2- ومن تلك الأحكام حكم الزانية والزاني فاضربوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا يمنعكم شيء من الرأفة بهما عن تنفيذ الحكم ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . لأن مقتضى الإيمان إيثار رضا الله علي رضا الناس ، ولْيحضر تنفيذ الحكم فيهما جماعة من المؤمنين . ليكون العقاب فيه ردع لغيرهما{[146]} .
قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } أراد إذا كانا حرين بالغين عاقلين بكرين غير محصنين فاجلدوا : فاضربوا كل واحد منهما مائة جلدة ، يقال جلده إذا ضرب جلده ، كما يقال رأسه وبطنه ، إذا ضرب رأسه وبطنه ، وذكر بلفظ الجلد لئلا يبرح ولا يضرب بحيث يبلغ اللحم ، وقد وردت السنة أنه يجلد مائة ويغرب عاماً وهو قول أكثر أهل العلم ، وإن كان الزاني محصناً فعليه الرجم ، ذكرناه في سورة النساء . { ولا تأخذكم بهما رأفة } أي : رحمة ورقة ، وقرأ ابن كثير ( رأفة ) بفتح الهمزة ولم يختلفوا في سورة الحديث أنها ساكنة لمجاورة قوله ورحمة ، والرأفة معنى يكون في القلب ، لا ينهى عنه لأنه لا يكون باختيار الإنسان .
روي أن عبد الله بن عمر جلد جارية له زنت ، فقال للجلاد : اضرب ظهرها ورجليها ، فقال له ابنه : لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، فقال يا بني إن الله عز وجل لم يأمرني بقتلها وقد ضربت فأوجعت . واختلفوا في معنى الآية ، فقال قوم : ( لا تأخذكم بهما رأفة ) فتعطلوا الحدود ولا تقيموها ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي . وقال جماعة : معناها ولا تأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضرباً ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن ، قال الزهري : يجتهد في حد الزنا والفرية ويخفف في حد الشرب . وقال قتادة : يجتهد في حد الزنا ويخفف في الشرب والفرية . { في دين الله } أي : في حكم الله ، { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } معناه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله تعالى . { وليشهد } وليحضر ، { عذابهما } حدهما إذا أقيم عليهما { طائفة } نفر ، { من المؤمنين } قال مجاهد والنخعي : أقله رجل واحد فما فوق ، وقال عكرمة وعطاء : رجلان فصاعداً . وقال الزهري وقتادة : ثلاثة فصاعداً . وقال مالك وابن زيد : أربعة بعدد شهود الزنا .
ثم شرع في بيان تلك الأحكام المشار إليها ، فقال : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين ، أنهما يجلد كل منهما مائة جلدة ، وأما الثيب ، فقد دلت السنة الصحيحة المشهورة ، أن حده الرجم ، ونهانا تعالى أن تأخذنا رأفة [ بهما ] في دين الله ، تمنعنا من إقامة الحد عليهم ، سواء رأفة طبيعية ، أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك ، وأن الإيمان موجب لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله ، فرحمته حقيقة ، بإقامة حد الله عليه ، فنحن وإن رحمناه لجريان القدر عليه ، فلا نرحمه من هذا الجانب ، وأمر تعالى أن يحضر عذاب الزانيين طائفة ، أي : جماعة من المؤمنين ، ليشتهر ويحصل بذلك الخزي والارتداع ، وليشاهدوا الحد فعلا ، فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل ، مما يقوى بها العلم ، ويستقر به الفهم ، ويكون أقرب لإصابة الصواب ، فلا يزاد فيه ولا ينقص ، والله أعلم .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حد الزانى والزانية ، وقبح جريمة الزنا تقبيحا يحمل عل النفور ، وحرمها على المؤمنين تحريما قاطعا ، فقال - تعالى - : { الزانية .
قوله - تعالى - : { الزانية والزاني . . } شروع فى تفصيل الأحكام ، التى أشار إليها - سبحانه - فى الآية الأولى من هذه السورة ، وهى قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا . . . } والزنا من الرجل معناه : وطء المرأة من غير ملك ولا شبهة ملك ومعناه من المرأة : أن تمكن الرجل من أن يزنى بها .
