التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

فرضناها : فرضنا أحكامها أو أجبناها .

بسم الله الرحمان الرحيم .

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 1 ) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 2 ) }

مطلع السورة فريد ، وقد احتوت الآية الأولى تنويها بالسورة وما فيها من أحكام فرضها الله استهدافا لتذكير المخاطبين الذين هم المسلمون على ما هو المتبادر وتبصيرهم أما الآية الثانية فقد احتوت تشريعا في حد الزنا فأوجبت جلد الزانية والزاني مائة جلدة ، في مشهد علني يشهده فريق من المؤمنين وشددت في عدم التهاون في إقامة هذا الحد وفي طريقة تنفيذه وعدم الرأفة بالمجرمين وجعلت ذلك دليلا على إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر بسبيل توكيده .

تعليق على حد الزنا الوارد في الآية الثانية

وما ورد في ذلك مع تمحيص موضوع الرجم .

لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات ولقد ورد في الآيتين ( 15 / 16 ) من سورة النساء خطوة أولى في صدد الزناة على ما مر شرحه . والمتبادر أن حكمة التنزيل التي اقتضت أن تكون الخطوة الأولى ما ورد في تلك السورة رأت الوقت قد حان للخطوة الثانية التي احتوتها الآية الثانية . ولعل أحداثا وقعت فكان ذلك المناسبة ولقد كان النساء اللاتي يأتين الفاحشة يحسبن في بيوتهن وقتا للخطوة الأولى إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا بناء على ما جاء في آيتي سورة النساء . ومن المحتمل أنه صار شيء من الحرج في صدد ذلك . وقد روى حديث نبوي سنورد نصه بعد قليل جاء فيه ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا . . . ) مما قد يكون فيه تفسير أو تأييد لما نقول .

وجمهور المفسرين{[1450]} وأئمة الفقه مجمعون على أن الحد المذكور في الآية الثانية على العزاب غير المتزوجين مع زيادة مختلف عليها وهي ( نفي سنة ) حيث يأخذ بها بعضهم دون بعض . وأن الحد الشرعي على المحصنين المتزوجين هو الرجم حتى الموت مع زيادة مختلف عليها كذلك وهي مائة جلدة قبل الرجم .

ويستندون في ذلك إلى أحاديث عديدة . ومن جملتها أحاديث مروية عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه تفيد أن الرجم حكم قرآني نسخ تلاوة وبقي حكما .

من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة ابن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أشرنا إليه قبل قليل قال : ( خذوا عني خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة . والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) {[1451]} وحديث ثان رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلاه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة ) {[1452]} وحديث ثالث رواه البخاري والنسائي عن زيد ابن خالد قال ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر في من زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام ) {[1453]} وحديث رابع رواه الخمسة جاء فيه ( إن ماعزا الأسلمي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقه الآخر فقال : إنه قد زنى فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة فرجم بالحجارة . فلما وجد مس الحجارة فر يشتد ، فلقيه رجل معه لحي فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك للنبي فقال " هلا تركتموه وفي رواية قال له : أبك جنون ؟ قال : لا وفي أخرى لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال : لا قال : أأحصنت ؟ قال : نعم فأمر برجمه . وفي رواية فاختلفت فيه الصحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم{[1454]} .

وحديث خامس رواه الخمسة جاء فيه ( أن رجلا أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال الخصم وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي ، فأذن له فقال : إن بني كان عسيفا على هذا ، فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، وسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجل الرجم ، فقال رسول الله : لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم رد ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها فاعترفت فرجمها ) {[1455]} ومن الأحاديث المروية عن عمر حديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال ( قال عمر وهو على منبر رسول الله : إن الله قد بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها ، ورجم رسول الله ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ) {[1456]} . وحديث ثان رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال ( خطب عمر ابن الخطاب فذكر الرجم فقال : إنا لا نجد من الرجم بدا ، فإنه حد من حدود الله ، ألا وإن رسول الله قد رجم ورجمنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف ) {[1457]} وحديث ثالث رواه الإمام أحمد عن عمر أنه قال ( إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ) {[1458]} وحديث رابع رواه الحافظ أبو يعلى عن ابن عمر قال نبئت عن كثير ابن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد ابن ثابت : كنا نقرأ ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ) قال مروان ألا كتبتها في المصحف . قال ذكرنا ذلك وفينا عمر ابن الخطاب فقال : أنا أشفيكم من ذلك قال : قلنا : كيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كذا وكذا وذكر الرجم فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال : لا أستطيع الآن أو نحو ذلك ) {[1459]} وقد روى الإمام أحمد في صدد نص آية الرجم ، حديثا آخر عن أبي ذر قال ( قال لي أبي كعب كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها ؟ قال قلت ثلاثا وسبعين آية . فقال قط قد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيه ( الشيخ والشيخة ، إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) {[1460]} وقد روى السيوطي في الإتقان عن الليث ابن سعد في سياق رواياته عن تدوين القرآن في خلافة أبي بكر أن زيد ابن ثابت كان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل ، وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها ؛ لأنه كان وحده وأن أبا خزيمة ابن ثابت جاء بآخر سورة براءة ولم يكن معه شاهد فقبلها منه وقال : إن رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين{[1461]} .

