{ يسألونك عن الأنفال } أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الأمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه . { قل الأنفال لله والرسول } أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به . وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار . وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم -وكان المال قليلا- فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه . وقرئ " ويسألونك علنفال " بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم . { فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة . { وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول . { وأطيعوا الله ورسوله } فيه . { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان .
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى الواحدي في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب القبض بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال » .
وأخرج البخاري ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج ، ولم يثبت في تسميتها حديث ، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال ، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي .
وتسمى أيضا سورة بدر ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال قال تلك سورة بدر .
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها ، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة ، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين ، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها ، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر .
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } إلى { مع الصابرين } نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة ، كما روي عن ابن عباس ، وسيأتي تحقيقه هنالك .
وقال جماعة من المفسرين إن آيات { يا أيها النبي حسبك الله } إلى { لا يفقهون } نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال ، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة .
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة ، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة ، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الانفال ، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة .
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها ، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل ، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة ، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال ، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية ، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران ، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال ، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } من هذه السورة قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله { وما لهم أن لا يعذبهم الله } بعد بدر .
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس ، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب .
وعدد آيها ، في عد أهل المدينة . وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون ، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون ، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون .
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله ، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال ، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها .
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها .
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره .
والأمر بطاعة الله ورسوله ، في أمر الغنائم وغيرها .
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم ، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل .
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر . وتأييد من الله ولطفه بهم .
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء .
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو ، والصبر .
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء .
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع .
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم .
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر .
وذكر مواقع الجيشين ، وصفات ما جرى من القتال .
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم ، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام .
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال .
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله .
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد ، ومتى يحسن السلم .
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة . وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية .
افتتاح السورة ب { يسألونك عن الأنفال } مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم { الأنفال } وكان ذلك يومَ بدر ، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك ، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال ، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْماً في هذا الشأن ، وقد تكررت الحوادث يومئذ : ففي « صحيح مسلم » ، و« جامع الترمذي » عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر أصبت سيفاً لسعيد بن العاصي فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلْنيهِ ، فقال : ضعه ( في القَبَض ) ، ثم قلت : نفلنيه فقال ضعْه حيثُ أخذته ، ثم قلت : نفلنيه فقال : ضعه من حيث أخذته ، فنزلت { يسألونك عن الأنفال } » وفي « أسباب النزول » للواحدي ، و« سيرة ابن إسحاق » عن عبادة بن الصامت ، أنه سئل عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلتْ حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقُنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء ، وروى أبو داود ، عن ابن عباس ، قال : « لما كان يومُ بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ : لا تستأثرون علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو أنهزمتم لكنا ردءاً لكم ، واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } .
والسؤال حقيقته الطلب ، فإذا عدّي ب ( عن ) فهو طلب معرفة المجرور ب ( عن ) وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء ، فالمعنى ، هنا : يسألونك معرفة الأنفال ، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات ، والمراد حالها بحسب القرينة مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمناً في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها .
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال ، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين ، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد .
ولذلك كان قوله { يسألونك } موذناً بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال ، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا ، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية .
و ( الأنفال ) جمع نفل بالتحريك والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء ، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لأن المقصود الأهممِ من الحرب هو إبادة الأعداء ، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة :
يخبرك من شَهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأقوالهم في هذا كثيرة ، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائِم مشهور قال عنترة :
إنا إذا احمرا الوغى نُرْوي القنا *** ونعف عند مقاسم الأنفال
فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حَجر الأسدي وهو جاهلي :
نكصتم على أعقابكم ثم جئتمو *** تُرجون أنفال الخميس العرمرم
ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني ، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغِناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله ، وهذا صنف من المغانم .
فالمغانم ، إذن ، تنقسم إلى : ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم ، ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل ، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يُعرف قاتله ، فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقاً ، وأن تكون بمعنى ما يُزاد للمقاتل على حقه من المغنم ، فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالاً عن تنفيل بمعنى زيادة ، وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل ، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل ، فيبقى النفل في معنى الزيادة . ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعنى من الأنفال في هذه الآية ، وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال « الفرس من النفل والدرع من النفل » كما في « الموطأ » ، وروي عنه أنه قال : « والسلب من النفل » كما في « كتاب أبي عبيد » وغيره .
وقد أطلقوا النفل أيضاً على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يُعرف من غنمه ، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله ، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة [ الحشر : 6 ، 7 ] بقوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } إلى قوله { بين الأغنياء منكم } وذلك مثل أموال بني النضير التي سلّموها قبل القتال وفروا .
وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء : المغنم ، والفيء ، وهما نوعان ، والنفل . وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة ، فلما استقرّ أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر ، ولكن عُرفَ الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين ( أي لمعنيين مختلفين ) غنيمة وفيئاً يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم .
والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخُمس لمن يرى إعطاءه إياه ، ممن لم يغنم ذلك بقتال .
فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور : المراد بها ما كان زائداً على المغنم . فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين ، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل ، أو لخصلة عظيمة يأتي بها ، أو للتحريض على النكاية في العدو . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : " من قتل قتيلاً فله سَلَبُه " وقد جعلها القرآن لله وللرسول ، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم قال مالك في « الموطأ » « ولم يبلغنا أن رسول الله قال : من قتل قتيلاً فله سَلَبه إلا يومَ حنين ، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده » ( يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين ) .
فالآية محكمة غير منسوخة بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما ، قال القرطبي : وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا .
وعن ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة وعطاء : أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائِم مطلقاً . وجعلوا حكمها هنا أنها جُعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه ، بلا تحديد ولا اطراد ، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس ، ثم نسخ ذلك بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش ، فجعل لله وللرسول الخمس ، وجعل أربعة الأخماس حقاً للمجاهدين . يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ ، فلذلك قال مالك والجمهور : لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك : « إعطاء السَلَب من التنفيل » ، وقال مجاهد : الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى .
واللام في قوله { للَّه } على القول الأول في معنى الأنفال : لام الملك ، لأن النفل لا يحسب من الغنائِم ، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزله مال لا يعرف مستحقه ، فيقال هو ملك لله ولرسوله ، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده ، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في « الترمذي » إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك » .
وأما على القول الثاني ، الجامع لجميع المغانم ، فاللام للاختصاص ، أي : الأنفال تختص بالله والرسول ، أي حكمُها وصرفها ، فهي بمنزلة ( إلى ) .
تقول : هذا لك أي : إلى حكمك مردود ، وأن أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خُمّست بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية .
وعطف « وللرسول » على اسم الله لأن المقصود : الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقاً للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين : أولاهما : أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفاً أو تفويضاً . والثانية : لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقاً لله كان التصرف فيه لخلفائه .
واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافاً ناشئاً عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية ، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الاطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب : النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم ، فإنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعاً بين هذه الآية وبين قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحَنْ في نفوس الجيش ، وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير ، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنفيل بعض الجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه ، كما سيأتي في آية المغانم ، لذلك قال مالك : لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله : " من قتل قتيلاً فله سَلَبه " خصوصيه للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر ، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله ، قال مالك في « الموطأ » : ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما .
