{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
أي : برحمة الله لك ولأصحابك ، منَّ الله عليك أن ألنت{[168]} لهم جانبك ، وخفضت لهم جناحك ، وترققت عليهم ، وحسنت لهم خلقك ، فاجتمعوا عليك وأحبوك ، وامتثلوا أمرك .
{ ولو كنت فظا } أي : سيئ الخلق { غليظ القلب } أي : قاسيه ، { لانفضوا من حولك } لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ .
فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدين ، تجذب الناس إلى دين الله ، وترغبهم فيه ، مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص ، والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين ، وتبغضهم إليه ، مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص ، فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول ، فكيف بغيره ؟ !
أليس من أوجب الواجبات ، وأهم المهمات ، الاقتداء بأخلاقه الكريمة ، ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم ، من اللين وحسن الخلق والتأليف ، امتثالا لأمر الله ، وجذبا لعباد الله لدين الله .
ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه صلى الله عليه وسلم ، ويستغفر لهم في التقصير في حق الله ، فيجمع بين العفو والإحسان .
{ وشاورهم في الأمر } أي : الأمور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر ، فإن في الاستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما لا يمكن حصره :
منها : أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله .
ومنها : أن فيها تسميحا لخواطرهم ، وإزالة لما يصير في القلوب عند الحوادث ، فإن من له الأمر على الناس -إذا جمع أهل الرأي : والفضل وشاورهم في حادثة من الحوادث- اطمأنت نفوسهم وأحبوه ، وعلموا أنه ليس بمستبد{[169]} عليهم ، وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع ، فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته ، لعلمهم بسعيه في مصالح العموم ، بخلاف من ليس كذلك ، فإنهم لا يكادون يحبونه محبة صادقة ، ولا يطيعونه وإن أطاعوه فطاعة غير تامة .
ومنها : أن في الاستشارة تنور الأفكار ، بسبب إعمالها فيما وضعت له ، فصار في ذلك زيادة للعقول .
ومنها : ما تنتجه الاستشارة من الرأي : المصيب ، فإن المشاور لا يكاد يخطئ في فعله ، وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب ، فليس بملوم ، فإذا كان الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو أكمل الناس عقلا ، وأغزرهم علما ، وأفضلهم رأيا- : { وشاورهم في الأمر } فكيف بغيره ؟ !
ثم قال تعالى : { فإذا عزمت } أي : على أمر من الأمور بعد الاستشارة فيه ، إن كان يحتاج إلى استشارة { فتوكل على الله } أي : اعتمد على حول الله وقوته ، متبرئا من حولك وقوتك ، { إن الله يحب المتوكلين } عليه ، اللاجئين إليه .
ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة . . جولة محورها شخص رسول الله [ ص ] وحقيقته النبوية الكريمة ؛ وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة ؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة . . وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة ، وأسس هذا التنظيم ؛ ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها ، ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة :
( فبما رحمة من الله لنت لهم . ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله ، إن الله يحب المتوكلين . إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون . وما كان لنبي أن يغل . ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون . أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير ؟ هم درجات عند الله ، والله بصير بما يعملون . لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . .
وننظر في هذه الفقرة ، وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها - وهي الحقيقة النبوية الكريمة - فنجد كذلك أصولا كبيرة تحتويها عبارات قصيرة . . نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي [ ص ] وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس . . ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية - وهو الشورى - يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى - في ظاهر الأمر - نتائج مريرة ! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي - بعد الشورى - في مضاء وحسم . ونجد حقيقة التوكل على الله - إلى جانب الشورى والمضاء - حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية . ونجد حقيقة قدر الله ، ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج . ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة . ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله ، تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة . . وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي [ ص ] إلى هذه الأمة ، المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم ، كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء !
هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات !
( فبما رحمة من الله لنت لهم . ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك . فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر . فإذا عزمت فتوكل على الله . إن الله يحب المتوكلين )
إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله [ ص ] وفي نفسه شيء من القوم ؛ تحمسوا للخروج ، ثم اضطربت صفوفهم ، فرجع ثلث الجيش قبل المعركة ؛ وخالفوا - بعد ذلك - عن أمره ، وضعفوا أمام إغراء الغنيمة ، ووهنوا أمام إشاعة مقتله ، وانقلبوا على أعقابهم مهزومين ، وأفردوه في النفر القليل ، وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم ، وهم لا يلوون على أحد . . يتوجه إليه [ ص ] يطيب قلبه ، وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به . ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم ، الذي تتجمع حوله القلوب . . ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه [ ص ] فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه ؛ وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم . ثم يدعوه أن يعفو عنهم ، ويستغفر الله لهم . . وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم ؛ غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية .
( فبما رحمة من الله لنت لهم ؛ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ) . .
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم ؛ فجعلته [ ص ] رحيما بهم ، لينا معهم . ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ، ولا تجمعت حوله المشاعر . فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلىرعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم . . في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ؛ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ؛ ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء . . وهكذا كان قلب رسول الله [ ص ] وهكذا كانت حياته مع الناس . ما غضب لنفسه قط . ولا ضاق صدره بضعفهم البشري . ولا احتجز لنفسه شيئا من أعراض هذه الحياة ، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية . ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم . وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه ؛ نتيجة لما أفاض عليه [ ص ] من نفسه الكبيرة الرحيبة .
وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته . . يذكرهم بها في هذا الموقف . ليرتب عليها ما يريده - سبحانه - لحياة هذه الأمة من تنظيم :
( فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ) . .
وبهذا النص الجازم : ( وشاورهم في الأمر ) . . يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول الله [ ص ] هو الذي يتولاه . وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي ، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه . . أما شكل الشورى ، والوسيلة التي تتحقق بها ، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها . وكل شكل وكل وسيلة ، تتم بها حقيقة الشورى - لا مظهرها - فهي من الإسلام .
لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة ! فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم ! اختلفت الآراء . فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها ، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة . وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين . وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف . إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش ، والعدو على الأبواب - وهو حدث ضخم وخلل مخيف - كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن - في ظاهرها - أسلم الخطط من الناحية العسكرية . إذ أنها كانت مخالفة " للسوابق " في الدفاع عن المدينة - كما قال عبد الله ابن أبي - وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية ، فبقوا فعلا في المدينة ، وأقاموا الخندق ، ولم يخرجوا للقاء العدو . منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد !
ولم يكن رسول الله [ ص ] يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج . فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة ، التي رآها ، والتي يعرف مدى صدقها . وقد تأولها قتيلا من أهل بيته ، وقتلى من صحابته ، وتأول المدينة درعا حصينة . . وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى . . ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات . لأن إقرار المبدأ ، وتعليم الجماعة ، وتربية الأمة ، أكبر من الخسائر الوقتية .
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة . أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف ؛ وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة ! ولكن الإسلام كان ينشىء أمة ، ويربيها ، ويعدها لقيادة البشرية . وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة ، أن تربى بالشورى ؛ وأن تدرب على حمل التبعة ، وأن تخطىء - مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة - لتعرف كيف تصحح خطأها ، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها . فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ . . والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة . واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها ، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية . إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية . ولكنها تخسر نفسها ، وتخسر وجودها ، وتخسر تربيتها ، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية . كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي - مثلا - لتوفير العثرات والخبطات . أو توفير الحذاء !
كان الإسلام ينشىء أمة ويربيها ، ويعدها للقيادة الراشدة . فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها ، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية ، كي تدرب عليها في حياة الرسول [ ص ] وبإشرافه . ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى ، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشؤون - كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا ، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب - ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة - لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون ، لكان وجود محمد [ ص ] ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى - كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى ! - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ظل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة . ولكن وجود محمد رسول الله [ ص ] ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث ، ووجود تلك الملابسات ، لم يلغ هذا الحق . لأن الله - سبحانه - يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون ، ومهما تكن النتائج ، ومهما تكن الخسائر ، ومهما يكن انقسام الصف ، ومهما تكن التضحيات المريرة ، ومهما تكن الأخطار المحيطة . . لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة ، المدربة بالفعل على الحياة ؛ المدركة لتبعات الرأي والعمل ، الواعية لنتائج الرأي والعمل . . ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي ، في هذا الوقت بالذات :
( فاعف عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر ) . .
ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله ؛ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق ؛ وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة ، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة ، ولو كان هو انقسام الصف ، كما وقع في " أحد " والعدو على الأبواب . . لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ . ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق !
على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية ؛ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق ، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف :
( فإذا عزمت فتوكل على الله . إن الله يحب المتوكلين ) . .
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي ، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة ، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد ، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ . . التنفيذ في عزم وحسم ، وفي توكل على الله ، يصل الأمر بقدر الله ، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء .
وكما ألقى النبي [ ص ] درسه النبوي الرباني ، وهو يعلم الأمة الشورى ، ويعلمها إبداء الرأي ، واحتمال تبعته بتنفيذه ، في أخطر الشؤون وأكبرها . . كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى ، وفي التوكل على الله ، وإسلام النفس لقدره - على علم بمجراه واتجاهه - فأمضى الأمر في الخروج ، ودخل بيته فلبس درعه ولأمته - وهو يعلم إلى أين هو ماض ، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات . . وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين ، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه [ ص ] على ما لا يريد ، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى . . حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع . لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله . درس الشورى . ثم العزم والمضي . مع التوكل على الله والاستسلام لقدره . وأن يعلمهم أن للشورى وقتها ، ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد . فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي . . إنما هو رأي وشورى . وعزم ومضاء . وتوكل على الله ، يحبه الله :
والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون . بل هي التي تميز المؤمنين . . والتوكل على الله ، ورد الأمر إليه في النهاية ، هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية . وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة : حقيقة أن مرد الأمر كله لله ، وأن الله فعال لما يريد . .
لقد كان هذا درسا من دروس " أحد " الكبار . هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها ، وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان . .
ابن رشد: قال مالك: الغلظة مكروهة: لقول الله عز وجل: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}. قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159]. 237- مكي: روى ابن وهب أن مالكا قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا.
قال الشافعي: إن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي اِلأمْرِ} فإنما افترض عليهم طاعته فيما أحبوا وكرهوا، وإنما أمر بمشاورتهم ـ والله أعلم ـ لجمع الألفة، وأن يستن بالاستشارة بعده من ليس له من الأمر ما له، وعلى أن أعظم لرغبتهم وسرورهم أن يشاوروا، لا على أن لأحد من الآدميين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده عنه إذا عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر به والنهي عنه: ألا ترى إلى قوله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ اِلذِينَ يُخَالِفُونَ عَنَ اَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ اَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ} وقال عز وجل: {اِلنَّبِىءُ أَوْلى بِالْمُومِنِينَ مِنَ اَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُومِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. (الأم: 5/168. ون الأم: 5/18. ومختصر المزني ص: 164. واختلاف الحديث ص: 517.)...
قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي اِلأمْرِ} قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن الزهري قال: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الله عز وجل: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} 1241.
قال الشافعي: قال الحسن: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لغنيا عن مشاورتهم، ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده. إذا نزل بالحاكم الأمر يحتمل وجوها أو مشكلا، انبغى له أن يشاور، ولا ينبغي له أن يشاور جاهلا، لأنه لا معنى لمشاورته، ولا عالما غير أمين فإنه ربما أضل من يشاوره، ولكنه يشاور من جمع العلم والأمانة. وفي المشاورة رضا الخصم والحجة عليه. (الأم: 7/95. ون أحكام الشافعي: 1/119-125.)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك} يعني بالفظّ: الجافي، وبالغليظ القلب: القاسي القلب غير ذي رحمة ولا رأفة، وكذلك صفته صلى الله عليه وسلم، كما وصفه الله: {بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. فتأويل الكلام: فبرحمة الله يا محمد ورأفته بك، وبمن آمن بك من أصحابك، لنت لهم لتبّاعك وأصحابك فسهلت لهم خلائقك، وحسنت لهم أخلاقك، حتى احتملت أذى من نالك منهم أذاه، وعفوت عن ذي الجرم منهم جرمه، وأغضبت عن كثير ممن لو جفوت به، وأغلظت عليه، لتركك ففارقك، ولم يتبعك، ولا ما بعثت به من الرحمة، ولكن الله رحمهم ورحمك معهم، فبرحمة من الله لنت لهم...
{فاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ إنّ اللّهَ يُحِبّ المُتَوكّلِينَ}. يعني تعالى ذكره بقوله: {فاعْفُ عَنْهُمْ}: فتجاوز يا محمد عن تباعك وأصحابك من المؤمنين بك، وبما جئت به من عندي، ما نالك من أذاهم، ومكروه في نفسك. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وادع ربك لهم بالمغفرة لما أتوا من جرم، واستحقوا عليه عقوبة منه...
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله أمر تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، وما المعنى الذي أمره أن يشاورهم فيه؟ فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَشاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} بمشاورة أصحابه في مكايد الحرب وعند لقاء العدوّ، تطييبا منه بذلك أنفسهم، وتألفا لهم على دينهم، وليروا أنه يسمع منهم ويستعين بهم، وإن كان الله عزّ وجلّ قد أغناه بتدبيره له أموره وسياسته إياه وتقويمه أسبابه عنهم...
وقال آخرون: بل أمره بذلك في ذلك، وإن كان له الرأي وأصوب الأمور في التدبير، لما علم في المشورة تعالى ذكره من الفضل...
وقال آخرون: إنما أمره الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه، مع إغنائه بتقويمه إياه، وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده، فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته في ذلك، ويحتذوا المثال الذي رأوه يفعله في حياته من مشاورته في أموره مع المنزلة التي هو بها من الله أصحابه وتباعه في الأمر، ينزل بهم من أمر دينهم ودنياهم، فيتشاوروا بينهم، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم¹ لأن المؤمنين إذا تشاوروا في أمور دينهم متبعين الحقّ في ذلك، لم يخلهم الله عزّ وجلّ من لطفه، وتوفيقه للصواب من الرأي والقول فيه. قالوا: وذلك نظير قوله عزّ وجل الذي مدح به أهل الإيمان: {وَأمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}...
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عزّ وجلّ أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وسلم بمشاورة أصحابه، فيما حزبه من أمر عدوّه ومكايد حربه، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التي يؤمن عليه معها فتنة الشيطان، وتعريفا منه أمته ما في الأمور التي تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله في ذلك على تصادق وتأخّ للحقّ وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى فالله مسدّدهم وموفقهم.
وأما قوله: {فإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على اللّهِ} فإنه يعني: فإذا صحّ عزمك بتثبيتنا إياك وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك، فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به، وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك أو خالفها، وتوكل فيما تأتي من أمورك وتدع وتحاول أو تزاول على ربك، فثق به في كل ذلك، وارض بقضائه في جميعه دون آراء سائر خلقه ومعونتهم، فإن الله يحبّ المتوكلين، وهم الراضون بقضائه، والمستسلمون لحكمه فيهم، وافق ذلك منهم هوى أو خالفه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} يحتمل هذا وجهين: يحتمل فبرحمة من الله عليك {لنت لهم} فيجب أن يكون الإنسان رحيما على خلق الله، على ما جاء في الخبر قال لأصحابه "لن تدخلوا الجنة حتى تراحموا "فقيل: كلنا نرحم يا رسول الله فقال: "ليس تراحم الرجل ولده أو أخاه ولكن تراحم بعضهم بعضا" (بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد 8/187 وعزاه للطبراني) أو كلام نحو هذا، وما جاء: "من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا" (الترمذي 1921) وما جاء: "من لم يرحم أهل الأرض لم يرحمه أهل السماء" (المنذري في الترغيب 3334) كما قال الله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفرون للذين لا يرجون أيام الله} الآية (الجاثية 14).
وقد أمر الله عباده أن يعامل بعضهم بعضا بالرحمة واللين إلا عند المعاندة والمكابرة فحينئذ أمر بالقتال كقوله لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون فقال: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} (طه 44) وكان اللين من القول أنفذ في القلوب وأسرع إلى الإجابة وادعى إلى الطاعة من الخشن من القول وذلك ظاهر في الناس لذلك أمر الله عز وجل رسله باللين من المعاملة والرحمة على خلقه وجعله سبب تأليف القلوب وجمعها وجعل الخشن من القول والفظ سبب الفرقة بقوله: {ولو كنت فظا} في القول {غليظ القلب لانفضوا من حولك} أي لو كنت في الابتداء فظا غليظا لتفرقوا ولم يجتمعوا عندك. وقوله تعالى: {فاعف عنهم} بأذاهم إياك ولا تكافئهم {واستغفر لهم} فيما بينهم وبين ربهم ويحتمل قوله: {فاعف عنهم واستغفر لهم} بما عصوك وألا تنتصر منهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"فإذا عزمت فتوكل على الله" فالتوكل على الله هو تفويض الأمر إليه للثقة بحسن تدبيره، وأصله الاتكال، وهو الاكتفاء في فعل ما يحتاج إليه بمن يسند إليه. ومنه الوكالة، لأنها عقد على الكفاية بالنيابة، والوكيل هو المتكل عليه بتفويض الأمر إليه. وقوله: "إن الله يحب المتوكلين "معناه يريد ثوابهم على توكلهم وإسنادهم أمورهم إلى الله تعالى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أنّ لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله ونحوه {فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13] ومعنى الرحمة: ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم حتى أثابهم غما بغم وآساهم بالمباثة بعد ما خالفوه وعصوا أمره وانهزموا وتركوه {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً} جافياً {غَلِيظَ القلب} قاسيا {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لتفرّقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم {فاعف عَنْهُمْ} فيما يختص بك {واستغفر لَهُمْ} فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم... وقرئ: «وشاورهم في بعض الأمر» {فَإِذَا عَزَمْتَ} فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله لا أنت ولا من تشاور. وقرئ: «فإذا عزمت» بضم التاء، بمعنى فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل عليّ ولا تشاور بعد ذلك أحداً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وغلظ القلب: عبارة عن تجهم الوجه وقلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة... {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر الله تعالى رسوله بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عليه السلام عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة وحق، فإذا صاروا في هذه الدرجة، أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة كانوا أهلاً للاسشارة في الأمور. والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه... والتوكل على الله تعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه مقترن بالجد في الطاعة والتشمير والحزامة بغاية الجهد: وليس الإلقاء باليد وما أشبهه بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام: (قيدها وتوكل).
