وهي مدنية{[1]} آياتها سبعون وست آيات{[2]} كلماتها ألف كلمة ، وستمائة كلمة ، وإحدى{[3]} وثلاثون كلمة ، حروفها خمسة آلاف ومائتان ، وأربعة وتسعون{[4]} حرفا ، والله أعلم .
قال البخاري : قال ابن عباس الأنفال : الغنائم : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، أخبرنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال ؟ قال نزلت في بدر .
أما ما عَلَّقه عن ابن عباس ، فكذلك رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : " الأنفال " : الغنائم ، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ، ليس لأحد منها{[12607]} شيء . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد أنها الغنائم{[12608]}
وقال الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنه قال : الأنفال : الغنائم ، قال فيها لَبِيدُ :
إِنَّ تَقْوَى رَبّنَا خيرُ نَفَل *** وَبِإِذْنِ اللهِ رَيثي وَعَجَلْ{[12609]}
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن " الأنفال " ، فقال ابن عباس ، رضي الله عنهما : الفرس من النَّفل ، والسلب من النفل . ثم عاد لمسألته ، فقال ابن عباس ذلك أيضا . ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يُحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ، مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب{[12610]}
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد قال : قال ابن عباس : كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا سئل عن شيء قال : لا آمرك ولا أنهاك . ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجرا آمرا محلا محرما . قال القاسم : فَسُلِّطَ على ابن عباس رجل يسأله{[12611]} عن الأنفال ، فقال ابن عباس : كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه . فأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك ، ثم أعاد عليه حتى أغضبه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب ، حتى سالت الدماء على عقبيه - أو على : رجليه فقال الرجل : أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك{[12612]}
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس : أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه ، بعد قسم أصل المغنم ، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل ، والله أعلم .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس ، فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ }{[12613]}
وقال ابن مسعود ومسروق : لا نفل يوم الزحف ، إنما النفل قبل التقاء الصفوف . رواه ابن أبي حاتم عنهما .
وقال ابن المبارك وغير واحد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } قال : يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال ، من دابة أو عبد أو أمة أو متاع ، فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء .
وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء ، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : هي أنفال السرايا ، حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا علي بن صالح بن حيي قال : بلغني في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } قال : السرايا .
ويعني{[12614]} هذا : ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية
الجيش ، وقد صرح بذلك الشعبي ، واختار ابن جرير أنها الزيادات على القسم ، ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية ، وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن محمد بن عبد الله{[12615]} الثقفي ، عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر ، وقتل أخي عُمَيْر ، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، وكان يسمى " ذا الكتيفة " ، فأتيت به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " اذهب فاطرحه في القبض " . قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي . قال : فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذهب فخذ سيفك " {[12616]}
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر ، عن عاصم بن أبي النَّجود ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن مالك قال : قال : يا رسول الله ، قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف . فقال : " إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه " قال : فوضعته ، ثم رجعت ، قلت : عسى أن يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي ! قال : رجل{[12617]} يدعوني من ورائي ، قال : قلت : قد أنزل الله في شيئا ؟ قال : " كنت سألتني السيف ، وليس هو لي وإنه قد وهب لي ، فهو لك " قال : وأنزل الله هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ }
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن أبي [ بكر ]{[12618]} بن عياش ، به{[12619]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وهكذا رواه أبو داود الطيالسي : أخبرنا شعبة ، أخبرنا سماك بن حرب ، قال : سمعت مصعب بن سعد ، يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات : أصبت سيفا يوم بدر ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : نَفِّلْنِيه . فقال : " ضعه من حيث أخذته " مرتين ، ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ضعه من حيث أخذته " ، فنزلت هذه الآية : " يسألونك عن الأنفال :{[12620]}
وتمام الحديث في نزول : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } [ العنكبوت : 8 ]{[12621]} وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } [ المائدة : 90 ]وآية الوصية . وقد رواه مسلم في صحيحه ، من حديث شعبة ، به{[12622]}
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر ، وكان السيف يدعى بالمرزبان ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت به فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله ، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، فسأله رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[12623]} فأعطاه إياه{[12624]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن ، عن{[12625]} سليمان بن موسى ، عن مكحول ، عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال ، فقال : فينا - أصحاب بدر -
نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء - يقول : عن سواء{[12626]}
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا معاوية بن عمرو ، أخبرنا أبو{[12627]} إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش{[12628]} بن أبي ربيعة ، عن سليمان بن موسى ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فشهدت معه بدرا ، فالتقى الناس ، فهزم الله [ تعالى ]{[12629]} العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأكبت{[12630]} طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه . وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها ، فليس لأحد فيها نصيب . وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا ، نحن منعنا{[12631]} عنها{[12632]} العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق منا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، فاشتغلنا به ، فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين - وكان رسول الله إذا غار في أرض العدو نفل الربع ، فإذا أقبل وكل الناس راجعا ، نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : " ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم " .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن . ورواه ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن الحارث{[12633]} وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه .
وروى أبو داود والنسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه - واللفظ له - وابن حبان ، والحاكم من طرق ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع{[12634]} في ذلك شبان الرجال ، وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما كانت المغانم ، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءًا لكم ، لو انكشفتم لفئتم{[12635]} إلينا . فتنازعوا فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } إلى قوله : { وَأَطِيعُوااللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }{[12636]}
وقال الثوري ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " . فجاء أبو اليَسَر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله ، {[12637]} وعدتنا ، فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ، ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك ، نخاف أن يأتوك من ورائك ، فتشاجروا ، ونزل القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } قال : ونزل القرآن : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ [ وَلِلرَّسُولِ ] }{[12638]} إلى آخر الآية [ الأنفال : 41 ]{[12639]}
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتاب " الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها " : أما الأنفال : فهي المغانم ، وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب ، فكانت الأنفال الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } فقسمها يوم بدر على ما أراده الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس ، فنسخت الأولى{[12640]}
قلت : هكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، سواء . وبه قال مجاهد ، وعكرمة والسُّدِّيّ .
وقال ابن زيد : ليست منسوخة ، بل هي محكمة .
قال أبو عبيد : وفي ذلك آثار ، والأنفال أصلها جمع{[12641]} الغنائم ، إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب ، وجرت به السنة . ومعنى الأنفال في كلام العرب : كل إحسان فعله فاعل تفضلا من غير أن يجب ذلك عليه ، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم وإنما هو شيء خصه الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت المغانم محرمة على الأمم قبلهم ، فنفلها الله هذه الأمة فهذا أصل النفل .
قلت : شاهد هذا في الصحيحين عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي " فذكر الحديث ، إلى أن قال : " وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي " ، وذكر تمام الحديث{[12642]}
ثم قال أبو عبيد : ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم ، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو . وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع ، لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى : فإحداهن : في النفل لا خمس فيه ، وذلك السلب .
والثانية : في النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس ، وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب ، فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس .
والثالثة : في النفل من الخمس نفسه ، وهو أن تحاز الغنيمة كلها ، ثم تخمس ، فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى .
والرابعة : في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء ، وهو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسَّوَّاق لها ، وفي كل ذلك اختلاف .
قال الربيع : قال الشافعي : الأنفال : ألا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب .
قال أبو عبيد : والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم ، وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن له خمس الخمس من كل غنيمة ، فينبغي للإمام أن يجتهد ، فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم ، وقل من بإزائه من المسلمين ، نفل منه اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يكن ذلك لم ينفل .
والوجه الثالث من النفل : إذا بعث الإمام سرية أو جيشًا ، فقال لهم قبل اللقاء : من غنم شيئا فله بعد الخمس ، فذلك لهم على ما شرط الإمام ؛ لأنهم على ذلك غزوا ، وبه رضوا . انتهى كلامه{[12643]}
وفيما تقدم من كلامه وهو قوله : " إن غنائم بدر لم تخمس " ، نظر . ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر ، وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بيانًا شافيا{[12644]} ولله الحمد [ والمنة ]{[12645]}
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أي : اتقوا الله في أموركم ، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا ؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه ، { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في قسمه بينكم على ما أراده الله ، فإنه قسمه{[12646]} كما أمره الله من العدل والإنصاف .