وإنما اختلفت الفقهاء : في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس ، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه ، وقال سعيد بن المسيب ، وأبو حنيفة والشافعي : النفل من خمس الخمس . والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سمّاه القرآن أم مختلط ، وسيجيء ذلك في آية المغانم . والحجة لمالك حديث ابن عمر في « الموطأ » أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً ونُفلوا بعيراً بعيراً فأعطي النفلُ جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس ، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية { واعلموا أنما غنمتم } [ الأنفال : 41 ] بآية { قل الأنفال لله والرسول } أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل ، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة ، والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية .
وتفريع { فاتقوا الله } على جملة { الأنفال لله والرسول } لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال ، أو في طلب التنفيل ، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله ، فقد وقع ذلك على كراهة كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها ، تبعاً لعوائِدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها ، وهذا كله من المقول .
وقدم الأمر بالتقوى ، لأنها جامع الطاعات .
وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين ، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت : « اختلفْنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا » فأمرهم الله بالتصافح ، وختم بالأمر بالطاعة ، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } [ النساء : 65 ] .
والإصلاح : جعل الشيء صالحاً ، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح ، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم ، وهو فساد التنازع والتظالم .
و { ذات } يجوز أن تكون مؤنث ( ذو ) الذي هو بمعنى صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو . ووقع في كلامهم مضافاً إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما ، يجرونه مُجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى : { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } في سورة [ الكهف : 18 ] ، على تأويل جهة ، وتقول : لقيته ذات ليلة ، ولقيته ذات صباح ، على تأويل المقدر ساعة أو وقت ، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال ، ويجوز أن تكون ( ذات ) أصلية الألف كما يقال : أنا أعرف ذات فلان ، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته ، كذا فسرها الزجاج والزمخشري ، فهو كقول ابن رواحة :
وذلك في ذاتِ الإله وإن يَشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فتكون كلمةً مقحمةً لتحقيق الحقيقة ، جُعلت مُقدمة ، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم : جاءني بذاته ، ومنه يقولون : ذات اليمين وذات الشمال ، قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } .
فالمعنى : أصلحوا بينكم ، ولذا ف ( ذات ) مفعول به على أن ( بَين ) في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية ، وجعل اسماً منتصرفاً ، كما قُرىء { لقد تقطع بينُكم } [ الأنعام : 94 ] برفع بينُكم في قراءة جماعة . فأضيفت إليه ( ذات ) فصار المعنى : أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحاً غير فاسد ، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل { أصلحوا } منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصداً للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد ، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير : وأوجدوا الصلاح بينكم ، كما قرأنا
{ لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم .
وأعلم أني لم أقف على استعمال ( ذاتَ بين ) في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن .
وجواب شرط { إنْ كنتم مؤمنين } دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله : { فاتقوا الله } إلى آخرها ، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعاً إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال ، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية : إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين ، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين ، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال ، لظهور أن ليس المراد : فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله ، ولا تصلحوا ذات بينكم ، ولا تطيعوا الله ورسوله ، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال .
وليس الإتيان في الشرط ب { بأنْ } تعريضاً بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم ، بناء على أن شأن ( إنْ ) عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف ( إذا ) على ما تقرر في المعاني ، ولكن اجتلاب ( إنْ ) في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي : التقوى الجامعة لخصال الدين ، وإصلاح ذات بينهم ، والرضى بما فعله الرسول ، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره ، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] كما سيأتي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة الأنفال مدنية كلها غير آية واحدة {وإذ يمكر بك الذين كفروا...}.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مدنية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء، وقال ابن عباس: إلا سبع آيات من قوله عز وجل: {وإذ يمكر بك الذين كفروا...} إلى آخر سبع آيات...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
مدنية... قيل: إلا سبع آيات من قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} إلى آخر سبع آيات، فإنها نزلت بمكة. والأصح أنها نزلت بالمدينة، وإن كانت الواقعة بمكة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب، كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب. وأخرج أيضاً عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
سورة الأنفال مدنية كلها كما روي عن الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء وعبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت. وقال ابن عباس إنها نزلت في بدر، وفي لفظ تلك سورة بدر. وقيل إنها مدنية إلا آية {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64] فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام. وروي عن مقاتل استثناء قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الأنفال: 30] الآية موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه بقصد الهجرة وباتا في الغار، وهذا استنباط من المعنى وقد صح عن ابن عباس أن الآية نفسها نزلت في المدينة. وزاد بعضهم عنه استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية أي إلى الآية 35 للمعنى الذي ذكرناه آنفا وهو أن موضوعها حال كفار قريش في مكة وهذا لا يقتضي نزولها في مكة، بل ذكر الله بها رسوله بعد الهجرة. وكل ما نزل بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا فهو مدني.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نعود الآن إلى القرآن المدني -بعد سورتي الأنعام والأعراف المكيتين- وقد سبقت منه في هذه الظلال -التي نسير فيها وفق ترتيب المصحف لا وفق ترتيب النزول- سور: البقرة، وآل عمران، والنساء والمائدة.. ذلك أن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشيء -اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال، على ما في هذا من خلافات قليلة- فأما الترتيب الزمني المقطوع به من ناحية زمن نزول كل آية أو كل مجموعة من الآيات أو كل سورة، فيكاد يكون متعذراً؛ ولا يكاد يجد الإنسان فيه اليوم شيئاً مستيقناً -إلا في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات أو تقطع بشأنها بعض الروايات.. وعلى كل ما في محاولة تتبع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمني للنزول من قيمة، ومن مساعدة على تصور منهج الحركة الإسلامية ومراحلها وخطواتها، فإن قلة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقاً؛ كما أنها تجعل النتائج التي يتوصل إليها تقريبية ظنية، وليست نهائية يقينية.. وقد تترتب على هذه النتائج الظنية التقريبية نتائج أخرى خطيرة.. لذلك آثرت في هذه الظلال أن أعرض القرآن بترتيب سوره في المصحف العثماني؛ مع محاولة الإلمام بالملابسات التاريخية لكل سورة- على وجه الإجمال والترجيح -والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص- على وجه الإجمال والترجيح أيضاً -على النحو الذي سبق في التعريف بالسور الماضية في هذه الطبعة الجديدة من الظلال.. وعلى هذا النحو نمضي- بعون الله -في هذه السورة..
نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة.. نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهراً من الهجرة على الأرجح.. ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية. فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة؛ بل أن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد. وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين؛ وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة؛ تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين؛ وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي. ولكن المعول عليه في قولهم: إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة، هو نزول أوائل السور. كما ذكرنا ذلك في التعريف بسورة البقرة.
وفي بعض الروايات أن الآيات من 30 إلى غاية 36 من سورة الأنفال مكية.. وهي هذه الآيات:
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا. لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين. وإذ قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم. وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون. وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون، ولكن أكثرهم لايعلمون. وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون..)
ولعل الذي دعا أصحاب هذه الروايات إلى القول بمكية هذه الآيات أنها تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة.. ولكن هذا ليس بسبب.. فإن هناك كثيراً من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة. وفي هذه السورة نفسها آية: 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن:
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)..
كما أن الآية: 36 وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد:
(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله. فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة، ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)..
والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض. فقد جاء فيها: أن أبا طالب قال لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي. قال: نعم الرب ربك. فاستوص به خيراً! فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]: أنا استوصي به! بل هو يستوصي بي خيراً! فنزلت: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك).. الآية..
وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله: "وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً، بل منكر. لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين. لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه"..
وقد ذكر ابن إسحاق. عن عبد الله ابن أبي نجيح. عن مجاهد. عن ابن عباس- وعنه كذلك من طريق آخر -حديثاً طويلاً عن تبييت قريش ومكرهم هذا، جاء في نهايته قوله:".. وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه- بعد قدومه المدينة -"الأنفال "يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله. والله خير الماكرين)"..
