غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

1

فمن جملة الأحكام حكم الزنا . قال الخليل وسيبويه : رفعهما على الابتداء والخبر محذوف ولا بد من تقدير مضاف أي فيما فرض عليكم جلد الزانية والزاني ، أو فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقال آخرون : الخبر { فاجلدوا } والفاء لتضمن معنى الشرط فإن الألف واللام بمعنى الموصول تقديره : التي زنت والذي زنى فاجلدوا . وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب { سورة أنزلناها } لأجل الأمر فإن الطلب من مظان الفعل والجلد ضرب الجلد كما يقال " رأسه " أي ضرب رأسه وكذلك في سائر الأعضاء بعد ثبوت السماع ، وفيه إشارة إلى أن إقامة هذا الحد ينبغي أن يكون على الاعتدال بحيث لا يتجاوز الألم من الجلد إلى اللحم . فعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب . فالرجل يجلد قائماً على تجرده ليس عليه إزاره ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً على الأعضاء كلها إلا الوجه والفرج ، والمرأة تجلد قاعدة ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو . والصحيح أن الزنا من الكبائر ولهذا قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس في قوله { ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] وقد وفى فيه عقد المائة بكماله بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر وشرع فيه الرجم الذي هو أشنع أنواع القتل ، ونهى المؤمنين عن الرأفة بهما وأمر بشهود طائفة للتشهير . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة . فأما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر ، وأما التي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار " واعلم أن البحث في هذه الآية يقع عن أمور أحدها عن ماهية الزنا ، وثانيها عن أحكام الزنا ، وثالثها في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً لتلك الأحكام ، ورابعها في الطريق الذي به يعرف حصول الزنا ، وخامسها عن كيفية إقامة هذا الحد الأول . قد حده علماء الشافعية بأنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً . قالوا : فيدخل فيه اللواطة لأنها مثل الزنا صورة وذلك ظاهر لحصول معنى الانفراج في الدبر أيضا ، ومعنى لأنهما يشتركان في المعاني المتعلقة بالشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل ، ولذلك لا يفرق أهل الطبائع بين المحلين . والأكثرون على أن اللواط لا يدخل تحت الزنا للعرف ولهذا ، لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث ، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط مع كونهم عالمين باللغة . وما روى عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان " محمول على اشتراكهما في الإثم بدليل قوله أيضاً " إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان "

وقوله " اليدان تزنيان والعينان تزنيان " والقياس المذكور بعيد لأنه لا يلزم من تسمية القبل فرجاً . لانفراجه أن يسمى كل منفرج كالفم والعين فرجاً .

