{ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {[24437]} } .
قال سفيان الثوري ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما [ لصاحبه ] : أنا فطرتها ، أنا بدأتها . فقال ابن عباس أيضًا : { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } بديع السموات والأرض . {[24438]}
وقال الضحاك : كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض فهو : خالق السموات والأرض .
وقوله : { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا } أي : بينه وبين أنبيائه ، { أُولِي أَجْنِحَةٍ } أي : يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعًا { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } أي : منهم مَنْ له جناحان ، ومنهم مَنْ له ثلاثة{[24439]} ومنهم مَنْ له أربعة ، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمَائة جناح ، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ؛ ولهذا قال : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . قال السدي : يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء .
وقال الزهري ، وابن جُرَيْج{[24440]} في قوله : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } يعني : حسن الصوت . رواه عن الزهري البخاري في الأدب ، وابن أبي حاتم في تفسيره .
وقرئ في الشاذ : " يَزِيدُ في الحلق " ، بالحاء المهملة ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيَ أَجْنِحَةٍ مّثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، ولا ينبغي أن تكون لغيره خالق السموات السبع والأرض ، جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً إلى من يشاء من عباده ، وفيما شاء من أمره ونهيه أُولي أجْنِحَةٍ مّثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ يقول : أصحاب أجنحة : يعني ملائكة ، فمنهم من له اثنان من الأجنحة ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أُولي أجْنِحَةٍ مّثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ قال بعضهم : له جناحان ، وبعضهم : ثلاثة ، وبعضهم أربعة .
واختلف أهل العربية في علة ترك إجراء مَثْنَى وثلاث ورباع ، وهي ترجمة عن أجنحة ، وأجنحة نكرة ، فقال بعض نحوييّ البصرة . تُرك إجراؤهنّ لأنهنّ مصروفات عن وجوههنّ ، وذلك أن مثنى مصروف عن اثنين ، وثلاث عن ثلاثة ، ورُباع عن أربعة ، فصرف نظيرُ عمَرَ ، وزُفَرَ ، إذ صُرِف هذا عن عامر إلى عمر ، وهذا عن زافر إلى زُفر ، وأنشد بعضهم في ذلك :
وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمُ ثُناءَ وَمَوْحَدَا *** وترَكْتُ مَرّةَ مِثْلَ أمْسِ المُدْبِرِ
وقال آخر منهم : لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة ، قال : وهذا لا يستعمل إلا في حال العدد . وقال بعض نحوييّ الكوفة : هنّ مصروفات عن المعارف ، لأن الألف واللام لا تدخلها ، والإضافة لا تدخلها قال : ولو دخلتها الإضافة والألف واللام لكانت نكرة ، وهي ترجمة عن النكرة قال : وكذلك ما كان في القرآن ، مثل : أنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ، وكذلك وُحاد وأحاد ، وما أشبهه من مصروف العدد .
وقوله : يَزِيدُ فِي الخَلْقِ ما يَشاءُ وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا الملك من الأجنحة على الاَخر ما يشاء ، ونقصانه عن الاَخر ما أحبّ ، وكذلك ذلك في جميع خلقه يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه ، وينقص ما شاء من خلق ما شاء ، له الخلق والأمر ، وله القدرة والسلطان إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء ، ونقصان ما شاء منه ممن شاء ، وغير ذلك من الأشياء كلها ، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
هذه السورة مكية{[1]}
الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس على أتم عموم ، لأن { الحمد } بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى والشكر مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله ، و { فاطر } معناه خالق لكن يزيد في المعنى الانفراد بالابتداء لخلقها ، ومنه قول الأعرابي المتخاصم في البئر عند ابن عباس : أنا فرطتها ، أراد بدأت حفرها . قتال ابن عباس ما كنت أفهم معنى { فاطر } حتى سمعت قول الأعرابي{[9686]} ، وقرأ الجمهور «الحمد لله فطر » ، وقرأ جمهور الناس «جاعلِ » بالخفض ، وقرأت فرقة «جاعلُ » بالرفع على قطع الصفة ، وقرأ خليد بن نشيط «جعل » على صيغة الماضي «الملائكة » نصباً ، فأما على هذه القراءة الأخيرة فنصب قوله { رسلاً } على المفعول الثاني ، وأما على القراءتين المتقدمتين فقيل أراد ب «جاعل » الاستقبال لأن القضاء في الأزل وحذف التنوين تخفيفاً وعمل عمل المستقبل في { رسلاً } ، وقالت فرقة { جاعل } بمعنى المضي و { رسلاً } نصب بإضمار فعل ، و { رسلاً } معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره ، فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل رسل ، والملائكة المتعاقبون رسل ، والمسددون لحكام العدل رسل وغير ذلك ، وقرأ الحسن «رسْلاً » بسكون السين ، و { أولي } جمع واحده ذو ، تقول ذو نهية والقوم أولو نهي ، وروي عن الحسن أنه قال في تفسير قول مريم { إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً }{[9687]} [ مريم : 18 ] قال علمت مريم أن التقي ذو نهية .
وقوله { مثنى وثلاث ورباع } ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل ، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف ، وقيل للعدل والصفة ، وفائدة العدل الدلالة على التكرار لأن { مثنى } بمنزلة قولك اثنين اثنين ، وقال قتادة : إن أنواع الملائكة هي هكذا منها ما له جناحان ، ومنها ما له ثلاثة ، ومنها ما له أربعة ، ويشذ منها ما له أكثر من ذلك ، وروي أن لجبريل ستمائة جناح منهِا اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب ، وقالت فرقة المعنى أن في كل جانب من الملك جناحين ، ولبعضهم ثلاثة في كل جانب ، ولبعضهم أربعة ، وإلا فلو كانت ثلاثة لكل واحد لما اعتدلت في معتاد ما رأيناه نحن من الأجنحة ، وقيل بل هي ثلاثة لكل واحد كالحوت والله أعلم بذلك ، وقوله تعالى : { يزيد في الخلق ما يشاء } تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عن الخبر بالملائكة أولي الأجنحة ، أي ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء ، وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا المزيد هو حسن لصوت قال الهيثم الفارسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيراً ، وقيل الزيادة الخط الحسن ، وقال النبي عليه السلام :
«الخط الحسن يزيد الحق وضوحاً »{[9688]} ، وقال قتادة الزيادة ملاحة العينين .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا وهذه الإشارة إنما ذكرها من ذكرها على جهة المثال لا أن المقصود هي فقط ، وإنما مثل بأشياء هي زيادات خارجة عن الغالب الموجود كثيراً وباقي الآية بين .