المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

159- كان رحمة من الله بك وبهم أن لِنْتَ لهم ولم تغلظ في القول بسبب خطئهم ، ولو كنت جافي المعاملة قاسي القلب ، لتفرقوا من حولك ، فتجاوز عن خطئهم ، واطلب المغفرة لهم ، واستشرهم في الأمر متعرفاً آراءهم مما لم ينزل عليك فيه وحي ، فإذا عقدت عزمك على أمر بعد المشاروة فامض فيه متوكلاً على الله ، لأن الله يحب من يفوض أموره إليه{[36]} .


[36]:الشورى أصل أصيل وركن ركين في الإسلام، ولقد قيل: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، والقرآن على نهجه في التشريع يشرع كبريات الأسس والقواعد ويدع التفاصيل للجماعة بحسب ظروف الزمان والمكان، فقد يكون النظام النيابي في الحكم والشورى صالحا لبلاد معينة كانجلترا وفرنسا بحيث رجال الحكومة مسئولين أمام البرلمان، لأنهم نشأوا على ذلك ومرجع الأمر عندهم تاريخي يتفق مع الهيئة التي هم فيها، وقد يكون نظام الحكم رئاسيا وفيه نوع كبير من الشورى مناسبا لبلاد كالولايات المتحدة لما تبغيه من نهوض سريع وعدم تعويق التقدم والرقي بسقوط الوزارات كما هو حادث في فرنسا البرلمانية حيث لم تكن الوزارة قبل الحرب الأخيرة لتبقى أكثر من ثلاثة أشهر، وقد تكون الشورى على نظام وسط بين الرئاسي والبرلمان. فكل دولة وكل جماعة لها أن تسن طريق الشورى وفق ظروفها أو تاريخها وبيئتها والمهم أم مبدأ الشورى يكون موجودا خشية تسلط الفرد وتحكمه وطغيانه، ولذلك اكتفى القرآن بالنص على المبدأ منذ أربعة عشر قرنا سابقا بذلك كل المدنيات العصرية التي تتشدق بالحرية.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

وقبل أن تتم السورة حديثها مع الذين آمنوا عن أحداث غزوة أحد وما دار فيها من نصر وهزيمة ، وعن الأسباب الظاهرة والخفية لذلك . أخذت فى بيان حال النبى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من قيادة حكيمة وأخلاق كريمة ، وأنه - صلى لله عليه وسلم - لم يقابل مخالفة المخالفين له والفارين عنه بالانتقام منهم وإنزال العقوبات بهم وإنما قابل ذلك بالحلم واللين والسياسة الرشيدة . فقال - تعالى - : { فَبِمَا رَحْمَةٍ . . . } .

الخطاب فى قوله - تعالى - { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } . . . الخ للنبى صلى الله عليه وسلم .

والفاء لترتيب الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاق الفارين والمخالفين للملامة والتعنيف منه . صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية .

والباء هنا للسببية ، و " ما " مزيدة للتأكيد ولتقوية معنى الرحمة " لنت " من لان يلين لينا وليانا بمعنى الرفق وسعة الخلق و " الفظ " الغليظ الجافى فى المعاشرة قولا وفعلا .

وأصل الفظ - كما يقول الراغب - ماء الكرش وهو مكروه شربه بمقتضى الطبع ولا يشرب إلى فى أشد حالات الضرورة .

وغلظ القلب عبارة عن قسوته وقلة تأثره من الغلظة ضد الرقة ، وتنشا عن هذه الغلظة الفظاظة والجفاء .

والمعنى : فبسبب رحمة عظيمة فياضة منحك الله إياها يا محمد كنت لينا مع أتباعك فى كل أحوالك ، ولكن بدون إفراط أو تفريط ، فقد وقفت من أخطائهم التى وقعوا فيها فى غزوة أحد موقف القائد الحكيم الملهم فلم تعنفهم على ما وقع منهم وأنت تراهم قد استغرقهم الحزن والهم . . بل كنت لينا رفيقا معهم .