وهذه الرواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها. من تذكير الله سبحانه لنبيه [صلى الله عليه وسلم] وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله؛ في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل الله والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف.. إلى آخر ما تعالجه السورة من هذا الأمر كما سنبين.. والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى..
وبعد، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان -رضي الله عنه- لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين.. مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع.
هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى.. وغزوة بدر -بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة- تقوم معلماً ضخماً في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ.
وقد سمى الله -سبحانه- يومها (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان).. كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها؛ ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها. فقال سبحانه: (هذان خصمان اختصموا في ربهم: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود. ولهم مقامع من حديد. كلما أرادوا أن يخرجوا منها -من غم- أعيدوا فيها، وذوقوا عذاب الحريق.. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير. وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد..).. [الحج: 19 -24] وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر.. يوم الفرقان.. لا في الدنيا وحدها، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها؛ ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل.. وتكفي هذه الشهادة من الجليل- سبحانه -لتصوير ذلك اليوم وتقديره.. وسنعرف شيئاً من قيمة هذا اليوم، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها..
ومع كل عظمة هذه الغزوة، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات "الجهاد في الإسلام"، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه. كذلك نحن لا ندرك طبيعة "الجهاد في الإسلام" وبواعثه وأهدافه، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته..
لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في "زاد المعاد"، في الفصل الذي عقده باسم:"فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته. فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: (يا أيها المدثر. قم فأنذر) فنبأه بقوله: (اقرأ) وأرسله ب (يا أيها المدثر). ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين. ثم أنذر قومه. ثم أنذر من حولهم من العرب. ثم أنذر العرب قاطبة. ثم أنذر العالمين. فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية؛ ويؤمر بالكف والصبر والصفح. ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال. ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله.. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة. وأهل حرب. وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده.. ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها: فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم. فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم.. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:
قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم.
وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه؛ أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر؛ فإذا انسلخت قاتلهم..
فقتل الناقض لعهده؛ وأجل من لا عهد له، أو له عهد مطلق، أربعة أشهر. وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته؛ فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم. وضرب على أهل الذمة الجزية.. فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب.. وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم؛ ويكل سرائرهم إلى الله؛ وأن يجاهدهم بالعلم والحجة؛ وأمر أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم.. فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"..
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً. ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة:
السمة الأولى: هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين.. فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً.. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي.. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية؛ تقوم عليها أنظمة واقعية عملية؛ تسندها سلطات ذات قوة مادية.. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه.. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها؛ تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات؛ وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل.. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي. كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد.. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء..
والسمة الثانية في منهج هذا الدين.. هي الواقعية الحركية. فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية. وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً؛ ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية. ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً؛ يمثل القواعد النهائية في هذا الدين. ويقولون- وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان -: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً، وتعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته. ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة.. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها..
والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة، والوسائل المتجددة، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة. فهو منذ اليوم الأول -سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة؛ ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد.. هو إخلاص العبودية لله، والخروج من العبودية للعباد.. لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة؛ ذات مراحل محددة؛ لكل مرحلة وسائلها المتجددة. على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة.
والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى- على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن "زاد المعاد". وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه؛ أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية. وأن تخلي بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته. ولكن لا يقاومه ولا يحاربه! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه!
لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد الإسلامي -كما بينا من قبل- فقد سبقتها عدة سرايا، لم يقع قتال إلا في واحدة منها، هي سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. وكانت كلها تمشياً مع القاعدة التي يقوم عليها الجهاد في الإسلام. والتي أسلفت الحديث عنها من قبل.. نعم إنها كلها كانت موجهة إلى قريش التي أخرجت رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين الكرام؛ ولم تحفظ حرمة البيت الحرام المحرمة في الجاهلية وفي الإسلام! ولكن هذا ليس الأصل في انطلاقة الجهاد الإسلامي. إنما الأصل هو إعلان الإسلام العام بتحرير الإنسان من العبودية لغير الله؛ وبتقرير ألوهية الله في الأرض؛ وتحطيم الطواغيت التي تعبد الناس، وإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.. وقريش كانت هي الطاغوت المباشر الذي يحول بين الناس في الجزيرة وبين التوجه إلى عبادة الله وحده؛ والدخول في سلطانه وحده. فلم يكن بد أن يناجز الإسلام هذا الطاغوت، تمشياً مع خطته العامة؛ وانتصافاً في الوقت ذاته من الظلم والطغيان اللذين وقعا بالفعل على المسلمين الكرام؛ ووقاية كذلك لدار الإسلام في المدينة من الغزو والعدوان.. وإن كان ينبغي دائماً ونحن نقرر هذه الأسباب المحلية القريبة أن نتذكر -ولا ننسى- طبيعة هذا الدين نفسه وخطته التي تحتمها طبيعته هذه. وهي ألا يترك في الأرض طاغوتاً يغتصب سلطان الله؛ ويعبد الناس لغير ألوهيته وشرعه بحال من الأحوال!
أما أحداث هذه ا لغزوة الكبرى فنجملها هنا قبل استعراض سورة الأنفال التي نزلت فيها، ذلك لنتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة؛ وندرك مرامي النصوص فيها؛ وواقعيتها في مواجهة الأحداث من ناحية؛ وتوجيهها للأحداث من الناحية الأخرى.. ذلك أن النصوص القرآنية لا تدرك حق إدراكها بالتعامل مع مدلولاتها البيانية واللغوية فحسب!! إنما تدرك أولاً وقبل كل شيء بالحياة في جوها التاريخي الحركي؛ وفي واقعيتها الإيجابية، وتعاملها مع الواقع الحي. وهي -وإن كانت أبعد مدى وأبقى أثراً من الواقع التاريخي الذي جاءت تواجهه- لا تتكشف عن هذا المدى البعيد إلا في ضوء ذلك الواقع التاريخي.. ثم يبقى لها إيحاؤها الدائم، وفاعليتها المستمرة، ولكن بالنسبة للذين يتحركون بهذا الدين وحدهم؛ ويزاولون منه شبه ما كان يزاوله الذين تنزلت هذه النصوص عليهم أول مرة؛ ويواجهون من الظروف والأحوال شبه ما كان هؤلاء يواجهون! ولن تتكشف أسرار هذا القرآن قط للقاعدين، الذين يعالجون نصوصه في ضوء مدلولاتها اللغوية والبيانية فحسب.. وهم قاعدون!..
في هذه الغزوة [غزوة بدر]، نزلت سورة الأنفال.. نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة، وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة، وتكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة، وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله؛ وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز.. وسيأتي تفصيل هذه المعاني في ثنايا استعراض النصوص القرآنية.. فأما الآن فنكتفي باستعراض الخطوط الأساسية في السورة:
إن هنالك حادثاً بعينه في الغزوة يلقي ضوءاً على خط سيرها. ذلك هو ما رواه ابن إسحاق -عن عبادة ابن الصامت- رضي الله عنه، قال:
" فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقسمه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] -عن بواء [يقول: على السواء].
هذا الحادث يلقي ضوءا على افتتاح السورة وعلى خط سيرها كذلك:
لقد اختلفوا على الغنائم القليلة في الوقعة التي جعلها الله فرقاناً في مجرى التاريخ البشري إلى يوم القيامة!
ولقد أراد الله- سبحانه -أن يعلمهم، وأن يعلم البشر كلهم من بعدهم أموراً عظاماً...