والذي نلحظ في صدد كون الرجم حكما قرآنيا نسخ تلاوة وبقي حكما وما ورد في ذلك :

أولا : إن نسخ حكم قرآني تلاوة مع بقائه حكما لا يمكن أن يفهم له حكمة وبخاصة في حد تشريعي خطير مثل حد الرجم .

ثانيا : إن النص المروي للآية مختلف فيه من جهة الرجم  والرجم فيه خاص بالشيخ والشيخة ، ودون توضيح كونهما محصنين أو غير محصنين من جهة أخرى في حين أن أحاديث عمر تفيد أن الرجم عام على المحصن ، وأن الأحاديث المروية عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم بعض الزنا المحصنين لا تخصص الشيوخ فقط بل وليس فيها شيوخ .

ثالثا : إن عمر أعدل من أن ترفض شهادته في صدد تدوين آية . وأقوى من أن يسكت عن ذلك . إذا كان متأكدا من قرآنيتها ومن كون النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم تنسخ تلاوة وحكما . وهو الذي اقترح كتابة المصحف من جديد على أبي بكر وكان المشرف على ذلك ما روته الروايات{[1462]} .

وكل هذا يجعلنا نتوقف عن الأخذ بأن الرجم تشريع قرآني قائم الحكم بهذه الصفة كما قد تفيد الأحاديث المروية عن عمر رضي الله عنه إلا أن يقال : إن قرآنا نزل بالرجم ثم نسخ ثم بدا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يشرعه للجميع على المحصنين فلا يقتصر على الشيخ والشيخة ولا يبقى مطلقا بحيث يكون للمحصنين وغير المحصنين .

ويكون والحكمة هذه تشريعا نبويا . ويكون ما روي عن عمر هو باعتبار ما كان أصلا وثبته النبي بعد نسخ قرآنيته لأن هذا لم يكن واضحا وعاما لا باعتبار الحال الراهن الذي هو تشريع نبوي . وقد يصح الاستئناس بحديث الحافظ أبي يعلى الذي فيه خير عدم استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لطلب كتابة آية الرجم في مجلس فيه عمر نفسه ، وهو رواية حيث يكون في ذلك قرينة على أن آية الرجم بصيغتها المروية قد نسخت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .

ومع ذلك فهناك ما يمكن أن يقال أيضا : فإن آية النساء ( 25 ) ذكرت أنم حد الأمة إذا زنت بعد إحصانها هو نصف حد المحصنة . وعبر عن الحد في هذه الآية ( بالعذاب ) ولما لم يرد في القرآن حد قابل للتصنيف إلا ما ذكر في آية النور فالمعقول أن تكون آية النساء قد نزلت بعد هذه الآية وعطفت عليها . والجمهور على أن حد الأمة المحصنة هو خمسون جلدة . وهذا ثابت في أحاديث أوردناها في سياق التفسير الآية المذكورة . وهذا يقتضي أن يكون ( الجلد مائة ) هو المحكم القرآني للزانية المحصنة الحرة . وما يجدر بالذكر أن الذين أجمعوا على صحة حكم الرجم وجدوا إشكالا في هذا الأمر فقالوا : إن حد الأمة المحصنة هو نصف الحد الوارد في آية النور وهو خمسون جلدة وعللوا ذلك بأن حد الرجم لا يتنصف . والتعليل وإن كان معقولا فإن النقطة التي تلفت النظر في الأمر هي أن حد الأمة مستند في أصله إلى تشريع قرآني قائم في آيتي النساء والنور . ومن ناحية ثانية ، فإن المتبادر المعقول أن يكون حديث عبادة ابن الصامت قد صدر قبل نزول آية النور بإلهام رباني للإجابة على سؤال أو رفع الحرج وإنهائه عن إمساك النساء في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ؛ لأنه لا تفهم حكمة صدوره في نفس الوقت الذي نزلت فيه الآية ؛ لأنها احتوت الحكم الموعود . ولا تفهم حكمة الزيادة على ما احتوته . ولا تفهم حكمة صدوره بعبارته المروية بعد نزولها ؛ لأن ما أريد التنبيه إليه قد نزل قرآنا . فإذا صح ما نقول تكون الآية قد نسخت من التشريع النبوي السابق عليها ما زاد على ما احتوته من تشريع عام للزناة إطلاقا بدون تفريق بين المحصنين وأبكار وهو جلد مائة جلدة . دون تغريب سنة لغير المحصن والرجم للمحصن . وهذا ما قد يحمل على الظن بأن الأحاديث الأخرى التي تعين الرجم للزناة المحصنين والتي ذكرت بعض وقائع رجمهم هي الأخرى قد صدرت قبل آية النور . وفي حديث رجم ماعز نقطة هامة وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بما كان من فراره وملاحقته وضربه حتى مات : ( هلا تركتموه ) حيث يفيد هذا أنه كان يود لو اكتفى بما وقع عليه من رجم وتركه حينما فر دون أن يموت .

غير أن ما روته الروايات العديدة من أن حلفاء النبي رجموا الزناة المحصنين ومن ذلك حديث عمر الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه ( رجم رسول الله ورجمنا بعده ) ثم ما أجمع عليه أئمة الفقه بناء على ذلك من أن عقوبة الزناة المحصنين هي الرجم يجعلنا نقول : إن خلفاء رسول الله لا يمكن أن يكونوا فعلوا ذلك لو لم يكونوا على يقين بأن النبي قد سن سنة الرجم وأمر بتنفيذها بعد نزول سورة النور ومات دون أن ينسخها وهي بعد لا تتناقض مع النص القرآني الذي جاء مطلقا ، شأن سائر التشريعات النبوية في صدد ما سكت عنه القرآن أو ذكره مطلقا والله اعلم .

هذا ، وبين المذاهب خلاف في جمع الجلد والتغريب لغير المحصنين والجلد والرجم للمحصن ؛ حيث يقول بعضهم بالجمع ولا يقول بذلك بعضهم .

وفي حديث ماعز لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجلده وإنما أمر برجمه وهذا أيضا وارد في حديث رجم المرأة . وقد استند الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى ذلك في حق المحصن فقالوا بالرجم دون الجلد{[1463]} وشذ عنهم الحنبلي لأن الجلد حكم قرآني والرجم سنة نبوية والجمع بينهما واجب وقد ثبت عنده أن علي ابن أبي طالب جلد زانيا محصنا ثم رجمه وقال : جلدت بأمر القرآن ورجمت بالسنة النبوية{[1464]} .

أما النفي سنة للعزاب بعد الجلد فقد أخذ به الشافعي والحنبلي دون أبي حنيفة الذي اعتبره على سبيل التعزير والتأديب من غير وجوب . وذهب المالكي إلى أن النفي للرجال دون النساء{[1465]} .

وعلى كل حال فليس فيما ورد من النفي للعزاب بعد الجلد والجلد ثم الرجم للمحصنين في الأحاديث النبوية مناقضة للحكم القرآني من حيث المبدأ ؛ لأنه كما قلنا من قبل من باب التشريع النبوي في ما سكت عنه القرآن أو تركه مطلقا . مع ترجيحنا لما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي ومالك استنادا إلى حديث ماعز من عدم جمع الجلد مع الرجم للمحصن .

والحديث الذي رواه الخمسة الذي ذكر فيه حادث ابن الأعرابي هو في حالة المرأة المتزوجة إذا زنى فيها أعزب . ولم نقع على أثر يذكر حادثا لامرأة بكر إذا زنى فيها متزوج والمتبادر أن هذه الحالة تقاس على الحالة السابقة فتجلد المرأة ويرجم الرجل .

