيم .
وأخذ المشركون يدافعون عن معتقداتهم بكل وسيلة بعد أن رأوا الدعوة الإسلامية يزداد نورها يوما بعد يوم ، ورأوا أتباع النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون ولا ينقصون ، ويجهرون بتعاليم دينهم بعد أن كانوا يخفونها ويتحملون في سبيل نشرها الكثير من ألوان التعذيب والترهيب .
وقد صور بعض العلماء طبيعة هذه الفترة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية عند نزول سورة الأنعام فقال :
" وهذه الفترة من فترات الدعوة الإسلامية كانت فترة عنيفة أشد العنف ، مملوءة بالمقاومة من الجانبين كأعظم ما تكون المقاومة ، فالمشركون مأخوذون بهذا النجاح الذي صارت إليه الدعوة حتى استطاعت أن تستعلن بعد الخفاء ، وأن تتحدى في صوت عال ، ونداء جهير ، بعد ما كان المؤمنون بها يلجأون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدوا صلاتهم ، والرسول صلى الله عليه وسلم ماض فيما أمره به ربه من الصدع بدعوة الحق ، يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من كتابه ، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم ، وتسفيه لآرائهم ، وإنكار لآلهتهم ، وتهكم بأوثانهم وتقاليدهم البالية .
يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدية ، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين يشعرون في أعماق نفوسهم بصدقها وكذبهم ، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم ، ولا يجدون لهم حيلة إلا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة ، بادعائهم كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل ، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم ملائكة ، وإنكارهم البعث والدار الآخرة ، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم ، ونسوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيه يوما قولة كاذبة ، ولم يخن فيه يوما أمانة أؤتمن عليها ، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين .
لم يذكروا شيئا من ذلك ولم يفكروا فيه ، ولكنهم فكروا فقط ف أن الدعوة الجديدة التي استعلنت بعد استخفاء ، وتحدت بعدما ظنوه بها من الاستخذاء ، يجب أن تموت في مهدها ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب .
ورحبت الدعوة الإسلامية بهذا النضال ، وتحملت أعباءه وأثقاله ، وكان ذلك أول النصر ، لأن النور لا يظهر إلا بعد الاحتكاك .
وأخذت سور القرآن في هذه المرحلة تتلاحق ، وأخذت آياتها تتعاون وتتآزر ، وكانت أغراضها متشابهة إلى حد بعيد ، وكان أولها وأحفلها بما نزلت له من أغراض بعد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة والصدع بها ، هو سورة " الأنعام " ؛ فقد جمعت كل العقائد الصحيحة ، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين ، وتفنيد شبه الملحدين ، وإبطال العقائد الفاسدة ، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاصلة( {[3]} ) .
وبذلك يتبين لنا أن ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد وأهداف وأحكام ومعتقدات يوافق كل الموافقة طبيعة المرحلة التي كانت تجتازها الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت .
يرى جمهور العلماء أن سورة الأنعام كلها مكية ، ويرى فريق منهم أنها كلها نزلت بمكة ما عدا الآيات 20 ، 23 ، 91 ، 93 ، 104 ، 141 ، 151 ، 152 ، 153 .
ولعل الذي حمل أصحاب هذا الرأي على القول بأن هذه الآيات التسع مدنية ورود بعض الروايات بذلك ، وأنها آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكاليف العملية ، وهي لهذا كانت أنسب بالمدينة .
والذي تطمئن إليه النفس وعليه المحققون من المفسرين أن سورة الأنعام قد نزلت كلها بمكة جملة واحدة ، ويشهد لما ذهبنا إليه ما يأتي :
( أ ) كثرة الآثار التي صرحت بنزولها بمكة دفعة واحدة ، ومن هذه الآثار ما ورد عن ابن عباس أنه قال : لقد نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة وحولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد( {[4]} ) .
( ب ) المحققون من المفسرين عندما بدأوا في تفسير سورة الأنعام صرحوا بأنها جميعها مكية وأنها قد نزلت جملة واحدة ، وتجاهلوا قول القائل إن فيها آيات مدنية .
فهذا –مثلا- الإمام ابن كثير ساق في مطلع تفسيره لهذه السورة الروايات التي تثبت أنها مكية ، ولم يذكر رواية واحدة تثبت أن فيها آية أو آيات قد نزلت بالمدينة .
وابن كثير –كما نعرف- من الحفاظ النقاد الذين يعرفون كيف يتخيرون الروايات ، وكيف يميزون بين صحيحها وضعيفها .
( ج ) الروايات التي اعتمد عليها القائلون بأن تلك الآيات التسع مدنية روايات فيها مقال ، ولم يعتمدها المحققون من العلماء ، فقد نقل السيوطي عن ابن الحصار قوله :
استثنى من سورة الأنعام تسع آيات –مدنية- ولا يصح به نقل ، خصوصا وأنه قد ورد أنها نزلت جملة( {[5]} ) .
( د ) الذي يقرأ سورة الأنعام بتدبر يجد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية ، فهي تتحدث باستفاضة عن وحدانية الله ، وعن مظاهر قدرته ، وعن صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وعن الأدلة الدامغة التي تؤيد صحة البعث والثواب والعقاب يوم القيامة ، إلى غير ذلك من المقاصد التي كثر الحديث عنها في القرآن المكي .
ومن هنا كانت سورة الأنعام بين السور المكية ذات شأن كبير في تركيز الدعوة الإسلامية ، تقرر حقائقها ، وتفند شبه المعارضين لها ، واقتضت لذلك الحكمة الإلهية أن تنزل –مع طولها وتنوع آياتها- جملة واحدة ، وأن تكون ذات امتياز خاص لا يعرف لسواها كما قرره جمهور العلماء .
ومن ذلك يتبين أنه لا مجال للقول بأن بعضها من قبيل المدني ، ولا بأن آية كذا نزلت في حادثة كذا ، فكلها جملة واحدة نزلت بمكة لغاية واحدة ، هو تركيز الدعوة بتقرير أصولها والدفاع عنها( {[6]} ) .
هذه بعض الأدلة التي تجعلنا نرجح أن سورة الأنعام كلها مكية ، وأنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة .
الأنعام لغة تطلق على ذوات الخف والحافر من الحيوان ، وهي –الإبل والبقر والغنم- وقد سميت سورة الأنعام بهذا الاسم ، لأنها فصلت الحديث عن هذه الأنواع بطريقة متعددة الجوانب ، متنوعة الأهداف .
وقد تكرر لفظ الأنعام في تلك السورة ست مرات في أربع آيات .
أما الآية الأولى فقد حكى القرآن فيها ما كانوا يفعلونه من قسمتهم الحرث والأنعام إلى قسمين : قسم جعلوه لله يتقربون به إليه عن طريق إكرام الضيف ومساعدة المحتاج .
وقسم جعلوه لألهتهم فذبحوه على الأنصاب ، وأنفقوا منها على سدنتها وخدمتها ، ثم هم بعد ذلك العمل الباطل لا يعدلون في القسمة ، يجورون أحيانا على القسم الذي جعلوه لله ؛ بينما يتحرزون عن الجور على القسم الذي جعلوه لشركائهم .
قال تعالى : [ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ، فما كان لشركائنا فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ]( {[7]} ) .
وأما الآية الثانية فقد ورد فيها لفظ " الأنعام " ثلاث مرات ، وقد كشف القرآن فيها عن بعض أعمال المشركين المنكرة ، وهي أنهم جعلوا الأنعام ثلاثة أقسام :
قسما لا يأكل منه عند ذبحه إلا سدنة الأوثان والرجال دون النساء . وقسما يحرم ركوبه كالبحيرة والسائبة والحامي ، وقسما لا يذكرون اسم الله عليه عند الذبح وإنما يذكرون أسماء آلهتهم .
قال تعالى : [ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ، وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه ، سيجزيهم بما كانوا يفترون ]( {[8]} ) .
وفي الآية الثالثة تحدث القرآن عن لون من ألوان ظلمهم وجهلهم ، فقد كانوا يجعلون بعض ما في بطون أنعامهم إذا نزل حياً كان خاصاً بالرجال دون النساء ، وإذا نزل ميتاً فالرجال والنساء فيه شركاء .
قال تعالى : [ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ، سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ]( {[9]} ) .
أما الآية الرابعة ، فقد بين القرآن فيها جانباً من نعم الله على عباده ، إذ جعل لهم من الأنعام أنواعا تذبح لينتفعوا بلحومها وشحومها وجلودها وأنواعا تحمل أثقالهم إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس .
قال تعالى : [ ومن الأنعام حمولة وفرشاً ، كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ]( {[10]} ) .
وهناك آيات أخرى سوى هذه الآيات السابقة تناول الحديث فيها أحكاماً أخرى تتعلق بالأنعام ، وسنفصل القول فيها عند تفسيرنا لها – بعون الله-تعالى- .
وقد جرت عادة بعض المفسرين أن يعقدوا مناسبة بين السورة وبين سابقتها ، ولعل أكثرهم توسعاً في ذلك الإمام الآلوسي فقد قال : " ووجه مناسبتها لآخر المائدة أنها افتتحت بالحمد والمائدة اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان ، كما قال –سبحانه- [ وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ]( {[11]} ) .
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة : " إنه –تعالى- لما ذكر في آخر المائدة [ لله ملك السموات والأرض وما فيهن ] على سبيل الإجمال ، افتتح –جل شأنه- هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله ، فبدأ –سبحانه- بذكر خلق السموات والأرض ، وضم –تعالى- إليه أنه جعل الظلمات والنور ، وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ، ثم ذكر أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث ، وأنه –جل جلاله- منشئ القرون قرنا بعد قرن ، ثم قال –تعالى- [ قل لمن ما في السموات والأرض ] الخ . فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان . ثم قال [ وله ما سكن في الليل والنهار ] فأثبت أنه ملك جميع المظروفات لظرف الزمان ، ثم ذكر –سبحانه- خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ، ثم خلق النوم واليقظة والموت ، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى ، وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها ، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن " .
هذا ، وقد عقد فضيلة الشيخ محمود شلتوت –رحمه الله- مقارنة لسورة الأنعام- وهي سور : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، فهي بحكم مدنيتها تشترك كلها في هدف واحد وهو تنظيم شئون المسلمين بالتشريع لهم باعتبارهم أمة مستقلة ، وبإرشادهم إلى مناقشة أهل جوارهم فيما يتصل بالعقيدة والأحكام ، وإلى الأساس الذي يرجعون إليه ويحكمونه في التعامل معهم في حالتي السلم والحرب ، وقلما تعرض هذه السور المدنية إلى شيء من شئون الشرك ومناقشة المشركين .
وهذه السور مع اشتراكها في أصل الهدف العام ، تختلف قلة وكثرة فيما تتناوله من التشريع الداخل الخاص بالمسلمين ، والتشريع الخارجي الذي يرتبط بهم مع من يخالفهم في الدين .
إن سورة البقرة قد نزلت في أوائل الهجرة ، وقد صار للمسلمين بالهجرة كيان خاص وجوار خاص ، وبذلك كان أمامها هدفان :
الأول : نظم يأخذ بها المسلمون أنفسهم في عباداتهم ومعاملاتهم : شخصية ومدنية وجنائية .
والهدف الآخر : إرشاد إلى طريق المناقشة فيما كان مجاوروهم يثيرونه حول الدين والدعوة من شبه وتشكيكات ، وقد تجلى هذان الهدفان بصورة واضحة في سورة البقرة ، برز أحد الهدفين في نصفها الأول ، وبرز الهدف الثاني في نصفها الأخير ، واقرأ في الأول على وجه عام من قوله –تعالى- [ يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ] ( الآية 40 ) إلى قوله –تعالى- : [ ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق . وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ] ( الآية 176 ) .
واقرأ في الهدف الثاني قوله –تعالى- : [ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ] ( الآية 177 ) إلى نهاية الآية 283 : [ وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة ] .
وقد عرضت في هذا السبح الطويل بعد أن أجملت أوصاف الصادقين في إيمانهم المتقين في أعمالهم لجملة من الأحكام التي تسوس الأمة فيما بينها .
عرضت القصاص ، والوصية ، والصيام ، والقتال ، وبعض أحكام الحج . الخ .
ثم تجيء سورة آل عمران ، فتصرف عناية خاصة إلى مناقشة النصارى في قضية الألوهية ، وإلى كشف بعض صور التزييف التي كان يصطنعها أهل الكتاب إخفاء لحق الإسلام ودعوته .
ثم ترشد المسلمين إلى ما يحفظ عليهم شخصيتهم ، ويقيهم شر الوقوع في مخالب الأعداء وترسم لهم في ذلك الطرق الحكيمة التي تجعل منهم قوة الجهاد في تأييد الحق وهزيمة الباطل .
وعلى أساس من مشاركة سورة النساء لزميلاتها المدنيات في أصل الهدف تناولت الأمرين : تنظيم جماعة المسلمين ، ومناقشة أهل الكتاب في موضوع الألوهية والرسالة ، غير أن عنايتها بجانب التنظيم كانت أشد من عنايتها بجانب المناقشة .
ثم تجيء سورة المائدة فتأخذ سبيل أخواتها أيضاً ، فتشرع للمسلمين في خاصة أنفسهم ، وفي معاملة من يخالطون من أهل الكتاب ، مع الإرشاد إلى طرق محاجتهم والتنبيه على أخطائهم وتحريفهم للكلم عن مواضعه . وتذكيرهم بسيئاتهم مع أنبيائهم . وقد استغرق ذلك معظم السورة .
أما سورة الأنعام فإنها لم تعرض لهدف من الأهداف الأصلية التي تميزت بها السور الأربع المدنية قبلها .