أراد أن يعلمهم ابتداء أن أمر هذه الوقعة أكبر كثيراً من أمر الغنائم التي يختلفون عليها. فسمى يومها: (يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان)..
وأراد أن يعلمهم أن هذا الأمر العظيم إنما تم بتدبير الله وقدره، في كل خطوة وفي كل حركة، ليقضي من ورائه أمراً أراده، فلم يكن لهم في هذا النصر وما وراءه من عظائم الأمور يد ولا تدبير، وسواء غنائمه الصغيرة وآثاره الكبيرة، فكلها من فعل الله وتدبيره. إنما أبلاهم فيه بلاء حسناً من فضله!
وأراد أن يريهم مدى الفرق بين ما أرادوه هم لأنفسهم من الظفر بالعير؛ وما أراده الله لهم، وللبشريةكلها من ورائهم من إفلات العير، ولقاء النفير. ليروا على مد البصر مدى ما بين إرادتهم بأنفسهم وإرادة الله بهم ولهم من فرق كبير!
لقد بدأت السورة بتسجيل سؤالهم عن الأنفال وبيان حكم الله فيها وردها إلى الله والرسول ودعوتهم إلى تقوى الله، وإصلاح ذات بينهم- بعدما ساءت أخلاقهم في النفل كما يقول عبادة بن الصامت -ودعوتهم إلى طاعة الله وطاعة الرسول، وتذكيرهم بإيمانهم وهذا مقتضاه. ورسم للمؤمنين صورة موحية تجف لها القلوب: (يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول. فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين. إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم)..
ثم جعل يذكرهم بأمرهم وتدبيرهم لأنفسهم وتدبير الله لهم، ومدى ما يرونه من واقع الأرض ومدى قدرة الله من ورائه ومن ورائهم: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعد ما تبين، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون..
ثم ذكرهم بما أمدهم به من العون، وما يسره لهم من النصر، وما قدره لهم بفضله من الأجر: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم. إذ يغشيكم النعاس أمنة منه، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام. إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم، فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب. ذلكم فذوقوه، وأن للكافرين عذاب النار).
وهكذا يمضي سياق السورة في هذا المجال؛ يسجل أن المعركة بجملتها من صنع الله وتدبيره بقيادته وتوجيهه. بعونه ومدده. بفعله وقدره. له وفي سبيله.. ومن ثم تجريد المقاتلين ابتداء من الأنفال وتقرير أنها لله وللرسول، حتى إذا ردها الله عليهم كان ذلك مَناً منه وفضلاً. وكذلك يجردهم من كل مطمع فيها ومن كل مغنم، ليكون جهادهم في سبيله خالصاً له وحده.. فترد أمثال هذه النصوص:
(فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت- إذ رميت -ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً، إن الله سميع عليم. ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين).
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)..
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. والله على كل شيء قدير. إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم. إذ يريكهم الله في منامكقليلاً، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم، إنه عليم بذات الصدور. وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلاً، ويقللكم في أعينهم، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، وإلى الله ترجع الأمور)..
ولأن المعركة- كل معركة يخوضها المؤمنون -من صنع الله وتدبيره. بقيادته وتوجيهه. بعونه ومدده. بفعله وقدره. له وفي سبيله. تتكرر الدعوة في السورة إلى الثبات فيها، والمضي معها، والاستعداد لها، والاطمئنان إلى تولي الله فيها، والحذر من المعوقات عنها من فتنة الأموال والأولاد، والاستمساك بآدابها، وعدم الخروج لها بطراً ورئاء الناس. ويؤمر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بتحريض المؤمنين عليها.. وترد أمثال هذه النصوص في بيان هذه المعاني:
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره- إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة -فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير)..
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون)..
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون. واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم).
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط)..
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون)..
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا الفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون...
وفي ذات الوقت الذي تتكرر الأوامر بالتثبيت في المعركة يتجه السياق إلى توضيح معالم العقيدة وتعميقها ورد كل أمر وكل حكم وكل توجيه إليها. فلا تبقى الأوامر معلقة في الفراغ، إنما ترتكز على ذلك الأصل الواضح الثابت العميق:
أ في مسألة الأنفال يردون إلى تقوى الله، والوجل عند ذكره، وتعلق الإيمان بطاعة الله وطاعة رسوله: يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين. إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون... الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم.
ب وفي خطة المعركة يردون إلى قدر الله وتدبيره، وتصريفه لمراحلها جميعاً: (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى، والركب أسفل منكم، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً..).
ج وفي أحداثها ونتائجها يردون إلى قيادة الله لها، ومدده وعونه فيها: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً...)..
د وفي الأمر بالثبات فيها يردون إلى ما يريده الله لهم بها من حياة، وإلى قدرته على الحيلولة بينهم وبين قلوبهم، وإلى تكفله بنصر من يتوكل عليه: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون).. (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)..
ه وفي تحديد الهدف من وراء المعركة يقرر: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).. (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض).. (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون)..
و وفي تنظيم العلاقات في المجتمع المسلم وبينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى تبرز العقيدة قاعدة للتجمع وللتميز، وتجعل القيم العقيدية هي التي تقدم في الصف أو تؤخر: إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر- إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق، والله بما تعملون بصير. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض؛ إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم. والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم..
ويبرز في سياق السورة بصفة خاصة -إلى جانب خط العقيدة- خط آخر هو خط الجهاد، وبيان قيمته الإيمانية والحركية. وتجريده كذلك من كل شائبة شخصية؛ وإعطاؤه مبرراته الذاتية العليا التي ينطلق بها المجاهدون في ثقة وطمأنينة واستعلاء إلى آخر الزمان.. والسورة بجملتها تتضمن هذا الإيحاء. فنكتفي ببعض النصوص في هذا التعريف، وندع تفصيلها إلى موضعه عند مواجهة النصوص:
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير).
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة، وهم لا يتقون. فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون).
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم، وأنتم لا تظلمون)..
(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين، وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون..
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة. والله عزيز حكيم)..
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم)..
وأخيراً فإن السورة تنظم ارتباطات الجماعة المسلمة على أساس العقيدة كما أسلفنا؛ وبيان الأحكام التي تتعامل بها مع غيرها من الجماعات الأخرى في الحرب والسلم -إلى هذه الفترة التي نزلت فيها السورة- وأحكام الغنائم والمعاهدات وتضع خطوطاً أصيلة في تنظيم تلك الروابط وهذه الأحكام في مثل هذه النصوص الواضحة المحددة:
(يسألونك عن الأنفال.. قل الأنفال لله والرسول)..
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير)..
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله، ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون. ولا تكونوا كالذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون)..
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون).
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون)..
(قل للذين كفروا: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)..
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)..
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين. ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله، والله بما يعملون محيط)..
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون. الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون. فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون. وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا، إنهم لا يعجزون. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم. وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين...)...
(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين. يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)..
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة واللهعزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم. يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى: إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم، ويغفر لكم والله غفور رحيم. وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم).
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر -إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق- والله بما تعملون بصير. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا، أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم. والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم، وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إن الله بكل شيء عليم..
