159- كان رحمة من الله بك وبهم أن لِنْتَ لهم ولم تغلظ في القول بسبب خطئهم ، ولو كنت جافي المعاملة قاسي القلب ، لتفرقوا من حولك ، فتجاوز عن خطئهم ، واطلب المغفرة لهم ، واستشرهم في الأمر متعرفاً آراءهم مما لم ينزل عليك فيه وحي ، فإذا عقدت عزمك على أمر بعد المشاروة فامض فيه متوكلاً على الله ، لأن الله يحب من يفوض أموره إليه{[36]} .
قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } . أي فبرحمة من الله وما صلة كقوله ( فبما نقضهم ) .
قوله تعالى : { لنت لهم } . أي سهلت لهم أخلاقك ، وكثرة احتمالك ، ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم يوم أحد .
قوله تعالى : { ولو كنت فظاً } . يعني جافياً سيء الخلق قليل الاحتمال .
قوله تعالى : { غليظ القلب } . قال الكلبي : فظاً في القول غليظ القلب في الفعل .
قوله تعالى : { لانفضوا من حولك } . أي لنفروا وتفرقوا عنك ، يقال : فضضتهم فانفضواأي فرقتهم فتفرقوا .
قوله تعالى : { فاعف عنهم } . تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد .
قوله تعالى : { واستغفر لهم } . حتى أشفعك فيهم .
قوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } . أي : استخرج آراهم واعلم ما عندهم ، من قول العرب شرت الدابة ، وشورتها إذا استخرجت جريها ، وشرت العسل وأشرته إذا أخذته من موضعه واستخرجته . واختلفوا في المعنى الذي لأجله أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه ونزول الوحي عليه ، ووجوب طاعته على الخلق فيما أحبوا وكرهوا . فقال بعضهم : هو خاص في المعنى ، أي : وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد ، قال الكلبي : يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكايد الحرب عند الغزو . وقال مقاتل وقتادة :أمر الله تعالى بمشاورتهم تطييباً لقلوبهم ، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم ، فإن سادات العرب كانوا إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم . وقال الحسن : قد علم الله عز وجل أنه ما به إلى مشاورتهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده .
أخبرنا أبو طاهر بن علي بن عبد الله الفارسي قال : أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم بن علي الصالحاني ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، أخبرنا علي بن العباس المقانعي ، أخبرنا أحمد بن ماهان أخبرني أبي أخبرنا طلحة بن زيد ، عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } . لا على مشاورتهم ، أي قم بأمر الله وثق به واستعنه .
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
أي : برحمة الله لك ولأصحابك ، منَّ الله عليك أن ألنت{[168]} لهم جانبك ، وخفضت لهم جناحك ، وترققت عليهم ، وحسنت لهم خلقك ، فاجتمعوا عليك وأحبوك ، وامتثلوا أمرك .
{ ولو كنت فظا } أي : سيئ الخلق { غليظ القلب } أي : قاسيه ، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ .
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين ، تجذب الناس إلى دين الله ، وترغبهم فيه ، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين ، وتبغضهم إليه ، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص ، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول ، فكيف بغيره ؟ !
أليس من أوجب الواجبات ، وأهم المهمات ، الاقتداء بأخلاقه الكريمة ، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم ، من اللين وحسن الخلق والتأليف ، امتثالا لأمر الله ، وجذبا لعباد الله لدين الله .
ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم ، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله ، فيجمع بين العفو والإحسان .
{ وشاورهم في الأمر } أي : الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر ، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره :
منها : أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله .
ومنها : أن فيها تسميحا لخواطرهم ، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث ، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي : والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه ، وعلموا أنه ليس بمستبد{[169]} عليهم ، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع ، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته ، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم ، بخلاف من ليس كذلك ، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة ، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة .
ومنها : أن في الاستشارة تنور الأفكار ، بسبب إعمالها فيما وضعت له ، فصار في ذلك زيادة للعقول .
ومنها : ما تنتجه الاستشارة من الرأي : المصيب ، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله ، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب ، فليس بملوم ، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا ، وأغزرهم علما ، وأفضلهم رأيا- : { وشاورهم في الأمر } فكيف بغيره ؟ !
ثم قال تعالى : { فإذا عزمت } أي : على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه ، إن كان يحتاج إلى استشارة { فتوكل على الله } أي : اعتمد على حول الله وقوته ، متبرئا من حولك وقوتك ، { إن الله يحب المتوكلين } عليه ، اللاجئين إليه .
وقبل أن تتم السورة حديثها مع الذين آمنوا عن أحداث غزوة أحد وما دار فيها من نصر وهزيمة ، وعن الأسباب الظاهرة والخفية لذلك . أخذت فى بيان حال النبى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من قيادة حكيمة وأخلاق كريمة ، وأنه - صلى لله عليه وسلم - لم يقابل مخالفة المخالفين له والفارين عنه بالانتقام منهم وإنزال العقوبات بهم وإنما قابل ذلك بالحلم واللين والسياسة الرشيدة . فقال - تعالى - : { فَبِمَا رَحْمَةٍ . . . } .
الخطاب فى قوله - تعالى - { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } . . . الخ للنبى صلى الله عليه وسلم .
والفاء لترتيب الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاق الفارين والمخالفين للملامة والتعنيف منه . صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية .
والباء هنا للسببية ، و " ما " مزيدة للتأكيد ولتقوية معنى الرحمة " لنت " من لان يلين لينا وليانا بمعنى الرفق وسعة الخلق و " الفظ " الغليظ الجافى فى المعاشرة قولا وفعلا .