فهي أولا : لم تعرض لشيء من الأحكام التنظيمية لجماعة المسلمين ، كالصوم والحج في العبادات ، والعقوبات في الجنايات ، والمداينة والربا في الأموال ، وأحكام الأسرة في الأحوال الشخصية .
وهي ثانياً : لم تذكر في قليل ولا كثير شيئاً يتعلق بالقتال ومحاربة الخارجين عن دعوة الإسلام .
وهي ثالثاً : لم تتحدث في شيء ما عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك لم تتحدث عن طوائف المنافقين ولا عن أخلاقهم السيئة ومسالكهم المظلمة .
وهي رابعاً : لا نجد فيها مع ذلك كله نداء واحدا للمؤمنين باعتبارهم جماعة تنتظمها وحدة الإيمان ، لا نجد فيها شيئاً من هذا كله كما وجدناه جميعاً في السور الأربع السابقة ، وإنما نجد الحديث فيها يدور بشدة وقوة حول العناصر الأولى للدعوة ، ونجد سلاحها في ذلك ، الحجة المتكررة ، والآيات المصرفة ، والتنويع العجيب في طرق الإلزام والإقناع : تذكر توحيد الله في الخلق وفي الإيجاد ، وفي العبادة والتشريع ، وتذكر موقف المكذبين وتقص عليهم ما حاق بأمثالهم السابقين ، وتذكر شبههم في الرسالة ، وتذكر يوم البعث والجزاء .
ولعلنا بعد هذا نلمس الفرق الجلي الواضح بين منهج سورة الأنعام ، ومنهج السور الأربع المدنية قبلها " ( {[12]} ) .
عندما نفتح كتاب الله لنتدبر ما اشتملت عليه سورة الأنعام من مقاصد حكيمة ، وتوجيهات نافعة ، نراها في مطلعها قد ابتدأت بحمد الله والثناء عليه وبيان استحقاقه لذلك ، لأنه –سبحانه- هو الخالق للسماوات والأرض وما بينهما ، وهو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
قال تعالى : [ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون* هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا ، وأجل مسمى عنده ، ثم أنتم تمترون* وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ] .
ثم تحدثت السورة الكريمة عن طبائع المعاندين ، وأنذرتهم بسوء المصير إذا ما استمروا في عتوهم وجحودهم ، وساقت لهم –ليعتبروا ، ما حل بالمكذبين الذين سبقوهم والذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعاً ، فعليهم أن يفيئوا إلى رشدهم حتى لا يصيبهم ما أصاب المكذبين من قبلهم .
استمع إلى القرآن وهو يصور هذه المعاني بأسلوبه البليغ المؤثر ، فيقول تعالى : [ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين* فقد كذبوا بالحق لما جاءهم ، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون* ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ، ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين ] .
ثم تأخذ السورة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فترسم صورة عجيبة لمكابرة المشركين وأنهم قد غدوا – لانطماس بصيرتهم واستيلاء الجحود على قلوبهم – لا يجدي معهم توجيه أو دليل ، حتى أنهم لو نزل عليهم كتاب من السماء فلمسوه بأيديهم ، وقرأوه بأعينهم ، وعرفوا منه صدق نبوتك يا محمد ، لقالوا بعد كل ذلك [ إن هذا إلا سحر مبين ] .
قال تعالى : [ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين* وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون* ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون* ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ] .
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثاني من سورة الأنعام ، ألفيناها تسوق حشودا من البراهين الدالة على وحدانية الله وقدرته بطريقة تحمل الترغيب تارة والترهيب أخرى ، وبأسلوب يسكب في القلوب السكينة والطمأنينة ، ويقنع العقول السليمة بأن المستحق للعبادة والخضوع إنما هو الله وحده .
[ قل لمن ما في السموات والأرض ، قل لله ، كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون* وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم* قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يُطعِم ولا يُطعَم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين* قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم* من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين* وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو* وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير* وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير* قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى . قل لا أشهد . قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون ] .
ثم ذكرت السورة بعد ذلك حال المكذبين بيوم القيامة . فوضحت أنهم في هذا اليوم الهائل الشديد ينكرون أنهم كانوا مشركين ولكن هذا الإنكار لن ينفعهم شيئا لأن الذي يخاطبهم هو العليم الخبير .
[ ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون* ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين* انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ] .
ثم تمضي الآيات في الحديث عن مشاهد يوم القيامة ، فتصور حسرتهم وندمهم عندما يقفون على النار التي كانوا يكذبون بها في الدنيا ، وعندما يقفون أمام ربهم الذي كانوا يشركون معه آلهة أخرى فتقول :
[ ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين* بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون* وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين* ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ، قال : أليس هذا بالحق ؟ قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ] .
ثم بعد هذا التصوير المؤثر لأحوال المشركين يوم القيامة ، يتركهم القرآن مؤقتاً ليوجه خطابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسليا له ، ومثبتا لقلبه ، وداعيا إياه إلى الصبر على تحمل الرسالة بدون كلل أو ملل ، وإلى التأسي بمن سبقوه من أولي العزم من الرسل .
قال تعالى : [ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون* ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ، ولقد جاءك من نبإ المرسلين . وإن كان كبر عليك إعراضهم ، فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ] .
أما الربع الثالث من السورة الكريمة فقد افتتح ببيان أن الذين يستجيبون لدعوة الحق إنما هم الدين يسمعون ويتعظون وهم الأحياء حقا ، أما من ماتت قلوبهم فصارت لا تنفتح للحق ، ولا تتقبل الهداية فإن مصيرهم إلى الله ، فهو –سبحانه وتعالى- سيجازيهم بسبب جحودهم وعنادهم ومطالبتهم لنبيهم بالمطالب المتعنتة التي لا فائدة من ورائها .
قال تعالى : [ إنما يستجيب الذين يسمعون ، والموتى يبعثهم الله ، ثم إليه يرجعون* وقالوا : لولا نزل عليه آية من ربه . قل : إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ] .
ثم تدعوهم السورة بعد ذلك بأسلوب تلقيني إنذاري إلى التفكر والتدبر في مظاهر قدرة الله وتبين لهم بطريقة منطقية مقنعة أن الله وحده هو القادر على سلب أسماعهم وأبصارهم ، وهو القادر على إنزال العذاب بهم أو رفعه عنهم . استمع إلى القرآن الكريم وهو يسوق هذه المعاني بأسلوبه الفريد فيقول :
[ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة ، أغير الله تدعون إن كنتم صادقين* بل إياه تدعون ، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ] .
ثم يقول : [ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به . انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون* قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ] .
ثم وضحت السورة أن وظيفة الرسل إنما هي التبشير للمتقين والإنذار للمكذبين وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم إني أملك خزائن الأرض ، أو إني أعلم الغيب ، أو إني ملك من الملائكة . وإنما قال لهم : إني بشر مثلكم أتبع ما يوحى إلي من ربي ، والناس مختلفون بعد ذلك في تلقي نور الوحي ، وجزاؤهم على حسب حالهم وعملهم ، فلا يستوي المحسن والمسيء كما لا يستوي الأعمى والبصير :
قال تعالى : [ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون ] .
ثم تمضي السورة في سرد توجيهاتها وحكمها فتسوق البشارة للمؤمنين الذين اقترفوا بعض السيئات ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ، كما تسوق الإنذار الحاسم للمشركين الذين لم يتبعوا الطريق القويم فتقول :
[ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة ، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم* وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ] .
ثم يمضي السياق مع المكذبين المستعجلين بالعذاب فيطلعهم ويطلع غيرهم في الربع الرابع من السورة على صورة شاملة لعلم الله الواسع ، وقدرته النافذة ، وحكمته الحكيمة ، ويطوف بهم في مجاهل الغيب الذي لا يعلمه إلا هو ، وفي عالم البر والبحر الذي لا يخرج منه شيء عن إرادته ، وفي ظلمات الأرض المخبوءة التي لا يحيط بها إلا علمه ، ثم يريهم كيف أنهم محكومون بإرادته . وأن حركاتهم وسكناتهم مردها إليه ، وأنهم في ساعة الشدة والكرب لا يلوذون إلا بحماه .
تدبر كتاب الله وهو يحكي كل ذلك بطريقته المقنعة للعقل والعاطفة فيقول :
[ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين* وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ، ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون* وهو القاهر فوق عباده ، ويرسل عليكم حفظة ، حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون* ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين* قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية ، لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين* قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون* قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أويلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض ، انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ] .
وبعد هذا البيان الذي تعددت مظاهر عظاته وعبره ، وتنوعت ألوان هداياته وإرشاداته اتجه القرآن بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له مسلياً ومثبتاً : إن قومك قد كذبوك مع أن ما معك هو الحق المبين قل لهم :
[ لست عليكم بوكيل* لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ] .
ثم يأمره ويأمر كل من يتأتى له الخطاب بالإعراض عن الجاهلين الذين يخوضون في آيات الله بغير علم فيقول :
[ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين* وما على الذين يتقون من حسابهم من كل شيء ولكن ذكري لعلهم يتقون ] .
ثم تبدأ السورة في الربع الخامس منها جولة جديدة لتثبيت العقيدة السليمة فتسلك طريق القصة ، وتتخذ من إبراهيم أبي الأنبياء نموذجا لاستقامة الفطرة ، وسلامة التفكير وحسن الإدراك ويقظة العقل ، فقد رأى إبراهيم –عليه السلام- بفطرته النقية أن الأصنام لا يعقل أن تكون آلهة . وخاطب أباه وقومه بذلك ، واعتبرهم بهذا الإشراك في ضلال مبين ، ثم اتجه إلى التعرف على الإله الحق فتخيله في كوكب ، ولكنه حين أفل وزال قال : [ لا أحب الآفلين ] لأن الإله الحق لا يغيب ولا يزول . ثم ظن الألوهية في ذلك القمر الذي ينسكب نوره في الوجود فيضيء الليل البهيم ، ولكنه رأى القمر –أيضاً- يأفل ويغيب فأعرض عن اتخاذه إلها والتمس من الإله الحق أن يهديه إلى الصراط المستقيم .
فلما أصبح الصباح ورأى الشمس وقد أشرقت وعم ضوؤها الآفاق قال : [ هذا ربي ] لأنها أكبر مصادر الضوء ، فلما غابت الشمس أدرك بفطرته السليمة أن الإله لا يغيب ولا يكون شيئا محسوسا ، فقرر البراءة من الشرك ، واتجه إلى الخالق الحق الذي تدل آثاره على وجوده وعلى مخالفته لمخلوقاته فقال : [ إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ] . ثم أخذ بعد ذلك يجادل قومه ويرشدهم إلى الصراط المستقيم ، ويقيم لهم الأدلة على بطلان معتداتهم .
تأمل معي –أيها القارئ الكريم- تلك الآيات الكريمة التي تحكي كل هذه المعاني بأسلوبها البديع فتقول :
[ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة ، إني أراك وقومك في ضلال مبين* وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين* فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي ، فلما أفل قال لا أحب الآفلين* فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي ، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين* فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون* إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ] .
ثم مضت السورة الكريمة في الحديث عن رسل الله الذين آتاهم الله الحجة على أقوامهم ، وختمت الحديث عنهم بالثناء عليهم ووجوب الاقتداء بهم في هديهم وسلوكهم .
[ أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ، فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين* أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين ] .
وبعد هذا القصص المذكر ، والتوجيه المنبه ، والتدليل الواضح على وحدانية الله وقدرته ساقت لنا السورة في الربع السادس منها حشوداً متنوعة من مظاهر قدرة الله ومن نعمه التي لا تحصى على عباده . إنها هنا توقفنا أمام هذا الكون الرائع البديع لتقول لنا : انظروا ماذا في السموات والأرض ، ثم اتجهوا بالعبادة والخضوع إلى الله رب العالمين ، فهو الذي فلق الحب فكان من النبات ، وفلق النوى فكان منه الشجر ، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وهو الذي يأتيكم بالضياء بعد الليل المظلم لكي تبتغوا من فضله ، ويأتيكم بالليل بعد النهار لكي تسكنوا فيه بعد طول الكدح والعناء ، وهو الذي يسير الشمس والقمر بتقدير دقيق وحساب لا يختلف ، وهو الذي زين السماء بالنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، وهو الذي أوجدكم جميعا من نفس واحدة لها مستقر في أصلاب الرجال ومستودع في أرحام النساء ، وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كل شيء . لأن الماء قوام الحياة .
استمع إلى القرآن وهو يحكي كل هذه النعم الدالة على قدرة الله وفضله فيقول :
[ إن الله فالق الحب والنوى ، يخرج الحي من الميت ، ومخرج الميت من الحي ، ذلكم الله فأنى تؤفكون* فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ، ذلك تقدير العزيز العليم* وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون* وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون* وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه ، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ، إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ] .
وبعد أن ساق القرآن كل هذه النعم التي أسبغها الله على الناس ، والتي من شأنها أن تجعلهم يخصونه بالعبادة والاستعانة ، بعد كل ذلك صرح بأنه –مع كل هذه النعم- أضحى الكثيرون من خلقه يشركون معه آلهة أخرى ، ويزعمون أن له بنين وبنات .
ولقد رد القرآن على هؤلاء الجاحدين بالحجة البالغة التي تدمغ باطلهم وتخرس ألسنتهم ، وتنزه الخالق – عز وجل- عما قالوه وافتروه بغير علم فقال :
[ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ، سبحانه وتعالى عما يصفون* بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم . ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل . لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ] .
