{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
أي : برحمة الله لك ولأصحابك ، منَّ الله عليك أن ألنت{[168]} لهم جانبك ، وخفضت لهم جناحك ، وترققت عليهم ، وحسنت لهم خلقك ، فاجتمعوا عليك وأحبوك ، وامتثلوا أمرك .
{ ولو كنت فظا } أي : سيئ الخلق { غليظ القلب } أي : قاسيه ، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ .
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين ، تجذب الناس إلى دين الله ، وترغبهم فيه ، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين ، وتبغضهم إليه ، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص ، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول ، فكيف بغيره ؟ !
أليس من أوجب الواجبات ، وأهم المهمات ، الاقتداء بأخلاقه الكريمة ، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم ، من اللين وحسن الخلق والتأليف ، امتثالا لأمر الله ، وجذبا لعباد الله لدين الله .
ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم ، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله ، فيجمع بين العفو والإحسان .
{ وشاورهم في الأمر } أي : الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر ، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره :
منها : أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله .
ومنها : أن فيها تسميحا لخواطرهم ، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث ، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي : والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه ، وعلموا أنه ليس بمستبد{[169]} عليهم ، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع ، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته ، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم ، بخلاف من ليس كذلك ، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة ، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة .
ومنها : أن في الاستشارة تنور الأفكار ، بسبب إعمالها فيما وضعت له ، فصار في ذلك زيادة للعقول .
ومنها : ما تنتجه الاستشارة من الرأي : المصيب ، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله ، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب ، فليس بملوم ، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا ، وأغزرهم علما ، وأفضلهم رأيا- : { وشاورهم في الأمر } فكيف بغيره ؟ !
ثم قال تعالى : { فإذا عزمت } أي : على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه ، إن كان يحتاج إلى استشارة { فتوكل على الله } أي : اعتمد على حول الله وقوته ، متبرئا من حولك وقوتك ، { إن الله يحب المتوكلين } عليه ، اللاجئين إليه .
يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته ، المتبعين لأمره ، التاركين لزجره ، وأطاب لهم لفظه : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم .
قال قتادة : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم . و " ما " صلة ، والعربُ تصلها بالمعرفة كقوله : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] وبالنكرة كقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] وهكذا{[5981]} هاهنا قال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي : برحمة من الله{[5982]} .
وقال الحسن البصري : هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به .
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حَيْوة ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال : أخد بيدي أبو أمَامة الباهلي وقال : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يَا أبَا أُمامَةَ ، إنَّ مِنَ الْمُؤْمِنينَ مَنْ يَلِينُ لِي قَلْبُه " . {[5983]} انفرد{[5984]} به أحمد{[5985]} .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الفظ : الغليظ ، [ و ]{[5986]} المراد به هاهنا غليظ الكلام ؛ لقوله بعد ذلك : { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي : لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة : أنه ليس بفَظٍّ ، ولا غليظ ، ولا سَخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح{[5987]} .
وروى أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي ، أنبأنا بشْر بن عُبَيد الدارمي ، حدثنا عَمّار بن عبد الرحمن ، عن المسعودي ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله أمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاس كَمَا أمَرني بِإقَامَة الْفَرَائِضِ " {[5988]} حديث غريب{[5989]} .
ولهذا قال تعالى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } ولذلك{[5990]} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حَدَث ، تطييبًا لقلوبهم ؛ ليكونوا فيما يفعلونه{[5991]} أنشط{[5992]} لهم [ كما ]{[5993]} شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير{[5994]} فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب ، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [ شمالك ] {[5995]} مقاتلون .
وشاورهم - أيضا - أين يكون المنزل ؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموتَ ، بالتقدم إلى أمام القوم ، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو ، فأشار جمهُورُهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم .
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ ، فأبى عليه ذلك السَعْدَان : سعدُ بن معاذ وسعدُ بن عُبَادة ، فترك ذلك .
وشاورهم يومَ الحُدَيبية في أن يميل على ذَرَاري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لم نجيء{[5996]} لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال .
وقال عليه السلام{[5997]} في قصة{[5998]} الإفك : " أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا{[5999]} أهلِي ورَمَوهُم ، وايْمُ اللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ ، وأبَنُوهم بمَنْ - واللهِ - مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلا خَيْرًا " . واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة ، رضي الله عنها .
فكان{[6000]} [ صلى الله عليه وسلم ]{[6001]} يشاورهم في الحروب ونحوها . وقد اختلف الفقهاء : هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم ؟ على قولين .
وقد قال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي ، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف{[6002]} بمصر ، حدثنا سعيد بن [ أبي ]{[6003]} مريم ، أنبأنا سفيان بن عيينة ، عن عَمْرو بن دينار ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : أبو بكر وعمر ، رضي الله عنهما . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه{[6004]} .
وهكذا رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر وعمر ، وكانا حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبَوَي المسلمين .
وقد روى الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد الحميد ، عن شَهْرَ بن حَوْشَب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر : " لوِ اجْتَمَعْنا{[6005]} فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا " {[6006]} .
وروى ابن مَرْدُويه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَزْم ؟ قال{[6007]} " مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ " {[6008]} .
وقد قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بكير{[6009]} عن شيبان{[6010]} عن عبد الملك بن عُمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " .
ورواه أبو داود والترمذي ، وحسّنه [ و ]{[6011]} النسائي ، من حديث عبد الملك بن عُمير بأبسط منه{[6012]} .
ثم قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، حدثنا أسود بن عامر ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي عَمْرو الشيباني ، عن أبي{[6013]} مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ " . تفرد به{[6014]} .
[ وقال أيضا ]{[6015]} وحدثنا أبو بكر ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذَا اسْتَشَارَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَليشِر{[6016]} عليْهِ . تفرد به أيضا{[6017]} .
وقوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : إذا شاورتهم في الأمر وعزَمْت عليه فتوكل على الله فيه { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ }
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ } : فبرحمة من الله و«ما » صلة ، وقد بينت وجه دخولها في الكلام في قوله : { إنّ اللّهَ لا يَستَجِيي أنْ يَضرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها } والعرب تجعل «ما » صلة في المعرفة والنكرة ، كما قال : { فبمَا نقضِهِمْ ميثاقهُمْ } والمعنى : فبنقضهم ميثاقهم . وهذا في المعرفة ، وقال في النكرة : { عمّا قليلٍ ليُصبحنَ نادمينَ } والمعنى : عن قليل . وربما جعلت اسما وهي في مذهب صلة ، فيرفع ما بعدها أحيانا على وجه الصلة ، ويخفض على إتباع الصلة ما قبلها ، كما قال الشاعر :
فكَفَى بِنَا فَضْلاً على مَنْ غيرِناحُبّ النَبِيّ محَمّدٍ إيّانا
إذا جعل غير صلة رفعت بإضمار هو ، وإن حفضت أتبعت من فأعربته ، فذلك حكمة على ما وصفنا مع النكرات ، فأما إذا كانت الصلة معرفة ، كان الفصيح من الكلام الإتباع ، كما قيل : { فبما نَقْضِهْم مِيثَاقَهُمْ } والرفع جائز في العربية .
وبنحو ما قلنا في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ } قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم .
وأما قوله : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك } فإنه يعني بالفظّ : الجافي ، وبالغليظ القلب : القاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة ، وكذلك صفته صلى الله عليه وسلم ، كما وصفه الله : { بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فتأويل الكلام : فبرحمة الله يا محمد ورأفته بك ، وبمن آمن بك من أصحابك ، لنت لهم لتبّاعك وأصحابك فسهلت لهم خلائقك ، وحسنت لهم أخلاقك ، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه ، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه ، وأغضبت عن كثير ممن لو جفوت به ، وأغلظت عليه ، لتركك ففارقك ، ولم يتبعك ، ولا ما بعثت به من الرحمة ، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم ، فبرحمة من الله لنت لهم . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } : إي والله ، لطهره الله من الفظاظة والغلظة ، وجعله قريبا رحيما بالمؤمنين رءوفا . وذكر لنا أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة : «ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخوب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويصفح » .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } قال : ذكر لينه لهم ، وصبره عليهم لضعفهم ، وقلة صبرهم على الغلظة لو كانت منه في كل ما خالفوا فيه مما افترض عليهم من طاعة نبيهم .