وأصل الفظ - كما يقول الراغب - ماء الكرش وهو مكروه شربه بمقتضى الطبع ولا يشرب إلى فى أشد حالات الضرورة .
وغلظ القلب عبارة عن قسوته وقلة تأثره من الغلظة ضد الرقة ، وتنشا عن هذه الغلظة الفظاظة والجفاء .
والمعنى : فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لينا مع أتباعك فى كل أحوالك ، ولكن بدون إفراط أو تفريط ، فقد وقفت من أخطائهم التى وقعوا فيها فى غزوة أحد موقف القائد الحكيم الملهم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم . . بل كنت لينا رفيقا معهم .
وهكذا القائد الحكيم لا يكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية ، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس ، وإنما يتلفت إلى الماضى ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس فى نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة واطمئنان وبصيرة مستنيرة .
وإن الشدة فى غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى ، وذا قال - تعالى - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } .
أى ولو كنت - يا محمد - كريه الخلق ، حشن الجانب ، جافيا فى أقوالك وأفعالك ، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك . . . ولو كنت كذلك { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أى لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك .
فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون فظا أو غليظا ، لأن " لو " تدل على نفى الجواب لنفى الشرط . أى أنك لست - يا محمد - فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال ، ويحبونك حبا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم .
وقال - سبحانه - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب } لينفى عنه صلى الله عليه وسلم القسوة والغلظة فى الظاهر والباطن : إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو فى الفظاظة التى هى خشونة الجانب ، وجفاء الطبع ، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب ، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها .
والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك ، ويكفى أن الله - تعالى - قد قال فى وصفه : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إنى أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكتب المتقدمكة . إنه ليس بفظ ، ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح .
ولقد كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم مداراة الناس إلا أن يكون فى المداراة حق مضيع فعن عائشة رضى الله عنها ، قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض " .
ثم أمر الله تعالى ، بما يترتب على الرفق والبشاشة فقال : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } .
فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أى أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك ، ورحمتك بهم ، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم فى أحد ، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها .
وأن تلتمس من الله تعالى ، أن يغفر لهم ما فرط منهم ، إذ فى إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم ، وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك . وأن تشاورهم فى الأمر أى فى أمر الحرب ونحوه مما تجرى فيه المشاورة فى العادة من الأمور التى تهم الأمة .
وقد جاءت هذه الأوامر للنبى صلى الله عليه وسلم ، على أحسن نسق ، وأحكم ترتيب ، لأن الله تعالى أمره أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا ما انتهوا إلى هذا المقام ، أمره بأن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعات ، فإذا صاروا إلى هذه الدرجة ، أمره بأ يشاورهم فى الأمر لأنهم قد أصبحوا أهلا لهذه المشاورة .
ولقد تكلم العلماء كلاما طويلا عن حكم المشورة وعن معناها ، وعن فوائدها ، فقد قال القرطبى ما ملخصه : والاستشارة مأخوذة من قول العرب : شُرْتُ الدابة وشَوَّرتها ، إذا عملت خبرها وحالها يجرى أو غيره . . وقد يكون من قولهم : شُرْتُ العسل واشْتَرتُه ، إذا أخذته من موضعه .
ثم قال : واختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه أصحابه فقالت طائفة : ذلك فى مكائد الحروب ، وعند لقاء العدو ، تطييبا لنفوسهم ورفعاً لأقدارهم وإن كان الله - تعالى - قد أغناه عن رأيهم بوحيه .
وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحى . فقد قال الحسن : ما أمر الله - تعالى - نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشاورة من الفضل وليقتدى به أمته من بعده .
ثم قال : والشورى من قواعد الشريعة ، وعزائم الأحكام ، والذى لا يستشير أهل العلم والدين - والخبرة - فعزله واجب وهذا لا خلاف فيه .
وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى كثير من الأمور ، وقال " المستشار مؤتمن " وقال " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار " وقال : " ما شقى قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى " .
وقال البخارى : " وكانت الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها " .
وقال الفخر الرازى ما ملخصه : " اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحى من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأى والقياس ، فأما مالا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه فى جميع الأشياء أولا ؟
قال بعضهم : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة فى الحروب ، لأن الألف واللام فى لفظ " الأمر " تعود على المعهود السابق وهو ما يتعلق بالحروب - إذ الكلام فى غزوة أحد - .
وقال آخرون : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحى فتبقى حجته فى الباقى وظاهر الأمر فى قوله { وَشَاوِرْهُمْ } للوجوب وحمله الشافعى على الندب . .
والحق أن الشورى أصل من أصول الحكم فى الإسلام ، وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى غزوات بدر وأحد والأحزاب وفى غير ذلك من الأمور التى تتعلق بمصالح المسلمين ، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من هذه الأمة .
ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور وبتمثل لهم فى كتبه بقول الشاعر :
خليلى ليس الرأى فى صدر واحد . . . أشيرا على بالذى تريان
وقد تمدح الحكماء والشعراء بفضيلة الشورى وما يترتب عليها من خير ومنفعة ومن ذلك قول بشار بن برد :
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن . . . برأى نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضه . . . فإن الخوافى قوة للقوادم
والحكام العقلاء المنصفون المتحرون للحق والعدل هم الذين يقيمون حكمهم على مبدأ الشورى ولا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين :
إما رجل قد أصيب بداء الغرور والتعالى ، فهو يتوهم أن قوله هو الحق الذى لا يخالطه باطل ، وأنه ليس محتاجا إلى مشورة غيره وإما رجل ظالم مستبد مجانب للحق ، فهو ينفذ ما يريده بدون مشورة أحد لأنه يخشى إذا استشار غيره أن يطلع الناس على ظلمه وجوره وفجوره .