هذا مجمل لخطوط السورة الرئيسية.. فإذا كانت السورة بجملتها إنما نزلت في غزوة بدر، وفي التعقيب عليها، فإننا ندرك من هذا طرفاً من منهج القرآن في تربية الجماعة المسلمة، وإعدادها لقيادة البشرية؛ وجانباً من نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما يجري في الأرض وفي حياة البشر؛ مما يقوم منه تصور صحيح لهذه الحقيقة: لقد كانت هذه الغزوة هي أول وقعة كبيرة لقي فيها المسلمون أعداءهم من المشركين، فهزموهم تلك الهزيمة الكبيرة.. ولكن المسلمين لم يكونوا قد خرجوا لهذه الغاية.. لقد كانوا إنما خرجوا ليأخذوا الطريق على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأموالهم! فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة.. أراد لها أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من عتاة قريش الذين جمدوا الدعوة في مكة؛ ومكروا مكرهم لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بعدما بلغوا بأصحابه الذين تابعوه على الهدى غاية التعذيب والتنكيل والأذى..
لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الوقعة فرقاناً بين الحق والباطل؛ وفرقاناً في خط سير التاريخ الإسلامي. ومن ثم فرقاناً في خط سير التاريخ الإنساني.. وأراد أن يظهر فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير لهم. وتدبير رب البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر. كما أراد أن تتعلم العصبة المؤمنة عوامل النصر وعوامل الهزيمة؛ وتتلقاها مباشرة من يد ربها ووليها، وهي في ميدان المعركة وأمام مشاهدها.
وتضمنت السورة التوجيهات الموحية إلى هذه المعاني الكبيرة؛ وإلى هذه الحقائق الضخمة الخطيرة. كما تضمنت الكثير من دستور السلم والحرب، والغنائم والأسرى، والمعاهدات والمواثيق، وعوامل النصر وعوامل الهزيمة. كلها مصوغة في أسلوب التوجيه المربي، الذي ينشئ التصور الاعتقادي، ويجعله هو المحرك الأول والأكبر في النشاط الإنساني.. وهذه هي سمة المنهج القرآني في عرض الأحداث وتوجيهها.
ثم إنها تضمنت مشاهد من الموقعة، ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدما.. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها؛ كأن قارئ القرآن يراها فيتجاوب معها تجاوباً عميقاً.
واستطرد السياق أحياناً إلى صور من حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وحياة أصحابه في مكة، وهم قلة مستضعفون في الأرض، يخافون أن يتخطفهم الناس. ذلك ليذكروا فضل الله عليهم في ساعة النصر، ويعلموا أنهم إنما سينصرون بنصر الله، وبهذا الدين الذي آثروه على المال والحياة. وإلى صور من حياة المشركين قبل هجرة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وبعدها. وإلى أمثلة من مصائر الكافرين من قبل كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، لتقرير سنة الله التي لا تتخلف في الانتصار لأوليائه والتدمير على أعدائه.
هذه موضوعات السورة وملامحها -وهي وحدة واحدة- وإن كنا سنجتزئ في هذا الجزء بشطر منها. ثم تجيء بقيتها في الجزء العاشر بإذن الله تعالى..
فنكتفي بهذا القدر في التعريف المجمل بها؛ وننتقل إلى مواجهة النصوص القرآنية في سياقها..
موضوع هذا الدرس الأول في السورة، هو بيان حكم الله في الأنفال.. المغانم التي يغنمها المسلمون في جهادهم في سبيل الله.. بعد ما ثار بين أهل بدر من الجدال حول تقسيمها. فردهم الله إلى حكمه فيها؛ كما ردهم إلى تقواه وطاعته وطاعة رسوله؛ واستجاش في قلوبهم وجدان الإيمان والتقوى.
ثم أخذ يذكرهم بما أرادوا لأنفسهم من العير والغنيمة، وما أراده الله لهم من النصر والعزة. وكيفسارت المعركة، وهم قلة لا عدد لها ولا عدة، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد. وكيف ثبتهم بمدد من الملائكة، وبالمطر يستقون منه ويغتسلون ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال، وبالنعاس يغشاهم فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان. وكيف ألقى في قلوب أعدائهم الرعب وأنزل بهم شديد العقاب.
ومن ثم يأمر المؤمنين أن يثبتوا في كل قتال، مهما خيل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم، فإن الله هو الذي يقتل، وهو الذي يرمي، وهو الذي يدبر، وإن هم إلا ستار لقدر الله وقدرته، يفعل بهم ما يشاء..
ثم يسخر من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم، فيقول لهم: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).
ويحذر المؤمنين أن يتشبهوا بالمنافقين الذين يسمعون ولكنهم لا يسمعون، لأنهم لا يستجيبون!
وينتهي الدرس بنداءات متكررة للذين آمنوا. ليستجيبوا الله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم -ولو خيل إليهم أنه الموت والقتل- وليذكرهم كيف كانوا قليلاً مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم وأيدهم بنصره؛ وليعدهم أن يجعل لهم فرقاناً في قلوبهم وفي حركتهم إن هم اتقوه. ذلك إلى تكفير السيئات وغفران الذنوب؛ وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه الغنائم والأنفال..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
[سورة الأنفال] عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:... أخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.
وتسمى أيضا (سورة بدر)، ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال قال تلك سورة بدر...
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.
والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء.
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.
وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
بالإجمال فإن هذه السورة الكريمة وضعت الحجر الأساسي للسياسة الحربية العامة التي يجب أن يطبقها الإسلام كلما اضطر المسلمون إلى خوض غمار الحرب للدفاع عن أنفسهم، ولم يجدوا من خصومهم عدلا ولا استعدادا للسلام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه السورة حديثٌ طويلٌ متنوعٌ عن معركة بدر في الأجواء التي سبقت الإعداد لها، وفي الحالة النفسية التي كان يعيشها المسلمون إزاءها، وفي حركة المعركة في أجواء الغيب تارةً، وفي آفاق الواقع أخرى، وفي نهاياتها ونتائجها على مستوى أوضاع الأسرى والغنائم أو على مستوى الحالة الروحية التي عاشوها بعد ذلك. وقد نلاحظ أن السورة لا تتحدث عن المعركة كقصّةٍ تلاحق التفاصيل التي تثير الفضول وتبهر النفوس، بل تتحدث عنها كتجربةٍ جديدةٍ تشتمل على السلبيات والإيجابيات، وعلى نقاط الضعف ونقاط القوة... وقد أكّدت السورة على كل هذه العناصر في عملية تقييم ودراسةٍ ونقدٍ وتوعيةٍ من أجل أن يقوم المسلمون بتنمية إيجابيات القوة، وتحويل السلبيات في نقاط الضعف إلى مصدر قوّةٍ...
غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر بسَيْرٍ -شعْبٌ من شِعَاب الصفراء قريب من بدر -وكانت غنائم بدر كما يروي عبادة ابن الصامت غنمها المسلمون قبل تنزل الآية في سورة الأنفال، فلما تشاحوا عليها، انتزعها الله من أيديهم بقوله عز وجل: {يَسْألُونَكَ عَنِ اِلأنفَالِ قُلِ اِلأنفَالُ لِلهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}. فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلها خالصة، وقسمها بينهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى الأنفال التي ذكرها الله في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هي الغنائم، وقالوا: معنى الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي؟ فقل هي لله ولرسوله... وقال آخرون: هي أنفال السرايا...
وقال آخرون: الأنفال ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابّة وما أشبه ذلك... فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء.
وقال آخرون: النفل: الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس...
وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال قول من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم إما من سلبه على حقوقهم من القسمة، وإما مما وصل إليه بالنفل، أو ببعض أسبابه، ترغيبا له وتحريضا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين، أو صلاح أحد الفريقين. وقد يدخل في ذلك... الفرس والدرع ونحو ذلك، ويدخل فيه... ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس لأن ذلك أمره إلى الإمام إذا لم يكن ما وصلوا إليه لغلبة وقهر، يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقهر.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأن النّفَل في كلام العرب إنما هو الزيادة على الشيء، يقال منه: نفلتك كذا، وأنفلتك: إذا زدتك...
