افتتحت هذه السورة بالثناء على الله خالق السماوات والأرض على غير مثال ، جاعل الملائكة رسلا إلى عباده ذوي أجنحة عديدة . ما يرسله الله للناس من فضل لا أحد يمنعه ، وما يمسكه لا أحد يرسله ، ويدعو الناس إلى ذكر النعمة ، إذ لا خالق معه يمدهم بالرزق ولا إله معه يصرفون إليه . وكذب القوم دعوتك فلك فيمن سبق من الرسل عبرة ، ولك فيما وعدنا من رجعة إلينا ما يسليك ، وواجب على الناس ألا تغرهم الدنيا بزخارفها ، ولا يغرهم الشيطان ، وأمره مقصور على دعوة متابعيه إلى التهلكة ، ومن تابعه قاده إلى النار ، ولا يستوي من زين له الشيطان سوء عمله ومن تركه ، وإذا كان شأن الناس ذلك فلا تأسف على عدم إيمانهم ، فمن أرسل السحاب وأحيا به الموات يحيي الأموات للحساب والجزاء ، ومن أراد المنعة اعتز بالله ومن اعتز بغيره أذله ، وأعمال العباد تصعد إليه فيقبل عمل المؤمنين ويحبط عمل الكافرين . ودليل قدرته على البعث والنشور : أنه خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم جعلهم أزواجا ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ، خلق الماء العذب والملح ، ومن كل تحصل الأرزاق ، وأدخل الليل في النهار وأدخل النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر ، كل يجري إلى أجل مسمى ، هذا القادر هو الإله الحق والذين يدعون من دونه لا يملكون ، وإذا دعوا لا يسمعون ، وإذا سمعوا لا يستجيبون ، ويوم القيامة يكفرون بشرك من أشركوهم مع الله ، وهو عادل يحمل كل نفس عملها ، ويوجه الرسل أن يقصدوا بدعواتهم من يخشون الله ، ووظيفة الرسول إنذار قومه ، وما من أمة إلا خلا فيها نذير .
وتعود السورة إلى دلائل القدرة ، فالماء تخرج به الثمرات المختلفة ، والجبال طرائق بيض وحمر وسود ، والناس دواب مختلف ألوانهم ، كل ذلك يحمل على الخشية منه ، ومن يتلو كتاب الله الذي أورثه من اصطفاه يدخل الجنة يمتع بما فيها ، ومن كفر يدخل النار لا يقضي عليه فيها ولا يخفف عنه من عذابها ، يطلب الرجعة إلى الدنيا ليصلح من عمله ، وقد أمهل وقتا يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير . وهو سبحانه جعلكم خلائف الأرض ، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا . وقد أقسم المعاندون : لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى ممن سبقوهم ، فلما جاءهم استكبروا ، فحاق بهم مكرهم ، وما قدروا الله حق قدره ، ولو يؤاخذ الله أهل الأرض بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ، ولكن يؤخرهم إلى أجل ، فإذا جاء فإن الله كان بعباده بصيرا .
1- الثناء الجميل حق لله - وحده - موجد السماوات والأرض على غير مثال سبق ، جاعل الملائكة رسلاً إلى خلقه ذوى أجنحة مختلفة العدد ، اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا يزيد في الخلق ما يشاء أن يزيد ، لا يعجزه شيء ، إن الله على كل شيء عظيم القدرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيَ أَجْنِحَةٍ مّثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل للمعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، ولا ينبغي أن تكون لغيره خالق السموات السبع والأرض ، جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً إلى من يشاء من عباده ، وفيما شاء من أمره ونهيه أُولي أجْنِحَةٍ مّثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ يقول : أصحاب أجنحة : يعني ملائكة ، فمنهم من له اثنان من الأجنحة ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أُولي أجْنِحَةٍ مّثْنَى وَثُلاثَ وَرُباعَ قال بعضهم : له جناحان ، وبعضهم : ثلاثة ، وبعضهم أربعة .
واختلف أهل العربية في علة ترك إجراء مَثْنَى وثلاث ورباع ، وهي ترجمة عن أجنحة ، وأجنحة نكرة ، فقال بعض نحوييّ البصرة . تُرك إجراؤهنّ لأنهنّ مصروفات عن وجوههنّ ، وذلك أن مثنى مصروف عن اثنين ، وثلاث عن ثلاثة ، ورُباع عن أربعة ، فصرف نظيرُ عمَرَ ، وزُفَرَ ، إذ صُرِف هذا عن عامر إلى عمر ، وهذا عن زافر إلى زُفر ، وأنشد بعضهم في ذلك :
وَلَقَدْ قَتَلْتُكُمُ ثُناءَ وَمَوْحَدَا *** وترَكْتُ مَرّةَ مِثْلَ أمْسِ المُدْبِرِ
وقال آخر منهم : لم يصرف ذلك لأنه يوهم به الثلاثة والأربعة ، قال : وهذا لا يستعمل إلا في حال العدد . وقال بعض نحوييّ الكوفة : هنّ مصروفات عن المعارف ، لأن الألف واللام لا تدخلها ، والإضافة لا تدخلها قال : ولو دخلتها الإضافة والألف واللام لكانت نكرة ، وهي ترجمة عن النكرة قال : وكذلك ما كان في القرآن ، مثل : أنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ، وكذلك وُحاد وأحاد ، وما أشبهه من مصروف العدد .
وقوله : يَزِيدُ فِي الخَلْقِ ما يَشاءُ وذلك زيادته تبارك وتعالى في خلق هذا الملك من الأجنحة على الاَخر ما يشاء ، ونقصانه عن الاَخر ما أحبّ ، وكذلك ذلك في جميع خلقه يزيد ما يشاء في خلق ما شاء منه ، وينقص ما شاء من خلق ما شاء ، له الخلق والأمر ، وله القدرة والسلطان إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : إن الله تعالى ذكره قدير على زيادة ما شاء من ذلك فيما شاء ، ونقصان ما شاء منه ممن شاء ، وغير ذلك من الأشياء كلها ، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده سبحانه وتعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.