وهكذا القائد الحكيم لا يكثر من لوم جنده على أخطائهم الماضية ، لأن كثرة اللوم والتعنيف قد تولد اليأس ، وإنما يتلفت إلى الماضى ليأخذ منه العبرة والعظة لحاضره ومستقبله ويغرس فى نفوس الذين معه ما يحفز همتهم ويشحذ عزيمتهم ويجعلهم ينظرون إلى حاضرهم ومستقبلهم بثقة واطمئنان وبصيرة مستنيرة .

وإن الشدة فى غير موضعها تفرق ولا تجمع وتضعف ولا تقوى ، وذا قال - تعالى - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } .

أى ولو كنت - يا محمد - كريه الخلق ، حشن الجانب ، جافيا فى أقوالك وأفعالك ، قاسى القلب لا تتأثر لما يصيب أصحابك . . . ولو كنت كذلك { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } أى لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك .

فالجملة الكريمة تنفى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون فظا أو غليظا ، لأن " لو " تدل على نفى الجواب لنفى الشرط . أى أنك لست - يا محمد - فظا ولا غليظ القلب ولذلك التف أصحابك من حولك يفتدونك بأرواحهم وبكل مرتخص وغال ، ويحبونك حبا يفوق حبهم لأنفسهم ولأولادهم ولآبائهم ولأحب الأشياء إليهم .

وقال - سبحانه - { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب } لينفى عنه صلى الله عليه وسلم القسوة والغلظة فى الظاهر والباطن : إذ القسوة الظاهرية تبدو أكثر ما تبدو فى الفظاظة التى هى خشونة الجانب ، وجفاء الطبع ، والقسوة الباطنية تكون بسبب يبوسة القلب ، وغلظ النفس وعدم تأثرها بما يصيب غيرها .

والرسول صلى الله عليه وسلم كان مبرأ من كل ذلك ، ويكفى أن الله - تعالى - قد قال فى وصفه : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : إنى أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الكتب المتقدمكة . إنه ليس بفظ ، ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح .

ولقد كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم مداراة الناس إلا أن يكون فى المداراة حق مضيع فعن عائشة رضى الله عنها ، قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض " .

ثم أمر الله تعالى ، بما يترتب على الرفق والبشاشة فقال : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } .

فالفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أى أنه يترتب على لين جانبك مع أصحابك ، ورحمتك بهم ، أن تعفو عنهم فيما وقعوا فيه من أخطاء تتعلق بشخصك أو ما وقعوا فيه من مخالفات أدت إلى هزيمتهم فى أحد ، فقد كانت زلة منهم وقد أدبهم الله عليها .

وأن تلتمس من الله تعالى ، أن يغفر لهم ما فرط منهم ، إذ فى إظهارك ذلك لهم تأكيد لعفوك عنهم ، وتشجيع لهم على الطاعة والاستجابة لأمرك . وأن تشاورهم فى الأمر أى فى أمر الحرب ونحوه مما تجرى فيه المشاورة فى العادة من الأمور التى تهم الأمة .

وقد جاءت هذه الأوامر للنبى صلى الله عليه وسلم ، على أحسن نسق ، وأحكم ترتيب ، لأن الله تعالى أمره أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه ، فإذا ما انتهوا إلى هذا المقام ، أمره بأن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى ، لتنزاح عنهم التبعات ، فإذا صاروا إلى هذه الدرجة ، أمره بأ يشاورهم فى الأمر لأنهم قد أصبحوا أهلا لهذه المشاورة .

ولقد تكلم العلماء كلاما طويلا عن حكم المشورة وعن معناها ، وعن فوائدها ، فقد قال القرطبى ما ملخصه : والاستشارة مأخوذة من قول العرب : شُرْتُ الدابة وشَوَّرتها ، إذا عملت خبرها وحالها يجرى أو غيره . . وقد يكون من قولهم : شُرْتُ العسل واشْتَرتُه ، إذا أخذته من موضعه .

ثم قال : واختلف أهل التأويل فى المعنى الذى أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه أصحابه فقالت طائفة : ذلك فى مكائد الحروب ، وعند لقاء العدو ، تطييبا لنفوسهم ورفعاً لأقدارهم وإن كان الله - تعالى - قد أغناه عن رأيهم بوحيه .