وقال ابن عباس : هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا [ الله ]{[12647]} ويصلحوا ذات بينهم . وكذا قال مجاهد .
وقال السدي : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أي : لا تستبوا . ونذكر هاهنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، رحمه الله ، في مسنده ، فإنه قال : حدثنا مجاهد
بن موسى ، حدثنا عبد الله بن بكر{[12648]} حدثنا عباد بن شيبة الحبطي{[12649]} عن سعيد بن أنس ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال : " رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة ، تبارك وتعالى ، فقال أحدهما : يا رب ، خذ لي مظلمتي من أخي . قال الله تعالى : أعط أخاك مظلمتك . قال : يا رب ، لم يبق من حسناتي شيء . قال : رب ، فليحمل عني من أوزاري " قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال : " إن ذلك{[12650]} ليوم عظيم ، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك فانظر في الجنان ، فرفع رأسه فقال : يا رب ، أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا ؟ لأي صديق هذا ؟ لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن . قال : يا رب ، ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه . قال : ماذا يا رب ؟ قال : تعفو عن أخيك . قال : يا رب ، فإني قد عفوت عنه . قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة " . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة " {[12651]}
{ يسألونك عن الأنفال } أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الأمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه . { قل الأنفال لله والرسول } أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به . وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار . وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم -وكان المال قليلا- فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه . وقرئ " ويسألونك علنفال " بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم . { فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة . { وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول . { وأطيعوا الله ورسوله } فيه . { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان .
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى الواحدي في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب القبض بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال » .
وأخرج البخاري ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج ، ولم يثبت في تسميتها حديث ، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال ، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي .
وتسمى أيضا سورة بدر ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال قال تلك سورة بدر .
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها ، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة ، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين ، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها ، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر .
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } إلى { مع الصابرين } نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة ، كما روي عن ابن عباس ، وسيأتي تحقيقه هنالك .
وقال جماعة من المفسرين إن آيات { يا أيها النبي حسبك الله } إلى { لا يفقهون } نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال ، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة .
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة ، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة ، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الانفال ، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة .
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها ، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل ، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة ، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال ، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية ، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران ، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال ، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } من هذه السورة قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله { وما لهم أن لا يعذبهم الله } بعد بدر .
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس ، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب .
وعدد آيها ، في عد أهل المدينة . وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون ، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون ، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون .
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله ، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال ، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها .
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها .
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره .
والأمر بطاعة الله ورسوله ، في أمر الغنائم وغيرها .
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم ، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل .
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر . وتأييد من الله ولطفه بهم .
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء .
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو ، والصبر .
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء .
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع .
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم .
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر .
وذكر مواقع الجيشين ، وصفات ما جرى من القتال .
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم ، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام .
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال .
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله .
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد ، ومتى يحسن السلم .
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة . وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية .
افتتاح السورة ب { يسألونك عن الأنفال } مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم { الأنفال } وكان ذلك يومَ بدر ، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك ، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال ، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهْماً في هذا الشأن ، وقد تكررت الحوادث يومئذ : ففي « صحيح مسلم » ، و« جامع الترمذي » عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر أصبت سيفاً لسعيد بن العاصي فأتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلْنيهِ ، فقال : ضعه ( في القَبَض ) ، ثم قلت : نفلنيه فقال ضعْه حيثُ أخذته ، ثم قلت : نفلنيه فقال : ضعه من حيث أخذته ، فنزلت { يسألونك عن الأنفال } » وفي « أسباب النزول » للواحدي ، و« سيرة ابن إسحاق » عن عبادة بن الصامت ، أنه سئل عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلتْ حين اختلفنا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقُنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء ، وروى أبو داود ، عن ابن عباس ، قال : « لما كان يومُ بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ : لا تستأثرون علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو أنهزمتم لكنا ردءاً لكم ، واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال } .
والسؤال حقيقته الطلب ، فإذا عدّي ب ( عن ) فهو طلب معرفة المجرور ب ( عن ) وإذا عدّي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء ، فالمعنى ، هنا : يسألونك معرفة الأنفال ، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات ، والمراد حالها بحسب القرينة مثل { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمناً في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها .
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال ، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين ، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد .
ولذلك كان قوله { يسألونك } موذناً بتنازع بين الجيش في استحقاق الأنفال ، وقد كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا ، وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية .
و ( الأنفال ) جمع نفل بالتحريك والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء ، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لأن المقصود الأهممِ من الحرب هو إبادة الأعداء ، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة :
يخبرك من شَهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأقوالهم في هذا كثيرة ، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائِم مشهور قال عنترة :
إنا إذا احمرا الوغى نُرْوي القنا *** ونعف عند مقاسم الأنفال
فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حَجر الأسدي وهو جاهلي :
نكصتم على أعقابكم ثم جئتمو *** تُرجون أنفال الخميس العرمرم
ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني ، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغِناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله ، وهذا صنف من المغانم .
فالمغانم ، إذن ، تنقسم إلى : ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم ، ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل ، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يُعرف قاتله ، فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقاً ، وأن تكون بمعنى ما يُزاد للمقاتل على حقه من المغنم ، فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالاً عن تنفيل بمعنى زيادة ، وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل ، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل ، فيبقى النفل في معنى الزيادة . ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعنى من الأنفال في هذه الآية ، وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال « الفرس من النفل والدرع من النفل » كما في « الموطأ » ، وروي عنه أنه قال : « والسلب من النفل » كما في « كتاب أبي عبيد » وغيره .
وقد أطلقوا النفل أيضاً على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يُعرف من غنمه ، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله ، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة [ الحشر : 6 ، 7 ] بقوله : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } إلى قوله { بين الأغنياء منكم } وذلك مثل أموال بني النضير التي سلّموها قبل القتال وفروا .
وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء : المغنم ، والفيء ، وهما نوعان ، والنفل . وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة ، فلما استقرّ أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر ، ولكن عُرفَ الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين ( أي لمعنيين مختلفين ) غنيمة وفيئاً يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم .
والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخُمس لمن يرى إعطاءه إياه ، ممن لم يغنم ذلك بقتال .
فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور : المراد بها ما كان زائداً على المغنم . فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين ، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل ، أو لخصلة عظيمة يأتي بها ، أو للتحريض على النكاية في العدو . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : " من قتل قتيلاً فله سَلَبُه " وقد جعلها القرآن لله وللرسول ، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم قال مالك في « الموطأ » « ولم يبلغنا أن رسول الله قال : من قتل قتيلاً فله سَلَبه إلا يومَ حنين ، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده » ( يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين ) .
فالآية محكمة غير منسوخة بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما ، قال القرطبي : وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا .
وعن ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة وعطاء : أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنائِم مطلقاً . وجعلوا حكمها هنا أنها جُعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه ، بلا تحديد ولا اطراد ، وأن ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس ، ثم نسخ ذلك بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش ، فجعل لله وللرسول الخمس ، وجعل أربعة الأخماس حقاً للمجاهدين . يعني وبقي حكم الفيء المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ ، فلذلك قال مالك والجمهور : لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك : « إعطاء السَلَب من التنفيل » ، وقال مجاهد : الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى .
واللام في قوله { للَّه } على القول الأول في معنى الأنفال : لام الملك ، لأن النفل لا يحسب من الغنائِم ، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزله مال لا يعرف مستحقه ، فيقال هو ملك لله ولرسوله ، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده ، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في « الترمذي » إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك » .
وأما على القول الثاني ، الجامع لجميع المغانم ، فاللام للاختصاص ، أي : الأنفال تختص بالله والرسول ، أي حكمُها وصرفها ، فهي بمنزلة ( إلى ) .
تقول : هذا لك أي : إلى حكمك مردود ، وأن أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خُمّست بآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية .
وعطف « وللرسول » على اسم الله لأن المقصود : الأنفالُ للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقاً للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين : أولاهما : أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توقيفاً أو تفويضاً . والثانية : لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقاً لله كان التصرف فيه لخلفائه .
واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافاً ناشئاً عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية ، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الاطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب : النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم ، فإنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعاً بين هذه الآية وبين قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } [ الأنفال : 41 ] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحَنْ في نفوس الجيش ، وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير ، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنفيل بعض الجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه ، كما سيأتي في آية المغانم ، لذلك قال مالك : لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله : " من قتل قتيلاً فله سَلَبه " خصوصيه للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر ، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله ، قال مالك في « الموطأ » : ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما .
وإنما اختلفت الفقهاء : في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس ، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه ، وقال سعيد بن المسيب ، وأبو حنيفة والشافعي : النفل من خمس الخمس . والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سمّاه القرآن أم مختلط ، وسيجيء ذلك في آية المغانم . والحجة لمالك حديث ابن عمر في « الموطأ » أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيراً ونُفلوا بعيراً بعيراً فأعطي النفلُ جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس ، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية { واعلموا أنما غنمتم } [ الأنفال : 41 ] بآية { قل الأنفال لله والرسول } أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل ، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة ، والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية .
وتفريع { فاتقوا الله } على جملة { الأنفال لله والرسول } لأن في تلك الجملة رفعاً للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال ، أو في طلب التنفيل ، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله ، فقد وقع ذلك على كراهة كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها ، تبعاً لعوائِدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها ، وهذا كله من المقول .
وقدم الأمر بالتقوى ، لأنها جامع الطاعات .
وعُطف الأمر بإصلاح ذات البين ، لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت : « اختلفْنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا » فأمرهم الله بالتصافح ، وختم بالأمر بالطاعة ، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } [ النساء : 65 ] .
والإصلاح : جعل الشيء صالحاً ، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح ، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم ، وهو فساد التنازع والتظالم .
و { ذات } يجوز أن تكون مؤنث ( ذو ) الذي هو بمعنى صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو . ووقع في كلامهم مضافاً إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما ، يجرونه مُجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى : { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } في سورة [ الكهف : 18 ] ، على تأويل جهة ، وتقول : لقيته ذات ليلة ، ولقيته ذات صباح ، على تأويل المقدر ساعة أو وقت ، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال ، ويجوز أن تكون ( ذات ) أصلية الألف كما يقال : أنا أعرف ذات فلان ، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته ، كذا فسرها الزجاج والزمخشري ، فهو كقول ابن رواحة :
وذلك في ذاتِ الإله وإن يَشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فتكون كلمةً مقحمةً لتحقيق الحقيقة ، جُعلت مُقدمة ، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم : جاءني بذاته ، ومنه يقولون : ذات اليمين وذات الشمال ، قال تعالى { إنه عليم بذات الصدور } .
فالمعنى : أصلحوا بينكم ، ولذا ف ( ذات ) مفعول به على أن ( بَين ) في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية ، وجعل اسماً منتصرفاً ، كما قُرىء { لقد تقطع بينُكم } [ الأنعام : 94 ] برفع بينُكم في قراءة جماعة . فأضيفت إليه ( ذات ) فصار المعنى : أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحاً غير فاسد ، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل { أصلحوا } منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصداً للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد ، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير : وأوجدوا الصلاح بينكم ، كما قرأنا
{ لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم .
وأعلم أني لم أقف على استعمال ( ذاتَ بين ) في كلام العرب فأحسب أنها من مبتكرات القرآن .
وجواب شرط { إنْ كنتم مؤمنين } دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله : { فاتقوا الله } إلى آخرها ، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعاً إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال ، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية : إنا أمرناكم بما ذكر إنْ كنتم مؤمنين ، لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين ، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال ، لظهور أن ليس المراد : فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله ، ولا تصلحوا ذات بينكم ، ولا تطيعوا الله ورسوله ، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أهل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال .
وليس الإتيان في الشرط ب { بأنْ } تعريضاً بضُعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورُهم ، بناء على أن شأن ( إنْ ) عدمُ الجرم بوقوع الشرط بخلاف ( إذا ) على ما تقرر في المعاني ، ولكن اجتلاب ( إنْ ) في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي : التقوى الجامعة لخصال الدين ، وإصلاح ذات بينهم ، والرضى بما فعله الرسول ، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صُوره ومظاهره ، ولذلك عُقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وَجِلتْ قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] كما سيأتي .