واعلم أن للشافعي في اللائط قولين أصحهما أن عليه حد الزنا إن كان محصناً فيرجم ، وإن لم يكن محصناً فيجلد ويغرب . والثاني قتل الفاعل والمفعول . والقتل إما بجز الرقبة كالمرتد ، أو بالرجم وهو قول مالك وأحمد وإسحق ، أو بالهدم عليه . ويروى عن أبيّ : أو بالرمي من شاهق . ويروى عن علي رضي الله عنه وذلك أن قوم لوطٍ عذبوا كل هذه الوجوه قال عز من قائل { جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } [ هود : 82 ] وأما المفعول فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكروهاً فلا حد عليه ولا مهر لأن بضع الرجل لا يتقوَّم ، وإن كان مكلفاً طائعاً فهو كالفاعل في الأقوال وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط وحكمه ما مر ، وقيل زناً لأنه وطء أثنى فأشبه الوطء في القبل ، وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح . ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه وبالجملة جميع ذلك مما ذهب إليه الشافعي . وقال أبو حنيفة : إن اللائط لا يحدّ بل يعزر . حجة الشافعي خبر أبي موسى الأشعري . فإِنه يدل على اشتراك اللواط والزنا في الاسم والحقيقة لا أقل من اشتراكهما في اللوازم . وأيضاً إنه صلى الله عليه وسلم قال " من عمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل منهما والمفعول به " وقال صلى الله عيه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس " وليس اللواط من قبيل الثاني والثالث فهو من الأول . وأيضاً قاس اللواط على الزنا بجامع كون الطبع داعياً إليه فيناسب الزاجر . وفرق بأن الزنا أكثر وقوعاً وكان الاحتياج فيه إلى الزاجر اشد ، وبأن الزنا يقتضي فساد الأنساب دون اللواط ، وألغى الفرق بوطء العجوز الشوهاء . حجة أبي حنيفة أنه وطء لا يتعلق به المهر فلا يتعلق به الحد وضعف بفقد الجامع قال : إنه لا يساوي الزنا في الحاجة على شرع الحد لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول طبعاً ، ولأنه ليس فيه إضاعة النسب . وأجيب بأن الإنسان حريص على ما منع ، فلو لم يشرع الحد شاع اللواط وأدى إلى إضاعة النسب بل إلى إفناء الأشخاص وانقطاع طريق التوالد والتناسل . وللشافعي في إتيان البهيمة أقوال : أحدهما أنه كالزنا في أحكامه ، وثانيها القتل مطلقاً لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه " فقيل لابن عباس : ما شأن البهيمة ؟ قال : لأنه كره أن يؤكل لحمها . وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعاً . والحديث ضعيف الإسناد وبتقدير صحته معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله . ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزير . البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب ، والإيذاء بالقول في حق البكر ، ثم نسخ بآية الزنا وبقوله صلى الله عليه وسلم : " الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام " والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا ينتصف وقد قال تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره ، فلو كان الرجم مشروعاً لكان أولى بالذكر ، ولأن قوله { الزانية والزاني } يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم ينتصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي . وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات . وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعاً في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون . سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة . وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد ، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصناً فأمر به فرجم . وقوله صلى الله عليه وسلم " الثيب بالثيب جلد مائة " ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال : يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها . ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره . وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية . وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال : قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة " فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده .

فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره . قال الشافعي : يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر . وقال أبو حنيفة : يجلد .

وأما التغريب فمفوَّض إلى رأي الإمام . وقوله صلى الله عليه وسلم " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب . وقال مالك : يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب . حجة الشافعي حديث عبادة " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " وقد ورد مثله في قصة العسيف . حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد . بيانه أن إيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء ، ومعنى الجزاء كونه كافياً في ذلك الباب منه قوله صلى الله عليه وسلم " يجزيك ولا يجزي أحداً بعدك " وإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافياً ولو كان النفي مشروعاً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر . وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأمة " إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها " والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما روي أن شيخاً وجد على بطن جارية ، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اجلدوه مائة . فقالوا : إنه أضعف من ذلك . فقال : خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله . لا يقال : إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزاً عن الحركة لأنا نقول : كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها . ولا يقال : لعله كان ضعيفاً عن الركوب أيضاً لأنا نقول : القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك . وأيضاً الأمر بالنفي لو كان مشروعاً لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته ، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها ، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقاة مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة ، لهذا روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرين : إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة . وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها . وأيضاً النفي نظير القتل لقوله تعالى { اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم } [ النساء : 66 ] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا يشرع نظيره وهو التغريب . وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب فلا إشعار في الآية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الأصلية . فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأنه كافٍ في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام . ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما روى أبو علي في جامعة أنه صلى الله عليه وسلم جلد وغرّب . ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزاً عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل ، وعلى هذا يغرّب نصف سنة على الأصح لأنه يقبل التنصيف . وقيل : سنة كاملة لأن التغريب للإِيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة . وأما المرأة فلا تغرّب وحدها لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم " فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان ، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنا إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب ، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب . وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها . واعلم أن قولنا { الزانية والزاني } إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل ما اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلا بد من تقييد أو تخصيص وهو البحث الثالث فتقول : أجمعت الأمة على أنه لا بد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف . هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلا بد من شروط أخر منها : الحرية بالإجماع . ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض ، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد . ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين ، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ . ومنهما الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطين : أحدهما التزويج بنكاح صحيح ، والآخر الدخول . وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام . ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال ، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة ، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل . وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح الفاسد قولان : أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب ، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال .

وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية ؟ الأصح عند إمام الحرمين لا ، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان . والأرجح عند معظم الأصحاب نعم ، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل ، وعلى هذا فهل يشترط كمال الواطئين جميعاً ؟ قال أبو حنيفة : نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملاً دون آخر لم يصر الكامل محصناً أيضا . وقال الشافعي في اصح قوليه : لا بل لكل منهما حكم نفسه . ومنها الإسلام عند أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم " من أشرك بالله فليس بمحصن " دون الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم " إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا . فلو حكم بشرعه فظاهر ، ولو حكم بشريعة من قبله فقد صار شرعاً له ، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلا الزاجر ولهذا قلنا : إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبراً بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه . ومما احتج به لأبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد . وزيادة الخدمة إن لم تكن سبباً للعذر فلا أقل من أن لا تكون سبباً لزيادة العقوبة . قالوا : إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة . وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلاً للكرامة وصيانة للعرض . والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمي مشرك ، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله { فإذا أحصن } [ النساء : 25 ] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله صلى الله عليه وسلم " وزنا بعد إحصان " وبقوله " عليهم ما على المسلمين " قال بعض أهل الظاهر : عموم قوله { الزانية والزاني } يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النصب بالتنصيف في حق الأمة ، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس . ومنهم من قال : الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله { فإذا أحصن }

[ النساء : 25 ] أي تزوّجن { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات } [ النساء : 25 ] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله { الزانية } واتفاق الجمهور على حذف هذين . وقال الشافعي وأبو حنيفة : الذمي يجلد للعموم ولأنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين فالجلد أولى . وقال مالكك لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع .

البحث الرابع في طريق معرفة الزنا وأنه ثلاثة : الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا ؟ رجح كلاً مرجحون . وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى .

ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده . وهذا الوجه في حدود الله تعالى أرجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا قال النبي في قضية اللعان " لو كنت راجماً بغير بينة لرجمتها " ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهما . وعن أبي حنيفة أنه إن حصل العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا . الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة . وقال أبو حنيفة : لا بد من أربع مرات في أربع مجالس . وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحداً . حجة الشافعي قصة العسيف " فإن اعترفت فارجمها " والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل ، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين . حجة أبي حنيفة قصة ما عز وإعراضه صلى الله عليه وسلم عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعدما أقر ثلاث مرات : لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس على الشهادة . وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب ، والثانية على كمالها . والفرق أن المقذوف لو اقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف ، ولو شهد اثنان بزناة لم يسقط . الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لا بد من شهود أربعة من الرجال لقوله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ولقوله { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لا بد من شهود أربعة . وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان .

البحث الخامس : أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله { فاجلدوا } هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقال الشافعي : السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يملك . حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم قال " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال " ذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود ، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر . وأيضاً إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى . وأيضاً الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى . حجة أبي حنيفة في قوله { فاجلدوا } الخطاب للأمة بالاتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد . وأيضاً لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه ، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود وليس له ذلك بالاتفاق لأنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه . وأيضاً المالك في محل التهمة لأنه قد يشفق على ملكه فلا يستوفى الحد . أجابت الشافعية بأن عدم ذكر الفرق لا يدل على عدم الفرق مع أن الكلام في جواز إقامة السيد الحد لا في وجوبه . فالإمام يملك حد العبد في الجملة وذلك كافٍ في بقاء الآية على عمومها . وعن الثاني بأن للشافعي في القطع والقتل قولين : أحدهما يجوز لما روي أن ابن عمر قطع عبداً له سرق . وثانيهما لا ، وهو قول مالك أن القطع للإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير . وفي سماع المولى الشهادة أيضا وجهان : فإذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل ينبغي أن يعينوا واحداً من الصلحاء ليقوم بها ، وفي الخارجي المتغلب خلاف .