والخطاب فى قوله - تعالى - : { فاجلدوا . . . } للحكام المكلفين بتنفيذ حدود الله - عز وجل - .
قال الجمل : " وفى رفع " الزانية والزانى " وجهان : أحدهما - وهو مذهب سيبويه - أنه مبتدأ خبره محذوف . أى : فيما يتلى عليكم حكم الزانية ، ثم بين ذلك بقوله : { فاجلدوا . . } والثانى : وهو مذهب الأخفش وغيره - أنه مبتدأ . والخير جملة الأمر ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط . . " .
فإن قيل : ما الحكمة فى أن يبدأ الله فى فاحشة الزنا بالمرأة ، وفى جريمة السرقة بالرجل ، حيث قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا . . . } فالجواب : أن الزنا من المرأة أقبح ، فإنه يترتب عليه فساد الأنساب ، وإلحاق الدنس والعار بزوجها وأهلها ، وافتضاح أمرها عن طريق الحمل ، وفضلا عن ذلك ، فإن تمكينها نفسها للرجل : هو الذى كان السبب فى اقترافه هذه الفاحشة ، فلهذا وغيره قدمت المرأة هنا .
وأما جريمة السرقة ، فالغالب أن الرجال أكثر إقداما عليها ، لأنها تحتاج إلى جسارة وقوة ، واجتياز للمخاطر . . . لذا قدم الرجل على المرأة فيها .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله . . } نهى منه - سبحانه - عن التهاون فى تنفيذ حدوده ، وحض على إقامتها بحزم وقوة ، والرأفة : أعلى درجات الرحمة . يقال : رؤف فلان بفلان - بزنة كرم - إذا اشتد فى رحمته ، وفى العناية بأمره .
أى : أقيموا - أيها الحكام - حدود الله - تعالى - على الزانية والزانى بأن تجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، دون أن تأخذكم شفقة أو رحمة فى تنفيذ هذه الحدود ، ودون أن تقبلوا فى التخفيف عنهما شفاعة شفيع ، أو وساطة وسيط ، فإن الله - تعالى - الذى شرع هذه الحدود . وأمر بتنفيذها بكل شدة وقوة ، أرحم بعباده وبخلقه منكم . والرحمة والرأفة فى تنفيذ أحكامه ، لا فى تعطيلها . ولا فى إجرائها على غير وجهها .
وقوله - سبحانه - : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر . . . } تأكيد لما قبله ، وإلهاب لمشاعرهم ، لتنفيذ حدود الله - تعالى - .
أى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا ، فأقيموا حدود الله ، وأجلدوا الزانية والزانى مائة جلدة ، لا تأخذكم بهما رأفة أو شفقة فى ذلك .
وقوله - سبحانه - : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } بيان لما يجب على الحكام أن يفعلوه عند تنفيذ العقوبة والأمر بشهود عذابهما للاستحباب لا للوجوب .
والمراد بعذابهما : إقامة الحد عليهما ، والطائفة فى الأصل : اسم فاعل من الطواف ، وهو الدوران والإحاطة . وتطلق الطائفة عند كثير من اللغوين على الواحد فما فوقه .
قال الآلوسى : " والحق أن المراد بالطائفة هنا ، جماعة يحصل بهم التشهير والزجر ، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة . وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه " .
ولعل السبب فى وجاهة رأى القائلين بالأربعة أن هذا العدد هو الذى يثبت به الزنا .
أى : وليشهد إقامة الحد على الزانية والزانى ، عدد من المؤمنين ، ليكون زيادة فى التنكيل بمن يرتكب هذه الفاحشة ، وأدعى إلى الاعتبار والاتعاظ وأزجر لمن تسول له نفسه الإقدام على تلك الجريمة النكراء .
ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ؛ وتفظيع هذه الفعلة ، التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات :
( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ؛ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ؛ وحرم ذلك على المؤمنين ) . .
كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساء : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . . فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير . وكان حد الرجل الأذى بالتعبير .
ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور . فكان هذا هو( السبيل )الذي أشارت إليه من قبل آية النساء .
والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء . وهو الذي لم يحصن بالزواج . ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا . فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم .
وقد ثبت الرجم بالسنة . وثبت الجلد بالقرآن . ولما كان النص القرآني مجملا وعاما . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد رجم الزانيين المحصنين ، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن .
وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن . والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم . كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده . وحول حد الزاني غير الحر . . وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا ، يطلب في موضعه من كتب الفقه . . إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع . فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد ، وعقوبة المحصن هي الرجم . ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه ، فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها ، فهو جدير بتشديد العقوبة ، بخلاف البكر الغفل الغر ، الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير . . وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل . فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر . فهو حري بعقوبة كذلك أشد .
والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به ، دون تسامح ولا هوادة :
( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) .
فهي الصرامة في إقامة الحد ؛ وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما ، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته ، تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين ، فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين .
القول في تأويل قوله تعالى : { الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : من زنى من الرجال أو زنت من النساء ، وهو حُرّ بِكرٌ غير مُحْصَن بزوج ، فاجلدوه ضربا مئة جلة عقوبة لِما صنع وأتى من معصية الله . وَلا تَأْخُذُكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينَ اللّهِ يقول تعالى ذكره : لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون رأفة ، وهي رقة الرحمة في دين الله ، يعني في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحدّ عليهما على ما ألزمكم به .
واختلف أهل التأويل في المنهيّ عنه المؤمنون من أخذ الرأفة بهما ، فقال بعضهم : هو ترك إقامة حدّ الله عليهما ، فأما إذا أقيم عليهما الحدّ فلم تأخذهم بهما رأفة في دين الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مُلَيجة ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، قال : جَلَد ابن عمر جارية له أحدثت ، فجلد رجليها قال نافع : وحسبت أنه قال : وظهرها فقلت : وَلا تَأْخَذْكُمْ بِهما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ فقال : وأخذتني بها رأفة ، إن الله لم يأمرني أن أقتلها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن ابن جُرَيج ، قال : سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول : ثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، أن عبد الله بن عمر حدّ جارية له ، فقال للجالد ، وأشار إلى رجلها وإلى أسفلها ، قلت : فأين قول الله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ قال : أفأقتلها ؟ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ فقال : أن تقيم الحدّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، ابن جُرَيج : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ قال : لا تضيعوا حدود الله .
قال ابن جُرَيج : وقال مجاهد : لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ : لا تضيعوا الحدود في أن تقيموها . وقالها عطاء بن أبي رباح .
حدثنا أبو هشام ، قال : حدثنا عبد الملك وحجاج ، عن عطاء : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ قال : يقام حدّ الله ولا يعطل ، وليس بالقتل .
حدثنا ابن المثّنى ، قال : ثني محمد بن فضيل ، عن داود ، عن سعيد بن جبير ، قال : الجلد .
حدثني عبيد بن إسماعيل الهَبّاريّ ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ في دينِ الله قال : الضرب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت عمران ، قال : قلت لأبي مجلز : الزّانِيَةُ وَالزّاني فاجْلِدُوا كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُما . . . إلى قوله : واليَوْمِ الاَخرِ إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل حدّا ، أو تقطع يده . قال : إنما ذاك أنه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم الحدّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ في دِينِ اللّهِ قال لا تقام الحدود .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةُ فتدعوهما من حدود الله التي أمر بها وافترضها عليهما .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن لَهِيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، أنه سأل سليمان بن يسار ، عن قول الله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينِ الله أي في الحدود أو في العقوبة ؟ قال : ذلك فيهما جميعا .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَمُلِيّ ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء في قوله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ في دِينِ اللّهِ قال : أن يقام حدّ الله ولا يعطّل ، وليس بالقتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن عامر في قوله : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ في دين الله قال : الضرب الشديد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وَلا تَأْخُذْكُمْ بهما رأفَةٌ فتُخَفّفوا الضرب عنهما ، ولكن أو جعوهما ضربا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قَتادة ، عن الحسن وسعيد ابن المسيب : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ قال : الجلد الشديد .
قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن حماد ، قال : يُحَدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما . وأما الزاني فتخلع ثيابه . وتلا هذه الآية : وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ فقلت لحماد : أهذا في الحكم ؟ قال : في الحكم والجلد .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، قال : يجتهد في حدّ الزاني والفرية ، ويخفف في حدّ الشرب . وقال قَتادة : يخفف في الشراب ، ويجتهد في الزاني .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ولا تأخذكم بهما رأفة في إقامة حدّ الله عليهما الذي افترض عليكم إقامته عليهما .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لدلالة قول الله بعده : «في دين الله » ، يعني في طاعة الله التي أمركم بها . ومعلوم أن دين الله الذي أمر به في الزانيين : إقامة الحدّ عليهما ، على ما أمر من جلد كل واحد منهما مئة جلدة ، مع أن الشدّة في الضرب لا حدّ لها يوقف عليه ، وكلّ ضرب أوجع فهو شديد ، وليس للذي يوجع في الشدّة حدّ لا زيادة فيه فيؤمر به وغير جائز وصفه جلّ ثناؤه بأنه أمر بما لا سبيل للمأموربه إلى معرفته . وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي للمأمورين إلى معرفته السبيل هو عدد الجَلد على ما أمر به ، وذلك هو إقامة الحد على ما قلنا . وللعرب في الرأفة لغتان : الرأفة بتسكين الهمزة ، والرآفة بمدّها ، كالسأمة والسآمة ، والكأْبة والكآبة . وكأنّ الرأفة المرّة الواحدة ، والرآفة المصدر ، كما قيل : ضَؤُل ضآلة مثل فَعُل فعالة ، وقَبُح قباحة .
وقوله : إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ باللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِيقول : إن كنتم تصدّقون بالله ر بكم وباليوم الاَخر ، وأنكم فيه مبعوثون لحشر القيامة وللثواب والعقاب ، فإن من كان بذلك مصدّقا فإنه لا يخالف الله في أمره ونهيه خوف عقابه على معاصيه . وقوله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ يقول تعالى ذكره : وليحضر جلد الزانيين البِكْرَين وحدّهما إذا أقيم عليهما طائفةٌ من المؤمنين . والعرب تسمي الواحد فما زاد . طائفة . مِنَ المُؤُمِنينَ يقول : من أهل الإيمان بالله ورسوله .
وقد اختلف أهل التأويل في مبلغ عدد الطائفة الذي أمر الله بشهود عذاب الزانيين البِكْرين ، فقال بعضهم : أقله واحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الطائفة : رجل .
حدثنا عليّ بن سهل بن موسى بن إسحاق الكنانيّ وابن القوّاس ، قالا : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِقَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : الطائفة رجل . قال عليّ : فما فوق ذلك وقال ابن القوّاس : فأكثر من ذلك .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا زيد ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الطائفة : رجل .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : قال ابن أبي نجيح : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال مجاهد : أقله رجل .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن مجاهد ، في قوله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : الطائفة : الواحد إلى الألف .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد في هذه الآية : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِن المُؤْمِنينَ قال : الطائفة واحد إلى الألف وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن مجاهد ، قال : الطائفة : الرجل الواحد إلى الألف ، قال : وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما : إنما كانا رجلين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : سمعت عيسى بن يونس ، يقول : حدثنا النعمان بن ثابت ، عن حماد وإبراهيم قالا : الطائفة : رجل .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : الطائفة : رجل واحد فما فوقه .
وقال آخرون : أقله في في هذا الموضع رجلان . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، في قوله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : قال عطاء : أقله رجلان .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة قال : ليحضر رجلان فصاعدا .
وقال آخرون : أقلّ ذلك ثلاثة فصاعدا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن ابن أبي ذئب ، عن الزهريّ ، قال : الطائفة : الثلاثة فصاعدا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : نفر من المسلمين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، قال : حدثنا أشعث ، عن أبيه ، قال : أتيت أبا بَرْزة الأسلميّ في حاجة وقد أخرج جارية إلى باب الدار وقد زنت ، فدعا رجلاً فقال : اضربها خمسين فدعا جماعة ، ثم قرأ : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ .
حدثنا أبو هشام الرفاعيّ ، قال : حدثنا يحيى ، عن أشعث ، عن أبيه ، أن أبا بَرْزة أمر ابنه أن يضرب جارية له ولدت من الزنا ضربا غير مبرّح ، قال : فألقى عليها ثوبا وعنده قوم ، وقرأ : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما الآية .