وقال آخرون : ذلك فيما لم يأته فيه وحى . فقد قال الحسن : ما أمر الله - تعالى - نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم ، وإنما أراد أن يعلمهم ما فى المشاورة من الفضل وليقتدى به أمته من بعده .

ثم قال : والشورى من قواعد الشريعة ، وعزائم الأحكام ، والذى لا يستشير أهل العلم والدين - والخبرة - فعزله واجب وهذا لا خلاف فيه .

وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى كثير من الأمور ، وقال " المستشار مؤتمن " وقال " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار " وقال : " ما شقى قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى " .

وقال البخارى : " وكانت الأمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها " .

وقال الفخر الرازى ما ملخصه : " اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحى من عند الله لم يجز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشاور فيه الأمة ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأى والقياس ، فأما مالا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه فى جميع الأشياء أولا ؟

قال بعضهم : هذا الأمر مخصوص بالمشاورة فى الحروب ، لأن الألف واللام فى لفظ " الأمر " تعود على المعهود السابق وهو ما يتعلق بالحروب - إذ الكلام فى غزوة أحد - .

وقال آخرون : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحى فتبقى حجته فى الباقى وظاهر الأمر فى قوله { وَشَاوِرْهُمْ } للوجوب وحمله الشافعى على الندب . .

والحق أن الشورى أصل من أصول الحكم فى الإسلام ، وقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه فى غزوات بدر وأحد والأحزاب وفى غير ذلك من الأمور التى تتعلق بمصالح المسلمين ، وسار على هذا المنهج السلف الصالح من هذه الأمة .

ولقد كان عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور وبتمثل لهم فى كتبه بقول الشاعر :

خليلى ليس الرأى فى صدر واحد . . . أشيرا على بالذى تريان

وقد تمدح الحكماء والشعراء بفضيلة الشورى وما يترتب عليها من خير ومنفعة ومن ذلك قول بشار بن برد :

إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن . . . برأى نصيح أو نصيحة حازم

ولا تحسب الشورى عليك غضاضه . . . فإن الخوافى قوة للقوادم

والحكام العقلاء المنصفون المتحرون للحق والعدل هم الذين يقيمون حكمهم على مبدأ الشورى ولا يعادى الشورى من الحكام إلا أحد اثنين :

إما رجل قد أصيب بداء الغرور والتعالى ، فهو يتوهم أن قوله هو الحق الذى لا يخالطه باطل ، وأنه ليس محتاجا إلى مشورة غيره وإما رجل ظالم مستبد مجانب للحق ، فهو ينفذ ما يريده بدون مشورة أحد لأنه يخشى إذا استشار غيره أن يطلع الناس على ظلمه وجوره وفجوره .

هذا ومتى تمت المشورة على أحسن الوجوه وأصلحها واستقرت الأمور على وجه معين ، فعلى العاقل أن يمضى على ما استقر عليه الرأى بدون تردد أو تخاذل ، ولذا قال - سبحانه - { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } .

أى فإذا عقدت نيتك على إتمام الأمر وإمضائه بعد المشاورة السليمة وبعد أن تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فبادر بتنفيذ ما عقدت العزم على تنفيذه ، و { تَوَكَّلْ عَلَى الله } أى اعتمد عليه فى الوصول إلى غايتك ، فإن الله - تعالى - يحب المعتمدين عليه ، المفوضين أمورهم إليه مع مباشرة الأسباب التى شرعها لهم لكى يصلوا إلى مطلوبهم .

فالجملة الكريمة تأمر النبى صلى الله عليه وسلم وتأمر كل من يتأتى له الخطاب بأن يبذل أقصى جهده لمعرفة ما هو صواب بأن يستشير أهل الخبرة كل فى مجال تخصصه فإذا ما استقر رأيه على وجهة نظر معينة - بعد أن درسها دراسة فاحصة واستشار العقلاء الأمناء فيها - فعليه أن يبادر إلى تنفيذها بدون تردد فإن التردد يضيع الأوقات والتأخر كثيرا ما يحول الحسنات إلى سيئات وعليه مع حسن الاستعداد أن يكون معتمدا على الله ، مظهرا العجز أمام قدرته - سبحانه - لأنه هو الخالق للأسباب والمسببات وهو القادر على تغييرها .