وهناك حالات أخرى لم نقع على أثر فيها . وهي حالة المرأة الأرملة والمطلقة التي لم يكن لها زوج في وقت الزنا وحالة الرجل الأرمل والمطلق الذي لم يكن له زوجة ، في وقت الزنا . حيث يرد سؤال عما إذا كانا يعدان محصنين أم لا . ولما كان المتبادر من حكمة التشريع النبوي في تشديد عقوبة الزنا على المحصنين أي المتزوجين هي كونهم غير مضطرين إلى السفاح ؛ حيث يكون حاجتهم الجنسية مقضية بالزواج فقد يصح أن يقال : إنهما يعدان غير محصنين ، والله تعالى أعلم .

وفي نهاية هذا البحث يحسن أن ننبه على أمر ، وهو أن الرجم للمحصن هو ما عليه معظم المذاهب . وأن هناك من لا يأخذ به ويتمسك بالنص القرآني فقط وهو الجلد مائة للزناة عامة . لا فرق بين محصن وأعزب . ولا تغريب بعد الجلد وقد ذكر السيوطي هذا عن الخوارج{[1466]} .

وهناك أحاديث تذكر حالات أخرى رأينا أن نلم بها ؛ لأنها متناسبة مع البحث . من ذلك حالة الرجل الذي يقع على امرأة محرمة عليه كأخته أو ابنته أو كنته . فقد روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا وقع على ذات محرم فاقتلوه ) {[1467]} وروى أصحاب السنن حديثا عن البراء قال ( لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد ؟ قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله ) {[1468]} .

والمتبادر أن هذا الحكم خاص بالحالة سواء أكان الزاني محصنا أم غير محصن . وروى الشارح عن الترمذي أنه قال وأصحابنا على هذا الرأي .

ولم نقع على حديث فيه حكم المرأة المحرمة التي زنى بها محرمها برضائها فيصح أن يقاس أمرها على الزاني فيكون حدها القتل والله اعلم .

ومن ذلك زنا الرجل بأمة زوجته . وقد روى أصحاب السنن حديثا جاء فيه ( وقع رجل على جارية امرأته فرفع إلى النعمان ابن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضين بقضاء رسول الله . إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة جلدة وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة . فوجدوه قد أحلتها له فجلدوه مائة جلدة ) {[1469]} ويفيد هذا أنه لا ينجي الرجل إذن زوجته له بإتيان جاريتها لأنها ليست ملك يمينه على كل حال أما لو وهبتها له وصارت ملكه فالأمر يختلف وتكون حلالا له كما هو المتبادر .

جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن

والآيات في صدد الزنا الرجال بالنساء .

وهناك جريمة فاحشة أخرى هي اللواط . وقد ألممنا بهذه الجريمة وأوردنا الأحاديث الواردة في شأنها والأقوال المروية عن أهل التأويل والفقه في صددها في سياق تفسير آيات سورة الأعراف ( 8081 ) التي وردت فيها لأول مرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار .

وشبيه بهذه الجريمة جريمة إتيان النساء من أدبارهن . وقد ألممنا بهذه الجريمة في سياق تفسير الآية ( 223 ) من سورة البقرة وأوردنا هناك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار أيضا .

حالة الإكراه والغصب .

روى أصحاب السنن عن علقمة ابن وائل عن أبيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة أكرهت على الزنا فاذهبي فقد غفر الله لك ){[1470]} وروى الترمذي حديثا جاء فيه ( استكرهت امرأة على الزنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد وأقامه على الذي أصابها ولم يذكر أنه جعل لها مهرا ) {[1471]} وروى مالك ( أن عبدا زنى بأمة بالإكراه في زمن عمر فأمر بجلد العبد دون الأمة لأنها مستكرهة ) {[1472]} .

وليس في الأحاديث توضيح للاستكراه ، ويتبادر لنا أنه يبرر سقوط الحد إلا منع المدخول به عن المقاومة بصورة ما .