ثم تتابع في الربع السادس منها حديثها عن المكابرين الذين لم يكتفوا بالقرآن معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل طلبوا منه –على سبيل التعنت- معجزات أخرى حسية ، فتحكي السورة أقوالهم وترد عليهم بما يفضح أكاذيبهم ، لأنهم لعنادهم وجحودهم لو أن الله –تعالى- أجاب لهم مطالبهم ما كانوا ليؤمنوا ، إذ هم لا تنقصهم الآيات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الذي ينقصهم هو القلب المنفتح للحق ، والنفس المتقبلة للهداية .
قال تعالى : [ وأقسموا بالله جهاد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ، قل إنما الآيات عند الله ، وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون* ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون . ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ] .
ثم تستطرد السورة الكريمة فتحكي بعض رذائل المشركين في مآكلهم وذبائحهم ، وتنهى المؤمنين عن الأكل من الذبائح التي لم يذكر اسم الله عليها إلا في حالة الاضطرار ، ثم تغرس فيهم خلق الحياء من الله فتأمرهم أن يتركوا الفواحش ما ظهر وما بطن ، ثم تبين لهم أن المشركين سيثيرون الشكوك والشبهات حول عقيدتهم فعليهم أن يهملوا مجادلاتهم وأن يتركوهم في طغيانهم يعمهون :
قال تعالى : [ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين* وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ، وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم ، إن ربك هو أعلم بالمعتدين* وذروا ظاهر الإثم وباطنه ، إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون* ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ، وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ] .
ثم تضرب السورة الأمثال للكفر والإيمان ، فتشبه الكفر بالموت وتشبه الإيمان بالحياة ، فكما أنه لا يتساوى الميت مع الحي ، فكذلك لا يتساوى الضال الذي هو كالميت مع المؤمن الذي يحيا حياة طيبة وله نور يمشي به في الناس ، ثم تبين أنه من دأب الجاحدين والحاقدين محاربة الحق ، وأنه ليس بغريب أن يحارب زعماء قريش الدعوة الإسلامية لأنهم يحسدون صاحبها على ما آتاه الله من فضله ، ويطلبون أن تكون النبوة فيهم مع أن النبوة هبة من الله يهبها لمن يشاء من عباده ، وأنهم بسبب هذا الحقد سيصيبهم عذاب شديد من الله –عز وجل- .
قال تعالى : [ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون* وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون* وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله* الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند وعذاب شديد بما كانوا يمكرون* فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون* وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ] .
فإذا ما وصلنا إلى الربع الثامن من سورة الأنعام ، رأيناها تعرض مشهدا من مشاهد يوم القيامة ، تعرض مشهد الحشر للجن والإنس وهم يتناقشون ويتلاومون ويتحسرون ، ولكن ذلك لن يفيدهم لأنهم قد وسوس بعضهم إلى بعض زخارف من الأباطيل والأكاذيب . تعرض مشهدهم عندما يقفون أمام ربهم فيسألهم : [ ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا ] ؟ وهنا لا يملكون ، إلا الشهادة على أنفسهم بأن الرسل الكرام قد بشروهم وأنذروهم ، ولكن الشيطان هو الذي استحوذ عليهم فجعلهم يستحبون العمى على الهدى .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يصور هذا المشهد بأسلوبه الرائع فيقول :
[ ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ، وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ، إن ربك حكيم عليم* وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون* يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ] .
ومع أن السورة الكريمة قد تعرضت –فيما سبق منها- بصورة موجزة للأباطيل التي كان يتبعها المشركون في ذبائحهم ومآكلهم ومشاربهم ، إلا أنها هنا –في أواخر الربع الثامن وفي معظم الربع التاسع- قد أفاضت القول في استعراض رذائل المشركين التي تتعلق بنذورهم ومطاعمهم وذبائحهم وما أحلوه وما حرموه ، وذلك لأن السورة الكريمة تريد أن تنقي العقيدة الإسلامية من كل ما كان سائدا في الجاهلية من معتقدات باطلة ، وأفعال قبيحة ، وتقاليد وثنية موروثة ، وعادات جاهلية مرذولة ، فتحدثت عن أوهامهم التي منها أنهم جعلوا لله مما خلق نصيباً وجعلوا لآلهتهم نصيباً آخر ، ثم هم بعد ذلك لا يعدلون في قسمتهم مع بطلانها ، بل تارة يأخذون من نصيب الله الذي هو للفقراء فيجعلونه لسدنة أصنامهم وخدامها . ومنها أن يعضهم كانوا يقتلون أولادهم سفها بغير علم لأن الشياطين زينت لهم ذلك . ومنها أنهم شرعوا لأنفسهم أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان .
ولقد حكى القرآن بعض هذه الرذائل التي كانت متفشية فيهم ، ووبخهم عليها ونهى المؤمنين عن سلوك مسلكهم فقال :
[ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون* وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ، ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ] .
ثم قال : [ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ] .
ثم انتقلت السورة بعد ذلك –في الربع التاسع منها- إلى الحديث عن الطيبات التي أحلها الله لعباده في مأكلهم ومشربهم ، فذكرت ألوانا من النعم التي خلقها الله وأنشأها لعباده ، فقد أنشأ –سبحانه- الجنات المعروشات أي المرفوعات على ما يحملها كالأعناب وما يشبهها ، وأنشأ الجنات غير المعروشات كالبرتقال وغيره ، كما أنشأ الزروع والأشجار المختلفة الأنواع والثمار . وذلك كله لكي يقبل الناس على عبادة خالقهم ، ويشكروه على نعمه التي لا تحصى .
قال تعالى : [ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابه ، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ] .
ثم أخذت السورة تناقش المشركين فيما أحلوه وحرموه من الأنعام بأسلوب منطقي رصين ، يقيم عليهم الحجة ، ويكشف عن سخافة تفكيرهم وتفاهة عقولهم ، واتباعهم خطوات الشيطان في تحريم بعضها وتحليل البعض الآخر ، فهذه الأنعام ثمانية أزواج ، من الضأن اثنان ، ومن المعز اثنان ، ومن الإبل اثنان ، ومن البقر اثنان ، فلماذا حرم المشركون على أنفسهم بعضها دون بعض ؟ إن كان التحريم للأنوثة فعليهم أن يحرموا جميع الإناث ، وإن كان للذكورة فعليهم أن يحرموها ، إذاً فتحريمهم لبعض الذكور دون بعض يدل على ضلال في التفكير ، وجهالة في الأحكام ، وافتراء على الله بغير علم .
استمع إلى القرآن وهو يحكي أوهامهم ثم يرد عليها بما يدمغها فيقول :
[ ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ، قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، نبئوني بعلم إن كنتم صادقين* ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ] .
ثم صرحت السورة الكريمة أن ما حرمه الله على اليهود من المطاعم كان بسبب بغيهم ، وقساوة قلوبهم ، وأنهم وأمثالهم –الذين يتنصلون من تبعة الضلال ويحيلونها على مشيئة الله- كاذبون فيما يزعمون ، وأنهم يهرفون بما لا يعرفون ، وإلا فأين دليلهم على هذا التنصل ؟ وأين حجتهم على أن الله قد حرم هذا وأحل هذا ؟
لقد حكى القرآن مزاعمهم ثم فندها بالبراهين الدامغة ، والحجة البالغة فقال :
[ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون* فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين* سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركوا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ، كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون* قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين . قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ، فإن شهدوا فلا تشهد معهم ، ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ] .
فإذا ما انتهينا إلى الربع العاشر –والأخير- من سورة الأنعام رأيناها تخاطب أولئك الذين أحلوا لأنفسهم ما حرمه الله وحرموا عليها ما لم يأذن به فتقول لهم ولغيرهم " تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " ثم تسوق عشر وصايا رسمت للإنسان طريق علاقته بربه ، ووضعت الأساس المكين الذي يبنى عليه صرح الأسرة الفاضلة التي منها تتكون الأمة القوية الناجحة في الحياة ، وأوصدت منافذ الشرور والآثام التي تصيب المسلم في نفسه أو ماله أو عرضه ثم ذكرت أهم المبادئ التي تسمو بالمحافظة عليها الحياة الاجتماعية الكريمة ، وختمت هذه الوصايا ببيان أنها هي الصراط المستقيم الذي يجب على كل إنسان أن يتبع هداه حتى لا يزل أو يضل .
استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه الوصايا الحكيمة فيقول :
[ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون* ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ، لا نكلف نفساً إلا وسعها ، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون* وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ] .
وبعد أن ساقت السورة الكريمة هذه الوصايا الحكيمة اتجهت في ختامها إلى دعوة الناس للعمل بكتاب الله الذي أنزله ليكون هداية ورحمة لهم ، وأنذرت الذين يعرضون عن هديه الحكيم بسوء العذاب ، وحثت كل عاقل على المبادرة إلى الإيمان بالله من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الإيمان ، ولا تنفع فيه الأعمال ، لأنه يوم جزاء وحساب ، وأمرت في ختامها كل مسلم بأن يخلص عمله لله ، وأن يحمده على هدايته إياه إلى طريق الحق والرشاد ، وبينت منزلة الإنسان في هذا الوجود وحضته على أن يكون بقوله وعمله أهلا لهذه المنزلة السامية حتى ينال رضا الله .
وقد ساقت السورة في ختامها كل هذه المعاني بأسلوب ساحر يخلب الألباب ، ويرفق القلوب ، ويصفي النفوس ، ويشيع في وجدان المؤمن الأنس والبهجة والخوف والرجاء .
قال تعالى : [ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون* قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم* ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين* قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين* قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون* وهو الذي جعلكم خلاف الأرض و?
افتتحت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى فى كل دين ، وهى أن المستحق للحمد المطلق ، والثناء الكامل هو رب العالمين .
والحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها .
وأل فى { الحمد } للاستغراق ، بمعنى أن المستحق لجميع المحامد ولكافة ألوان الثناء هو الله تعالى ، وإنما كان الحمد مقصورا فى الحقيقة على الله ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شىء ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، فهو فى الحقيقة حمد لله ، لأنه - سبحانه - هو الذى وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه .
وقد بين بعض المفسرين الحكمة فى ابتداء السورة الكريمة بقوله تعالى : { الحمد للَّهِ } كما بين الفرق بين المدح والحمد والشكر فقال : " اعلم أن المدح أعم من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، أما بيان أن المدح أعم من الحمد ، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فاضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ، وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد ، وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلا إليك أو إلى غيرك ، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر . إذا عرفت هذا فنقول : إنما لم يقل المدح لله لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره . أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار ، فكان قوله الحمد لله تصريحا بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة . وإنما لم يقل الشكر لله ، لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك ، وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة ، فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال بالحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - تعالى - أوصل النعمة إليه ، فيكون الإخلاص أكمل ، واستغراق القلب فى مشاهدة نور الحق أتم ، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت " .
هذا وفى القرآن الكريم خمس سور مكية اشتركت فى الافتتاح بتقرير أن الحمد لله وحده ، ولكن كان لكل سورة منهج خاص فى بيان أسباب ذلك الحمد .
أما السورة الأولى فهى سورة الفاتحة التى تقول فى مطلعها { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } أى : أن الحمد لله وحده ، الذى ربى هذا العالم تربية خلقية أساسها الإيجاد والتصوير ، ورباه تربية عقلية أساسها منح قوة التفكير والإدراك ، كما أنه رباه تربية تشريعية قوامها الأحكام التى أوحى بها إلى رسله فتربط استحقاق الحمد لله بربوبيته للعالمين ، والربوبية المطلقة تنتظم التربية الخلقية جسمية وعقلية ، عن طريق الإيجاد والتصوير ، كما تنتظم التربية التشريعية التى أساسها الأحكام التى أوحها الله إلى أنبيائه ورسله .
وتجىء بعد سورة الفاتحة فى الترتيب المصحفى سورة الأنعام فأثبتت أيضاً استحقاق الحمد لله وحده ، لأنه " خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، فهى تهتم بالحديث عن نوع خاص من التربية ، وهو التربية الخلقية التى أساسها الخلق والإيجاد والتسوية والتصوير الحقيقى .
ثم تجىء بعدهما سورة " الكهف " فتثبت أن الحمد لله ، لأنه { أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } فتراها تهتم بإبراز التربية التشريعية التى تهذب الروح ، وتهدى الفكر .
والسورة الرابعة التى افتتحت بإثبات أن { الحمد للَّهِ } هى سورة سبأ ، لأنه - سبحانه - { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير } ثم تراها بعد ذلك زاخرة بالحديث عن أنواع التربية المطلقة التى تتجلى فى ارساء مظاهر علم الله الشامل ، وملكه المطلق ، وتدبيره المحكم وقدرته النافذة التى تجعله أهلا لكل حمد وثناء .
أما السورة الخامسة فهى سورة فاطر ، فقد أثبتت فى مطلعها أن الحمد لله ، لأنه { فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والذى يقرا هذه السورة الكريمة بتدبير يراها تهتم بإبراز إثبات أن الحمد لله وحده عن طريق الجمع بين التربيتين الخلقية والتشريعية فهى تذكر خلق السموات والأرض والجبال وتصريف الليل والنهار والشمس والقمر . كما تذكر أنواع الناس فى الانتفاع بوحى الله ، وبهدى أنبيائه ورسله .
وهكذا نجد أن السور الخمس قد اشتركت فى أنها افتتحت بجملة { الحمد للَّهِ } وفى قصر الحمد والثناء عليه وحده . إلا أن كل واحدة منها قد سلكت منهجا خاصا فى تقرير هذه الحقيقة ، وفى إقامة الأدلة على صدقها .