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: إن المشاورة هي الاجتماعُ على الأمر ليستشيرَ كلُّ واحد منهم صاحبَه ويستخرجَ ما عنده، من قولهم: شُرْت الدابة أشورها إذا رُضْتَها لتستخرجَ أخلافها.
المسألة الثانية: في ماذا تقع الإشارة؟
قال علماؤنا: المرادُ به الاستشارةُ في الحَرْب، ولا شكّ في ذلك؛ لأنَّ الأحكام لم يكن لهم فيها رأيٌ بقولٍ، وإنما هي بوحْيِ مطلق مِن الله عز وجل، أو باجتهادٍ من النبي صلى الله عليه وسلم على مَن يجوز له الاجتهاد.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإفك حين خطب: «أشِيروا عليَّ في أناسٍ أَبَنُوا أهلي، والله ما علمتُ على أهلي إلاّ خيراً»، يعني بقوله: «أبَنُوهم» عيَّروهم.
ولم يكن هذا من النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً لهم عن الواجب، وإنما أراد أن يستخرجَ ما عندهم من التعصُّب لهم وإسلامهم إلى الحق الواجب عليهم؛ فقال له رجل من الأنصار، من الأوس: يا رسول الله؛ أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضرَبْنا عنقه، وإن كان من أخواننا من الخزْرَج أمرتَنا فيه بأمرك.
فقام سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن اجْتَهَلَتْهُ الحميّة، فقال لذلك الأوسي: كذبت، لعَمْرُ الله لا تقتله، ولا تقدر على قَتْله.
فقام أُسَيْد بن حُضَير، وهو ابن عم الأوسي المتكلم أولاً، فقال لسعد بن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنّه؛ فإنك رجلٌ منافق تجادِلُ عن المنافقين، فتثاور الحيَّان الأوس والخزرج حتى همُّوا أن يقتتلوا، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر؛ فلم يزلْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم فسكتوا.
وكانت هذه فائدةٌ لمن بعده ليُسْتنَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم في المشاورة.
وقد روى أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود عن أبيه قال: لما كان يوم بَدْر جيء بالأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟» فذكر في الحديث قصة طويلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفلُتني أحدٌ منهم إلاّ بفداء أو ضَرْبِ عنق». قال عبدالله بن مسعود: «فقلت: يا رسول الله، إلاَّ سهيل بن بيضاء فإني قد سمعته يذْكُر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما رأيتني في يومٍ أخوف أن يقع عليَّ حجارة من السماء منّي في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء». قال: ونزل القرآنُ بقَوْل عمر: {ما كان لنبيٍّ أن يكونَ له أَسْرَى...} الآية [الأنفال:67].
قال القاضي: وهذا حديثٌ صحيح، وهو على النحو الأول أراد أن يختبر ما عندهم في قرابتهم وحالِ أنفسهم فيما يفعلُ بهم.
المسألة الثالثة: المراد بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ} جميع أصحابه؛ ورأيتُ بعضَهم قال: المراد به أبو بكر وعمر.
ولعَمْر الله إنهم أهل لذلك وأحقُّ به، ولكن لا يُقصر ذلك عليهم، فقَصْرُه عليهم دعوى.
وقد ثبت في السير أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أشيروا عليَّ في المنزل. فقال الْحُبَاب بن المنذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله؟ فليس لنا أن نتقدَّمه ولا نتأخره أم هو الرأيُ والحرْب والمكيدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأْيُ والحرْب والمكيدة. قال: فإنَّ هذا ليس بمنزل؛ انطلق بنا إلى أَدْنى ماء القوم...» إلى أخره.
اعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالتغليط والتشديد، وإنما خاطبهم بالكلام اللين، ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم على عفوه عنهم، وتركه التغليظ عليهم فقال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام. وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن لينه صلى الله عليه وسلم مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى: {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} وقال: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}...
المسألة الثانية: احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق، إنما كان بسبب رحمة الله تعالى...
واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد صلى الله عليه وسلم أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة... فان قيل: ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب؟ قلنا: الفظ الذي يكون سيء الخلق، وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء، فقد لا يكون الإنسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم، فظهر الفرق من هذا الوجه...
إن المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله إلى الخلق، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم إليه وسكنت نفوسهم لديه، وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما، يتجاوز عن ذنبهم، ويعفو عن إساءتهم، ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق، وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب، بل يكون كثير الميل إلى إعانة الضعفاء، كثير القيام بإعانة الفقراء، كثير التجاوز عن سيآتهم، كثير الصفح عن زلاتهم، فلهذا المعنى قال: {ولو كنت فظا القلب لانفضوا من حولك} ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة. وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام {ولو كنت فظا غليظ القلب} وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك، هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام، فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم.
المسألة الثالثة: اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله، فأما إذا أدى إلى ذلك لم يجز، قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}. وههنا دقيقة أخرى: وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية، وأمره بالغلظة في قوله: {واغلظ عليهم} فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين، وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين، فهو كقوله: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} وقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وتحقيق القول فيه أن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان، والفضيلة في الوسط، فورود الأمر بالتغليظ تارة، وأخرى بالنهي عنه، إنما كان لأجل أن يتباعد عن الإفراط والتفريط، فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم، فلهذا السر مدح الله الوسط فقال: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا}.
