فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ { 2 ) }

{ الزانية والزاني } المرأة تمكن من ليس زوجا لها ولا مالكا من الاستمتاع بها في قبلها ، والرجل يطأ المرأة في قبلها في غير زوجية ولا ملك ، أو يمكنها من ذلك .

{ فاجلدوا } فاضربوا جلد كل واحد منهما بسوط أو نحوه .

{ رأفة } رقة وشدة عطف .

{ في دين الله } في إنفاذ شرع الله وحكمه الذي قضى فيهما ، وهو إقامة الحد .

{ طائفة } جماعة ، أو واحد فصاعدا .

التي تزني من النساء ، والذي يزني من الرجال حد كل واحد منهما كما شرع الله سبحانه أن يضرب ويجلد مائة جلدة عقوبة له على ما فعل وارتكب من معصية مولانا عز وجل ، هذا إذا كانت الزانية والزاني غير محصنين أي لم يسبق لهما أن استمتعا بوطء في نكاح صحيح وأما المملوكات فحد من تزني منهن خمسون جلدة ، بدليل ما جاء في الآية الكريمة : { . . فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات{[2433]}من العذاب . . ){[2434]} . ويقاس العبد على الجارية فحكمه كحكمها ؛ ولا تمتنعوا معاشر المؤمنين بالله واليوم الآخر عن إقامة الحدود على مستحقيها شفقة عليهم ، فإن الحكيم الذي شرع أولى بهم من أنفسهم ، وأرحم بهم من أمهاتهم ، وإنما فرض ما فرض من عقوبة إصلاحا لهم ولغيرهم .

{ وليشد عذابهما طائفة من المؤمنين } وليحضر إقامة الحد على كل من الزاني والزانية جماعة من أهل التصديق بالله تعالى ورسوله وما يجب اليقين والتصديق به ، وقد يدعى لها بالمغفرة والتوبة فيستجيب العفو الكريم ، ويغفر لهما هذا الذنب العظيم .

مما أورد صاحب تفسير{[2435]} القرآن العظيم : الزاني لا يخلو ، إما أن يكون بكرا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل ، فأما إذا كان بكرا لم يتزوج فإن حده مائة جلدة ، كما في الآية ، ويزاد على ذلك أن يغرب عاما عن بلده عند جمهور العلماء خلافا لأبي حنيفة رحمه الله ، فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام ، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب ، وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في الأعرابيين اللذين أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهما : يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا يعني أجيرا على هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام واغد يا أنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت فرجمها . . فأما إذا كان محصنا وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فإنه يرجم . . وأورد عن الإمام مالك بسنده . . أن ابن عباس أخبره أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن ، من الرجال ومن النساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف . أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا . . اه .

ومما قال صاحب الجامع لأحكام القرآن{[2436]} : قوله تعالى : { الزانية{[2437]} والزاني } كان الزنى في اللغة معروفا قبل الشرع ، مثل اسم السرقة والقتل ، وهو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح ، بمطاوعتها . . . قوله تعالى { فاجلدوا } دخلت الفاء لأنه موضع أمر ، والأمر مضارع للشرط ، وقال المبرد : فيه معنى الجزاء ، أي إن زنى زان فافعلوا به كذا ، ولهذا دخلت الفاء ، وهكذا : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما . . ){[2438]} الحد الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن تقام بين أيدي الحكام ، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك ، وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك ، رضي الله عنهم ، وسبب ذلك أنه قيام بقاعدة شرعية وقربة تعبدية ، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها ، بحيث لا يتعدى شيء من شروطها ولا أحكامها ، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة ، فتجب مراعاته بكل ما أمكن ، روي في الصحيح عن حصين بن النذر أبي ساسان قال : شهدت عثمان بن عفان وأتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال : أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر ، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ، فقال عثمان : إنه لم يتقيأ حتى شربها ، فقال : يا علي قم فاجلده . فقال علي : قم يا حسن فاجلده فقال الحسن : ولّ حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال : يا عبد الله بن جعفر ، قم فاجلده ، فجلده وعلي يعد . . . الحديث . . . فانظر قول عثمان للإمام علي : قم فاجلده . . فلا يجوز أن يتعدى الحد في ذلك . . قال ابن العربي : وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر ولا احلولت لهم المعاصي ، حتى يتخذوها ضراوة{[2439]} ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوا عن منكر فعلوه ، فحينئذ تتعين الشدة ويزاد الحد [ وفي نسخ : الجلد ] لأجل زيادة الذنب ، وقد أتى عمر بسكران في رمضان فضربه مائة ، ثمانين حد الخمر ، وعشرين لهتك حرمة الشهر ، فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات . وقد لعب رجل بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط فلم يغير ذلك مالك حين بلغه ، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي ، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القضاة ، لمات كمدا ولم يجالس أحدا ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . اه . في روح المعاني ص 79 زيادة مفيدة .


[2433]:الحرائر.
[2434]:سورة النساء. من الآية 25.
[2435]:هو الحافظ ابن كثير، يراجع من شاء جـ3 ص 260 طبعة عيسى البابي الحلبي.
[2436]:هو أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، جاء ذلك في الجزء الثاني عشر ص 159 وما بعدها، طبعة دار الكتب المصرية.
[2437]:قدمت الزانية في هذه الآية من حيث كان في ذلك الزمان زنى النساء فاش وكان لإماء العرب وبغايا الوقت رايات، وكن مجاهرات بذلك، وقيل: لأن الزنى في النساء أعر، وهو لأجل الحبل أضر، وقيل: لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب، فصدرها تغليظا لتردع شهوتها، وإن كان قد ركب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله، وأيضا فإن العار بالنساء ألحق إذ موضوعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكرهن تغليظا.
[2438]:سورة المائدة: من الآية 38
[2439]:الضراوة: العادة، وشدة الشهوة.