هذا ومتى تمت المشورة على أحسن الوجوه وأصلحها واستقرت الأمور على وجه معين ، فعلى العاقل أن يمضى على ما استقر عليه الرأى بدون تردد أو تخاذل ، ولذا قال - سبحانه - { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } .
أى فإذا عقدت نيتك على إتمام الأمر وإمضائه بعد المشاورة السليمة وبعد أن تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فبادر بتنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه ، و { تَوَكَّلْ عَلَى الله } أى اعتمد عليه فى الوصول إلى غايتك ، فإن الله - تعالى - يحب المعتمدين عليه ، المفوضين أمورهم إليه مع مباشرة الأسباب التى شرعها لهم لكى يصلوا إلى مطلوبهم .
فالجملة الكريمة تأمر النبى صلى الله عليه وسلم وتأمر كل من يتأتى له الخطاب بأن يبذل أقصى جهده لمعرفة ما هو صواب بأن يستشير أهل الخبرة كل فى مجال تخصصه فإذا ما استقر رأيه على وجهة نظر معينة - بعد أن درسها دراسة فاحصة واستشار العقلاء الأمناء فيها - فعليه أن يبادر إلى تنفيذها بدون تردد فإن التردد يضيع الأوقات والتأخر كثيرا ما يحول الحسنات إلى سيئات وعليه مع حسن الاستعداد أن يكون معتمدا على الله ، مظهرا العجز أمام قدرته - سبحانه - لأنه هو الخالق للأسباب والمسببات وهو القادر على تغييرها .
وكم من أناس اعتمدوا على قوتهم وحدها ، أو على مباشرتهم للأسباب وحدها دون أن يجعلوا للاعتماد على الله مكانا فى نفوسهم ، فكانت نتيجتهم الفشل والخذلان وكانت الهزيمة المنكرة المرة التى اكتسبوها بسبب غرورهم وفجورهم وفسوقهم عن أمر الله . ورحم الله القائل :
إذا لم يكن عون من الله للفتى . . . فأول ما يجنى عليه اجتهاده
ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة . . جولة محورها شخص رسول الله [ ص ] وحقيقته النبوية الكريمة ؛ وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة ؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة . . وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة ، وأسس هذا التنظيم ؛ ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها ، ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة :
( فبما رحمة من الله لنت لهم . ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين . إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون . أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ؟ هم درجات عند الله ، والله بصير بما يعملون . لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . .
وننظر في هذه الفقرة ، وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها - وهي الحقيقة النبوية الكريمة - فنجد كذلك أصولا كبيرة تحتويها عبارات قصيرة . . نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي [ ص ] وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس . . ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية - وهو الشورى - يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى - في ظاهر الأمر - نتائج مريرة ! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي - بعد الشورى - في مضاء وحسم . ونجد حقيقة التوكل على الله - إلى جانب الشورى والمضاء - حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية . ونجد حقيقة قدر الله ، ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج . ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة . ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله ، تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة . . وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي [ ص ] إلى هذه الأمة ، المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم ، كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء !
هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات !
( فبما رحمة من الله لنت لهم . ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله . إن الله يحب المتوكلين )
إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله [ ص ] وفي نفسه شيء من القوم ؛ تحمسوا للخروج ، ثم اضطربت صفوفهم ، فرجع ثلث الجيش قبل المعركة ؛ وخالفوا - بعد ذلك - عن أمره ، وضعفوا أمام إغراء الغنيمة ، ووهنوا أمام إشاعة مقتله ، وانقلبوا على أعقابهم مهزومين ، وأفردوه في النفر القليل ، وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم ، وهم لا يلوون على أحد . . يتوجه إليه [ ص ] يطيب قلبه ، وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به . ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم ، الذي تتجمع حوله القلوب . . ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه [ ص ] فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه ؛ وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم . ثم يدعوه أن يعفو عنهم ، ويستغفر الله لهم . . وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم ؛ غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية .
( فبما رحمة من الله لنت لهم ؛ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) . .
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم ؛ فجعلته [ ص ] رحيما بهم ، لينا معهم . ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ، ولا تجمعت حوله المشاعر . فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلىرعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم . . في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ؛ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ؛ ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء . . وهكذا كان قلب رسول الله [ ص ] وهكذا كانت حياته مع الناس . ما غضب لنفسه قط . ولا ضاق صدره بضعفهم البشري . ولا احتجز لنفسه شيئا من أعراض هذه الحياة ، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية . ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم . وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه ؛ نتيجة لما أفاض عليه [ ص ] من نفسه الكبيرة الرحيبة .
وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته . . يذكرهم بها في هذا الموقف . ليرتب عليها ما يريده - سبحانه - لحياة هذه الأمة من تنظيم :
( فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ) . .
وبهذا النص الجازم : ( وشاورهم في الأمر ) . . يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول الله [ ص ] هو الذي يتولاه . وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي ، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه . . أما شكل الشورى ، والوسيلة التي تتحقق بها ، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها . وكل شكل وكل وسيلة ، تتم بها حقيقة الشورى - لا مظهرها - فهي من الإسلام .
لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة ! فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم ! اختلفت الآراء . فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها ، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة . وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين . وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف . إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش ، والعدو على الأبواب - وهو حدث ضخم وخلل مخيف - كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن - في ظاهرها - أسلم الخطط من الناحية العسكرية . إذ أنها كانت مخالفة " للسوابق " في الدفاع عن المدينة - كما قال عبد الله ابن أبي - وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية ، فبقوا فعلا في المدينة ، وأقاموا الخندق ، ولم يخرجوا للقاء العدو . منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد !
ولم يكن رسول الله [ ص ] يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج . فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة ، التي رآها ، والتي يعرف مدى صدقها . وقد تأولها قتيلا من أهل بيته ، وقتلى من صحابته ، وتأول المدينة درعا حصينة . . وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى . . ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات . لأن إقرار المبدأ ، وتعليم الجماعة ، وتربية الأمة ، أكبر من الخسائر الوقتية .
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة . أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف ؛ وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة ! ولكن الإسلام كان ينشىء أمة ، ويربيها ، ويعدها لقيادة البشرية . وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة ، أن تربى بالشورى ؛ وأن تدرب على حمل التبعة ، وأن تخطىء - مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة - لتعرف كيف تصحح خطأها ، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها . فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ . . والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة . واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها ، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية . إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية . ولكنها تخسر نفسها ، وتخسر وجودها ، وتخسر تربيتها ، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية . كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي - مثلا - لتوفير العثرات والخبطات . أو توفير الحذاء !
كان الإسلام ينشىء أمة ويربيها ، ويعدها للقيادة الراشدة . فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها ، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية ، كي تدرب عليها في حياة الرسول [ ص ] وبإشرافه . ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشؤون - كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا ، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب - ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة - لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون ، لكان وجود محمد [ ص ] ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى - كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى ! - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة . ولكن وجود محمد رسول الله [ ص ] ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث ، ووجود تلك الملابسات ، لم يلغ هذا الحق . لأن الله - سبحانه - يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون ، ومهما تكن النتائج ، ومهما تكن الخسائر ، ومهما يكن انقسام الصف ، ومهما تكن التضحيات المريرة ، ومهما تكن الأخطار المحيطة . . لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة ، المدربة بالفعل على الحياة ؛ المدركة لتبعات الرأي والعمل ، الواعية لنتائج الرأي والعمل . . ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي ، في هذا الوقت بالذات :
( فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ) . .
ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله ؛ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق ؛ وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة ، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة ، ولو كان هو انقسام الصف ، كما وقع في " أحد " والعدو على الأبواب . . لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ . ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق !
على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية ؛ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق ، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف :
( فإذا عزمت فتوكل على الله . إن الله يحب المتوكلين ) . .
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي ، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة ، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد ، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ . . التنفيذ في عزم وحسم ، وفي توكل على الله ، يصل الأمر بقدر الله ، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء .
وكما ألقى النبي [ ص ] درسه النبوي الرباني ، وهو يعلم الأمة الشورى ، ويعلمها إبداء الرأي ، واحتمال تبعته بتنفيذه ، في أخطر الشؤون وأكبرها . . كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى ، وفي التوكل على الله ، وإسلام النفس لقدره - على علم بمجراه واتجاهه - فأمضى الأمر في الخروج ، ودخل بيته فلبس درعه ولأمته - وهو يعلم إلى أين هو ماض ، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات . . وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين ، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه [ ص ] على ما لا يريد ، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى . . حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع . لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله . درس الشورى . ثم العزم والمضي . مع التوكل على الله والاستسلام لقدره . وأن يعلمهم أن للشورى وقتها ، ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد . فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي . . إنما هو رأي وشورى . وعزم ومضاء . وتوكل على الله ، يحبه الله :
والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون . بل هي التي تميز المؤمنين . . والتوكل على الله ، ورد الأمر إليه في النهاية ، هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية . وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة : حقيقة أن مرد الأمر كله لله ، وأن الله فعال لما يريد . .
لقد كان هذا درسا من دروس " أحد " الكبار . هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها ، وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان . .
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ } : فبرحمة من الله و«ما » صلة ، وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله : { إنّ اللّهَ لا يَستَجِيي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها } والعرب تجعل «ما » صلة في المعرفة والنكرة ، كما قال : { فبمَا نقضِهِمْ ميثاقهُمْ } والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم . وهذا في المعرفة ، وقال في النكرة : { عمّا قليلٍ ليُصبحنَ نادمينَ } والمعنى : عن قليل . وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة ، فيرفع ما بعدها أحيانا على وجه الصلة ، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها ، كما قال الشاعر :
فكَفَى بِنَا فَضْلاً على مَنْ غيرِناحُبّ النَبِيّ محَمّدٍ إيّانا
إذا جعل غير صلة رفعت بإضمار هو ، وإن حفضت أتبعت من فأعربته ، فذلك حكمة على ما وصفنا مع النكرات ، فأما إذا كانت الصلة معرفة ، كان الفصيح من الكلام الإتباع ، كما قيل : { فبما نَقْضِهْم مِيثَاقَهُمْ } والرفع جائز في العربية .
وبنحو ما قلنا في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ } قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم .
وأما قوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك } فإنه يعني بالفظّ : الجافي ، وبالغليظ القلب : القاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة ، وكذلك صفته صلى الله عليه وسلم ، كما وصفه الله : { بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فتأويل الكلام : فبرحمة الله يا محمد ورأفته بك ، وبمن آمن بك من أصحابك ، لنت لهم لتبّاعك وأصحابك فسهلت لهم خلائقك ، وحسنت لهم أخلاقك ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه ، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه ، وأغضبت عن كثير ممن لو جفوت به ، وأغلظت عليه ، لتركك ففارقك ، ولم يتبعك ، ولا ما بعثت به من الرحمة ، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم ، فبرحمة من الله لنت لهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } : إي والله ، لطهره الله من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبا رحيما بالمؤمنين رءوفا . وذكر لنا أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة : «ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويصفح » .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } قال : ذكر لينه لهم ، وصبره عليهم لضعفهم ، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم .
وأما قوله : { لانْفَضُوا مِنْ حَوْلِكَ } فإنه يعني : لتفرّقوا عنك . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } قال : انصرفوا عنك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { لا نْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } أي لتركوك .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوكّلِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { فاعْفُ عَنْهُمْ } : فتجاوز يا محمد عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك ، وبما جئت به من عندي ، ما نالك من أذاهم ، ومكروه في نفسك . { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جرم ، واستحقوا عليه عقوبة منه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فاعْفُ عَنْهُمْ } : أي فتجاوز عنهم ، { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ذنوب من قارف من أهل الإيمان منهم .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم ، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه ؟ فقال بعضهم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدوّ ، تطييبا منه بذلك أنفسهم ، وتألفا لهم على دينهم ، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم ، وإن كان الله عزّ وجلّ قد أغناه بتدبيره له أموره وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوَكّلِينَ } أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور ، وهو يأتيه وحي السماء ، لأنه أطيب لأنفس القوم ، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا ، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور ، وهو يأتيه الوحي من السماء لأنه أطيب لأنفسهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } : أي لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم وإن كنت عنهم غنيا ، تؤلفهم بذلك على دينهم .
وقال آخرون : بل أمره بذلك في ذلك ، وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير ، لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : ما أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن إياس بن دغفل ، عن الحسن : ما شاور قوم قط ، إلا هدوا لأرشد أمورهم .
وقال آخرون : إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه ، مع إغنائه بتقويمه إياه ، وتدبيره أسبابه عن آرائهم ، ليتبعه المؤمنون من بعده ، فيما حزبهم من أمر دينهم ، ويستنوا بسنته في ذلك ، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابه وتباعه في الأمر ، ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم ، فيتشاوروا بينهم ، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم¹ لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحقّ في ذلك ، لم يخلهم الله عزّ وجلّ من لطفه ، وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه . قالوا : وذلك نظير قوله عزّ وجل الذي مدح به أهل الإيمان : { وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان بن عيينة في قوله : { وَشاوِرهُمْ فِي الأمْرِ } قال : هي للمؤمنين أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أثر .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وسلم بمشاورة أصحابه ، فيما حزبه من أمر عدوّه ومكايد حربه ، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان ، وتعريفا منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها ، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم ، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله . فأما النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإن الله كان يعرّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك . وأما أمته ، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتأخّ للحقّ وإرادة جميعهم للصواب ، من غير ميل إلى هوى ، ولا حيد عن هدى¹ فالله مسدّدهم وموفقهم .
وأما قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } فإنه يعني : فإذا صحّ عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك ، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به ، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها ، وتوكل فيما تأتي من أمورك وتدع وتحاول أو تزاول على ربك ، فثق به في كل ذلك ، وارض بقضائه في جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم ، فإن الله يحبّ المتوكلين ، وهم الراضون بقضائه ، والمستسلمون لحكمه فيهم ، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوكّلِينَ } فإذا عزمت : أي على أمر جاءك مني ، أو أمر من دينك في جهاد عدوّك ، لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك ، فامض على ما أمرت به ، على خلاف من خالفك ، وموافقة من وافقك ، وتوكل على الله : أي ارض به من العباد ، إن الله يحبّ المتوكلين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ، ويستقيم على أمر الله ، ويتوكل على الله .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } . . . الاَية ، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه .
وقوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ، معناه : فبرحمة من الله «وما » قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها ، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها ، وهذه بمنزلة قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم }{[3653]} قال الزجاج : الباء بإجماع من النحويين صلة وفيه معنى التأكيد{[3654]} ، ومعنى الآية : التقريع لجميع من أخل يوم - أحد - بمركزه ، أي كانوا يستحقون الملام منك ، وأن لا تلين لهم ، ولكن رحم الله جميعكم ، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم ، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق ، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك { لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، وتفرقوا عنك ، والفظ : الجافي في منطقه ومقاطعه ، وفي صفة النبي عليه السلام في الكتب المنزلة : ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق{[3655]} ، وقال الجواري لعمر بن الخطاب : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله{[3656]} ؛ الحديث ، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين ، والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ومنه قول الشاعر{[3657]} : [ البسيط ]
أخشى فَظَاظَةَ عمٍّ أَوْ جَفَاءَ أخٍ . . . وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذى الْكَلِمِ
وغلظ القلب : عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر{[3658]} : [ البسيط ]
يُبْكَى عَلَيْنا ولا نَبْكي على أحد . . . لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكباداً من الإبلِ
والانفضاض : افتراق الجموع ومنه فض الخاتم .