وأما قوله : { لانْفَضُوا مِنْ حَوْلِكَ } فإنه يعني : لتفرّقوا عنك . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } قال : انصرفوا عنك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { لا نْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ } أي لتركوك .
القول في تأويل قوله تعالى : { فاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوكّلِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { فاعْفُ عَنْهُمْ } : فتجاوز يا محمد عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك ، وبما جئت به من عندي ، ما نالك من أذاهم ، ومكروه في نفسك . { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جرم ، واستحقوا عليه عقوبة منه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فاعْفُ عَنْهُمْ } : أي فتجاوز عنهم ، { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ذنوب من قارف من أهل الإيمان منهم .
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم ، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه ؟ فقال بعضهم : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدوّ ، تطييبا منه بذلك أنفسهم ، وتألفا لهم على دينهم ، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم ، وإن كان الله عزّ وجلّ قد أغناه بتدبيره له أموره وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوَكّلِينَ } أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور ، وهو يأتيه وحي السماء ، لأنه أطيب لأنفس القوم ، وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا ، وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور ، وهو يأتيه الوحي من السماء لأنه أطيب لأنفسهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } : أي لتريهم أنك تسمع منهم وتستعين بهم وإن كنت عنهم غنيا ، تؤلفهم بذلك على دينهم .
وقال آخرون : بل أمره بذلك في ذلك ، وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير ، لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، قوله : { وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال : ما أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم بالمشورة إلا لما علم فيها من الفضل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، عن إياس بن دغفل ، عن الحسن : ما شاور قوم قط ، إلا هدوا لأرشد أمورهم .
وقال آخرون : إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه ، مع إغنائه بتقويمه إياه ، وتدبيره أسبابه عن آرائهم ، ليتبعه المؤمنون من بعده ، فيما حزبهم من أمر دينهم ، ويستنوا بسنته في ذلك ، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابه وتباعه في الأمر ، ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم ، فيتشاوروا بينهم ، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم¹ لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحقّ في ذلك ، لم يخلهم الله عزّ وجلّ من لطفه ، وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه . قالوا : وذلك نظير قوله عزّ وجل الذي مدح به أهل الإيمان : { وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سوار بن عبد الله العنبري ، قال : قال سفيان بن عيينة في قوله : { وَشاوِرهُمْ فِي الأمْرِ } قال : هي للمؤمنين أن يتشاوروا فيما لم يأتهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه أثر .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وسلم بمشاورة أصحابه ، فيما حزبه من أمر عدوّه ومكايد حربه ، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان ، وتعريفا منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها ، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم ، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله . فأما النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإن الله كان يعرّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك . وأما أمته ، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتأخّ للحقّ وإرادة جميعهم للصواب ، من غير ميل إلى هوى ، ولا حيد عن هدى¹ فالله مسدّدهم وموفقهم .
وأما قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } فإنه يعني : فإذا صحّ عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك ، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به ، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها ، وتوكل فيما تأتي من أمورك وتدع وتحاول أو تزاول على ربك ، فثق به في كل ذلك ، وارض بقضائه في جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم ، فإن الله يحبّ المتوكلين ، وهم الراضون بقضائه ، والمستسلمون لحكمه فيهم ، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوكّلِينَ } فإذا عزمت : أي على أمر جاءك مني ، أو أمر من دينك في جهاد عدوّك ، لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك ، فامض على ما أمرت به ، على خلاف من خالفك ، وموافقة من وافقك ، وتوكل على الله : أي ارض به من العباد ، إن الله يحبّ المتوكلين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ، ويستقيم على أمر الله ، ويتوكل على الله .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ } . . . الاَية ، أمره الله إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل عليه .