وقد أحسن القرطبى عندما قال : " فإن قيل : قد افتتح غيرها - أى سورة الأنعام - بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره فيقال : لأن لكل واحدة منه معنى فى موضعه ، لا يؤدى عن غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة ، وأيضاً فلما فيه من الحجة فى هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون " .
ثم بين القرآن بعد ذلك الأسباب التى تحمل العقلاء على أن يجعلوا حمدهم كله لله - تعالى - فقال :
{ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور } .
والمعنى : الحمد كله لله الذى أنشأ بقدرته هذه العوالم العلوية والسفلية ، وأوجد ما فيها من مخلوقات ناطقة وصامتة ، وظاهرة وخافية ، وأحدث ما يتعاقب عليها من تحولات وتقلبات ونور وظلمات . فالجملة الكريمة قد اشتملت على صفتين من صفات الله - تعالى - تثبتان وجوب استحقاق الحمد الكامل لله - عز وجل - وهما خلق السموات والأرض ، وجعل الظلمات والنور .
وعبر - سبحانه - فى جانب السموات والأرض بخلق ، وفى جانب الظلمات والنور بجعل ، لأن الخلق معناه هنا الإنشاء والإيجاد الابتدائي من العدم ، أما الجعل فيتضمن معنى تكوين شىء من شىء أو من أشياء ، فالظلمات تتولد من اختفاء الشمس عن الأرض ، والنور يتكون من بزوغ الشمس على الأرض ، وهذه التقلبات الكونية هى بتقدير الله العزيز العليم .
قال صاحب الكشاف : " والفرق بين الخلق والجعل . أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفى الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شىء من شىء ، أو تصيير شىء شيئاً ، أو نقله من مكان إلى مكان ، ومن ذلك { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } { وَجَعَلَ الظلمات والنور } ، لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار " .
وقال الفخر الرازى : " وإنما حسن لفظ الجعل هنا ، لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كل واحد منهما كأنما تولد من الآخر " .
وقال أبو السعود : " والجعل هنا هو الإنشاء والإبداع كالخلق ، خلا أن ذلك - أى الخلق - مختص بالإنشاء التكوينيى وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما فى الآية الكريمة والتشريعى أيضاً كما فى قوله - تعالى - { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ } وقد وردت نصوص تصرح بأن الأرض سبع طبقات كالسموات . إلا أنها فى كثير من المواضع القرآنية تفرد - أى الأرض - وتجمع السماء كما هنا ، لعظم السماء . ولإحاطتها بالأرض ، ولأنه لم يعرف أن الله - تعالى - قد عصى فيها ، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض ، بخلاف طبقات الأرض فإنها متصلة .
والمراد بالظلمات هنا الظلمات الحسية ، كما أن المراد بالنور النور الحسى لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولأنهما إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان ، ولأن القرآن يستشهد عليهم بمقتضى ما يعلمونه من تفرده بالخلق وهم يعلمون تفرده - سبحانه - بخلق هذه الأشياء .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالظلمات ، ظلمات الشرك والكفر والنفاق ، وأن المراد بالنور ، نور الإيمان والإسلام واليقين ، وعلى هذا الرأى يكون المراد بهما معنويا لا حسيا .
قال صاحب المنار : قال الواحدى : والأولى حمل اللفظين عليهما ، واستشكله الرازى لأنه مبنى على القول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، والمختار عندنا جوازه ، وجواز استعمال المشترك فى معنييه أو معانيه إذا احتمل المقام ذلك بلا التباس كما هنا ، والتعبير بالجعل دون الخلق يلائم هذا فإن الجعل يشمل الخلق والأمر - أى الشرع - كما تقدم ، فيفسر جعل كل نور بما يليق به .
وعبر القرآن فى جانب الظلمات بصيغة الجمع ، وفى جانب النور بالإفراد لأن النور واحد ومن نتائجه الكشف والظهور ، وتعدد أسبابه لا يغير حقيقته . أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها ، فهناك ظلمة الليل ، وهناك ظلمة السجون ، وهناك ظلمة القبور ، وهناك ظلمة الغمام ، وهى تتغير حقائها بتغير أسبابها . ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوى وهى أن ظلمة الإدراك تتعد حقائقها ، فهناك ظلمة الانحراف ، وظلمة الأهواء ، والشهوات وطمس القلوب .
والنور واحد { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } فالنور فى هذا واحد .
ثم بين - سبحانه - الموقف الجحودى الذى وقفه المشركون من قضية الألوهية فقال { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } .
العدل : المراد به هنا التسوية ، فقال : عدل الشىء بالشىء إذا سواه به والمعنى : أن الله - تعالى - هو الذى خلق السموات والأرض ، وهو الذى جعل الظلمات والنور ، فهو لذلك من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده وأن يخصوه بالحمد والثناء ، ولكن المشركين مع كل هذه الدلائل الدالة على وحدانية الله وقدرته يساوون به غيره فى العبادة ، ويشركون معه آلهة أخرى لا تنفع ولا تضر .
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة { الحمد للَّهِ } على معنى أن الله - تعالى - حقيق بالحمد على ما خلق من نعم ، وأوجد من كائنات ثم الذين كفروا يجحدون كل ذلك فيشركون معه آلهة أخرى .
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة " خلق السموات والأرض " على معنى أن الله - تعالى - قد خلق الأشياء العظيمة التى لا يقدر عليها أحد سواه ، ثم إن المشركين بعد ذلك يعدلون به جماداً لا يقدر على شىء أصلا .
وجاء العطف " بثم " لإفادة استبعاد واستقباح ما فعله الكافرون . فإنهم رغم البراهين الواضحة والدالة على وحدانية الله وقدرته ، قد نزلوا بمداركهم إلى الحضيض فسووا فى العبادة بين الخالق والمخلوق .
قال القرطبى : قال ابن عطية : فثم دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى أن خلق السموات والأرض قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين ، ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمنى ! ولو وقع العطف بالواو فى هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم " .
سورة الأنعام مكية وآياتها خمس وستون ومائة
هذه السورة مكية . . من القرآن المكي . . القرآن الذي ظل يتنزل على رسول الله [ ص ] ثلاثة عشر عاما كاملة ، يحدثه فيها عن قضية واحدة . قضية واحدة لا تتغير ولكن طريقة عرضها لا تكاد تتكرر ذلك أن الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة حتى لكأنما يطرقها للمرة الأولى لقد كان يعالج القضية الأولى والقضية الكبرى والقضية الأساسية في هذا الدين الجديد قضية العقيدة ممثلة في قاعدتها الرئيسية الألوهية والعبودية وما بينهما من علاقة لقد كان يخاطب بهذه القضية الإنسان الإنسان بما أنه إنسان وفي هذا المجال يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان كما يستوي الإنسان العربي وكل إنسان في ذلك الزمان وفي كل زمان إنها قضية الإنسان التي لا تتغير لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه الأحياء وهي قضية لا تتغير لأنها قضية الوجود والإنسان لقد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله كان يقول له من هو ومن أين جاء ؛ وكيف جاء ؛ ولماذا جاء وإلى أين يذهب في نهاية المطاف من ذا الذي جاء به من العدم والمجهول ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك وكان يقول له ما هذا الوجود الذي يحسه ويراه والذي يحس أن وراءه غيبا يستشرفه ولا يراه من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار من ذا يدبره ومن ذا يحوره ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه وكان يقول له كذلك كيف يتعامل مع خالق هذا الكون ومع الكون أيضا كيف يتعامل العباد مع خالق العباد وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود الإنسان وستظل هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاما كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى القضية التي ليس وراءها شيء في حياة الإنسان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من البيان ، وأنها استقرت استقرارا مكينا ثابتا في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان ، التي قدر الله لها أن يقوم هذا الدين عليها ؛ وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه هذا الدين .
وأصحاب الدعوة إلى دين الله ، وإقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين في واقع الحياة ؛ خليقون أن يقفوا طويلا أمام هذه الظاهرة الكبيرة . . ظاهرة تصدي القرآن المكي خلال ثلاثة عشر عاما . . لتقرير هذه العقيدة ؛ ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي يعتنقها . .
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها منذ اليوم الأول للرسالة . وأن يبدأ رسول الله [ ص ] أولى خطواته في الدعوة ، بدعوة الناس أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ؛ وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ، ويعبدهم له دون سواه .
ولم تكن هذه - في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب - هي أيسر السبل إلى قلوب العرب ! فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى : " إله " ومعنى : " لا إله إلا الله " . . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا . . وكانوا يعرفون أن توحيد الألوهية وإفراد الله - سبحانه - بها ، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ومشيخة القبائل والأمراء والحكام ، ورده كله إلى الله . . السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة . . السلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان . . كانوا يعلمون أن : " لا إله إلا الله " ثورة على السلطان الأرضي ، الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية ، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة من هذا الاغتصاب ؛ وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها لم يأذن بها الله . . ولم يكن يغيب عن العرب - وهم يعرفون لغتهم جيدا ، ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة : " لا إله إلا الله " - ماذا تعنيه هذه الدعوة بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم . . ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة - أو هذه الثورة - ذلك الاستقبال العنيف ، وحاربوها تلك الحرب التي يعرفها الخاص والعام . .
فلم كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة ؟ ولم اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل هذا العناء ؟
لقد بعث رسول الله [ ص ] بهذا الدين ، وأخصب بلاد العرب وأغناها ليست في أيدي العرب ؛ إنما هي في يد غيرهم من الأجناس !
بلاد الشام كلها في الشمال خاضعة للروم ، يحكمها أمراء من العرب من قبل الرومان . وبلاد اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس يحكمها أمراء من العرب من قبل الفرس . . وليس في أيدي العرب إلا الحجاز ونجد وما إليهما من الصحارى القاحلة ، التي تتناثر فيها الواحات الخصبة هنا وهناك !
وكان في استطاعة محمد [ ص ] وهو الصادق الأمين ؛ الذي حكمه أشراف قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود ، وارتضوا حكمه ، منذ خمسة عشر عاما ؛ والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا . . كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب ، التي أكلتها الثارات ، ومزقتها النزاعات ، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة ؛ الرومان في الشمال والفرس في الجنوب ؛ وإعلاء راية العربية والعروبة ؛ وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة . .
ولو دعا يومها رسول الله [ ص ] هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة - على الأرجح - بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة !
وربما قيل : إن محمدا [ ص ] كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة ؛ وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة ؛ وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه . . أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله [ ص ] هذا التوجيه ! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله : وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء !
لماذا ؟ إن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه . . إنما هو - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق . . ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى يد طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاعوت ! . . إن الأرض لله ، ويجب أن تخلص لله . ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية : " لا إله إلا الله " . . وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي . . إلى طاغوت عربي . . فالطاغوت كله طاغوت ! إن الناس عبيد لله وحده ، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية : " لا إله إلا الله " . . " لا اله الا الله " كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته : لا حاكمية إلا لله ، ولا شريعة إلا من الله ، ولا سلطان لأحد على أحد ، لأن السلطان كله لله . . ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة ، التي يتساوي فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله .
وبعث رسول الله [ ص ] بهذا الدين ، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة . . قلة قليلة تملك المال والتجارة ؛ وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها . وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع . . والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة ؛ وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا !
وكان في استطاعة محمد [ ص ] أن يرفعها راية اجتماعية ؛ وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف ؛ وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء !
ولو دعا يومها رسول الله [ ص ] هذه الدعوة ، لانقسم المجتمع العربي صفين : الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة ، في وجه طغيان المال والشرف . بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه : " لا إله إلا الله " التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس .
وربما قيل : إن محمدا [ ص ] كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة ؛ وتوليه قيادها ؛ فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها . . أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه ، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجهه هذا التوجيه . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن هذا ليس هو الطريق . . كان يعلم أن العدالة الاجتماعية لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل ؛ يرد الأمر كله لله ؛ ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع ، ومن تكافل بين الجميع ؛ ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله ؛ ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء . فلا تمتلى ء قلوب بالطمع ، ولا تمتلىء قلوب بالحقد ؛ ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا ؛ وبالتخويف والإرهاب ! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح ؛ كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير : " لا إله إلا الله " . .
وبعث رسول الله [ ص ] والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .
كان التظالم فاشيا في المجتمع ، تعبر عنه حكمة الشاعر : زهير بن أبى سلمى :
( ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدم ، ومن لا يظلم الناس يظلم )
ويعبر عنه القول المتعارف : " انصر أخاك ظالما أو مظلومًا " .
وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخرة كذلك ! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . . كالذي يقوله طرفة بن العبد :
( فلولا ثلاث هن من زينة الفتى *** وجدك لم أحفل متى قام عودي )
( فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد ! )
وكانت الدعارة - في صور شتى - من معالم هذا التجمع . . كالذي روته عائشة رضي الله عنها :
" إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو بنته ، فيصدقها ثم ينكحها . . والنكاح الآخر كان الرجل يقول لامرأته - إذا طهرت من طمثها - أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه . ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه . فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ! فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . . ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرآة ، كلهم يصيبها . فإذا حملت ووضعت ، ومر عليها ليال ، بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع ، حتى يجتمعوا عندها ، تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت ، فهو ابنك يا فلان ، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها ، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل . والنكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن - فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها ، جمعوا لها ودعوا القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ، ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك " . . . [ أخرجه البخاري في كتاب النكاح ] .
