المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

159- كان رحمة من الله بك وبهم أن لِنْتَ لهم ولم تغلظ في القول بسبب خطئهم ، ولو كنت جافي المعاملة قاسي القلب ، لتفرقوا من حولك ، فتجاوز عن خطئهم ، واطلب المغفرة لهم ، واستشرهم في الأمر متعرفاً آراءهم مما لم ينزل عليك فيه وحي ، فإذا عقدت عزمك على أمر بعد المشاروة فامض فيه متوكلاً على الله ، لأن الله يحب من يفوض أموره إليه{[36]} .


[36]:الشورى أصل أصيل وركن ركين في الإسلام، ولقد قيل: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، والقرآن على نهجه في التشريع يشرع كبريات الأسس والقواعد ويدع التفاصيل للجماعة بحسب ظروف الزمان والمكان، فقد يكون النظام النيابي في الحكم والشورى صالحا لبلاد معينة كانجلترا وفرنسا بحيث رجال الحكومة مسئولين أمام البرلمان، لأنهم نشأوا على ذلك ومرجع الأمر عندهم تاريخي يتفق مع الهيئة التي هم فيها، وقد يكون نظام الحكم رئاسيا وفيه نوع كبير من الشورى مناسبا لبلاد كالولايات المتحدة لما تبغيه من نهوض سريع وعدم تعويق التقدم والرقي بسقوط الوزارات كما هو حادث في فرنسا البرلمانية حيث لم تكن الوزارة قبل الحرب الأخيرة لتبقى أكثر من ثلاثة أشهر، وقد تكون الشورى على نظام وسط بين الرئاسي والبرلمان. فكل دولة وكل جماعة لها أن تسن طريق الشورى وفق ظروفها أو تاريخها وبيئتها والمهم أم مبدأ الشورى يكون موجودا خشية تسلط الفرد وتحكمه وطغيانه، ولذلك اكتفى القرآن بالنص على المبدأ منذ أربعة عشر قرنا سابقا بذلك كل المدنيات العصرية التي تتشدق بالحرية.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

وقبل أن تتم السورة حديثها مع الذين آمنوا عن أحداث غزوة أحد وما دار فيها من نصر وهزيمة ، وعن الأسباب الظاهرة والخفية لذلك . أخذت فى بيان حال النبى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من قيادة حكيمة وأخلاق كريمة ، وأنه - صلى لله عليه وسلم - لم يقابل مخالفة المخالفين له والفارين عنه بالانتقام منهم وإنزال العقوبات بهم وإنما قابل ذلك بالحلم واللين والسياسة الرشيدة . فقال - تعالى - : { فَبِمَا رَحْمَةٍ . . . } .

الخطاب فى قوله - تعالى - { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } . . . الخ للنبى صلى الله عليه وسلم .

والفاء لترتيب الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاق الفارين والمخالفين للملامة والتعنيف منه . صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية .

والباء هنا للسببية ، و " ما " مزيدة للتأكيد ولتقوية معنى الرحمة " لنت " من لان يلين لينا وليانا بمعنى الرفق وسعة الخلق و " الفظ " الغليظ الجافى فى المعاشرة قولا وفعلا .

وأصل الفظ - كما يقول الراغب - ماء الكرش وهو مكروه شربه بمقتضى الطبع ولا يشرب إلى فى أشد حالات الضرورة .

وغلظ القلب عبارة عن قسوته وقلة تأثره من الغلظة ضد الرقة ، وتنشا عن هذه الغلظة الفظاظة والجفاء .

والمعنى : فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لينا مع أتباعك فى كل أحوالك ، ولكن بدون إفراط أو تفريط ، فقد وقفت من أخطائهم التى وقعوا فيها فى غزوة أحد موقف القائد الحكيم الملهم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم . . بل كنت لينا رفيقا معهم .

وهكذا القائد الحكيم لا يكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية ، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس ، وإنما يتلفت إلى الماضى ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس فى نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة واطمئنان وبصيرة مستنيرة .