أما إذا هدد بالقتل أو بما دون القتل فلا يبرر ذلك موافقته والرضاء بما يفعل به ؛ لأنه عقوبة ذلك هي القتل إذا كانت الجريمة لواطا أو إذا كانت المزني بها محصنة ولا يصح لامرئ أن يوافق ويرضى بأمر بالتهديد فقط إذا كانت عقوبة ما يطلب منه بالتهديد مثل عقوبة الفعل . وإذا كان الإكراه أكثر احتمالا بالنسبة للمفعول به ، فليس من المستحيل أن يكون حادث الإكراه على الفاعل أيضا . غير أن هذه الحالة تختلف عن الحالة السابقة . فالزاني واللائط هو المباشر للجريمة على كل حال وليس هنا محل لفرض التقييد{[1473]} ومنع المقاومة ، والخضوع للتهديد والإكراه لا يعفي والحالة هذه من العقوبة ؛ لأنه لا يصح أن يتفادى القتل أو ما دون القتل بجريمة عقوبتها ، مثل ذلك ، والله تعالى أعلم .

ومن قبيل الاستطراد نذكر أن هناك حديثين متناقضين في صدد إتيان البهيمة رواهما أبو داود والترمذي عن ابن عباس جاء في أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من أتى البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ، قلت : لابن عباس ما شأن البهيمة ؟ قال ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها هذا العمل ){[1474]} وجاء في ثانيهما عن ابن عباس ( ليس على الذي يأتي البهيمة حد ) {[1475]} ولقد علق الشارح على الحديث الأول قائلا إنه مرفوع وموقوف ويكون ضعيفا ، ولم يأخذ به أحد من الأئمة الأربعة فلا تقتل البهيمة ولا الفاعل بل يعزر بما يراه الحاكم . ويبدو هذا وجيها والله تعالى أعلم .

ويلحظ أنه ليس في الآية طريقة لإثبات الزنا . والحوادث التي روت الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على أصحابها ثبتت بالاعتراف .

والمتبادر أن الأمر ظل على ما ذكرته آية النساء ( 15 ) وهو شهادة أربعة شهود من المسلمين أو الحبل أو الاعتراف على ما ورد في الحديث الذي رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب وأوردناه قبل قليل . وفي آيات تالية تأييد بخاصة لشهادة الشهود الأربعة بحيث يصح القول : إن آية النور التي نحن في صددها عدلت حكم الزناة في آيتي سورة النساء ( 15 و 16 ) مع بقاء عدد الشهود محكما . ولقد ذكرنا في سياق تفسير آيتي النساء هاتين ما عن لنا من ملاحظات في صدد مدى الشهادات وحكمة تعليق ثبوت هذه الجريمة على أربع شهادات فلا حاجة إلى الإعادة .

ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن ثبوت جرم اللواط منوط بما نيط به ثبوت جرم الزنا ما عدا الحبل الذي ليس واردا في هذا الحال .

والحدود المذكورة في الآية والأحاديث مطلقة بحيث تتناول الأحرار والمماليك وقد احتوت آية النساء ( 25 ) استثناء للأمة المتزوجة على ما فصلناه في سياق تفسير الآية المذكورة . أما المملوك الذكر فلم نطلع على أثر نبوي فيه وإطلاق الآية والأحاديث قد يفيد أن شأنه شأن الحر في مختلف الحالات . ويظهر من قول أورده القاسمي أن هناك من يقول : إن المملوك يرجم إذا زنى بحرة ويجلد إذا زنى بأمة . وقد عزا المفسر المذكور إلى السيوطي تفنيدا لهذا القول ؛ لأنه لا يتفق مع نص الآية . والتفنيد في محله . ولقد كانت حالة الإماء وتعرضهن للبغاء هي السبب الذي جعل حكمة التنزيل تخفف عنها الحد على ما شرحناه قبل . وهذا ليس واردا بالنسبة للمماليك الذكور .

ولقد وقف بعضهم عند جملة ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فقالوا : إن ذلك بسبيل تنفيذ الحد وإنه لا يعني القسوة في الجلد ، وإن هذا يجب أن يكون غير مبرح . وقد روى ابن كثير الذي هو من جملة من ذكر ذلك أن ابن عمر ضرب جارية له زنت ضربا غير مبرح فقال له ابنه : كيف تفعل ذلك والله يقول { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فقال له يا بني إن الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها . ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية ( 25 ) من سورة النساء حديثا رواه الخمسة جاء فيه ( أن النبي أمر بجلد الأمة إذا زنت دون تثريب أي دون قسوة ) بحيث يمكن القول : إن ابن عمر أخذ بالسنة النبوية . والحديث وإن كان في صدد الإماء فإن الأخذ بالنسبة لكل من يقام عليه حد الجلد يكون شذوذا والله تعالى أعلم .