وكان في استطاعة محمد [ ص ] أن يعلنها دعوة إصلاحية ، تتناول تقويم الأخلاق ، وتطهير المجتمع ، وتزكية النفوس ، وتعديل القيم والموازين . .
وكان واحدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة ، يؤذيها هذا الدنس ؛ وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . .
وربما قال قائل : إنه لو صنع رسول الله [ ص ] ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة ؛ تتطهر أخلاقها ، وتزكو أرواحها ، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . . بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق !
ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم ، لم يوجه رسوله [ ص ] إلى مثل هذا الطريق . .
لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق ! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة ، تضع الموازين ، وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ؛ كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين . وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ؛ وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ؛ بلا ضابط ، وبلا سلطان ، وبلا جزاء !
فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لما تحرر الناس من سلطان العبيد ، ومن سلطان الشهوات سواء . . لما تقررت في القلوب : " لا إله إلا الله " . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . .
تطهرت الأرض من الرومان والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . . لقد تطهرت من الطاغوت كله : رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء .
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله ، ويزن بميزان الله ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ؛ ويسميها راية الإسلام ، لا يقرن إليها اسما آخر ؛ ويكتب عليها : " لا إله إلا الله " !
وتطهرت النفوس والأخلاق ، وزكت القلوب والأرواح ؛ دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ؛ ولأن الطمع في رضى الله وثوابه ، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . .
وارتفعت البشرية في نظامها ، وفي أخلاقها ، وفي حياتها كلها ، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ؛ والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . .
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ؛ كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا ، لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . . وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . . وعدا واحدا هو الجنة . . هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني ، والابتلاء الشاق ، والمضي في الدعوة ، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان ، في كل زمان وفي كل مكان ، وهو : " لا إله إلا الله " !
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا ؛ ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم ؛ ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض - كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم ، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم - ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم ، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض . ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت . .
لما أن علم الله منهم ذلك كله ، علم أنهم قد أصبحوا - إذن - أمناء على هذه الأمانة الكبرى . أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر ، وفي الأرواح والأموال ، وفي الأوضاع والأحوال . . وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها ، وعلى عدل الله يقيمونه ، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولالجنسهم ؛ إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته ، لأنهم يعلمون أنه من الله ، هو الذي آتاهم إياه .
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع ، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء ، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها . . راية لا إله إلا الله . . ولا ترفع معها سواها . . وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره ؛ المبارك الميسر في حقيقته .
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله ، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية ، أو دعوة اجتماعية ، أو دعوة أخلاقية . . أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد : " لا إله إلا الله " . .
ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير : " لا إله إلا الله " في القلوب والعقول ، واختيار هذا الطريق - على مشقته في الظاهر - وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى ؛ والإصرار على هذا الطريق . .
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها ، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها ، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها . . فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية . .
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا . . فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة . . كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير . . وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان ، الضاربة في الهواء . . لا بد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة ، وفي مساحات واسعة ؛ تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء . . فكذلك هذا الدين . . إن نظامه يتناول الحياة كلها ؛ ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها ؛ وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها ، ولكن كذلك في الدار الآخرة ؛ ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها ؛ ولا في المعاملات الظاهرة المادية ، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا . . فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية . . ولا بد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا . .
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته ؛ يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده ؛ ويجعل بناء العقيدة وتمكينها ، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها . . ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة ، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء ، والضارب من جذورها في الأعماق . .
ومتى استقرت عقيدة : " لا إله إلا الله " في أعماقها الغائرة البعيدة ، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه : " لا إله إلا الله " ؛ وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة . . واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته ، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته . فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان . . وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول ، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له . وهكذا أبطلت الخمر ، وأبطل الربا ، وأبطل الميسر ، وأبطلت العادات الجاهلية كلها ، أبطلت بآيات من القرآن ، أو كلمات من رسول الله [ ص ] بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها ، وجندها وسلطانها ، ودعايتها وإعلامها . . فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات ؛ بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات !
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم . . إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد . . جاء ليحكم الحياة في واقعها ؛ ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره . . يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه . . ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا ، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده .
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض ! إنه منهج يتعامل مع الواقع ! فلا بد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله ، وأن الحاكمية ليست إلا لله ؛ ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله ؛ ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة . .
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا ، تكون له حياة واقعية ، تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع . . وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع . . لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع ، رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع . .
ولا بد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع ؛ حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها . . فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها .
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم . وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله . . ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع ؛ وإنما نزل لهم عقيدة ، وخلقا منبثقا من العقيدة بعد اسقرارها في الأعماق البعيدة . . فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع ؛ وتقرر لهم النظام ؛ الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية ؛ والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ . .
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ، ليختزنوها جاهزة ، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة ! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين ! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية ! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا . . إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص ، وفق حجمه وشكله وملابساته . .
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام ، وأن يصوغ تشريعات حياة . . بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها ، ورفض كل شريعة سواها ، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه . . الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين ، ولا كيف يعمل في الحياة ؛ كما يريد له الله . .
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية ، ومناهج بشرية . ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة . . إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض ، تواجه مستقبلا غير موجود . . والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده . . عقيدة تملأ القلب ، وتفرض سلطانها على الضمير . عقيدة مقتضاهاألا يخضع الناس إلا لله ، ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله . وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم ، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم ، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية ، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك .
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية ، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين ، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين ! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة : لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله ، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم . . إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم . .
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة . . هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة . .
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس ، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلام في حياتها الاجتماعية ؛ لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس ؛ وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله .
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه ؛ كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية ، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي . . فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد . .
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين ، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين ، وطبيعة منهجه الرباني القويم ، المؤسس على حكمه العليم الحكيم ، وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة . . نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي - بل التشريعات الإسلامية كذلك - على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة ، ويحبب الناس في هذا الدين !
وهذا وهم تنشئه العجلة ! وهم كالذي كان يقترحه المقترحون : أن تقوم دعوة رسول الله [ ص ] - في أولها تحت راية قومية ، أو اجتماعية ، أو أخلاقية ، تيسيرا للطريق !
إن النفوس يجب أن تخلص أولا لله ، وتعلن عبوديتها له ، بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره . . من ناحية المبدأ . . قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه !
إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية لله ، والتحرر من سلطان سواه . . لا من أن النظام المعروض عليها . . في ذاته . . خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل .
إن نظام الله خير في ذاته ، لأنه من شرع الله . ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع الله . . ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة . . إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحدة ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام . وليس للإسلام مدلول سواه . فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته . . فهذه إحدى بديهيات الإيمان !
وبعد فلا بد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما . . إنه لم يعرضها في صورة " نطرية " ! ولم يعرضها في صورة " لاهوت " ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاولهفيما بعد ما سمي ب " علم التوحيد " أو " علم الكلام " !
كلا . . لقد كان القرآن الكريم يخاطب فطرة " الإنسان " بما في وجوده هو وبما في الوجود من حوله من دلائل وإيحاءات . . كان يستنقذ فطرته من الركام ؛ ويخلص أجهزة الاستقبال الفطرية مما ران عليها وعطل وظائفها ؛ ويفتح منافذ الفطرة لتتلقى الموحيات المؤثرة وتستجيب لها . . والسورة التي بين أيدينا نموذج كامل من هذا المنهج المتفرد وسنتحدث عن خصائصها بعد قليل هذا بصفة عامة . وبصفة خاصة كان القرآن يخوض بهذه العقيدة معركة حية واقعية . . كان يخوض بها معركة مع الركام المعطل للفطرة . . في نفوس آدمية حاضرة واقعة . . ومن ثم لم يكن شكل " النظرية " هو الشكل الذي يناسب هذا الواقع الحاضر . إنما كان هو شكل المواجهة الحية للعقابيل والسدود والحواجز والمعوقات النفسية والواقعية في النفوس الحاضرة الحية . . ولم يكن الجدل الذهني الذي انتهجه - في العصور المتأخرة - علم التوحيد ، هو الشكل المناسب كذلك . . فلقد كان القرآن يواجه واقعا بشريا كاملا بكل ملابساته الحية ؛ ويخاطب الكينونة البشرية بجملتها في خضم هذا الواقع . . وكذلك لم يكن " اللاهوت " هو الشكل المناسب . فإن العقيدة الإسلامية ولو أنها عقيدة ، إلا أنها عقيدة تمثل منهج حياة واقعية للتطبيق العملي ؛ ولا تقبع في الزاوية الضيقة التي تقبع فيها الأبحاث اللاهوتية النظرية !
كان القرآن وهو يبني العقيدة في ضمائر الجماعة المسلمة يخوض بهذه الجماعة المسلمة معركة ضخمة مع الجاهلية من حولها ؛ كما يخوض بها معركة ضخمة مع رواسب الجاهلية في ضميرها وأخلاقها وواقعها . . ومن هذه الملابسات ظهر بناء العقيدة ، لا في صورة نظرية ، ولا في صورة لاهوت ولا في صورة جدل كلامي . . ولكن في صورة تكوين تنظيمي مباشر للحياة ، ممثل في الجماعة المسلمة ذاتها . وكان نمو الجماعة المسلمة في تصورها الاعتقادي ، وفي سلوكها الواقعي وفق هذا التصور ، وفي دربتها على مواجهة الجاهلية كمنظمة محاربة لها . . كان هذا النمو ذاته ممثلا تماما لنمو البناء العقيدي ، وترجمة حية له . . وهذا هو منهج الإسلام الذي يمثل طبيعته كذلك . .
وإنه لمن الضروري لأصحاب الدعوة الإسلامية أن يدركوا طبيعة هذا الدين ومنهجه في الحركة على هذا النحو الذي بيناه . . ذلك ليعلموا أن مرحلة بناء العقيدة التي طالت في العهد المكي على هذا النحو ، لم تكن منعزلة عن مرحلة التكوين العملي للحركة الإسلامية ، والبناء الواقعي للجماعة المسلمة . . لم تكن مرحلة تلقي " النظرية " ودراستها ! ولكنها كانت مرحلة البناء القاعدي للعقيدة وللجماعة وللحركة وللوجود الفعلي معا . . وهكذا ينبغي أن تكون كلما أريد إعادة هذا البناء مرة أخرى . .
هكذا ينبغي أن تطول مرحلة بناء العقيدة ؛ وأن تتم خطواتها على مهل وفي عمق وتثبت . . وهكذا ينبغي ألا تكون مرحلة بناء العقيدة مرحلة دراسة نظرية للعقيدة ؛ ولكن مرحلة ترجمة لهذه العقيدة في صورة حية ، متمثلة في ضمائر متكيفة بهذه العقيدة ؛ ومتمثلة في بناء جماعي يعبر نموه عن نمو العقيدة ذاتها ؛ ومتمثلة في حركة واقعية تواجه الجاهلية وتخوض معها المعركة في الضمير وفي الواقع كذلك ؛ لتتمثل العقيدة حية وتنمو نموا حيا في خضم المعركة .
وخطأ أي خطأ - بالقياس إلى الإسلام - أن تتبلور النظرية في صورة نظرية مجردة للدراسة النظرية . . المعرفية الثقافية . . بل خطر أي خطر كذلك . .
إن القرآن لم يقض ثلاثة عشر عاما كاملة في بناء العقيدة بسبب أنه كان يتنزل للمرة الأولى . . كلا ! فلو أراد الله لأنزل هذا القرآن جملة واحدة ؛ ثم ترك أصحابه يدرسونه ثلاثة عشر عاما أو أكثر أو أقل ، حتى يستوعبوا " النظرية الإسلامية " !
ولكن الله - سبحانه - كان يريد أمراً آخر . كان يريد منهجا معينا متفردا . كان يريد بناء الجماعة وبناء الحركة وبناء العقيدة في وقت واحد . كان يريد أن يبني الجماعة والحركة بالعقيدة ، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة ! كان يريد أن تكون العقيدة هي واقع الجماعة الفعلي ، وأن يكون واقع الجماعة الحركي الفعلي هو صورة العقيدة . . وكان الله - سبحانه - يعلم أن بناء النفوس والجماعات لا يتم بين يوم وليلة . . فلم يكن بد أن يستغرق بناء العقيدة المدى الذي يستغرقه بناء النفوس والجماعة . . حتى إذا نضج التكوين العقيدي كانت الجماعة هي المظهر الواقعي لهذا النضوج . .
هذه هي طبيعة هذا الدين - كما تستخلص من منهج القرآن المكي - ولا بد أن نعرف طبيعته هذه ؛ ولا نحاول أن نغيرها تلبية لرغبات معجلة مهزومة أمام أشكال النظريات البشرية ! فهو بهذه الطبيعة صنع الأمة المسلمة أول مرة ، وبها يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود ، كما أخرجها الله أول مرة . .
يجب أن ندرك خطأ المحاولة ، وخطرها معا ، في تحويل العقيدة الإسلامية الحية التي يجب أن تتمثل في واقع تام حي متحرك ، إلى " نظرية " للدراسة والمعرفة الثقافية لمجرد أننا نريد أن نواجه " النظريات " البشرية الهزيلة بنظرية إسلامية !
إن العقيدة الإسلامية يجب أن تتمثل في نفوس حية ، وفي تنظيم واقعي ، وفي حركة تتفاعل مع الجاهلية من حولها ، كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها - بوصفهم كانوا من أهل الجاهلية قبل أن تدخل العقيدة إلى نفوسهم وتنتزعها من الوسط الجاهلي . وهي في صورتها هذه تشغل من القلوب والعقول ومن الحياة أيضا مساحة أضخم وأوسع وأعمق مما تشغله " النظرية " ؛ وتشمل - فيما تشمل - مساحة النظرية ومادتها . ولكنها لا تقتصر عليها .