فإذ كان معناه ما ذكرنا، فكلّ من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة، إن كان ذلك لبلاء أبلاه أو لغناء كان منه عن المسلمين، بتنفيل الوالي ذلك إياه، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل، فهو منفل ما زيد من ذلك لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحقّ، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة، وكذلك كلّ ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل، لأنه وإن كان مغلوبا عليه فليس مما وقعت عليه القسمة. فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين الغنيمة والنفل، أن الغنيمة هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل أو لم ينفل، والنفَل: هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة. وإذ كان ذلك معنى النفل، فتأويل الكلام: يسألك أصحابك يا محمد عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر لمن هو قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله دونكم، يجعله حيث شاء.
واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية؛ فقال بعضهم: نزلت في غنائم بدر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان نفّل أقواما على بلاء، فأبلى أقوام وتخلّف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب، فأنزل الله هذه الآية على رسوله، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماض جائز... عن ابن عباس، قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ صَنَعَ كَذَا وكَذَا، فَلَهُ كَذَا وكَذَا» قال: فتسارع في ذلك شبان الرجال، وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنائم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءا لكم، وكنا تحت الرايات، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا، فأنزل الله: يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...
عن أبي أمامة الباهلي، قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن سواء، يقول: على السواء، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين.
وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئا قبل قسمتها، فلم يعطه إياه، إذ كان شركا بين الجيش، فجعل الله جميع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم... وقال آخرون: بل نزلت لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر فأعلمهم الله أن ذلك لله ولرسوله دونهم ليس لهم فيه شيء. وقالوا: معنى «عن» في هذا الموضع «من» وإنما معنى الكلام: يسألونك من الأنفال، وقالوا: قد كان ابن مسعود يقرأه: «يَسْألُونَكَ الأنْفالَ» على هذا التأويل...
عن ابن عباس، قوله: "يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ "قال: الأنفال: المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها، قال الله ": يَسألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفَالُ "لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء "فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، ثم أنزل الله: "واعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ" ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن سمي في الآية...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبر في هذه الآية عن قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يعطيهموها، فأخبرهم الله أنها لله وأنه جعلها لرسوله. وإذا كان ذلك معناه جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه، وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش.
واختلفوا فيها، أمنسوخة هي أم غير منسوخة؟
فقال بعضهم: هي منسوخة، وقالوا: نسخها قوله: وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ..." وقال آخرون: هي محكمة وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك: قل الأنفال لله، وهي لا شكّ لله مع الدنيا بما فيها والآخرة، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم ينفل من شاء، فنفل القاتل السلب، وجعل للجيش في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس، ونفل قوما بعد سهمانهم بعيرا بعيرا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين، وعلى من بعده من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك، وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ إلاّ بحجة يجب التسليم لها...
"فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"
يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه، وأصلحوا الحال بينكم.
واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله: "وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ"؛ فقال بعضهم: هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في الغنيمة أن يردّوا ما أصابوا منها بعضهم على بعض...
وقال آخرون: هذا تحريج من الله على القوم، ونهي لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره...
وأما قوله: "وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ" فإن معناه: وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم، فقد بين لكم وجوهه وسبُله. "إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" يقول: إن كنتم مصدّقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول)... فالسؤال يحتمل وجهين: يحتمل أنهم سألوا عن حِلها وحرمتها... فقال: (الأنفال لله والرسول) أي الحكم فيها لله يجعلها لمن يشاء.
ويحتمل السؤال عنها: عن قسمتها...
ويحتمل أن تكون الأنفال هي فضول المغانم على ما قال بعضهم نحو ما روي في الأخبار أن منهم من أخذ كبة، فقال: اجعلها لي يا رسول الله، وأخذ الآخر سيفا، وقال: اجعله لي، ونحو ذلك فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: (قل الأنفال لله والرسول)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... "ذات بينكم "معناه حقيقة وصلكم، والبين: الوصل، لقوله تعالى "لقد تقطع بينكم" أي وصلكم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... قوله جلّ ذكره: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}. أي أجيبوا لأمر الله، ولا تطيعوا دَوَاعِيَ مناكم والحكمَ بمقتضى أحوالكم، وابتغوا إيثارَ رضاء الحقِّ على مراد النَّفْس، وأصلحوا ذات بَيْنِكم، وذلك بالانسلاخ عن شُحِّ النَّفْس، وإيثار حقِّ الغير على مَا لَكُم من النصيب والحظِّ، وتنقية القلوب عن خفايا الحَسَد والحقد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه...
والنفل: ما ينفله الغازي، أي يعطاه زائداً على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب: من قتل قتيلاً فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه... ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟ فقيل له: قل لهم: هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم...
فإن قلت: ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله: {قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول}؟ قلت: معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضاً إلى رأي أحد، والمراد: أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي. {فاتقوا الله} في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله
{وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم...
فإن قلت: ما حقيقة قوله: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ}؟ قلت: أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله: {بِذَاتِ الصدور} [آل عمران: 199] وهي مضمراتها. لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إن كنتم كاملي الإيمان.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
النْفل والنَفل والنافلة في كلام العرب: الزيادة على الواجب، وسميت الغنيمة نفلاً لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل،...
قال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}... معناه: فاتقوا عقاب الله ولا تقدموا على معصية الله، واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأحوال، وارضوا بما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
قوله: {وأصلحوا ذات بينكم} أي: وأصلحوا ذات بينكم من الأقوال، ولما كانت الأقوال واقعة في البين، قيل لها ذات البين، كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور.
ثم قال: {وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} والمعنى أنه تعالى نهاهم عن مخالفة حكم الرسول بقوله: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ثم أكد ذلك بأن أمرهم بطاعة الرسول بقوله: {وأطيعوا الله ورسوله} ثم بالغ في هذا التأكيد فقال: {إن كنتم مؤمنين} والمراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه ورغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة، فاحذروا الخروج عنها...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{فاتقوا الله} في الاختلاف والمشاجرة. {وأصلحوا ذات بينكم} الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول. {وأطيعوا الله ورسوله} فيه. {إن كنتم مؤمنين} فإن الإيمان يقتضي ذلك، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة: طاعة الأوامر، والاتقاء عن المعاصي، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي: اتقوا الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: في قسمه بينكم على ما أراده الله، فإنه قسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قوله تعالى: {يسألونك} أي الذين عند ربك هم الذين هزموا الكفار في الحقيقة كما علمتم ذلك -وسيأتي بيانه، فهم المستحقون للأنفال وليس لهم إليها التفات وإنما همهم العبادة، والذين عندك إنما جعلتهم آلة ظاهرة ومع ذلك فهم يسألون {عن الأنفال} التي توليتهم إياها بأيدي جنودي سؤال منازعة ينبغي الاستعاذة بالله منها- كما نبه عليه آخر الأعراف -لأن ذلك يفضي إلى افتراق الكلمة والضعف عن مقاومة الأعداد، وهو جمع نفل- بالتحريك، وهو ما يعطاه الغازي زيادة على سهمه، والمراد بها هنا الغنيمة، وهي المال المأخوذ من أهل الحرب قهراً، سميت هنا بذلك لأن أصلها في اللغة الزيادة، وقد فضل المسلمون بها على سائر الأمم.