البحث السادس في كيفية إقامة الحد : إنه سبحانه قد أشار إلى أن هذا الحد يجب أن لأي كون في غاية العنف بلفظ الجلد كما مر ، وإلى أنه يجب أن لا يكون في غاية الرفق بقوله { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } وذلك إما بأن يترك الحد رأسا ، أو ينقص شيء منه ، أو يخفف بحيث لا يحس الزاني بالألم . وفي معناه أن يفرق على الأيام كأن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين ، وإن ضرب كل يوم عشرين مثلاً كان محسوباً لحصول التكليف . والأولى أن لا يفرق وأكد هذا المعنى بقوله { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } قال الجبائي : فيه دلالة على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان لأن التقدير : إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود . وأجيب بأن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه وأن ذلك يوجب ترك إقامة الحد ، وحينئذ يكون منكراً للدين فلهذا يخرج من الإيمان . وفي الحديث " يؤتي بوال نقص من الحد سوط فيقال له : لم فعلت ذاك ؟ فيقول : رحمة لعبادك . فيقول له : أنت ارحم بهم مني فيؤمر به إلى النار " روى أبو عثمان النهدي قال : أتي عمر برجل في حد ، ثم جيء بسوط فيه شدة فقال : أريد ألين من هذا . فأتي بسوط فيه لين فقال : أريد اشد من هذا . فأتي بسوط بين السوطين . وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال : ما ينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص . فقال أبو عبيدة : لا تدعوه ينزع قميصه وضربه عليه . ولا خلاف في أن المرأة لا يجوز تجريدها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة .

وجوّز الشافعي الضرب على الرأس لما روي أن أبا بكر قال : اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه . وقال أبو حنيفة : حكم الرأس حكم الوجه لأن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس وفي الوجه واحد ، وأما في سائر البدن فلا يجب إلا الحكومة . وأيضاً إن ضرب الرأس يوجب في الأغلب ظلمة البصر ونزول الماء واختلاط العقل كالوجه فإنه أيضا عرضة للآفات وفيه الأعضاء الشريفة اللطيفة . وللشافعي أن يقول : إنما يحترم الوجه لما جاء في الحديث " إن الله تعالى خلق آدم على صورته " وهذا المعنى مفقود في الرأس . ولتكن إقامة الحد في وقت اعتدال الهواء إلا إذا كان رجماً فإن المقصود - وهو قتله - لا يتفاوت بذلك . ولهذا يرجم المريض أيضاً في مرضه . وقيل : إن كان مرضاً يرجى برؤه يؤخر كما في الجلد لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم وقد أثر الرجم في بدنه فتعين شدة الحر والبرد مع المرض على إهلاكه ، وهذا بخلاف ما ثبت بالبينة فإنه لا يسقط . وفي الجلد إن كان المرض مما لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر سواء زنى في حال الصحة أو حال المرض ولكن لا يضرب بالسياط عند الشافعي ، لأن المقصود ليس موته بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ كما روي أن مقعداً أصاب امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة . والأثكال والعثكال الغصن الذي عليه فروع خفيفة من النخل أو من غيره . وعند أبي حنيفة يضرب بالسياط . ثم إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق ، لأن ماعزاً لما مسته الحجارة هرب فقال صلى الله عليه وسلم : " هلا تركتموه " وعن الحسن وابن أبي ليلى وداود أن لا يقبل رجوعه . ويحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها ، ولا يحفر للرجل كما في حق ماعز إذ لو كان في الحفرة لم يمكنه الهرب . ولما روى أبو سعيد الخدري في قصته " فما أوثقناه ولا حفرنا له " . وإذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين . ومن تغليظات حد الزنا قوله سبحانه { وليشهد } ظاهره أمر للوجوب إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن حضور الجمع مستحب والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع ، ولما فيه من دفع التهمة عمن يجلد . وفي لفظ العذاب دليل على أنه عقوبة لا استصلاح إلا أن يراد بالعذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال وقد مر في أول البقرة في قوله { ولهم عذاب عظيم } [ الآية : 7 ] ومعنى الطائفة قد مر في التوبة . فقال النخعي ومجاهد : هي في الآية واحد . وعن عطاء وعكرمة اثنان . وعن الزهري وقتادة ثلاثة . وقال ابن عباس والشافعي : أربعة بعدد شهود الزنا . وعن الحسن عشرة لأنها أول عقد . وجوّز ابن عباس إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله . وحضور الإمام والشهود ليس بلازم عند الشافعي ومالك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر رجم ماعز والغامدية . وقال أبو حنيفة : إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقراره بدأ الإمام ثم الناس .

/خ10