السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنعام

مكية ، روي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلاً ونزل معها سبعون ألف ملك قد سدّوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سبحان ربي العظيم ) وخرّ ساجداً ، والزجل بفتح الزاي والجيم : القوّة ، قال البغوي : وروي مرفوعاً ( من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره ) ، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت سورة الأنعام بمكة إلا قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم } إلى قوله تعالى : { لعلكم تتقون } فهذه الست آيات مدنيات .

ويروى أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالكتاب فكتبوها من ليلتهم إلا الست آيات ، قال بعض العلماء : واختصت هذه السورة بنوعين من الفضيلة أحدهما : أنها نزلت دفعة واحدة ، والثاني : أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة والسبب فيها أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين وهي مائة وخمسة وستون آية وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر ألفاً وأربعمائة واثنان وعشرون حرفاً .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ بسم الله } الذي تعالت عظمته عن كل شائبة نقص فكان له كل كمال { الرحمن } الذي عمت نعمته المحسن والمسيء فغمر الكل بالنوال { الرحيم } الذي خص أولياءه بإتمام النعمة فهداهم بنعمة الإيصال .

{ الحمد } هو الوصف بالجميل ثابت { لله } وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به أو الثناء به أو هما احتمالات قال الجلال المحلي في سورة الكهف : أفيدها الثالث ، وتقدّم الكلام على الحمد لغة واصطلاحاً في أوّل الفاتحة ، وقال كعب الأحبار : هذه الآية أوّل آية في التوراة وآخر آية في التوراة { وقل الحمد الذي لم يتخذ ولداً } ( الإسراء ، 111 ) إلى آخر الآية . وفي رواية أن آخر آية في التوراة آخر سورة هود ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد فقال : { الحمد لله } { الذي خلق السماوات والأرض } وختم بالحمد فقال تعالى : { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد رب العالمين } ( الزمر ، 75 ) وقال أهل المعاني : لفظ الحمد لله خبر ومعناه الأمر أي : احمدوا الله وإنما جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر لأنه أبلغ في البيان من حيث أنه جمع الأمرين ، ولو قيل : احمدوا الله لم يجمع الأمرين فكان قوله : { الحمد } أبلغ وإنما خص السماوات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما ترى العباد لأنّ السماء بغير عمد ترونها فيها العبر والمنافع والأرض مسكن الخلائق وفيها أيضاً العبر والمنافع ، وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهنّ لأنّ طبقاتها مختلفة الذات متفاوتة الآثار والحركات بالكواكب في سيرها وحركاتها في السرعة والبطء واستتار بعضها ببعض عند الخسوف وغيره وغير ذلك مما هو محرّر عند أهله وقدمها لشرفها قدراً وعظماً ، وإن كانت الأرض أشرف من حيث أنها مسكن الأنبياء { وجعل } أي : خلق { الظلمات والنور } أي : كل ظلمة ونور وجمعها دونه لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها إذ ما من جرم إلا وله ظلّ وظلمة بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار ولا ترد الأجرام المنيرة كالكواكب لأنّ مرجع كل نير إلى النار على ما قيل : إنّ الكواكب أجرام نورانية نارية وإنّ الشهب منفصلة من نار الكواكب فصح أنّ النور من جنس النار وأن المراد بالظلمة الضلال وبالنار الهدى والهدى واحد والضلال متعدّد وتقديمها لتقدّم الإعدام على الملكات وقوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } عطف على قوله : { خلق } أي : إنه تعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم الذين كفروا يعدلون بربهم الأوثان أي : يسوونها به في العبادة وعلى هذا ف( يعدلون ) من العدل وهو التسوية ، والباء متعلقة بيعدلون أو على قوله : الحمد لله على معنى أنّ الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه وأنعمه من العباد ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمته ، وعلى هذا ف( يعدلون ) من العدول ، والباء متعلقة بكفروا ومعنى ( ثم ) استبعاد عدولهم بعد وضوح آيات قدرته .