وإن الشدة فى غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى ، وذا قال - تعالى - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } .

أى ولو كنت - يا محمد - كريه الخلق ، حشن الجانب ، جافيا فى أقوالك وأفعالك ، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك . . . ولو كنت كذلك { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أى لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك .

فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون فظا أو غليظا ، لأن " لو " تدل على نفى الجواب لنفى الشرط . أى أنك لست - يا محمد - فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال ، ويحبونك حبا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم .

وقال - سبحانه - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب } لينفى عنه صلى الله عليه وسلم القسوة والغلظة فى الظاهر والباطن : إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو فى الفظاظة التى هى خشونة الجانب ، وجفاء الطبع ، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب ، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها .

والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك ، ويكفى أن الله - تعالى - قد قال فى وصفه : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إنى أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكتب المتقدمكة . إنه ليس بفظ ، ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح .

ولقد كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم مداراة الناس إلا أن يكون فى المداراة حق مضيع فعن عائشة رضى الله عنها ، قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض " .

ثم أمر الله تعالى ، بما يترتب على الرفق والبشاشة فقال : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } .

فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أى أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك ، ورحمتك بهم ، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم فى أحد ، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها .

وأن تلتمس من الله تعالى ، أن يغفر لهم ما فرط منهم ، إذ فى إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم ، وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك . وأن تشاورهم فى الأمر أى فى أمر الحرب ونحوه مما تجرى فيه المشاورة فى العادة من الأمور التى تهم الأمة .

وقد جاءت هذه الأوامر للنبى صلى الله عليه وسلم ، على أحسن نسق ، وأحكم ترتيب ، لأن الله تعالى أمره أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا ما انتهوا إلى هذا المقام ، أمره بأن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعات ، فإذا صاروا إلى هذه الدرجة ، أمره بأ يشاورهم فى الأمر لأنهم قد أصبحوا أهلا لهذه المشاورة .

ولقد تكلم العلماء كلاما طويلا عن حكم المشورة وعن معناها ، وعن فوائدها ، فقد قال القرطبى ما ملخصه : والاستشارة مأخوذة من قول العرب : شُرْتُ الدابة وشَوَّرتها ، إذا عملت خبرها وحالها يجرى أو غيره . . وقد يكون من قولهم : شُرْتُ العسل واشْتَرتُه ، إذا أخذته من موضعه .

ثم قال : واختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه أصحابه فقالت طائفة : ذلك فى مكائد الحروب ، وعند لقاء العدو ، تطييبا لنفوسهم ورفعاً لأقدارهم وإن كان الله - تعالى - قد أغناه عن رأيهم بوحيه .

وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحى . فقد قال الحسن : ما أمر الله - تعالى - نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشاورة من الفضل وليقتدى به أمته من بعده .

ثم قال : والشورى من قواعد الشريعة ، وعزائم الأحكام ، والذى لا يستشير أهل العلم والدين - والخبرة - فعزله واجب وهذا لا خلاف فيه .

وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى كثير من الأمور ، وقال " المستشار مؤتمن " وقال " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار " وقال : " ما شقى قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى " .

وقال البخارى : " وكانت الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها " .

وقال الفخر الرازى ما ملخصه : " اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحى من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأى والقياس ، فأما مالا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه فى جميع الأشياء أولا ؟

قال بعضهم : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة فى الحروب ، لأن الألف واللام فى لفظ " الأمر " تعود على المعهود السابق وهو ما يتعلق بالحروب - إذ الكلام فى غزوة أحد - .

وقال آخرون : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحى فتبقى حجته فى الباقى وظاهر الأمر فى قوله { وَشَاوِرْهُمْ } للوجوب وحمله الشافعى على الندب . .

والحق أن الشورى أصل من أصول الحكم فى الإسلام ، وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى غزوات بدر وأحد والأحزاب وفى غير ذلك من الأمور التى تتعلق بمصالح المسلمين ، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من هذه الأمة .

ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور وبتمثل لهم فى كتبه بقول الشاعر :

خليلى ليس الرأى فى صدر واحد . . . أشيرا على بالذى تريان

وقد تمدح الحكماء والشعراء بفضيلة الشورى وما يترتب عليها من خير ومنفعة ومن ذلك قول بشار بن برد :

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن . . . برأى نصيح أو نصيحة حازم

ولا تحسب الشورى عليك غضاضه . . . فإن الخوافى قوة للقوادم

والحكام العقلاء المنصفون المتحرون للحق والعدل هم الذين يقيمون حكمهم على مبدأ الشورى ولا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين :

إما رجل قد أصيب بداء الغرور والتعالى ، فهو يتوهم أن قوله هو الحق الذى لا يخالطه باطل ، وأنه ليس محتاجا إلى مشورة غيره وإما رجل ظالم مستبد مجانب للحق ، فهو ينفذ ما يريده بدون مشورة أحد لأنه يخشى إذا استشار غيره أن يطلع الناس على ظلمه وجوره وفجوره .

هذا ومتى تمت المشورة على أحسن الوجوه وأصلحها واستقرت الأمور على وجه معين ، فعلى العاقل أن يمضى على ما استقر عليه الرأى بدون تردد أو تخاذل ، ولذا قال - سبحانه - { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } .

أى فإذا عقدت نيتك على إتمام الأمر وإمضائه بعد المشاورة السليمة وبعد أن تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فبادر بتنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه ، و { تَوَكَّلْ عَلَى الله } أى اعتمد عليه فى الوصول إلى غايتك ، فإن الله - تعالى - يحب المعتمدين عليه ، المفوضين أمورهم إليه مع مباشرة الأسباب التى شرعها لهم لكى يصلوا إلى مطلوبهم .

فالجملة الكريمة تأمر النبى صلى الله عليه وسلم وتأمر كل من يتأتى له الخطاب بأن يبذل أقصى جهده لمعرفة ما هو صواب بأن يستشير أهل الخبرة كل فى مجال تخصصه فإذا ما استقر رأيه على وجهة نظر معينة - بعد أن درسها دراسة فاحصة واستشار العقلاء الأمناء فيها - فعليه أن يبادر إلى تنفيذها بدون تردد فإن التردد يضيع الأوقات والتأخر كثيرا ما يحول الحسنات إلى سيئات وعليه مع حسن الاستعداد أن يكون معتمدا على الله ، مظهرا العجز أمام قدرته - سبحانه - لأنه هو الخالق للأسباب والمسببات وهو القادر على تغييرها .

وكم من أناس اعتمدوا على قوتهم وحدها ، أو على مباشرتهم للأسباب وحدها دون أن يجعلوا للاعتماد على الله مكانا فى نفوسهم ، فكانت نتيجتهم الفشل والخذلان وكانت الهزيمة المنكرة المرة التى اكتسبوها بسبب غرورهم وفجورهم وفسوقهم عن أمر الله . ورحم الله القائل :

إذا لم يكن عون من الله للفتى . . . فأول ما يجنى عليه اجتهاده

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

{ فبما رحمة من الله لنت لهم } أي فبرحمة ، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه . { ولو كنت فظا } سيئ الخلق جافيا . { غليظ القلب } قاسيه . { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك . { فاعف عنهم } فيما يختص بك . { واستغفر لهم } فيما لله . { وشاورهم في الأمر } أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه ، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارا برأيهم وتطييبا لنفوسهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة . { فإذا عزمت } فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى . { فتوكل على الله } في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك ، فإنه لا يعلمه سواه . وقرئ { فإذا عزمت } على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحدا . { إن الله يحب المتوكلين } فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

وقوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ، معناه : فبرحمة من الله «وما » قد جرد عنها معنى النفي ودخلت للتأكيد وليست بزائدة على الإطلاق لا معنى لها ، وأطلق عليها سيبويه اسم الزيادة من حيث زال عملها ، وهذه بمنزلة قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم }{[3653]} قال الزجاج : الباء بإجماع من النحويين صلة وفيه معنى التأكيد{[3654]} ، ومعنى الآية : التقريع لجميع من أخل يوم - أحد - بمركزه ، أي كانوا يستحقون الملام منك ، وأن لا تلين لهم ، ولكن رحم الله جميعكم ، أنت يا محمد بأن جعلك الله على خلق عظيم ، وبعثك لتتمم محاسن الأخلاق ، وهم بأن لينك لهم وجعلت بهذه الصفات لما علم تعالى في ذلك من صلاحهم وأنك { لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } ، وتفرقوا عنك ، والفظ : الجافي في منطقه ومقاطعه ، وفي صفة النبي عليه السلام في الكتب المنزلة : ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق{[3655]} ، وقال الجواري لعمر بن الخطاب : أنت أفظ وأغلظ من رسول الله{[3656]} ؛ الحديث ، وفظاظة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما كانت مستعملة منه آلة لعضد الحق والشدة في الدين ، والفظاظة : الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً ومنه قول الشاعر{[3657]} : [ البسيط ]

أخشى فَظَاظَةَ عمٍّ أَوْ جَفَاءَ أخٍ . . . وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذى الْكَلِمِ

وغلظ القلب : عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة ومن ذلك قول الشاعر{[3658]} : [ البسيط ]

يُبْكَى عَلَيْنا ولا نَبْكي على أحد . . . لَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكباداً من الإبلِ

والانفضاض : افتراق الجموع ومنه فض الخاتم .

قوله تعالى :

{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق ، فإذا صاروا في هذه الدرجة ، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة ، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلاً للاسشارة في الأمور . والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف فيه ، وقد مدح الله المؤمنين بقوله : { وأمرهم شورى بينهم }{[3659]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم :< ما خاب من استخار ولا ندم من استشار>{[3660]} ، وقال عليه السلام :< المستشار مؤتمن>{[3661]} ، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالماً ديناً ، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل ، فقد قال الحسن بن أبي الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً واداً في المستشير ، والشورى بركة ، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى ، وقال الحسن : والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ، وقد قال في غزوة بدر : ( أشيروا عليّ أيها الناس ) {[3662]} ، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد{[3663]} ، ثم سعد بن عبادة{[3664]} ، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل ، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع .

{ ما فرطنا في الكتاب من شيء }{[3665]} وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين ، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة - أحد - يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف ، وقرأ ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر » وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل ، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم ، والشورى مبينة على اختلاف الآراء ، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير ، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه ، عزم عليه وأنفذه متوكلاً على الله ، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه ، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية{[3666]} ، وقرأ جابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر بن محمد وعكرمة «عزمتُ » - بضم التاء سمى الله تعالى إرشاده وتسديده عزماً منه ، وهذا في المعنى نحو قوله تعالى : { لتحكم بين الناس بما أراك الله }{[3667]} ونحو قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }{[3668]} فجعل تعالى هزمه المشركين بحنين وتشويه وجوههم رمياً ، إذ كان ذلك متصلاً برمي محمد عليه السلام بالحصباء . وقد قالت أم سلمة ثم عزم الله لي ، والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله ، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد : وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل ، وإنما هو كما قال عليه السلام : ( قيدها وتوكل ) {[3669]} .