ثم قال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء: أولها: بالعفو عنهم وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى، قال عليه السلام:"تخلقوا بأخلاق الله" ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله...
ظاهر الأمر للوجوب، والفاء في قوله تعالى: {فاعف عنهم} يدل على التعقيب، فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال، وهذا يدل على كمال الرحمة الإلهية حيث عفا هو عنهم، ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم. واعلم أن قوله: {فاعف عنهم} إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام، ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه فقال تعالى: {والعافين عن الناس} ليعلم أن حسنات الأبرار سيآت المقربين.
وثانيها: قوله تعالى: {واستغفر لهم} وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر، وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره} إلى قوله: {فقد باء بغضب من الله} فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر، ثم إنه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالعفو عنهم، ثم أمره بالاستغفار لهم، وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا.
المسألة الثانية: قوله تعالى: {واستغفر لهم} أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر، وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه إليه، لأن ذلك لا يليق بالكريم، فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا في حق أصحاب الكبائر، فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى.
المسألة الثالثة: أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله: {ولقد عفا الله عنهم} ثم أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم، كأنه قيل له: يا محمد استغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم، واعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم، وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة، وثالثها: قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} وفيه مسائل: المسألة الأولى: يقال: شاورهم مشاورة وشوارا ومشورة، والقوم شورى، وهي مصدر سمي القوم بها كقوله: {وإذ هم نجوى} قيل: المشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته، وقيل مأخوذة من قولهم: شرت الدابة شورا إذا عرضتها، والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشوارا، كأنه بالعرض يعلم خيره وشره، فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها...
[و] الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه، [منها]:
... [الأول]: أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى أن يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر. فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة...
[الثاني]: وشاورهم في الأمر، لا لتستفيد منهم رأيا وعلما، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم...
[الثالث]: وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله، وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات. وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد...
[الرابع]: لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم دل ذلك على أن لهم عند الله قدرا وقيمة، فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق...
[الخامس]: الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده، فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم، فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وإن عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة، فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة، بل أنا أزيد فيها، وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم، وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم، لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك، والسبب فيه أنكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم، والآن تعولون على فضلي وعفوي، فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك، لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم...
ثم قال: {فإذا عزمت فتوكل على الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور.
المسألة الثانية: دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه، كما يقوله بعض الجهال، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحق...
ثم قال تعالى: {إن الله يحب المتوكلين} والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع إلى الله تعالى والإعراض عن كل ما سوى الله.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
قوله تعالى: {فإذا عزمت} يعني على المشاورة {فتوكل على الله} أي فاستعن بالله في أمورك كلها وثق به ولا تعتمد إلا عليه فإنه ولي الإعانة والعصمة والتسديد والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله تعالى في جميع أموره وأن المشاورة لا تنافي التوكل {إن الله يحب المتوكلين} يعني المتوكلين عليه في جميع أمورهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته، المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم.
قال قتادة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} يقول: فبرحمة من الله لنت لهم. و "ما "صلة، والعربُ تصلها بالمعرفة كقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155، المائدة: 13] وبالنكرة كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] وهكذا 46 هاهنا قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: برحمة من الله 47.
وقال الحسن البصري: هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به.
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وقال الإمام أحمد: حدثنا حَيْوة، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا محمد بن زياد، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: أخد بيدي أبو أمَامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا أبَا أُمامَةَ، إنَّ مِنَ الْمُؤْمِنينَ مَنْ يَلِينُ لِي قَلْبُه". 48 انفرد 49 به أحمد 50.
ثم قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الفظ: الغليظ، [و] 51 المراد به هاهنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أي: لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفَظٍّ، ولا غليظ، ولا سَخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح 52.
ولهذا قال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} ولذلك 55 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حَدَث، تطييبًا لقلوبهم؛ ليكونوا فيما يفعلونه أنشط لهم كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.
وشاورهم -أيضا- أين يكون المنزل؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموتَ، بالتقدم إلى أمام القوم، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهُورُهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم.
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه ذلك السَعْدَان: سعدُ بن معاذ وسعدُ بن عُبَادة، فترك ذلك.
وشاورهم يومَ الحُدَيبية في أن يميل على ذَرَاري المشركين، فقال له الصديق: إنا لم نجيء لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال.
وقال عليه السلام في قصة الإفك:"أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا أهلِي ورَمَوهُم، وايْمُ اللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ، وأبَنُوهم بمَنْ -واللهِ- مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلا خَيْرًا". واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة، رضي الله عنها.
فكان [صلى الله عليه وسلم] يشاورهم في الحروب ونحوها. وقد اختلف الفقهاء: هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين.
وقد قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر، حدثنا سعيد بن [أبي] مريم، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عَمْرو بن دينار، عن ابن عباس في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} قال: أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وهكذا رواه الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبَوَي المسلمين.
وقد روى الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا عبد الحميد، عن شَهْرَ بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غَنْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "لوِ اجْتَمَعْنا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا".
وروى ابن مَرْدُويه، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَزْم؟ قال "مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ".
وقد قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن أبي بكير عن شيبان عن عبد الملك بن عُمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ".
ورواه أبو داود والترمذي، وحسّنه [و] النسائي، من حديث عبد الملك بن عُمير بأبسط منه.
ثم قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا أسود بن عامر، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي عَمْرو الشيباني، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ". تفرد به.
[وقال أيضا] وحدثنا أبو بكر، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذَا اسْتَشَارَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَليشِر عليْهِ. تفرد به أيضا.
وقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: إذا شاورتهم في الأمر وعزَمْت عليه فتوكل على الله فيه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما فرغ من وعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أتبعه تحبيب النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل بهم من الرفق واللين مع ما سبب الغضب الموجب للعنف والسطوة من اعتراض من اعترض على ما أشار به، ثم مخالفتهم لأمره في حفظ المركز والصبر والتقوى، ثم خذلانهم له وتقديم أنفسهم على نفسه الشريفة، ثم عدم العطف عليه وهو يدعوهم إليه ويأمر بإقبالهم عليه، ثم اتهام من اتهمه. إلى غير ذلك من الأمور التي توجب لرؤساء الجيوش وقادة الجنود اتهام أتباعهم وسوء الظن بهم الموجب للغضب والإيقاع ببعضهم ليكون ذلك زاجراً لهم عن العود إلى مثله فقال تعالى: {فبما رحمة من الله} أي الذي له الكمال كله {لنت لهم} أي ما لنت لهم هذا اللين الخارق للعادة ورفقت بهم هذا الرفق بعدما فعلوا بك إلا بسبب رحمة عظيمة من الله الحائز لجميع الكمال، فقابلتهم بالجميل ولم تعنفهم بانهزامهم عنك بعد إذ خالفوا رأيك، وهم كانوا سبباً لاستخراجك؛ والذي اقتضى هذا الحصر هو ما لأنها نافية في سياق الإثبات فلم يمكن أن توجه إلا إلى ضد ما أثبته السياق، ودلت زيادتها على أن تنوين "رحمة "للتعظيم، أي فبالرحمة العظيمة لا بغيرها لنت. ولما بين سبحانه وتعالى سبب هذا اللين المتين بين ثمرته ببيان ما في ضده من الضرر فقال: {ولو كنت فظّاً} أي سيئ الخلق جافياً في القول {غليظ القلب} أي قاسية لا تتأثر بشيء، تعاملهم بالعنف والجفاء {لانفضّوا} أي تفرقوا تفرقاً قبيحاً لا اجتماع معه {من حولك} أي ففات المقصود من البعثة. ولما أخبره سبحانه وتعالى أنه هو عفا عنهم ما فرطوا في حقه أمره بالعفو عنهم فيما يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وبالاستمرار على مشاورتهم عند النوائب لئلا يكون خطؤهم في الرأي -أولاً في الخروج من المدينة. وثانياً في تضييع المركز، وثالثاً في إعراضهم عن الإثخان في العدو بعد الهزيمة الذي ما شرع القتال إلا لأجله بإقبالهم عن النهب، ورابعاً في وهنهم عند كر العدو إلى غير ذلك- موجباً لترك مشاورتهم، فيفوت ما فيها من المنافع في نفسها وفيما تثمره من التألف والتسنن وغير ذلك فقال سبحانه وتعالى: {فاعف عنهم} أي ما فرطوا في هذه الكرة في حقك {واستغفر لهم} أي الله سبحانه وتعالى لما فرطوا في حقه {وشاورهم} أي استخرج آراءهم {في الأمر} أي الذي تريده من أمور الحرب تألفاً لهم وتطييباً لنفوسهم ليستن بك من بعدك {فإذا عزمت} أي بعد ذلك على أمر فمضيت فيه، وقراءة من ضم التاء للمتكلم بمعناها، أي فإذا فعلت أنت أمراً بعد المشاورة لأني فعلت فيه -بأني أردته- فعل العازم. ولما أمر بالمشاورة التي هي النظر في الأسباب أمر بالاعتصام بمسببها من غير التفات إليها ليكمل جهاد الإنسان بالملابسة ثم التجرد فقال: {فتوكل} أي فيه {على الله} أي الذي له الأمر كله، ولا يردك عنه خوف عاقبة -كما فعلت بتوفيق الله في هذه الغزوة، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {يحب المتوكلين} أي فلا يفعل بهم إلا ما فيه إكرامهم وإن رُئي غير ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بمعاملتهم يقول تعالى لنبيه: {فبما رحمة من الله لنت لهم} قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة وإيضاح: الفاء للتعقيب لأن الكلام في واقعة خالف النبي فيها بعض أصحابه فكان لذلك من الفشل وظهور المشركين ما كان، حتى أصيب النبي صلى الله عليه وسلم مع من أصيب فكان من لينه في معاملتهم ومخاطبتهم ومن رحمته بهم أن صبر وتجلد فلم يتشدد في عتب ولا توبيخ اهتداء بكتاب الله تعالى، فقد أنزل الله عليه آيات كثيرة في الواقعة بين فيها ما كان من ضعف في المسلمين وعصيان وتقصير حتى ما كان متعلقا بالظنون الفكرية والهموم النفسية ولكن مع العتب اللطيف المقرون يذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة وفوائد المصائب وقد كان خُلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما ورد في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها. أقول: كأنه يقول إنه كان من أصحابك يا محمد ما كان، كما دلت عليه الآيات وهو مما يؤاخذون عليه فلنت لهم وعاملتهم بالحسنة، وإنما لنت لهم بسبب رحمة عظيمة أنزلها الله على قلبك وخصك بها فعمت الناس فوائدها وجعل القرآن ممدا لها بما هداك إليه من الآداب العالية والحكم السامية التي هونت عليك المصائب وعلمتك منافعها وحكمها وحسن عواقبها للمعتبر بها: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} لأن الفظاظة وهي الشراسة، والخشونة في المعاشرة وهي القسوة والغلظة وهما من الأخلاق المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبهما وإن كثرت فضائله ورجيت فواضله بل يتفرقون، ويذهبون من حوله ويتركونه وشأنه لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه، والتحلق حواليه، وإذًا لَفَاتَتْهُم هدايتُك، ولم تبلغ قلوبهم دعوتك. {فاعف عنهم واستغفر لهم} فلا تؤاخذهم على ما فرطوا واسأل الله تعالى أن يغفر لهم ولا يؤاخذهم أيضا، فبذلك تكون محافظا على تلك الرحمة التي خصك الله بها ومداومة لتلك السيرة الحسنة، التي هداك الله إليها: {وشاورهم في الأمر} العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم، والخوف والأمن؛ وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية، أي دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة (غزوة أحد) وإن اخطؤوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر.