إن التصور الإسلامي للألوهية وللوجود الكوني وللحياة وللإنسان ، تصور شامل كامل . ولكنه كذلك تصور واقعي إيجابي . وهو يكره - بطبيعته - أن يتمثل في مجرد تصور ذهني معرفي . لأن هذا يخالف طبيعته وغايته . ويجب أن يتمثل في أناسي ، وفي تنظيم حي ، وفي حركة واقعية . . وطريقته في التكون أن ينمو من خلال الأناسي والتنظيم الحي والحركة الواقعية ؛ حتى يكتمل نظريا في نفس الوقت الذي يكتمل فيه واقعيا ؛ ولا ينفصل في صورة نظرية ؛ بل يظل ممثلا في الصورة الواقعية . .
وكل نمو نظري يسبق النمو الحركي الواقعي ، ولا يتمثل من خلاله ، هو خطأ وخطر كذلك بالقياس إلى طبيعة هذا الدين ، وغايته ، وطريقة تركيبه الذاتي .
( وقرآنا فرقناه ، لتقرأه على الناس على مكث ، ونزلناه تنزيلًا ) . .
فالفرق مقصود . والمكث مقصود كذلك . . ليتم البناء التكويني المؤلف من عقيدة في صورة " منظمة حية " لا في صورة " نظرية معرفية " !
يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدا ، أنه كما أن هذا الدين دين رباني ، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك ، متواف مع طبيعته . وأنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل .
ويجب أن يعرفوا كذلك أن هذا الدين كما أنه جاء ليغير التصور الاعتقادي - ومن ثم يغير الواقع الحيوي - فكذلك هو قد جاء ليغير المنهج الفكري والحركي الذي يبني به التصور الاعتقادي ويغير به الواقع الحيوي . . جاء ليبني عقيدة وهو يبني أمة . . ثم لينشىء منهج تفكير خاصا به بنفس الدرجة التي ينشىء بها تصورا اعتقاديا وواقعا حيويا . ولا انفصال بين منهج تفكيره الخاص وتصوره الاعتقادي وبنائه الحيوي ، فكلها حزمة واحدة .
فإذا عرفنا منهجه في العمل على النحو الذي بيناه ، فلنعرف أن هذا المنهج أصيل ؛ وليس منهج مرحلة ولا بيئة ولا ظروف خاصة بنشأة الجماعة المسلمة الأولى . إنما هو المنهج الذي لا يقوم بناء هذا الدين إلا به .
إنه لم تكن وظيفة الإسلام أن يغير عقيدة الناس وواقعهم فحسب . ولكن كانت وظيفته أن يغير طريقة تفكيرهم ، وتناولهم للتصور وللواقع . ذلك أنه منهج رباني مخالف في طبيعته كلها لمناهج البشر القاصرة الهزيلة .
ونحن لا نملك أن نصل إلى التصور الرباني والحياة الربانية إلا عن طريق منهج تفكير رباني كذلك . منهج أراد الله أن يقيم منهج الناس في التفكير على أساسه ليصح تصورهم وتكوينهم الحيوي .
ونحن حين نريد من الإسلام أن يجعل من نفسه نظرية للدراسة نخرج عن طبيعة المنهج الرباني للتكوين ؛ وعن طبيعة المنهج الرباني للتفكير . ونخضع الإسلام لطرائق التفكير البشرية ! كأنما المنهج الرباني أدنى من المناهج البشرية ! وكأنما نريد لنرتقي بمنهج الله في التصور والحركة ليوازي مناهج العبيد !
والأمر من هذه الناحية يكون خطيرا . والهزيمة تكون قاتلة !
إن وظيفة المنهج الرباني أن يعطينا - نحن أصحاب الدعوة الإسلامية - منهجا خاصا للتفكير نبرأ به من رواسب مناهج التفكير الجاهلية السائدة في الأرض ؛ والتي تضغط على عقولنا وتترسب في ثقافتنا . . فإذا نحن أردنا أن نتناول هذا الدين بمنهج تفكير غريب عن طبيعته من مناهج التفكير الجاهلية الغالبة ، كنا قد أبطلنا وظيفته التي جاء ليؤديها للبشرية ؛ وحرمنا أنفسنا فرصة الخلاص من ضغط المنهج الجاهلي السائد في عصرنا ، وفرصة الخلاص من رواسبه في عقولنا وتكويننا .
والأمر من هذه الناحية كذلك يكون خطيرا ، والخسارة تكون قاتلة . .
إن منهج التفكير والحركة في بناء الإسلام ، لا يقل قيمة ولا ضرورة عن منهج التصور الاعتقادي والنظام الحيوي ؛ ولا ينفصل عنه كذلك . . ومهما يخطر لنا أن نقدم ذلك التصور وهذا النظام في صورة تعبيرية ، فيجب ألا يغيب عن بالنا أن هذا لا ينشى ء " الإسلام " في الأرض في صورة حركة واقعية ، بل يجب ألا يغيب عن بالنا أنه لن يفيد من تقديمنا الإسلام في هذه الصورة إلا المشتغلون فعلا بحركة إسلامية واقعية . وأن قصارى ما يفيده هؤلاء من تقديم الإسلام لهم في هذه الصورة هو أن يتفاعلوا معها بالقدر الذي وصلوا إليه هم فعلا في أثناء الحركة !
ومرة أخرى أكرر أن التصور الاعتقادي يجب أن يتمثل من فوره في تجمع حركي ؛ وأن يكون التجمع الحركي في الوقت ذاته تمثيلا صحيحا وترجمة حقيقية للتصور الاعتقادي .
ومرة أخرى أكرر كذلك أن هذا هو المنهج الطبيعي للإسلام الرباني ، وأنه منهج أعلى وأقوم وأشد فاعلية وأكثر انطباقا على الفطرة البشرية من منهج صياغة النظريات كاملة مستقلة وتقديمها في الصورة الذهنية الباردة للناس ، قبل أن يكون هؤلاء الناس مشتغلين بالفعل بحركة واقعية ؛ وقبل أن يكونوا هم أنفسهم ترجمة تنمو خطوة خطوة لتمثيل ذلك المفهوم النظري .
وإذا صح هذا في أصل النظرية فهو أصح - بطبيعة الحال - فيما يختص بتقديم أسس النظام الذي يتمثل فيه التصور الإسلامي ، أو تقديم التشريعات المفصلة لهذا النظام .
إن الجاهلية التي حولنا كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يستعجلون خطوات المنهج الإسلامي ، كذلك هي تتعمد أحيانا أن تحرجهم فتسألهم : أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه ؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن تفصيلات ومن مشروعات ؟ وهي في هذا تتعمد أن تعجلهم عن منهجهم ، وأن تجعلهم يتجاوزون مرحلة بناء العقيدة ؛ وأن يحولوا منهجهم الرباني عن طبيعته ، التي تتبلور فيها النظرية من خلال الحركة ، ويتحدد فيها النظام من خلال الممارسة ، وتسن فيها التشريعات في ثنايا مواجهة الحياة الواقعية بمشكلاتها الحقيقية . .
ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة ! من واجبهم أن يرفضوا إملاء منهج غريب على حركتهم وعلى دينهم ! من واجبهم ألا يستخفهم من لا يوقنون !
ومن واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها ؛ وأن يتحركوا بدينهم وفق منهج هذا الدين في الحركة . فهذا من أسرار قوته ، وهذا هو مصدر قوتهم كذلك .
إن المنهج في الإسلام يساوي الحقيقة ؛ ولا انفصام بينهما . . وكل منهج غريب لا يمكن أن يحقق الإسلام في النهاية . والمناهج الغربية الغريبة يمكن أن تحقق أنظمتها البشرية ؛ ؛ ولكنها لا يمكن أن تحقق نظامنا الرباني . . فالتزام المنهج ضروري كالتزام العقيدة وكالتزام النظام في كل حركة إسلامية . لا في الحركة الإسلامية الأولى كما يظن بعض الناس !
هذه هي كلمتي الأخيرة . . وإنني لأرجو أن أكون بهذا البيان لطبيعة القرآن المكي ، ولطبيعة المنهج الرباني المتمثل فيه ، قد بلغت ؛ وأن يعرف أصحاب الدعوة الإسلامية طبيعة منهجهم ، ويثقوا به ، ويطمئنوا إليه ؛ ويعلموا أن ما عندهم خير ، وأنهم هم الأعلون . . ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) . . صدق الله العظيم . .
ونمضي بعد ذلك لمواجهة السورة .
هذه السورة - وهي أولى السور المكية التي نتعرض لها هنا في سياق هذه الظلال - نموذج كامل للقرآن المكي الذي تحدثنا عن طبيعته وخصائصه ومنهجه في الصفحات السابقة ؛ وهي تمثل طبيعة هذا القرآن وخصائصه ومنهجه ، في موضوعها الأساسي ، وفي منهج التناول ، وفي طريقة العرض سواء . . ذلك مع احتفاظها " بشخصيتها " الخاصة ؛ وفق الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن ؛ والتي لا تخطئها الملاحظة البصيرة في أية سورة . . فلكل سورة شخصيتها ، وملامحها ، ومحورها ، وطريقة عرضها لموضوعها الرئيسي ؛ والمؤثرات الموحية المصاحبة للعرض ؛ والصور والظلال والجو الذي يظللها ؛ والعبارات الخاصة التي تتكرر فيها ؛ وتكون أشبه باللوازم المطردة فيها . . . حتى وهي تتناول موضوعا واحدا أو موضوعات متقاربة . فليس الموضوع هو الذي يرسم شخصية السورة ؛ ولكنه هذه الملامح والسمات الخاصة بها !
وهذه السورة - مع ذلك - تعالج موضوعها الأساسي بصورة فريدة . . إنها في كل لمحة منها وفي كل موقف ، وفي كل مشهد ، تمثل " الروعة الباهرة " . . الروعة التي تبده النفس ، وتشده الحس ، وتبهر النفس أيضا ؛ وهو يلاحق مشاهدها وإيقاعها وموحياتها مبهورا !
نعم ! هذه حقيقة ! حقيقة أجدها في نفسي وحسي وأنا أتابع سياق السورة ومشاهدها وإيقاعاتها . . وما أظنبشرا ذا قلب لا يجد منها لونا من هذا الذي أجد . . إن الروعة فيها تبلغ فعلا حد البهر . حتى لا يملك القلب أن يتابعها إلا مبهورا مبدوها !
إنها - في جملتها - تعرض " حقيقة الألوهية " . . تعرضها في مجال الكون والحياة ، كما تعرضها في مجال النفس والضمير ، وتعرضها في مجاهيل هذا الكون المشهود ، كما تعرضها في مجاهيل ذلك الغيب المكنون . . وتعرضها في مشاهد النشأة الكونية والنشأة الحيوية والنشأة الإنسانية ، كما تعرضها في مصارع الغابرين واستخلاف المستخلفين . . وتعرضها في مشاهد الفطرة وهي تواجه الكون ، وتواجه الأحداث ، وتواجه النعماء والضراء ، كما تعرضها في مظاهر القدرة الإلهية والهيمنة في حياة البشر الظاهرة والمستكنة ، وفي أحوالهم الواقعة والمتوقعة . . وأخيرا تعرضها في مشاهد القيامة ، ومواقف الخلائق وهي موقوفة على ربها الخالق . .
إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة ، بكل مقوماتها وبكل مكوناتها . وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية ، وتطوف بها في الوجود كله ، وراء ينابيع العقيدة وموحياتها المستسرة والظاهرة في هذا الوجود الكبير . . إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض ، تلحظ فيها الظلمات والنور ، وترقب الشمس والقمر والنجوم . وتسرح في الجنات المعروشات وغير المعروشات ، والمياه الهاطلة عليها والجارية فيها ؛ وتقف بها على مصارع الأمم الخالية ، وآثارها البائدة والباقية . ثم تسبح بها في ظلمات البر والبحر ، وأسرار الغيب والنفس ، والحي يخرج من الميت والميت يخرج من الحي ، والحبة المستكنة في ظلمات الأرض ، والنطفة المستكنة في ظلمات الرحم . ثم تموج بالجن والإنس ، والطير والوحش ، والأولين والآخرين ، والموتى والأحياء ، والحفظة على النفس بالليل والنهار . .
إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس ، وأقطار الحس . . ثم إنها اللمسات المبدعة المحيية ، التي تنتفض بعدها المشاهد والمعاني أحياء في الحس والخيال . . وإذا كل مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر ، جديد نابض ، كأنما تتلقاه النفس أول مرة ؛ وكأنما لم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان !
وهي تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات والصور والظلال مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة . ما تكاد الموجة تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها ، متشابكة معها ؛ في المجرى المتصل المتدفق !
وهي في كل موجة من هذه الموجات المتدافعة المتلاحقة المتشابكة ، تبلغ حد " الروعة الباهرة " التي وصفنا - مع تناسق منهج العرض في شتى المشاهد كما سنبين - وتأخذ على النفس أقطارها بالروعة الباهرة ، وبالحيوية الدافقة ، وبالإيقاع التصويري والتعبيري والموسيقي وبالتجمع والاحتشاد ومواجهة النفس من كل درب ومن كل نافذة !