[3653]:- تكررت في الآيتين: (155) من سورة (النساء) و(13) من سورة (المائدة).
[3654]:- للعلماء في (ما) هذه كثيرة من الآراء، قيل: إنها نكرة تامة و(رحمة) بدل منها- وقيل: إنها استفهامية للتعجب، وقيل: إنها نافية- وكل قول من هذه الأقوال مردد وموضع مناقشة وبخاصة كونها استفهامية، وأصح الأقوال قول الزجاج وهي أنها للتأكيد. قال النابغة: المرء يهوى أن يعيــ ـش وطول عيش ما يضره
[3655]:- أخرجه ابن جرير في التفسير، والترمذي في الشمائل في باب ما جاء في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم (بضم الخاء واللام). وأخرجه البيهقي، وأبو نعيم عن أم الدرداء أو امرأة أبي الدرداء. (القسطلاني في المواهب بشرح الزرقاني 6/193).
[3656]:- أخرجه البخاري في فضل عمر، وفي صفة إبليس، ومسلم في الفضائل، والنسائي في المناقب، وفي اليوم والليلة. (القسطلاني5/302). والجواري: جمع جارية.
[3657]:- نسبه أبو تمام في الحماسة (شرح المرزوقي: (282-284) إلى إسحاق بن خلف وهو من أبيات يشكو فيها الفقر ويحاذر على بنته أميمة من ذل اليتم والفقر ويتمنى لشدة محبته لها موتها.
[3658]:- قائل البيت: المخبل السعدي، وهو شاعر مخضرم، قيل: اسمه ربيعة بن مالك، وقيل: كعب بن ربيعة، وقيل الربيع بن ربيعة. "الشعر والشعراء" و"الأغاني" و"الإصابة".
[3659]:- من الآية (38) من سورة الشورى.
[3660]:- أخرجه الطبراني في الأوسط، عن أنس (الجامع الصغير2/ 425)
[3661]:- أخرجه الأربعة عن أبي هريرة، والترمذي عن أم سلمة، وابن ماجة- عن ابن مسعود (الجامع الصغير1/575).
[3662]:- ذكره ابن هشام في سيرته (2/447) كما نقله عنه القسطلاني في "المواهب اللدنية" بهذا اللفظ (1/412).
[3663]:- هو المقداد بن عمرو الكندي البهراني، وقيل: الحضرمي، تبنّاه الأسود صغيرا فنسب إليه، وهو ممن شهد بدرا فارسا مع بقية المشاهد بعدها، وهاجر الهجرتين، وهو أحد السبعة الذين هم أول من أظهر الإسلام، واشتهرت كلمته التي سر بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، توفي بمصر، ودفن بالمدينة، صلى عليه عثمان بن عفان. "الإصابة" و"الاستيعاب".
[3664]:- هو سعد بن عبادة الأنصاري، سيد الخزرج المكني أبا ثابت وأبا قيس، ويقال له: الكامل، شهد العقبة، وهو أحد النقباء، وصاحب راية ورياسة الأنصار، كما عرف هو وأهله بالجود والكرم، واختلف في شهوده بدرا، وتوفي بحوران في الشام سنة: 15 وقيل: 16 "الإصابة" و"الاستيعاب".
[3665]:- من الآية (38) من سورة الأنعام.
[3666]:- والشورى تعطى معنى استخراج رأي المستشار، ولهذا يقال: إنها مأخوذة من قولهم: (شرت العسل). وأنشدوا قول خالد بن زهير: وقاسمتها بالله حقا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها والسلوى على كلامه: العسل، وقد جاء في (اللسان): قال الزجاج: أخطأ خالد، إنما السلوى طائر. وقال الفارسي: السلوى: كل ما سلاك، وقيل للعسل: سلوى لأنه يسليك بحلاوته وتأتيه عن غيره يرد بذلك على أبي إسحاق الزجاج. وقال الأعشى: كأن جنيا من الزنجبيـ ـل خالط فاها وأريا مشورا وجني: فعيل من جني الثمر يجنيه، والزنجبيل: نبات طيب الرائحة معروف، والأري: عسل النحل، وشار العسل واشتاره: جمعه.
[3667]:- من الآية (105) من سورة النساء.
[3668]:- من الآية (17) من سورة الأنفال.
[3669]:- أخرجه البيهقي في "الشعب" عن عمرو بن أمية الضمري. "الجامع الصغير 2/219"، كما رواه الترمذي عن أنس بلفظ: (اعقلها وتوكل). ورواية البيهقي أصح كما في "الجامع الصغير" 1/155".