ولما كان السؤال عن حكمها، كان كأنه قيل: فماذا يفعل؟ فقال دالاًّ على أنهم سألوا عن مصرفها وحكمها -ليطابق الجواب السؤال: {قل} أي لهم في جواب سؤالهم {الأنفال لله} أي الذي ليس النصر إلا من عنده لما له من صفات الكمال {والرسول} أي الذي كان جازماً بأمر الله مسلماً لقضائه ماضياً فيما أرسله به غير متخوف من مخالطة الردى بمواقعة العدى...
ولما أخبر سبحانه أنه لا شيء لهم فيها إلا عن أمر الله ورسوله، وكان ذلك موحباً لتوقفهم إلى بروز أمره سبحانه على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت التقوى موجبة للوقوف خوفاً حتى يأتي الدليل الذي يجسّر على المشي وراءه، سبب عن ذلك قوله: {فاتقوا الله} أي خافوا خوفاً عظيماً في جميع أحوالكم من الذي لا عظمة لغيره ولا أمر لسواه، فلا تطلبوا شيئاً بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتخاصموا، فإن الله تعالى الذي رحمكم بإرسال رسول لنجاتكم وإنزال كتاب لعصمتكم غير مهمل ما يصلحكم، فهو يعطيكم ما سبق في علمه الحكم بأنه لكم، ويمنعكم ما ليس لكم {وأصلحوا ذات بينكم} أي الحال التي هي صاحبة افتراقكم واجتماعكم، فإن أغلب أمرها البين الذي هو القطيعة، وقد أشرفت على الفساد بطلب كل فريق الأثرة على صاحبه فأقبلوا على رعايتها بالتسليم لأمر الله ورسوله الأمرين بالإعراض عن الدنيا ليقسمها بينكم على سواء، القوي والضعيف سواء، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، لتجتمع كلمتكم فيشتد أمركم ويقوى أزركم فتقدروا على إقامة الدين وقمع المفسدين {وأطيعوا الله} أي الذي له جميع العظمة {ورسوله} أي الذي عظمته من عظمته في كل ما يأمرانكم به من تنفيل لمن يراه وإنفاذ شرط ووفاء عهد لمن عاهده.
ولما أمر ونهى هيج وألهب فقال مبيناً كون الإيمان مستلزماً للطاعة: {إن كنتم مؤمنين} أي صادقين في دعوى الإيمان، فليس كل من يدعي شيئاً يكون صادقاً في دعواه حتى يحصل البيان بالامتحان، ولذلك وصل به قوله مؤكداً غاية التأكيد لأن التخلص من الأعراض الدنيوية عسر: {إنما المؤمنون...}
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله. وفيه من التهييج والإلهاب ما لا يخفى، مع كونهم في تلك الحال على الإيمان، فكأنه قال: إن كنتم مستمرّين على الإيمان بالله، لأن هذه الثلاثة الأمور التي هي تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله والرسول، لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلاً لمن لم يمتثلها، فإن من ليس بمتق، وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... {فاتقوا الله} في المشاجرة والخلاف والتنازع وسيأتي في السورة مضار ذلك ولاسيما في حال الحرب {وأصلحوا ذات بينكم} أي أصلحوا نفس ما بينكم وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمساواة وترك الأثرة والتفوق، وبالإيثار أيضا. والبين في أصل اللغة يطلق على الاتصال والافتراق وكل ما بين طرفين كما قال: {لقد تقطع بينكم} [الأنعام: 94] ويعبر عن هذه الرابطة بذات البين. وأمرنا في الكتاب والسنة بإصلاح ذات البين فهو واجب شرعا تتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها وتحفظ به وحدتها.
{وأطيعوا الله ورسوله} في الغنائم وفي كل أمر ونهي وقضاء وحكم، فالله تعالى يطاع لذاته لأنه رب العالمين ومالك أمرهم، والرسول يطاع في أمر الدين لأنه مبلغ له عن الله تعالى ومبين لوحيه فيه بالقول والفعل والحكم. وهذه الطاعة له تعبدية لا رأي لأحد فيها وتتوقف عليها النجاة في الآخرة والفوز بثوابها، ويطاع في اجتهاده في أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولاسيما الحرب من حيث إنه الإمام والقائد العام، فمخالفته إخلال بالنظام العام وإفضاء إلى الفوضى التي لا تقوم معها للأمة قائمة. فهذه الطاعة واجبة شرعا كالأولى إلا أنها معقولة المعنى، فقد أمره الله تعالى في تنفيذ أحكامه وإدارته بمشاورة الأمة كما تقدم في سورة آل عمران وأشرك معه في هذه الطاعة أولي الأمر كما تقدم في سورة النساء، وسيأتي كيف راجعه بعضهم في هذه الغزوة المفضلة أحكامها في هذه السورة ورجع عن رأيه صلى الله عليه وسلم إلى الرأي الذي ظهر صوابه، ولكن الأمر الأخير لابد أن يكون له كما شاورهم في غزوة أحد في الخروج من المدينة أو البقاء فيها. فلما انتهت المشاورة وعزم على تنفيذ رأي الجمهور راجعوه فلم يقبل مراجعة، وقد بينا هذا مع حكمته في تفسير {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] وترى في تلك السورة كيف كانت مخالفة الرماة له صلى الله عليه وسلم سببا في ظهور العدو على المسلمين فراجع تفسير {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 156] في الجزء الرابع.
ولأئمة المسلمين منهم من حق الطاعة في تنفيذ الشرع وإدارة الأمور العامة وقيادة الجند ما كان له صلى الله عليه وسلم منه مقيدا بعدم معصية الله تعالى وبمشاورة أولي الأمر كما تقدم تفصيله في تفسير {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] الآية.
ثم قال تعالى: {إن كنتم مؤمنين} أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة فإن الإيمان يقتضي ذلك كله لأن الله تعالى أوجبه، والمؤمن بالله غير المرتاب بوعده ووعيده يكون له سائق من نفسه إلى طاعته إلا أن يعرض ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب، ثم لا يلبث أن يفيء إلى أمر الله ويتوب إليه مما عرض له كما تقدم في تفسير {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17]
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم؛ وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا؛ وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين، وشاركوهم ديارهم وأموالهم، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم: (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).. ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها. لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة؛ وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء؛ وكان الناس -يومئذ- حريصين على هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ص] ومن الله سبحانه وتعالى، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين!.. ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم الله سبحانه به، وردهم إليه.. ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر؛ ...
.ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً. نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها، فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه؛ إنما أصبح فضلاً من الله عليهم؛ يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه... وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل، الذي بدأ بهذه الآيات، واستطرد فيما تلاها كذلك. (يسألونك عن الأنفال. قل: الأنفال لله والرسول. فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، إن كنتم مؤمنين).. لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله.. وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب.. إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا، والنزاع عليها -وإن كان هذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء- إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى.. إن قلباً لا يتعلق باللّه، يخشى غضبه ويتلمس رضاه، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض، ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق! إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة.. وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)..
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله: (وأطيعوا اللّه ورسوله). وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق، وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول، فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول. فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه؛ طيبة قلوبهم، راضية نفوسهم؛ وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم.. ذلك: (إن كنتم مؤمنين).. فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها، ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته. وكما قال رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم] -:"ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل". ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه- [صلى الله عليه وسلم] -ولتعريف الإيمان وتحديده؛ وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان، أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح السورة ب {يسألونك عن الأنفال} مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم {الأنفال} وكان ذلك يومَ بدر، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْماً في هذا الشأن،... والسؤال حقيقته الطلب، فإذا عدّي ب (عن) فهو طلب معرفة المجرور ب (عن) وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء، فالمعنى، هنا: يسألونك معرفة الأنفال، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات، والمراد حالها بحسب القرينة مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمناً في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها. ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد. ولذلك كان قوله {يسألونك} مؤذناً بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية...