ونحن - سلفا - على يقين أننا لسنا ببالغين شيئا في نقل إيقاعات هذه السورة إلى أي قلب إلا بأن ندع السورة ذاتها تنطلق بسياقها الذاتي ، وإيقاعها الذاتي ، إلى هذا القلب . . لسنا ببالغين شيئا بالوصف البشري والأسلوب البشري . . ولكنها مجرد المحاولة لإقامة القنطرة بين المعزولين عن هذا القرآن - بحكم بعدهم عن الحياة في جو القرآن - وبين هذا القرآن !
والحياة في جو القرآن لا تعني مدارسة القرآن ؛ وقراءته والاطلاع على علومه . . إن هذا ليس " جو القرآن " الذي نعنيه . . إن الذي نعنيه بالحياة في جو القرآن : هو أن يعيش الإنسان في جو ، وفي ظروف ، وفي حركة ، وفي معاناة ، وفي صراع ، وفي اهتمامات . . كالتي كان يتنزل فيها هذا القرآن . . أن يعيش الإنسان في مواجهةهذه الجاهلية التي تعم وجه الأرض اليوم ، وفي قلبه ، وفي همه ، وفي حركته ، أن " ينشى ء " الإسلام في نفسه وفي نفوس الناس ، وفي حياته وفي حياة الناس ، مرة أخرى في مواجهة هذه الجاهلية . بكل تصوراتها ، وكل اهتماماتها وكل تقاليدها ، وكل واقعها العملي ؛ وكل ضغطها كذلك عليه ، وحربها له ، ومناهضتها لعقيدتها الربانية ، ومنهجه الرباني ؛ وكل استجاباتها كذلك لهذا المنهج ولهذه العقيدة ؛ بعد الكفاح والجهاد والإصرار . .
هذا هو الجو القرآني الذي يمكن أن يعيش فيه الإنسان ؛ فيتذوق هذا القرآن . . فهو في مثل هذا الجو نزل ، وفي مثل هذا الخضم عمل . . والذين لا يعيشون في مثل هذا الجو معزولون عن القرآن مهما استغرقوا في مدارسته وقراءته والاطلاع على علومه . .
والمحاولة التي نبذلها لإقامة القنطرة بين المخلصين من هؤلاء وبين القرآن ، ليست بالغة شيئا ، إلا بعد أن يجتاز هؤلاء القنطرة ؛ ويصلوا إلى المنطقة الأخرى ؛ ويحاولوا أن يعيشوا في " جو القرآن " حقا بالعمل والحركة . وعندئذ فقط سيتذوقون هذا القرآن ؛ ويتمتعون بهذه النعمة التي ينعم الله بها على من يشاء . .
هذه السورة تعالج قضية العقيدة الأساسية . . قضية الألوهية والعبودية . . تعالجها بتعريف العباد برب العباد . . من هو ؟ ما مصدر هذا الوجود ؟ ماذا وراءه من أسرار ؟ من هم العباد ؟ من ذا الذي جاء بهم إلى هذا الوجود ؟ من أنشاهم ؟ من يطعمهم ؟ من يكفلهم ؟ من يدبر أمرهم ؟ من يقلب أفئدتهم وأبصارهم ؟ من يقلب ليلهم ونهارهم ؟ من يبدئهم ثم يعيدهم ؟ لأي شيء خلقهم ؟ ولأي أجل أجلهم ؟ ولأي مصير يسلمهم ؟ . . هذه الحياة المنبثقة هنا وهناك . . من بثها في هذا الموات ؟ . . هذا الماء الهاطل . هذا البرعم النابغ . هذا الحب المتراكب . هذا النجم الثاقب . هذا الصبح البازغ . هذا الليل السادل . هذا الفلك الدوار . . هذا كله من وراءه ؟ وماذا وراءه من أسرار ، ومن أخبار ؟ . . هذه الأمم ، وهذه القرون ، التي تذهب وتجيء ، وتهلك وتستخلف . . من ذا يستخلف?
إنها اللمسات العريضة للحقيقة الكبيرة ؛ والإيقاعات المديدة في مطلع السورة . وهي ترسم القاعدة الكلية لموضوع السورة ولحقيقة العقيدة :
( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) . .
إنها اللمسات الأولى . . تبدأ بالحمد لله . ثناء عليه ، وتسبيحا له ، واعترافا بأحقيته للحمد والثناء ، على ألوهيته المتجلية في الخلق والإنشاء . . بذلك تصل بين الألوهية المحمودة وخصيصتها الأولى . . الخلق . . وتبدأ بالخلق في أضخم مجالي الوجود . . السماوات والأرض . . ثم في أضخم الظواهر الناشئة عن خلق السماوات والأرض وفق تدبير مقصود . . الظلمات والنور . . فهي اللمسة العريضة التي تشمل الأجرام الضخمة في الكون المنظور ، والمسافات الهائلة بين تلك الأجرام ، والظواهر الشاملة الناشئة عن دورتها في الأفلاك . . لتعجب من قوم يرون صفحة الوجود الضخمة الهائلة الشاملة تنطق بقدرة الخالق العظيم كما تنطق بتدبيره الحكيم ، وهم بعد ذلك كله لا يؤمنون ولا يوحدون ولا يحمدون ؛ بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه :
( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) . .
فيا للمفارقة الهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون ، وآثارها الضائعة في النفس ! يا للمفارقة التي تعدل الأجرام الضخمة ، والمسافات الشاسعة ، والظواهر الشاملة . . بل تزيد . .
{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد ، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو يحمد ، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون ، وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات ، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها . { وجعل الظلمات والنور أنشأهما والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن . ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها ، أو لأن المراد بالظلمة الضلال ، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد ، وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكات . ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل . { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ويكون بربهم تنبيها على أنه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكونهم وتعيشهم ، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر ، أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه . ومعنى ثم : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان ، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل ، وعلى الثاني متعلقة ب{ يعدلون } والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
قيل هي كلها مكية وقال ابن عباس نزلت بمكة ليلا جملة إلا ست آيات وهي ' { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } ' وقوله ' { وما قدروا الله حق قدره } ' وقوله تعالى ' { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي } ' وقوله ' { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم } ' وقوله ' { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك } ' وقوله ' { والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه }'{[1]} وقال الكلبي الأنعام كلها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة في فنحاص اليهودي وهي{[2]} ' { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ' مع ما يرتبط بهذه الآية وذلك أن فنحاصا قال ما أنزل الله على بشر من شيء .
وقال ابن عباس نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك لهم زجل{[3]} يجأرون بالتسبيح . وقال كعب فاتحة التوراة فاتحة الأنعام ' { الحمد لله } ' إلى ' { يعدلون } ' وخاتمة التوراة خاتمة هود ' { وما ربك بغافل عما تعملون } ' وقيل خاتمتها ' { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له ' إلى ' تكبيرا }'{[4]} .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأنعام من نجائب القرآن{[5]} .
وقال علي بن أبي طالب من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضى ربه{[6]} .
هذا تصريح بأن الله تعالى هو الذي يستحق الحمد بأجمعه . لأن الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس ، فهو تعالى له الأوصاف السنية والعلم والقدرة والإحاطة والأنعام ، فهو أهل للمحامد على ضروبها وله الحمد الذي يستغرق الشكر المختص بأنه على النعم ، ولما ورد هذا الإخبار تبعه ذكر بعض أوصافه الموجبة للحمد ، وهي الخلق «للسماوات والأرض » قوام الناس وأرزاقهم ، { والأرض } ها هنا للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، والبادي من هذا الترتيب أن السماء خلقت من قبل الأرض ، وقد حكاه الطبري عن قتادة ، وليس كذلك لأن الواو لا ترتب المعاني ، والذي ينبني من مجموع آي القرآن أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء فخلقها ثم دحا الأرض بعد ذلك ، و { جعل } ها هنا بمعنى خلق لا يجوز غير ذلك ، وتأمل لم خصت { السماوات والأرض } ب { خلق } و { الظلمات والنور } ب { جعل }{[4814]} ؟ وقال الطبري { جعل } هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد ، لأن { جعل } إذا كانت على هذا النحو فلا بد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال المقاربة كقولك كاد زيد يموت ، «جعل » زيد يجيء ويذهب ، وأما إذا لم يرتبط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري{[4815]} .
وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين : { الظلمات } الليل و { النور } النهار ، وقالت فرقة : { الظلمات } الكفر و { النور } الإيمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة ، وهذا هو طريق اللغز الذي برىء القرآن منه ، و { النور } أيضاً هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه{[4816]} .
وقوله تعالى : { ثم } دالة على قبح فعل { الذين كفروا } لأن المعنى أن خلقه «السموات والأرض » وغيرهما قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله ، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه ب { ثم } ، { الذين كفروا } في هذا الموضع هم كل من عبد شيئاً سوى الله قال قتادة : هم أهل الشرك خاصة ، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضاً دون بعض فلم يصب ، إلا أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له ، ولفظ الآية أيضاً يشير إلى المانوية{[4817]} ، ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام ، وقول ابن أبزى :«إن المراد أهل الكتاب بعيد » . و { يعدلون } معناه يسوون ويمثلون ، وِعدل الشيء قرينه ومثيله ، والمنوية مجوس ، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو القدرية مجوس هذه الأمة{[4818]} ، ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقاً غير الله ، والقدرية تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقاً غير الله تعالى عن قولهم ، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول القدرية : إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده ، وإنما قلنا في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم مجوساً حقيقة لم يضفهم إلى الأمة ، وهذا كله أن لو صح الحديث والله الموفق .
ليس لهذه السورة إلا هذا الاسم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . روى الطبراني بسنده إلى عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد وورد عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأنس ابن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وأسماء بنت يزيد بن السكن ، تسميتها في كلامهم سورة الأنعام . وكذلك ثبتت تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة .
وسميت سورة الأنعام لما تكرر فيها من ذكر لفظ الأنعام ست مرات من قوله : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى قوله { إذ وصاكم الله بهذا } .
وهي مكية بالاتفاق فعن ابن عباس : أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة ، كما رواه عنه عطاء ، وعكرمة ، والعوفي ، وهو الموافق لحديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم آنفا . وروي أن قوله تعالى { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } الآية نزل في مدة حياة أبي طالب ، أي قبل سنة عشر من البعثة ، فإذا صح كان ضابطا لسنة نزول هذه السورة . وروى الكلبى عن ابن عباس : أن ست آيات منها نزلت بالمدينة ، ثلاثا من قوله { وما قدروا لله حق قدره } إلى منتهى ثلاث آيات ، وثلاثا من قوله { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى قوله ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } . وعن أبي جحيفة أن آية { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } مدنية .
وقيل نزلت آية { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى الي } الآية بالمدينة ، بناء على ما ذكر من سبب نزولها الآتي . وقيل : نزلت آية { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } الآية ، وآية { فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به } الآية ، كلتاهما بالمدينة بناء على ما ذكر من أسباب نزولهما كما سيأتي . وقال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما } الآية أنها في قول الأكثر نزلت يوم نزول قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية ، أي سنة عشر ، فتكون هذه الآيات مستثناة من مكية السورة ألحقت بها . وقال ابن عطية في تفسير قوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره } الآية من هذه السورة . إن النقاش حكى أن سورة الأنعام كلها مدنية . ولكن قال ابن الحصار : لا يصح نقل في شيء نزل من الأنعام في المدينة . وهذا هو الأظهر وهو الذي رواه أبو عبيد ، والبيهقي ، وابن مردويه ، والطبراني ، عن ابن عباس ؛ وأبو الشيخ عن أبي بن كعب .
وعن ابن عباس أنها نزلت بمكة جملة واحدة ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم .
وروى سفيان الثوري ، وشريك عن أسماء بنت يزيد الأنصارية : نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وهو في مسير وأنا آخذة بزمام ناقته إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة . ولم يعينوا هذا المسير ولا زمنه غير أن أسماء هذه لا يعرف لها مجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته ولا هي معدودة فيمن تابع في العقبة الثانية حتى يقال : إنها لقيته قبل الهجرة ، وإنما المعدودة أسماء بنت عمرو بن عدي . فحال هذا الحديث غير بين . ولعله التبس فيه قراءة السورة في ذلك السفر بأنها نزلت حينئذ .
قالوا : ولم تنزل من السور الطوال سورة جملة واحدة غيرها . وقد وقع مثل ذلك في رواية شريك عن أسماء بنت يزيد كما علمته آنفا ، فلعل حكمة إنزالها جملة واحدة قطع تعلل المشركين في قولهم { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } . توهما منهم أن تنجيم نزوله يناكد كونه كتابا ، فأنزل الله سورة الأنعام . وهي في مقدار كتاب من كتبهم التي يعرفونها كالإنجيل والزبور ، ليعلموا أن الله قادر على ذلك ، إلا أن حكمة تنجيم النزول أولى بالمراعاة . وأيضا ليحصل الإعجاز بمختلف أساليب الكلام من قصر وطول وتوسط ، فإن طول الكلام قد يقتضيه المقام ، كما قال قيس بن خارجة يفخر بما عنده من الفضائل : وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب الخ .
وقال أبو دؤاد بن جرير الأيادي يمدح خطباء إياد :
يرمون بالخطب الطوال وتارة *** وحي الملاحظ خيفة الرقباء
واعلم أن نزول هذه السورة جملة واحدة على الصحيح لا يناكد ما يذكر لبعض آياتها من أسباب نزولها ، لأن أسباب نزول تلك الآيات إن كان لحوادث قبل الهجرة فقد تتجمع أسباب كثيرة في مدة قصيرة قبل نزول هذه السورة ، فيكون نزول تلك الآيات مسببا على تلك الحوادث ، وإن كان بعد الهجرة جاز أن تكون تلك الآيات مدنية ألحقت بسورة الأنعام لمناسبات . على أن أسباب النزول لا يلزم أن تكون مقارنة لنزول آيات أحكامها فقد يقع السبب ويتأخر تشريع حكمه .