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق ، فإذا صاروا في هذه الدرجة ، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة ، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلاً للاسشارة في الأمور . والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : { وأمرهم شورى بينهم }{[3659]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم :< ما خاب من استخار ولا ندم من استشار>{[3660]} ، وقال عليه السلام :< المستشار مؤتمن>{[3661]} ، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالماً ديناً ، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل ، فقد قال الحسن بن أبي الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير ، والشورى بركة ، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى ، وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، وقد قال في غزوة بدر : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) {[3662]} ، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد{[3663]} ، ثم سعد بن عبادة{[3664]} ، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل ، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع .
{ ما فرطنا في الكتاب من شيء }{[3665]} وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين ، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة - أحد - يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف ، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر » وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل ، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم ، والشورى مبينة على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه ، عزم عليه وأنفذه متوكلاً على الله ، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه ، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية{[3666]} ، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمتُ » - بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزماً منه ، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى : { لتحكم بين الناس بما أراك الله }{[3667]} ونحو قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }{[3668]} فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رمياً ، إذ كان ذلك متصلاً برمي محمد عليه السلام بالحصباء . وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي ، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله ، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد : وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل ، وإنما هو كما قال عليه السلام : ( قيدها وتوكل ) {[3669]} .
الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الَّذي حُكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين ، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا . ولأنّ في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النَّبيء صلى الله عليه وسلم للمسلمين ، حيث استشارهم في الخروج ، وحيث لم يثرِّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم ، ولمَّا كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرّسول إيّاهم ، ألاَن الله لهم الرسول تحقيقاً لرحمته وعفوه ، فكان المعنى : ولقد عفا الله عنهم برحمته فَلاَن لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إيّاه راحماً ، قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] .
والباء للمصاحبة ، أي لنتَ مع رحمة الله : إذ كان لينه في ذلك كلّه ليناً لا تفريط معه لشيء من مصالحهم ، ولا مجاراةً لهم في التساهل في أمر الدّين ، فلذلك كان حقيقاً باسم الرحمة .
وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي ، أي : برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم ، وهذا القصر مفيد التعريض بأنّ أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم ، ولكن الله ألاَن خلق رسوله رحمة بهم ، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمَّة .
وزيدت ( ما ) بعد باء الجرّ لتأكيد الجملة بما فيه من القصر ، فتعيّنَ بزيادتها كون التَّقديم للحصر ، لا لمجرد الاهتمام ، ونبّه عليه في « الكشاف » .
واللِينُ هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدعوة والمسلمين ، وفي الصفح عن جَفاء المشركين ، وإقالة العثرات . ودلّ فعل المضيّ في قوله : { لنت } على أنّ ذلك وصف تقرّر وعرف من خُلقه ، وأنّ فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقَه كذلك { واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] ، فخلق الرسول مُناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله ، لأنّ الرسول يجيء بشريعة يبلّغها عن الله تعالى ، فالتبليغ متعيّن لا مصانعة فيه ، ولا يتأثّر بخلق الرسول ، وهو أيضاً مأمور بسياسة أمَّته بتلك الشريعة ، وتنفيذها فيهم ، وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خُلق الرسول لطباع أمّته حتَّى يلائم خلقه الوسائل المتوسَّل بها لحمل أمَّته على الشَّريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم .
أرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم مفطوراً على الرحمة ، فكان لِينه رحمة من الله بالأمَّة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها ، فلذلك جعل لينه مصاحباً لرحمةٍ من الله أودعها الله فِيه ، إذ هو قد بعث للنَّاس كافّة ، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أولَ شيء لحكمةٍ أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغي الشَّريعة للعالم .
والعرب أمَّة عُرفت بالأنفة ، وإباء الضيم ، وسلامةِ الفطرة . وسرعةِ الفهم . وهم المتلقُّون الأوّلون للدين فلم تكن تليق بهم الشّدة والغلظة ، ولكنّهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم ، ليتجنّبوا بذلك المكابرةَ الَّتي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحقّ .
وورد أن صفح النَّبيء صلى الله عليه وسلم وعفوه ورحمته كان سبباً في دخول كثير في الإسلام ، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء .
فضمير { لهم } عائد على جميع الأمَّة كما هو مقتضى مقام التَّشريع وسياسة الأمَّة ، وليس عائداً على المسلمين الَّذين عصوا أمر الرسول يوم أُحُد ، لأنَّه لا يناسب قوله بعده : { لانفضوا من حولك } إذ لا يُظنّ ذلك بالمسلمين ، ولأنَّه لا يناسب قوله بعده : { وشاورهم في الأمر } إذا كان المراد المشاورة للاستعانة بآرائهم ، بل المعنى : لو كنت فظّاً لنفرك كثير ممّن استجاب لك فهلكوا ، أو يكون الضّمير عائداً على المنافقين المعبّر عنهم بقوله : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } [ آل عمران : 154 ] فالمعنى : ولو كنت فظّاً لأعلنوا الكفر وتفرّقوا عنك ، وليس المراد أنَّك لنت لهم في وقعة أُحُد خاصّة ، لأنّ قوله بعده : { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } إلخ ينافي ذلك المحمل .
والفَظّ : السيء الخلق ، الجافي الطبع .
والغليظ القلب : القاسِيه ، إذ الغلظة مجاز عن القسوة وقلّة التسامح ، كما كان اللين مجازاً في عكس ذلك ، وقالت جواري الأنصار لعمر حين انتهرهنّ « أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله » يردن أنت فظّ وغليظ دون رسول الله .