وقال آخرون : بل أقلّ ذلك أربعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : فقال : الطائفة التي يجب بها الحدّ أربعة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : أقلّ ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين : الواحد فصاعدا وذلك أن الله عمّ بقوله : وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ والطائفة : قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا . فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن الله تعالى ذكره وضع دلالة على أن مراده من ذلك خاصّ من العدد ، كان معلوما أن حضور ما وقع عليه أدنى اسم الطائفة ذلك المحضر مخرج مقيم الحدّ مما أمره الله به بقوله : وَلَيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ . غير أني وإن كان الأمر على ما وصفت ، أستحبّ أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته على الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك فلا خلاف بين الجمع أنه قد أدّى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك ، وهم فيما دون ذلك مختلفون .
{ الزانية والزاني } أو فيما فرضنا أو أنزلنا حكمها وهو الجلد ، ويجوز أن يرفعا بالابتداء والخبر : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام بمعنى الذي ، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سورة لأجل الأمر والزان بلا ياء ، وإنما قدم { الزانية } لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ولأن مفسدته تتحقق بالإضافة إليها ، والجلد ضرب الجلد وهو حكم يخص بمن ليس بمحصن لما دل على أن حد المحصن هو الرجم ، وزاد الشافعي عليه تغريب الحر سنة لقوله عليه الصلاة والسلام " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ، وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الآخر نسخا مقبولا أو مردودا ، وله في العبد ثلاثة أقوال . والإحصان : بالحرية والبلوغ والعقل والإصابة في نكاح صحيح ، واعتبرت الحنفية الإسلام أيضا وهو مردود برجمه عليه الصلاة والسلام يهوديين ، ولا يعارضه " من أشرك بالله فليس بمحصن " إذ المراد بالمحصن الذي يقتنص له من المسلم . { ولا تأخذكم بهما رأفة } رحمة . { في دين الله } في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أن تسامحوا فيه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " . وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة وقرئت بالمد على فعالة . { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه ، وهو من باب التهييج . { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب ، وال { طائفة } فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة وقيل واحد واثنان ، والمراد جمع يحصل به التشهير .
وقرأ جمهور الناس «الزانيةُ » بالرفع ، وقرأ عيسى الثقفي «الزانيةَ » بالنصب وهو أوجه عن سيبويه لأنه عنده كقولك زيداً أضرب ، ووجه الرفع عنده خبر ابتداء تقديره فيما يتلى عليكم { الزانية والزاني } ، وأجمع الناس على الرفع ، وإن كان القياس عند سيبويه النصب ، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه والخبر في قوله { فاجلدوا } لأن المعنى { الزانية والزاني } مجلودان بحكم الله تعالى وهذا قول جيد وهو قول أكثر النحاة ، وان شئت قدرت الخبر ينبغي أن يجلدا ، وقرأ ابن مسعود «والزان » بغير ياء ، وقدمت { الزانية } في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنى النساء أفشى{[8564]} وكان لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك وإذا العار بالنساء ألحق إذ موضعهن الحجبة{[8565]} والصيانة ، فقدم ذكرهن تغليظاً واهتماماً ، والألف واللام في قوله : { الزانية والزاني } للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء{[8566]} ، وجماعة العلماء على عموم هذه الآية وأن حكم المحصنين منسوخ منها ، واختلفوا في الناسخ فقالت فرقة الناسخ السنة المتواترة في الرجم ، وقالت فرقة بل القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه وهو الذي قرأه عمر في المنبر بمحضر الصحابة : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة » ، وقال إنا قرأناه في كتاب الله تعالى{[8567]} ، واتفق الجميع على أن لفظه رفع وبقي حكمه ، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه ليس في هذه الآية نسخ بل سنة الرجم جاءت بزيادة ، فالمحصن ، على رأي هذه الفرقة يجلد ثم يرجم ، وهو قول علي بن أبي طالب وفعله بشراحة{[8568]} ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم
«والثيب بالثيب جلد مائة والرجم »{[8569]} ، ويرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث يرجم ولم يجلد ، وبه قال جمهور الأمة إذ فعله كقوله رفع الجلد عن المحصن وقال ابن سلام وغيره هذه الآية خاصة في البكرين .