وكم من أناس اعتمدوا على قوتهم وحدها ، أو على مباشرتهم للأسباب وحدها دون أن يجعلوا للاعتماد على الله مكانا فى نفوسهم ، فكانت نتيجتهم الفشل والخذلان وكانت الهزيمة المنكرة المرة التى اكتسبوها بسبب غرورهم وفجورهم وفسوقهم عن أمر الله . ورحم الله القائل :

إذا لم يكن عون من الله للفتى . . . فأول ما يجنى عليه اجتهاده

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته ، المتبعين لأمره ، التاركين لزجره ، وأطاب لهم لفظه : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم .

قال قتادة : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم . و " ما " صلة ، والعربُ تصلها بالمعرفة كقوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] وبالنكرة كقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] وهكذا{[5981]} هاهنا قال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : برحمة من الله{[5982]} .

وقال الحسن البصري : هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به .

وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حَيْوة ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال : أخد بيدي أبو أمَامة الباهلي وقال : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَا أبَا أُمامَةَ ، إنَّ مِنَ الْمُؤْمِنينَ مَنْ يَلِينُ لِي قَلْبُه " . {[5983]} انفرد{[5984]} به أحمد{[5985]} .

ثم قال تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الفظ : الغليظ ، [ و ]{[5986]} المراد به هاهنا غليظ الكلام ؛ لقوله بعد ذلك : { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي : لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : أنه ليس بفَظٍّ ، ولا غليظ ، ولا سَخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح{[5987]} .

وروى أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي ، أنبأنا بشْر بن عُبَيد الدارمي ، حدثنا عَمّار بن عبد الرحمن ، عن المسعودي ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله أمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاس كَمَا أمَرني بِإقَامَة الْفَرَائِضِ " {[5988]} حديث غريب{[5989]} .

ولهذا قال تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } ولذلك{[5990]} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حَدَث ، تطييبًا لقلوبهم ؛ ليكونوا فيما يفعلونه{[5991]} أنشط{[5992]} لهم [ كما ]{[5993]} شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير{[5994]} فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب ، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [ شمالك ] {[5995]} مقاتلون .

وشاورهم - أيضا - أين يكون المنزل ؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموتَ ، بالتقدم إلى أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو ، فأشار جمهُورُهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم .

وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى عليه ذلك السَعْدَان : سعدُ بن معاذ وسعدُ بن عُبَادة ، فترك ذلك .

وشاورهم يومَ الحُدَيبية في أن يميل على ذَرَاري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لم نجيء{[5996]} لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال .

وقال عليه السلام{[5997]} في قصة{[5998]} الإفك : " أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا{[5999]} أهلِي ورَمَوهُم ، وايْمُ اللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ ، وأبَنُوهم بمَنْ - واللهِ - مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلا خَيْرًا " . واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة ، رضي الله عنها .

فكان{[6000]} [ صلى الله عليه وسلم ]{[6001]} يشاورهم في الحروب ونحوها . وقد اختلف الفقهاء : هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم ؟ على قولين .

وقد قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف{[6002]} بمصر ، حدثنا سعيد بن [ أبي ]{[6003]} مريم ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عَمْرو بن دينار ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[6004]} .

وهكذا رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر وعمر ، وكانا حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبَوَي المسلمين .

وقد روى الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شَهْرَ بن حَوْشَب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : " لوِ اجْتَمَعْنا{[6005]} فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا " {[6006]} .

وروى ابن مَرْدُويه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَزْم ؟ قال{[6007]} " مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ " {[6008]} .

وقد قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير{[6009]} عن شيبان{[6010]} عن عبد الملك بن عُمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " .

ورواه أبو داود والترمذي ، وحسّنه [ و ]{[6011]} النسائي ، من حديث عبد الملك بن عُمير بأبسط منه{[6012]} .

ثم قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، حدثنا أسود بن عامر ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي عَمْرو الشيباني ، عن أبي{[6013]} مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " . تفرد به{[6014]} .

[ وقال أيضا ]{[6015]} وحدثنا أبو بكر ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذَا اسْتَشَارَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَليشِر{[6016]} عليْهِ . تفرد به أيضا{[6017]} .

وقوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : إذا شاورتهم في الأمر وعزَمْت عليه فتوكل على الله فيه { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }


[5981]:في جـ، أ، و: "كذا".
[5982]:في أ: "فبما رحمة من الله - أي برحمة من الله - لنت لهم".
[5983]:في جـ، ر، أ، و"له قلبي".
[5984]:في جـ، ر، أ، و: "تفرد".
[5985]:المسند (5/267).
[5986]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[5987]:رواه البخاري في صحيحه برقم (4838).
[5988]:في أ: "الصلاة".
[5989]:ورواه ابن مرديه في ثلاثة مجالس من الأمالى برقم (42) وابن عدي في الكامل (2/15) والديلمي في مسند الفردوس برقم (659) من طريق بشر بن عبيد به. وبشر بن عبيد قال ابن عدي: منكر الحديث عن الأئمة. وساق له الذهبي أحاديث، منها هذا الحديث، ثم قال: "وهذه الأحاديث غير صحيحة فالله المستعان".
[5990]:في جـ، ر، أ، و: "وكذلك".
[5991]:في و: "ليكون ما يفعلونه".
[5992]:في ر: "أبسط".
[5993]:زيادة من جـ.
[5994]:في أ، و: "النفير".
[5995]:زيادة من جـ، أ، و.
[5996]:في أ: "لم نأت".
[5997]:في أ: "صلى الله عليه وسلم".
[5998]:في جـ، أ: "قضية".
[5999]:في جـ، ر: "آنبوا".
[6000]:في أ: "وكان".
[6001]:زيادة من و.
[6002]:في أ: "العلائي".
[6003]:زيادة من جـ، ر.
[6004]:المستدرك (3/70).
[6005]:في جـ، ر، أ، و: "اجتمعتما".
[6006]:المسند (4/227).
[6007]:في أ، و: "فقال".
[6008]:ذكره السيوطي في الدر (2/360) وعزاه إلى ابن مردويه.
[6009]:في جـ، أ: "بكر".
[6010]:في جـ، ر، أ: "سفيان".
[6011]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[6012]:سنن ابن ماجة برقم (3745) وسنن أبي داود برقم (5128) وسنن الترمذي برقم (2822، 2369، 2370).
[6013]:في جـ، ر: "ابن".
[6014]:سنن ابن ماجة برقم (3746) وقال البوصيري في الزوائد (3/181): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
[6015]:زيادة من و.
[6016]:في أ: "فليشير".
[6017]:سنن ابن ماجة برقم (3747).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} (159)

{ فبما رحمة من الله لنت لهم } أي فبرحمة ، وما مزيدة للتأكيد والتنبيه والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله وهو ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق بهم حتى اغتم لهم بعد أن خالفوه . { ولو كنت فظا } سيئ الخلق جافيا . { غليظ القلب } قاسيه . { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك ولم يسكنوا إليك . { فاعف عنهم } فيما يختص بك . { واستغفر لهم } فيما لله . { وشاورهم في الأمر } أي في أمر الحرب إذ الكلام فيه ، أو فيما يصح أن يشاور فيه استظهارا برأيهم وتطييبا لنفوسهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة . { فإذا عزمت } فإذا وطنت نفسك على شيء بعد الشورى . { فتوكل على الله } في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك ، فإنه لا يعلمه سواه . وقرئ { فإذا عزمت } على التكلم أي فإذا عزمت لك على شيء وعينته لك فتوكل على الله ولا تشاور فيه أحدا . { إن الله يحب المتوكلين } فينصرهم ويهديهم إلى الصلاح .