وعلى القول الأصح أنها مكية فقد عدت هذه السورة الخامسة والخمسين في عد نزول السور . نزلت بعد سورة الحجر وقبل سورة الصافات .
وعدد آياتها مائة وسبع وستون في العدد المدني والمكي ، ومائة وخمس وستون في العدد الكوفي ، ومائة وأربع وستون في الشامي والبصري .
ابتدأت بإشعار الناس بأن حق الحمد ليس إلا لله لأنه مبدع العوالم جواهر وأعراضا فعلم أنه المتفرد بالإلهية . وإبطال تأثير الشركاء من الأصنام والجن بإثبات أنه المتفرد بخلق العالم جواهره وأعراضه ، وخلق الإنسان ونظام حياته وموته بحكمته تعالى وعلمه ، ولا تملك آلهتهم تصرفا ولا علما .
وتنزيه الله عن الولد والصاحبة . قال أبو إسحاق الإسفرائيني في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد .
وموعظة المعرضين عن آيات القرآن والمكذبين بالدين الحق ، وتهديدهم بأن يحل بهم ما حل بالقرون المكذبين من قبلهم والكافرين بنعم الله تعالى ، وأنهم ما يضرون بالإنكار إلا أنفسهم .
ووعيدهم بما سيلقون عند نزع أرواحهم ، ثم عند البعث .
وتسفيه المشركين فيما اقترحوه على النبي صلى الله عليه وسلم من طلب إظهار الخوارق تهكما .
وإبطال اعتقادهم أن الله لقنهم على عقيدة الإشراك قصدا منهم لإفحام الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان حقيقة مشيئة الله .
وإثبات صدق القرآن بأن أهل الكتاب يعرفون أنه الحق .
والإنحاء على المشركين تكذيبهم بالبعث ، وتحقيق أنه واقع ، وأنهم يشهدون بعده العذاب ، وتتبرأ منهم آلهتهم التي عبدوها ، وسيندمون على ذلك ، كما أنها لا تغني عنهم شيئا في الحياة الدنيا ، فإنهم لا يدعون إلا الله عند النوائب .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يؤاخذ بإعراض قومه ، وأمره بالإعراض عنهم .
وبيان حكمة إرسال الله الرسل ، وأنها الإنذار والتبشير وليست وظيفة الرسل إخبار الناس بما يتطلبون علمه من المغيبات .
وأن تفاضل الناس بالتقوى والانتساب إلى دين الله .
وإبطال ما شرعه أهل الشرك من شرائع الضلال .
وبيان أن التقوى الحق ليست مجرد حرمان النفس من الطيبات بل هي حرمان النفس من الشهوات التي تحول بين النفس وبين الكمال والتزكية .
وضرب المثل للنبي مع قومه بمثل إبراهيم مع أبيه وقومه ؛ وكان الأنبياء والرسل على ذلك المثل من تقدم منهم ومن تأخر .
والمنة على الأمة بما أنزل الله من القرآن هدى لهم كما أنزل الكتاب على موسى ، وبأن جعلها الله خاتمة الأمم الصالحة .
وبيان فضيلة القرآن ودين الإسلام وما منح الله لأهله من مضاعفة الحسنات .
وتخللت ذلك قوارع للمشركين ، وتنويه بالمؤمنين ، وامتنان بنعم اشتملت عليها مخلوقات الله ، وذكر مفاتح الغيب .
قال فخر الدين : قال الأصوليون أي علماء أصول الدين : السبب في إنزالها دفعة واحدة أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوءة والمعاد وإبطال مذاهب المعطلين والملحدين فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله على قدر حاجاتهم وبحسب الحوادث ، وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله جملة واحدة .
وهي أجمع سور القرآن لأحوال العرب في الجاهلية ، وأشدها مقارعة جدال لهم واحتجاج على سفاهة أحوالهم من قوله { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } ، وفيما حرموه على أنفسهم مما رزقهم الله .
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } .
ووردت في فضل سورة الأنعام وفضل آيات منها روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وابن عباس ، وأسماء بنت يزيد .
{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور }
جملة { الحمد لله } تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره لأنّها تدلّ على الحصر . واللام لتعريف الجنس ، فدلّت على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى . وقد تقدّم بيان ذلك مستوفى في أول سورة الفاتحة .
ثم إنّ جملة { الحمد لله } هنا خبر لفظاً ومعنىً إذ ليس هنا ما يصرف إلى قصد إنشاء الحمد بخلاف ما في سورة الفاتحة لأنّه عقّب بقوله : { إيّاك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] إلى آخر السورة ، فمن جوّز في هذه أن تكون إنشاء معنى لم يُجد التأمّل .
فالمعنى هنا أنّ الحمد كُلّه لا يستحقّه إلاّ الله ، وهذا قصر إضافي للردّ على المشركين الذين حمدوا الأصنام على ما تخيّلوه من إسدائها إليهم نعماً ونصراً وتفريج كربات ، فقد قال أبو سفيان حين انتصر هو وفريقه يوم أحُد : أعلُ هُبل لنا العُزّى ولا عُزّى لكم . ويجوز أن يكون قصراً حقيقياً على معنى الكمال وأنّ حمد غيره تعالى من المنعمين تسامح لأنّه في الحقيقة واسطة صورية لجريان نعمة الله على يديه ، والمقصود هو هو ، وهو الردّ على المشركين ، لأنّ الأصنام لا تستحقّ الحمد الصوري بله الحقيقي كما قال إبراهيم عليه السلام « لمَ نعْبُدُ ما لا يسمع ولا يُبْصر ولا يُغْني عنك شيئاً » . ولذلك عقّبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } .
والموصول ، في محلّ الصفة لاسم الجلالة ، أفاد مع صلته التذكير بعظيم صفة الخلق الذي عمّ السماوات والأرض وما فيهنّ من الجواهر والأعراض . وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى . وليس في التعريف بالموصولية هنا إيذان بتعليل الجملة التي ذكرت قبله ، إذ ليست الجملة إنشائية كما علمت . والجملة الخبرية لا تعلّل ، لأنّ الخبر حكاية ما في الواقع فلا حاجة لتعليله . فالمقصود من الأوصاف التمهيد لقوله بعدُ { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } .
وجمع : { السماوات } لأنّها عوالم كثيرة ، إذ كلّ كوكب منها عالم مستقلّ عن غيره ، ومنها الكواكب السبعة المشهورة المعبّر عنها في القرآن بالسماوات السبع فيما نرى . وأفرد الأرض لأنّها عالم واحد ، ولذلك لم يجيء لفظ الأرض في القرآن جمعاً .
وقوله : { وجعل الظلمات والنور } أشار في « الكشاف » أنّ ( جعلَ ) إذا تعدّى إلى مفعول واحد فهو بمعنى أحدث وأنشأ فيقارب مرادفة معنى ( خلق ) . والفرق بينه وبين ( خلق ) ؛ فإنّ في الخلق ملاحظة معنى التقدير ، وفي الجعل ملاحظة معنى الانتساب ، يعني كون المجعول مخلوقاً لأجل غيره أو منتسباً إلى غيره ، فيعْرف المنتسب إليه بمعونة المقام . فالظلمات والنور لمّا كانا عرضين كان خلقهما تكويناً لتُكيَّف موجودات السماوات والأرض بهما . ويعرف ذلك بذكر { الظلمات والنور } عقب ذكر { السماوات والأرض } ، وباختيار لفظ الخلق للسماوات والأرض ، ولفظ الجعل للظلمات والنور ، ومنه قوله تعالى : { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } [ الأعراف : 189 ] فإنّ الزوج وهو الأنثى مراعى في إيجاده أن يكون تكملة لخلق الذكر ، ولذلك عقّبه بقوله : { ليسكن إليها } [ الأعراف : 189 ] والخلق أعمّ في الإطلاق ولذلك قال تعالى في آية أخرى { يأيها النّاس اتّقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] لأنّ كلّ تكوين لا يخلو من تقدير ونظام .
وخَصّ بالذكر من الجواهر والأعراض عرضين عظيمين ، وهما : الظلمات والنور فقال { وجعل الظلمات والنور } لاستواء جميع الناس في إدراكهما والشعور بهما . وبذكر هذه الأمور الأربعة حصلت الإشارة إلى جنسي المخلوقات من جواهر وأعراض . فالتفرقة بين فعل ( خلق ) وفعل ( جعل ) هنا معدود من فصاحة الكلمات . وإنّ لكلّ كلمة مع صاحبتها مقاماً ، وهو ما يسمّى في عرف الأدباء برشاقة الكلمة ففعل ( خلق ) ألْيق بإيجاد الذوات ، وفعل ( جعل ) أليق بإيجاد أعراض الذوات وأحوالها ونظامها .
والاقتصار في ذكر المخلوقات على هذه الأربعة تعريض بإبطال عقائد كفار العرب فإنّهم بين مشركين وصابئة ومجوس ونصارى ، وكلّهم قد أثبتوا آلهة غير الله ؛ فالمشركون أثبتوا آلهة من الأرض ، وَالصابئة أثبتوا آلهة من الكواكب السماوية ، والنصارى أثبتوا إلهية عيسى أو عيسى ومريم وهما من الموجودات الأرضية ، والمجوس وهم المانوية ألّهوا النور والظلمة ، فالنور إله الخير والظلمة إله الشرّ عندهم . فأخبرهم الله تعالى أنّه خالق السماوات والأرض ، أي بما فيهم ، وخالق الظلمات والنور .
ثم إنّ في إيثار الظلمات والنور بالذكر دون غيرهما من الأعراض إيماء وتعريضاً بحالِيْ المخاطبين بالآية من كفر فريق وإيمان فريق ، فإنّ الكفر يشبه الظلمة لأنّه انغماس في جهالة وحيرة ، والإيمان يشبه النور لأنّه استبانة الهدى والحقّ . قال تعالى : { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] . وقدّم ذكر الظلمات مراعاة للترتّب في الوجود لأنّ الظلمة سابقة النور ، فإنّ النور حصل بعد خلق الذوات المضيئة ، وكانت الظلمة عامّة . وإنّما جُمع { الظلمات } وأفرد { النور } اتّباعاً للاستعمال ، لأنّ لفظ ( الظلمات ) بالجمع أخفّ ، ولفظ ( النور ) بالإفراد أخفّ ، ولذلك لم يرد لفظ ( الظلمات ) في القرآن إلاّ جمعاً ولم يرد لفظ ( النور ) إلاّ مفرداً . وهما معاً دالاّن على الجنس ، والتعريف الجنسي يستوي فيه المفرد والجمع فلم يبق للاختلاف سبب لاتّباع الاستعمال ، خلافاً لما في « الكشاف » .
{ ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } .
عُطفت جملة { ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون } على جملة : { الحمد لله الذي خلق السماوات } . ف { ثم } للتراخي الرتبي الدالّ على أنّ ما بعدها يتضمّن معنى من نوع ما قبله ، وهو أهمّ في بابه . وذلك شأن ( ثم ) إذا وردت عاطفة جملة على أخرى ، فإنّ عدول المشركين عن عبادة الله مع علمهم بأنّه خالق الأشياء أمر غريب فيهم أعجب من علمهم بذلك .
والحجّة ناهضة على الذين كفروا لأنّ جميعهم عدا المانوية يعترفون بأنّ الله هو الخالق والمدبّر للكون ، ولذلك قال الله تعالى : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذّكّرون } [ النحل : 17 ] .
والخبر مستعمل في التعجيب على وجه الكناية بقرينة موقع { ثم } ودلالة المضارع على التجدّد ، فالتعجيب من شأن المشركين ظاهر وأمّا المانوية فالتعجيب من شأنهم في أنّهم لم يهتدوا إلى الخالق وعبدوا بعض مخلوقاته . فالمراد ب { الذين كفروا } كلّ من كفر بإثبات إله غير الله تعالى سواء في ذلك من جعل له شريكاً مثل مشركي العرب والصابئة ومن خصّ غير الله بالإلهية كالمانوية . وهذا المراد دلّت عليه القرينة وإن كان غالب عرف القرآن إطلاق الذين كفروا على المشركين .
ومعنى { يعدلون } يُسوّون . والعدل : التسوية . تقول : عدلت فلاناً بفلان ، إذا سوّيته به ، كما تقدّم في قوله : { أو عَدْل ذلك صياماً } [ المائدة : 95 ] ، فقوله { بربّهم } متعلّق ب { يعدلون } ولا يصحّ تعليقه ب { الذين كفروا } لعدم الحاجة إلى ذلك . وحذف مفعول { يعدلون } ، أي يعدلون بربّهم غيره وقد علم كلّ فريق ماذا عدل بالله . والمراد يعدلونه بالله في الإلهيّة ، وإن كان بعضهم يعترف بأنّ الله أعظم كما كان مشركو العرب يقولون : لَبَّيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك . وكما قالت الصابئة في الأرواح ، والنصارى في الابن والروح القدس .
ومعنى العجيب عامّ في أحوال الذين ادّعوا الإلهيّة لغير الله تعالى سواء فيهم من كان أهلاً للاستدلال والنظر في خلق السماوات والأرض ومن لم يكن أهلاً لذلك ، لأنّ محلّ التعجيب أنّه يخلقهم ويخلق معبوداتهم فلا يهتدون إليه بل ويختلقون إلهيّة غيره . ومعلوم أنّ التعجيب من شأنهم متفاوت على حسب تفاوت كفرهم وضلالهم .