التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

{ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } الزانية والزاني يراد بهما الجنس ، وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر ، فإنه كان منهن إماء وبغايا يجاهرن بذلك ، وإعراب الزاني والزانية كإعراب : السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، وقد ذكر في المائدة .

وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة النساء من الإمساك في البيوت في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى ، ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه ، فإن جلد المائدة إنما هو حد الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين ، فيخرج منها الكفار ، فيردون إلى أهل دينهم ، ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة ، فأما العبد والأمة : فحدهما خمسون جلدة سواء كانا محصنين أو غير محصنين ، وأما المحصنان الحران فحدهما الرجم هذا على مذهب مالك .

وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب ، فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهره العموم في المسلمين والكافرين ، وفي الأحرار والعبيد والإماء ، وفي المحصن وغير المحصن ، ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء ، منها باتفاق ، ومنها باختلاف .

فأما الكفار فرأى أبي حنيفة وأهل الظاهر أن حدهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا : أخذا بعموم الآية ، ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا ، والرجم إن أحصنوا أخذا بالآية ، وبرجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية إذ زنيا ، ورأي مالك أن يردوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى في سورة النساء : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } [ النساء :15 ] فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه ، ولكن بقيت في محلها .

وأما العبد والأمة : فرأى أهل الظاهر أن حد الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء25 ] وأن حد العبد الجلد مائة لعموم الآية ، وقال غيرهم : يجلد العبد خمسين بالقياس على الأمة ، إذ لا فرق بينهما .

وأما المحصن فقال الجمهور : حده الرجم فهو مخصوص في هذه الآية ، وبعضهم يسمي هذا التخصيص نسخا .

ثم اختلفوا في المخصص أو الناسخ ، فقيل : الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " وقيل : الناسخ لها السنة الثابتة في الرجم ، وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب : يجلد المحصن بالآية ، ثم يرجم بالسنة فجمعوا عليه الحدين ، ولم يجعلوا الآية منسوخة ، ولا مخصصة ، وقال الخوارج : لا رجم أصلا فإن الرجم ليس في كتاب الله ، ولا يعتد بقولهم ، وظاهر الآية الجلد دون تغريب ، وبذلك قال أبو حنيفة ، وقال مالك : الجلد والتغريب سنة للحديث ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك ، وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس ، وقال الشافعي : يفرق على جميع الأعضاء والمجلود قائم ، وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب ، ويجرد الرجل عند مالك ، وقال قوم : يجلد على قميص .

{ ولا تأخذكم بهما رأفة } قيل : يعني في إسقاط الحد أي : أقيموه ولا بد ، وقيل : في خفيف الضرب ، وقيل : في الوجهين . فعلى القول الأول : يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وعلى القول الثاني والثالث : يكون الضرب في الزنا أشد ، واختلف هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة فمنعه مالك ، وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام ، وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث .

{ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم ، واختلف في أقل ما يجزئ من الطائفة فقيل أربعة ، اعتبارا بشهادة الزنا وهو قول ابن أبي زيد ، وقيل : عشرة ، وقيل : اثنان ، وهو مشهور مذهب مالك ، وقيل : واحد .