هذا ، ويلحظ أن الزانية قدمت على الزاني في الآية الثانية في معرض عقوبة الجلد ، مع أن القرآن جرى على تقديم الرجل والذكر على المرأة والأنثى بصورة عامة { المؤمنون والمؤمنات } ( البقرة : 71 ) و { المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } ( الفتح : 6 ) و { لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) } ( آل عمران : 40 ) { ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن . . . } الخ ( غافر : 40 } وفي عقوبة السرقة { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ( المائدة : 38 } ويتبادر لنا في ذلك حكمة ، وهي أن الزنا المستحق للحد لا يمكن أن يتم إلا بموافقة المرأة ، إذا لم يكن بإكراه الرجل لها . فتكون والحالة هذه سبب الإثم فاستحقت أن تذكر قبل الرجل وفي حالة الإكراه لا تكون مستحقة للعقوبة على ما مر بيانه والله تعالى أعلم .

والآية وإن كانت بصيغة الجمع المخاطب ، وتبدو أنها موجهة إلى المسلمين فالمتبادر الذي تلهمه روحها أنها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالزنا جريمة لا بد من ثبوتها أمام القضاء ، ولا بد من السلطان لإقامة الحد الشرعي . وكان هذا وذاك موطدين في شخص النبي صلى الله عليه وسلم . والآية بعد احتوت تشريعا مستمرا . وهذا يعني أن الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في تمثيل القضاء والسلطان هو المكلف بتنفيذ هذا التشريع .

هذا ، ومن الجدير بالتنويه أن التشريع القرآني والنبوي معا قد سوى بين الرجل والمرأة . وفي هذا ما فيه من عدل وحق من جهة ومن تقرير مساواة الرجل والمرأة في تبعة العمل الواحد والتكاليف المتشابهة من جهة ثانية . ومما لا ريب فيه أن التشديد على المرأة دون الرجل في جريمة الزنا واعتباراتها مما هو جار في الأوساط الإسلامية اليوم غير متمش مع قاعدة القرآن القائمة على الحق والعدل والمساواة .

واستثناء الأمة من حيث كون القرآن جعل حدها نصف حد الحرة على ما شرحناه في سياق تفسير آية النساء ( 25 ) ليس من شأنه أن يخل بهذه المساواة .

فالأحرار هم الأكثرية العظمى في المجتمع الإسلامي وعليهم يقوم بنيان هذا المجتمع . وهذا الاستثناء هو بسبب اعتبارات وجيهة . ولم يشمل المماليك الذكور ومع ذلك فإنه استثناء تخفيفي وليس تشديديا .


[1450]:انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنيسابوري والنسفي.
[1451]:التاج ج 3 ص 17 و 22
[1452]:المصدر نفسه
[1453]:التاج ج 3 ص 17 و 22
[1454]:المصدر نفسه ص 23
[1455]:المصدر نفسه ص 22
[1456]:التاج ج 3 ص 23
[1457]:عن ابن كثير في تفسير الآيات
[1458]:المصدر نفسه
[1459]:المصدر نفسه
[1460]:عن ابن كثير في مطلع تفسير سورة الأحزاب، وقد روى ذلك المفسر النسفي واسم القائل أبو ذر والراجح أن هذا هو الصحيح وأن ما جاء في ابن كثير تصحيف. انظر أيضا الإتقان للسيوطي ج 2 ص 26
[1461]:الإتقان ج 1 ص 62
[1462]:انظر الإتقان للسيوطي 1 ص 60 ـ 63
[1463]:انظر تفسير الآية في ابن كثير.
[1464]:المصدر نفسه.
[1465]:تفسير الزمخشري للآية وتفسير ابن كثير للآيات (15ـ16) من سورة النساء.
[1466]:ذكر هذا القاسمي في تفسيره محاسن التأويل
[1467]:التاج ج 3 ص 26 و 27
[1468]:التاج ج 3 ص 26 و 27
[1469]:المصدر نفسه
[1470]:التاج ج 3 ص 32
[1471]:المصدر نفسه
[1472]:الموطأ ج 2
[1473]:من القيد
[1474]:التاج ج 3 ص 25 و 26
[1475]:المصدر نفسه