قال الأستاذ الإمام: ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أمر الله تعالى نبيه أن يقرر سنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل فكان صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه بغاية اللطف ويصغي إلى كل قول ويرجع عن رأيه إلى رأيهم. وليس عندي عن الأستاذ في هذه المسألة غير هذا. وأقول: الأمر المعرّف هنا هو أمر المسلمين المضاف إليهم في القاعدة الأولى التي وضعت للحكومة الإسلامية في سورة الشورى المكية وهي قوله تعالى في بيان ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدين: (وأمرهم شورى بينهم) [الشورى: 38] فالمراد بالأمر أمر الأمة الدنيوي الذي يقوم به الحكام عادة، لا أمر الدين المحض الذي مداره على الوحي دون الرأي، إذ لو كانت المسائل الدينية كالعقائد والعبادات والحلال والحرام مما يقرر بالمشاورة لكان الدين من وضع البشر، وإنما هو وضع إلهي ليس لأحد فيه رأي لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده. وقد روي أن الصحابة عليهم الرضوان كانوا لا يعرضون رأيهم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل الدنيا إلا بعد العلم بأنه قاله عن رأي لا عن وحي، كما فعلوا يوم بدر إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال "بل هو الرأي والحرب والمكيدة "فقال يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه الخ ما قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "لقد أشرت بالرأي" وعمل برأيه.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم هذا الركن (الشورى) في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين يكونون معه ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضر إفشاؤها فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب؛ فلم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون ثم الأنصار بالموافقة. واستشارهم جميعا يوم أحد أيضا كما تقدم. وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر من أمور الأمة إلا ما ينزل عليه الوحي ببيانه فينفذه حتما، ولما كثر المسلمون وامتد حكم الإسلام بعد الفتح إلى الأماكن البعيدة عن المدينة. وكان في كل قبيلة أو قرية من أولئك المسلمين رجال أهل المكانة والرأي يمكن أن يقال إنه قد احتيج إلى وضع قاعدة أو نظام للشورى يبين فيه طرق اشتراك أولئك البعداء من مكان السلطة العليا فيها.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضع هذه القاعدة أو النظام لحكم وأسباب. ومنها: أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجا وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد، وأن الله سيفتح لأمته الممالك ويخضع لها الأمم وقد بشرها بذلك. فكل هذا كان مانعا من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعد من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي العصر الذي يتلو عصره إذ تفتح الممالك الواسعة وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية في الإسلام أو في سلطان الإسلام؛ إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم، فكان الأحكم أن يترك صلى الله عليه وسلم وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بها بالشورى.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وضع قواعد موقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين، ولذلك قال الصحابة في اختيار أبي بكر حاكما: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فإن قيل: كان يمكن أن يذكر فيها أنه يجوز للأمة أن تتصرف فيها عند الحاجة بالنسخ والتغيير والتبديل. نقول: إن الناس قد اتخذوا كلامه صلى الله عليه وسلم في كثير من أمور الدنيا دينا مع قوله "أنتم أعلم بأمر دنياكم" 1287 رواه مسلم.
وقوله "ما كان من أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به" رواه أحمد. وإذا تأمل المنصف المسألة حق التأمل وكان ممن يعرف حقيقة شعور طبقات المؤمنين من العامة والخاصة في مثل ذلك يتجلى له أنه يصعب على أكثر الناس أن يرضوا بتغيير شيء وضعه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وإن أجاز لها تغييره بل يقولون: إنه أجاز ذلك لنا تواضعا منه وتهذيبا لنا حتى لا يصعب علينا الرجوع عن آرائنا، ورأيه هو الرأي الأعلى في كل حال. وقريب مما نحن فيه تقديم الإمام أحمد رحمه الله تعالى العمل بالحديث الضعيف والمرسل على القياس وتعليله بما علله به.
ومنها: أنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه عليه الصلاة والسلام لكان غير عامل بالشورى وذلك محال في حقه لأنه معصوم من مخالفة أمر الله؛ ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم كما فعل في الخروج إلى أحد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفا لرأيه صلى الله عليه وسلم فهل يرضى صلى الله عليه وسلم أن يحكم أمثال أولئك القوم ومن دونهم، كأكثر من دخل في الإسلام بعد الفتح في أصول الحكومة الإسلامية وقواعدها؟ أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم؟...
قال تعالى بعد أمر نبيه بالمشاورة: {فإذا عزمت فتوكل على الله} أي فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على إمضاء ما ترجحه الشورى وأعددت له عدته فتوكل على الله في إمضائه وكن واثقا بمعونته وتأييده لك فيه ولا تتكل على حولك وقوتك بل اعلم أن وراء ما أتيته وما أوتيته قوة أعلى وأكمل، يجب أن تكون بها الثقة وعليها المعول وإليها اللجأ إذا تقطعت الأسباب وأغلقت الأبواب.