والانفضاض : التفرق . و { من حولك } أي من جهتك وإزائك ، يقال : حَوْله وحَوْلَيه وحَوَاليْه وحَوَالَه وحِيَالَه وبِحِيَالِه . والضّمير للذين حَوْل رسول الله ، أي الَّذين دخلوا في الدّين لأنَّهم لا يطيقون الشدّة ، والكلام تمثيل : شبّهت هيئة النفور منه وكراهية الدخول في دينه بالانفضاض من حوله أي الفرار عنه متفرّقين ، وهو يؤذَّن بأنَّهم حوله متّبعون له .
والتَّفريع في قوله : { فاعف عنهم } على قوله : { لنت لهم } الآية ، لأنّ جميع الأفعال المأمور بها مناسب للين ، فأمَّا العفول والاستغفار فأمرهما ظاهر ، وأمَّا عطف { وشاورهم } فلأنّ الخروج إلى أُحُد كان عن تشاور معهم وإشارتهم ، ويشمل هذا الضّميرُ جميع الَّذين لاَن لهم صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه الَّذين حوله سواء من صدر منهم أمر يوم أحُد وغيرهم .
والمشاورة مصدر شاور ، والاسم الشُّورَى والمَشُورة بفتح الميم وضم الشِّين أصلها مَفْعُلة بضمّ العين ، فوقع فيها نقل حركة الواو إلى الساكن . قيل : المشاورة مشتقّة من شار الدابّة إذا اختبر جَريها عند العرض على المشتري ، وفعل شار الدابّة مشتقّ من المِشْوَار وهو المكان الَّذي تُركض فيه الدوابّ . وأصله معرّب ( نَشْخُوَار ) بالفارسية وهو ما تبقيه الدابّة من علفها . وقيل : مشتقّة من شار العسل أي جناه من الوقَبَة لأنّ بها يستخرج الحقّ والصّواب ، وإنَّما تكون في الأمر المهمّ المشكل من شؤون المرء في نفسه أو شؤون القبيلة أو شؤون الأمة .
و ( أل ) في الأمر للجنس ، والمراد بالأمر المهمّ الَّذي يؤتمر له ، ومنه قولهم : أمْر أمِر ، وقال أبو سفيان لأصحابه في حديث هرقل : « لقد أمِر أمْرُ ابن أبي كَبشة ، إنَّه يَخافُه مَلِك بَنِي الأصفر » . وقيل : أريد بالأمر أمر الحرب فاللام للعهد .
وظاهر الأمر أنّ المراد المشاورة الحقيقية الَّتي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارَيْن بدليل قوله عقبه : { فإذا عزمت فتوكل على الله } فضمير الجميع في قوله : { وشاورهم } عائد على المسلمين خاصة : أي شاور الَّذين أسلموا مِن بين مَن لنت لهم ، أي لا يصدّك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحُد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى ، فإنَّما كان ما حصل فلتة منهم ، وعشرة قد أقَلْتَهم منها .
ويحتمل أن يراد استشارة عبد الله بن أبي وأصحابه ، فالمراد الأخذ بظاهر أحوالهم وتأليفهم ، لعلّهم أن يُخلصوا الإسلام أو لا يزيدوا نفاقاً ، وقطعاً لأعذارهم فيما يستقبل .
وقد دلّت الآية على أن الشُّورى مأمور بها الرسُول صلى الله عليه وسلم فيما عبّر عنه ب ( الأمر ) وهو مُهمّات اللأمّة ومصالحها في الحرب وغيره ، وذلك في غير أمر التَّشريع لأنّ أمر التَّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه ، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في التَّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء ، والمجتهد لا يستشير غيره إلاّ عند القضاء باجتهاده . كما فعل عُمر وعُثمان .
فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمَّة ومصالحها ، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } [ الشورى : 38 ] واشترطها في أمر العائلة فقال : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } [ البقرة : 233 ] . فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها : وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد ، ومصالح الأمَّة .
واختلف العلماء في مدلول قوله : { وشاورهم } هل هو للوجوب أو للندب ، وهل هو خاصّ بالرسول عليه الصلاة السَّلام ، أو عامّ له ولولاة أمور الأمَّة كلّهم .
فَذهب المالكية إلى الوجوب والعموم ، قال ابن خُوَيْز منداد : واجب على الولاة المشاورة ، فيُشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين ، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب ، ويشاورون وجوه النَّاس فيما يتعلَّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها . وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنَّها سبب للصّواب فقالَ : والشورى مِسبار العقل وسبب الصّواب . يشير إلى أنَّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمَّة ، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب . وقال ابن عطية : الشورى من قواعد الشَّريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، وهذا ما لا اختلاف فيه . واعتراض عليه ابن عرفة قوله : فعزله واجب ولم يعترض كونَها واجبة ، إلاّ أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازماً به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه ، يعني ولا يزيد تركُ الشورى على كونه تركَ واجب فهو فسق .
وقلت : من حفظ حجَّة على من لم يحفظ ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات ، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التَّشريع إلاّ لدليل .
وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب ، ولتقتدي به الأمّة ، وهو عامّ للرسول وغيره ، تطييباً لنفوس أصحابه ورفعاً لأقدارهم ، وروى مثله عن قتادة ، والرّبيع ، وابن إسحاق . وردّ هذا أبو بكر أحمدُ بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجَصّاص بقوله : لو كان معلوماً عندهم أنَّهم إذا استَفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمَّا سُئِلُوا عنه ، ثُمّ لم يكن معمولاً به ، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم ، بل فيه إيحاشُهم فالمشاورة لم تفد شيئاً فهذا تأويل ساقط . وقال النووي ، في صدر كتاب الصلاة من « شرح مسلم » : الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار . وقال الفخر : ظاهر الأمر أنَّه للوجوب . ولم ينسب العلماء للحنفية قولاً في هذا الأمر إلا أنّ الجَصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } ) : هذا يدلّ على جلالة وقع المَشُورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنَّنا مأمورون بها . ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها .
ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنَّبيء صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسفيان ، قالا : وإنَّما أمر بها ليقتدى به غيره وتشيع في أمَّته وذلك فيما لا وحي فيه . وقد استشار النَّبيء صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لبدر ، وفي الخروج إلى أحُد ، وفي شأن الأسرى يوم بدر ، واستشار عموم الجيش في رَدِّ سبي هوازن .
والظاهر أنَّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر ، وإن كانت اجتهادية ، بناء على جواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية ، فالاجتهاد إنَّما يستند للأدلَّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمَّته لا يستشير في اجتهاده ، فكيف تجب الاستشارة على النَّبيء صلى الله عليه وسلم مع أنَّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطإ عليه فإنَّه لا يُقرّ على خطإ باتّفاق العلماء . ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين ، قال البخاري في كتاب الاعتصام من « صحيحه » : « وكانت الأئمة بعد النَّبيء صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم ، وكان القُرّاء أصحابَ مشُورة عمَرَ : كُهولاً كانوا أو شُبَّاناً ، وكان وقّافاً عند كتاب الله » . وأخرج الخطيب عن عليّ قال : « قلت : يا رسول الله الأمر ينزل بعدَك لم يَنزل فيه قرآن ولم يسْمع منك فيه شيء قال : اجمعوا له العابِد من أمّتي واجعلوه بينكم شُورى ولا تقضوه برأي واحد » واستشار أبو بكر في قتال أهل الردّة ، وتشاور الصّحابةُ في أمر الخليفة بعد وفاة النَّبيء صلى الله عليه وسلم وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بعده في ستَّة عيّنهم ، وجعل مراقبة الشورى لِخمسين من الأنصار ، وكان عمر يكتب لعمّاله يأمرهم بالتَّشاور ، ويتمثّل لهم في كتابه بقول الشاعر ( لم أقف على اسمه ) :
خَلِيلَيّ ليسَ الرأيُ في صَدرِ واحد *** أشِيرا عَلَيّ بالَّذِي تَرَيَــانِ
هذا والشورى ممَّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي ، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] ، إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه ، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه ، ولمَّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين . ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السَّلام فيما حكى الله عنه بقوله : { فماذا تأمرون } [ الأعراف : 110 ] . واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله : { قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون } وإنَّما يلهي النَّاس عنها حبّ الاستبداد ، وكراهية سماع ما يخالف الهوى ، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة ، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق . قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس : الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحداً رضِي الاستبداد إلاّ رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة ، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة ، وكلا الرجلين فاسق . ومثَل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة :
واستَبَدّت مَرّة واحِدة *** إنَّمَا العَاجِز مَن لا يستبدّ
ومَثل ثانيهما قول سَعْد بن نَاشِب :
إذا هَمّ ألقَى بين عينيه عزمـه *** ونَكَّب عن ذِكْر العواقب جانبــاً
ولم يستَشِرْ في أمره غَير نفسه *** ولم يَرْضَ إلا قَائم السيف صاحباً
ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد :
إذا بَلغ الرأيُ المَشُورة فاستَعـــن *** بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشُورى عليك غضاضة *** مَكانُ الخَوافي قُوّة للقَــوادِم
وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب .
وقوله : { فإذا عزمت فتوكل على الله } العزم هو تصميم الرأي على الفعل وحُذف متعلَّق ( عزمت ) لأنَّه دلّ عليه التفريع عن قوله : { وشاورهم في الأمر } ، فالتقدير : فإذا عزمت على الأمر . وقد ظهر من التفريع أنّ المراد : فإذا عزمت بعد الشورى أي تبيّن لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تَنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأياً آخر لاح للرّسول سدادُه فقد يَخْرج من آراء أهل الشورى رأي ، وفي المثل : « مَا بَيْنَ الرأيَيْن رأي » .
وقوله : { فتوكل على الله } التوكُّل حقيقته الاعتماد ، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله ، وهو شأن أهل الإيمان ، فالتوكّل انفعال قلبي عقلي يتوجّه به الفاعل إلى الله راجياً الإعانة ومستعيذاً من الخيبة والعوائق ، وربَّما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك . وبذلك يَظهر أن قوله : { فتوكل على الله } دليل على جواب إذَا ، وفَرع عنه ، والتقدير : فإذَا عزمت فَبَادر ولا تتأخّر وتَوكَّل على الله ، لأنّ للتأخّر آفاتتٍ ، والتردّد يضيّع الأوقات ، ولو كان التَّوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأنّ الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه ، فإنّ القصد منها العمل بما يتضّح منها ، ولو كان المراد حصول التوكّل من أوّل خطور الخاطر ، لما كان للأمر بالشورى من فائدة . وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التَّوكل الَّذي حرَف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه ، فأفسدوا هذا الدين من مبناه .
وقوله : { إن الله يحب المتوكلين } لأنّ التوكّل علامة صدق الإيمان ، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته ، واعتقادُ الحاجة إليه ، وعدم الاستغناء عنه وهذا ، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبَّه الله .