قال الفقيه الإمام القاضي : لأنه لم يبق من هذا حكمه إلا البكران واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام »{[8570]} ، وبقوله «على ابنك جلد مائة »{[8571]} ، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج الإماء والعبيد وغيرهم منها ، وقد تقدم بسط كثير من هذه المعاني في سورة النساء{[8572]} ، و «الجلد » يكون والمجلود قاعد ، عند مالك ولا يجزىء عنده إلا في الظهر ، وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف وهو قول علي بن أبي طالب ويفرق الضرب على كل الأعضاء ، وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل ، ويترجح قول مالك رحمه الله بقول النبي صلى الله عليه وسلم «البينة أو حد في ظهرك »{[8573]} ، وقول عمر : أو لأوجعن مثناك{[8574]} ، ويعرى الرجل عند مالك والنخعي وأبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز والحسن والشعبي وغيرهم يرون أن يضرب على قميص وهو قول عثمان بن مسعود أيضاً ، وأما المرأة فتستر قولاً واحداً ، وقرأ الجمهور «رأْفة » همزة ساكنة على وزن فعلة ، وقرأ ابن كثير «رأَفة » على وزن فعَله بفتح العين ، وقرأ عاصم أيضاً «رآفة » على وزن فعالة كسآمة وكآبة ، وهذه مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا أرق ورحم ، وقرأ الجمهور «تأخذكم » بالتاء من فوق ، وقرأ أبو عبد الرحمن «يأخذكم » بالياء من تحت واختلف الناس في الرأفة المنهي عنها فيم هي فقال أبو مجلز ولاحق بن حميد{[8575]} ومجاهد وعكرمة وعطاء هي في إسقاط الحد أي أقيموه ، ولا بد وهذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما ومن رأيهم أن الضرب في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد ، وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما «الرأفة » المنهي عنها في تخفيف الضرب عن الزناة ، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر والفرية ، ويشتد ضرب الزنا ، وقال سليمان بي يسار{[8576]} نهي عن الرأفة في الوجهين ، وقال أبو مجلز إنا لنرجم المحدود ولكن لا نسقط الحد .
قال الفقيه الإمام القاضي : وقول النبي عليه السلام في السوط دون هذا{[8577]} ، ضرب من الرأفة وقال عمر اضرب ولا تبدين إبطك ، واتفق الناس على أن الضرب سوط بين سوطين ، وقال الزهري ضرب الزنا والفرية مشدد لأَنهما بمعنى واحد وضرب الخمر مخفف ، وقوله { في دين الله } بمعنى في الإخلال بدين الله أَي بشرعه ، ويحتمل أن يكون «الدين » هنا بمعنى الحكم{[8578]} ، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله : { إن كنتم تؤمنون بالله } وهذا كما تقول لرجل تحضه إن كنت رجلاً فافعل كذا أي هذه أفعال الرجال وقوله { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ، المقصد بالآية الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس ، فلا خلاف أن «الطائفة » كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر ، واختلف الناس في أَقل ما يجزىء فقال الحسن بن أبي الحسن لا بد من حضور عشرة رأى أن هذا العدد عقد خارج عن الآحاد وهي أقل الكثرة .
وقال ابن زيد وغيره ولا بد من حضور أربعة ، ورأوا أن شهادة الزنا كذلك وأن هذا باب منه ، وقال الزهري «الطائفة » ثلاثة فصاعداً ، وقال عطاء وعكرمة لا بد من اثنين وهذا مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة ، وقال مجاهد : يجزىء الواحد ويسمى طائفة إلى الألف ، وقاله ابن عباس ونزعا{[8579]} بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }{[8580]} [ التوبة : 122 ] ، وقوله : { وإن طائفتان }{[8581]} [ الحجرات : 9 ] ونزلت في تقاتل رجلين ، واختلف العلماء في التغريب ، وقد غرب الصديق إلى فدك وهو رأي عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وأَبي بن كعب ولكن عمر بعد نفى رجلاً فلحق بالروم فقال لا أنفي أحداً بعدها ، وفيه عن مالك قولان ، ولا يرى تغريب النساء والعبيد واحتج بقوله عليه السلام «لا تسافر المرأة مسيرة يوم إلا مع ذي محرم »{[8582]} ، وممن أبى التغريب جملة أصحاب الرأي ، وقال الشافعي ينفى البكر رجلاً كان أو امرأة ونفى علي امرأة إلى البصرة .