التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حد الزانى والزانية ، وقبح جريمة الزنا تقبيحا يحمل عل النفور ، وحرمها على المؤمنين تحريما قاطعا ، فقال - تعالى - : { الزانية .

قوله - تعالى - : { الزانية والزاني . . } شروع فى تفصيل الأحكام ، التى أشار إليها - سبحانه - فى الآية الأولى من هذه السورة ، وهى قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا . . . } والزنا من الرجل معناه : وطء المرأة من غير ملك ولا شبهة ملك ومعناه من المرأة : أن تمكن الرجل من أن يزنى بها .

والخطاب فى قوله - تعالى - : { فاجلدوا . . . } للحكام المكلفين بتنفيذ حدود الله - عز وجل - .

قال الجمل : " وفى رفع " الزانية والزانى " وجهان : أحدهما - وهو مذهب سيبويه - أنه مبتدأ خبره محذوف . أى : فيما يتلى عليكم حكم الزانية ، ثم بين ذلك بقوله : { فاجلدوا . . } والثانى : وهو مذهب الأخفش وغيره - أنه مبتدأ . والخير جملة الأمر ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط . . " .

فإن قيل : ما الحكمة فى أن يبدأ الله فى فاحشة الزنا بالمرأة ، وفى جريمة السرقة بالرجل ، حيث قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا . . . } فالجواب : أن الزنا من المرأة أقبح ، فإنه يترتب عليه فساد الأنساب ، وإلحاق الدنس والعار بزوجها وأهلها ، وافتضاح أمرها عن طريق الحمل ، وفضلا عن ذلك ، فإن تمكينها نفسها للرجل : هو الذى كان السبب فى اقترافه هذه الفاحشة ، فلهذا وغيره قدمت المرأة هنا .

وأما جريمة السرقة ، فالغالب أن الرجال أكثر إقداما عليها ، لأنها تحتاج إلى جسارة وقوة ، واجتياز للمخاطر . . . لذا قدم الرجل على المرأة فيها .

وقوله - تعالى - { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله . . } نهى منه - سبحانه - عن التهاون فى تنفيذ حدوده ، وحض على إقامتها بحزم وقوة ، والرأفة : أعلى درجات الرحمة . يقال : رؤف فلان بفلان - بزنة كرم - إذا اشتد فى رحمته ، وفى العناية بأمره .

أى : أقيموا - أيها الحكام - حدود الله - تعالى - على الزانية والزانى بأن تجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، دون أن تأخذكم شفقة أو رحمة فى تنفيذ هذه الحدود ، ودون أن تقبلوا فى التخفيف عنهما شفاعة شفيع ، أو وساطة وسيط ، فإن الله - تعالى - الذى شرع هذه الحدود . وأمر بتنفيذها بكل شدة وقوة ، أرحم بعباده وبخلقه منكم . والرحمة والرأفة فى تنفيذ أحكامه ، لا فى تعطيلها . ولا فى إجرائها على غير وجهها .

وقوله - سبحانه - : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر . . . } تأكيد لما قبله ، وإلهاب لمشاعرهم ، لتنفيذ حدود الله - تعالى - .

أى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا ، فأقيموا حدود الله ، وأجلدوا الزانية والزانى مائة جلدة ، لا تأخذكم بهما رأفة أو شفقة فى ذلك .

وقوله - سبحانه - : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } بيان لما يجب على الحكام أن يفعلوه عند تنفيذ العقوبة والأمر بشهود عذابهما للاستحباب لا للوجوب .

والمراد بعذابهما : إقامة الحد عليهما ، والطائفة فى الأصل : اسم فاعل من الطواف ، وهو الدوران والإحاطة . وتطلق الطائفة عند كثير من اللغوين على الواحد فما فوقه .

قال الآلوسى : " والحق أن المراد بالطائفة هنا ، جماعة يحصل بهم التشهير والزجر ، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة . وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه " .

ولعل السبب فى وجاهة رأى القائلين بالأربعة أن هذا العدد هو الذى يثبت به الزنا .

أى : وليشهد إقامة الحد على الزانية والزانى ، عدد من المؤمنين ، ليكون زيادة فى التنكيل بمن يرتكب هذه الفاحشة ، وأدعى إلى الاعتبار والاتعاظ وأزجر لمن تسول له نفسه الإقدام على تلك الجريمة النكراء .