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال: 41] الآية. وعطف « وللرسول» على اسم الله لأن المقصود: الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقاً للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين: أولاهما: أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفاً أو تفويضاً. والثانية: لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقاً لله كان التصرف فيه لخلفائه...
وتفريع {فاتقوا الله} على جملة {الأنفال لله والرسول} لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال، أو في طلب التنفيل، ...
وقدم الأمر بالتقوى، لأنها جامع الطاعات. وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها...
والإصلاح: جعل الشيء صالحاً، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم، وهو فساد التنازع والتظالم...
. وجواب شرط {إنْ كنتم مؤمنين} دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله: {فاتقوا الله} إلى آخرها، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعاً إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية: إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال، لظهور أن ليس المراد: فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال. وليس الإتيان في الشرط ب {بأنْ} تعريضاً بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم، بناء على أن شأن (إنْ) عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف (إذا) على ما تقرر في المعاني، ولكن اجتلاب (إنْ) في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي: التقوى الجامعة لخصال الدين، وإصلاح ذات بينهم، والرضى بما فعله الرسول، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم} [الأنفال: 2] كما سيأتي.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بعد الإجابة عن التساؤل عن الأنفال، وكانت بادرة خلاف، وإن كان قد حسمه الإيمان والجهاد واحتساب النية لله، وأن الأمر آل إلى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين. ولكن الله تعالى دعا إلى الادراع بالتقوى، حتى يسد منافذ الخلاف ومثارات الشيطان فقال آمرا بكل ما يقتضي على الخلاف في موطنه، فقال تعالى: {فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. أمرهم سبحانه بأمور أربعة وقاية من النزاع، وإبقاء للمودة: أولها – التقوى، فإن القلوب إذا امتلأت بالتقوى لم يكن للشيطان منفذ، ولم يكن للخلاف موضع، و (الفاء) في قوله تعالى: {فاتقوا الله} فاء الإفصاح؛ لأن المعنى إذا كان الأمر في القسمة لله ورسوله، ففرغوا أنفسكم لتقوى الله، ولا تشغلوا أنفسكم بالمال وتقسيمه، فقسمة الله هي العدل والمصلحة معا، وهي العدل والحق والنظام. وثانيها – في قوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} وهي الأمر الذي يربطكم، فليس المراد البين نفسه، إنما المراد ذات الرابط، وهو كما قلنا المودة الواصلة، ومعنى إصلاحه رعايته، وتعهده، بأن تكون المودة ملاحظة في كل ما يربطنا، فيكون الإيثار بدل الأثرة، والمحبة الموصولة بدل الحرص المفرق. الأمر الثالث والرابع – طاعة الله ورسوله بألا تجعلوا لأنفسكم إرادة بجوار إرادة الله، وأن تجعلوا الله ملء أسماعكم، وطاعة رسوله هي سنة حياتكم. وقد بين سبحانه أن ملاحظة هذه الأمور هي نور الإيمان وموجبته، ولا إيمان إلا كانت معه هذه الأمور، ولذا قال تعالى: {إن كنتم مؤمنين} أي إن كان الإيمان حالة نفسية ملازمة لكم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
المسلمون يسألون.. والجواب يتحرك في تنمية الشخصية:
للسؤال في القرآن دورٌ تربويٌ روحيٌّ يتعدى جانب تقديم المعرفة المجرّدة للسائل في نطاق الجواب، ليكون منطلقاً للنصح والموعظة والدعوة إلى الالتزام بخط الإيمان، وليدخل بالتالي في تحديد المفاهيم الإسلامية للإنسان المسلم بطريقةٍ واضحة حاسمة. وهذا ما نستوحيه من هذه الآيات...
{قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} ما معنى أن تكون الأنفال لله وللرسول؟ ربما يقال: إن المعنى هو أن يكون أمرها راجعاً لله وللرسول، في مواجهة الفكرة القائلة بأنّها من شؤون المقاتلين الذين قاتلوا، أو دافعوا، أو غنموا، كأمرٍ واقعٍ...
لكنّ هناك فكرةً أخرى، وهي أنها ملكٌ لله وللرسول بمعنى الاختصاص بهما من ناحيةٍ قانونية، فتكون مصارفها أو توزيعها من الشؤون التابعة للملك، تماماً كما يتصرف المالك في ملكه، مما هو من مسؤوليته العامة أو الخاصة. وعلى ضوء هذا، كانت الأراضي الداخلة في مفهوم الأنفال ملكاً لله وللرسول. إلا أن هذا قد لا ينسجم مع الحكم الثابت للغنائم التي هي للمقاتلين، في ما عدا الخمس الذي جُعل فيه سهمٌ لله وللرسول بالإضافة إلى الفئات الأخرى، والمفروض أنها مورد الآية، كما ذكر في مناسبة النزول. ولهذا التزم جماعة بنسخ هذه الآية بآية الخمس؛ فلا بد للخروج من هذا المأزق من التزام أحد أمرين، فإما القول بأن المقصود من الأنفال غير الغنائم، وذلك بطرح الروايات الدالّة على ذلك؛ وإما القول بأن المقصود من جعلها لله وللرسول، هو إيكال أمرها إليه بعيداً عن اقتراح المقترحين، ونزاع المتنازعين، فليس للمقاتلين أو الغانمين أن يقرّروا شيئاً من ذلك في ما يؤخذ، وما لا يؤخذ، أو في تحديد المستحق وغير المستحق، كما يوحي به نزاعهم. وبذلك كانت آية الخمس واردةً في مورد التحديد للمسألة، كما كانت أحاديث الأنفال في غير الغنائم مبينةً لحدود الحكم الشرعي فيها، وتحقيق الأمر في ملكية الله والرسول موكولٌ إلى الأبحاث الفقهية، فليُطلب من هناك. الله يدعو المسلمين لإصلاح ذات بينهم {فَاتَّقُواْ اللَّهَ} فإن التقوى هي التي تعرِّف الإنسان حدوده في ما يملك وما لا يملك، وهي التي توحي له بضبط الخلافات الحاصلة بينه وبين الناس، والبعد عن الأجواء الذاتية والعدوانية التي تسيء إلى إنسانيّة العلاقات وسلام الحياة.. {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}، أي الحالة السيّئة الممزّقة الواقعة بينكم، من خلال التفاهم على النقاط المشتركة التي يمكن أن تكون أساساً للِّقاء في الفكر والعمل، فإن ذلك هو السبيل لرأب الصدع، وردم الهوّة، وإصلاح الفساد، وتركيز العلاقات على قاعدةٍ ثابتةٍ، لأن اكتشاف مواطن اللقاء هو الذي يقود إلى حلّ مواطن الخلاف. {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فذلك هو الخطّ المستقيم الذي يحفظ للإنسان المؤمن خطواته من الزلل، ويصونه من الانحراف، ويؤمن لحركته التوازن في مواجهة تعقيدات الحياة وتشابك الخطوط التي تحفل بها. فتكون طاعة الله في ما يشرعه، وطاعة الرسول في ما يفصّله ويطبّقه، هي النهج السليم الذي يمثّل الخطّ الفاصل بين الهدى والضلال. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأن الإيمان ليس فكراً مجرّداً يحدد للإنسان خط النظرية فحسب، بل هو ممارسة عملية فاعلة، في انطلاقته من أجل تغيير ذاته، وتغيير الحياة على أساس تلك النظرية...