قال الأستاذ الإمام ما معناه: إن العزم على الفعل وإن كان يكون بعد الفكر وإحكام الرأي والمشاورة وأخذ الأهبة فذلك كله لا يكفي للنجاح إلا بمعونة الله وتوفيقه لأن الموانع الخارجية له والعوائق دونه لا يحيط بها إلا الله تعالى فلا بد للمؤمن من الاتكال عليه والاعتماد على حوله وقوته. {إن الله يحب المتوكلين} على حوله وقوته، مع العمل في الأسباب بسنته، أقول: ومن أحبه الله عصمه من الغرور باستعداده، والركون إلى عدته وعتاده، والبطر الذي يصرفه عن النظر فيما يعرض له بعد ذلك حتى لا يقدره قدره، ولا يحكم فيه أمره، فبدلا من أن يكون نظره في الأمور بعين العجب والغرور، واستماعه لأنبائها بأذن الغفلة والازدراء، ومباشرته لها بيد التهاون، يلقي السمع وهو شهيد، وينظر بعين العبرة فبصره حينئذ حديد، ويبطش بيد الحزم فبطشه قوي شديد؛ ذلك بأنه يسمع ويبصر ويعمل للحق لا للباطل الذي يزينه الهوى ويدلي به الغرور؛ فيكون مصداقا للحديث القدسي "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها". الآية صريحة في وجوب إمضاء العزيمة المستكملة لشروطها – وأهمها في الأمور العامة حربية كانت أو سياسية أو إدارية المشاورة- وذلك أن نقض العزيمة ضعف في النفس وزلزال في الأخلاق لا يوثق بمن اعتاده في قول ولا عمل. فإذا كان ناقص العزيمة رئيس حكومة أو قائد جيش كان ظهور نقض العزيمة منه ناقضا للثقة بحكومته وبجيشه؛ ولا سيما إذا كان بعد الشروع في العمل، ولذلك لم يصغ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول الذين أشاروا عليه بالخروج وكان قد لبس لأمته وخرج وذلك شروع في العمل بعد أن أخذت الشورى حقها كما تقدم تفصيله. فعلمهم بذلك أن لكل عمل وقتا وأن وقت المشاورة متى انتهى جاء دور العمل، وأن الرئيس إذا شرع في العمل تنفيذا للشورى لا يجوز أن ينقض عزيمته ويبطل عمله وإن كان يرى أن أهل الشورى أخطأوا الرأي- كما كان يرى صلى الله عليه وسلم في مسألة الخروج إلى أحد كما تقدم- ويمكن إرجاع ذلك إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وأي ضرر أشد من فسخ العزيمة وما فيه من الضعف والفشل وإبطال الثقة؟...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة.. جولة محورها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقته النبوية الكريمة؛ وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة.. وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة، وأسس هذا التنظيم؛ ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها، ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة: (فبما رحمة من الله لنت لهم. ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين. إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وأن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون. وما كان لنبي أن يغل. ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير؟ هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون. لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).. وننظر في هذه الفقرة، وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها -وهي الحقيقة النبوية الكريمة- فنجد كذلك أصولا كبيرة تحتويها عبارات قصيرة.. نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس.. ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية -وهو الشورى- يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى -في ظاهر الأمر- نتائج مريرة! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي -بعد الشورى- في مضاء وحسم. ونجد حقيقة التوكل على الله -إلى جانب الشورى والمضاء- حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية. ونجد حقيقة قدر الله، ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج. ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة. ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله، تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة.. وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة، المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم، كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء! هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات! (فبما رحمة من الله لنت لهم. ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله. إن الله يحب المتوكلين) إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي نفسه شيء من القوم؛ تحمسوا للخروج، ثم اضطربت صفوفهم، فرجع ثلث الجيش قبل المعركة؛ وخالفوا -بعد ذلك- عن أمره، وضعفوا أمام إغراء الغنيمة، ووهنوا أمام إشاعة مقتله، وانقلبوا على أعقابهم مهزومين، وأفردوه في النفر القليل، وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم، وهم لا يلوون على أحد.. يتوجه إليه [ص] يطيب قلبه، وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به. ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم، الذي تتجمع حوله القلوب.. ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه صلى الله عليه وسلم فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه؛ وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم. ثم يدعوه أن يعفو عنهم، ويستغفر الله لهم.. وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم؛ غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية.
(فبما رحمة من الله لنت لهم؛ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).. فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم؛ فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيما بهم، لينا معهم. ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب، ولا تجمعت حوله المشاعر. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء؛ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه؛ ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس. ما غضب لنفسه قط. ولا ضاق صدره بضعفهم البشري. ولا احتجز لنفسه شيئا من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية. ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم. وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه؛ نتيجة لما أفاض عليه [ص] من نفسه الكبيرة الرحيبة. وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته.. يذكرهم بها في هذا الموقف. ليرتب عليها ما يريده -سبحانه- لحياة هذه الأمة من تنظيم: (فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر).. وبهذا النص الجازم: (وشاورهم في الأمر).. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم -حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى- لا مظهرها -فهي من الإسلام. لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة! فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء. فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة. وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين. وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف. إذ عاد عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، والعدو على الأبواب- وهو حدث ضخم وخلل مخيف -كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن- في ظاهرها -أسلم الخطط من الناحية العسكرية. إذ أنها كانت مخالفة "للسوابق "في الدفاع عن المدينة- كما قال عبد الله ابن أبي -وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية، فبقوا فعلا في المدينة، وأقاموا الخندق، ولم يخرجوا للقاء العدو. منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد! ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج. فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة، التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها. وقد تأولها قتيلا من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول المدينة درعا حصينة.. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى.. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ، وتعليم الجماعة، وتربية الأمة، أكبر من الخسائر الوقتية...
(فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر).. ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله؛ وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق؛ وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في "أحد" والعدو على الأبواب.. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق! على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية؛ فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن التوكل على الله في نهاية المطاف: (فإذا عزمت فتوكل على الله. إن الله يحب المتوكلين)..
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ.. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء. وكما ألقى النبي [ص] درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه، في أخطر الشؤون وأكبرها.. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله، وإسلام النفس لقدره- على علم بمجراه واتجاهه -فأمضى الأمر في الخروج، ودخل بيته فلبس درعه ولأمته- وهو يعلم إلى أين هو ماض، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات.. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه صلى الله عليه وسلم على ما لا يريد، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى.. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع. لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله. درس الشورى. ثم العزم والمضي. مع التوكل على الله والاستسلام لقدره. وأن يعلمهم أن للشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد. فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي.. إنما هو رأي وشورى. وعزم ومضاء. وتوكل على الله، يحبه الله: (إن الله يحب المتوكلين).. والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون. بل هي التي تميز المؤمنين.. والتوكل على الله، ورد الأمر إليه في النهاية، هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية. وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة: حقيقة أن مرد الأمر كله لله، وأن الله فعال لما يريد.. لقد كان هذا درسا من دروس "أحد" الكبار. هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها، وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الَّذي حُكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا. ولأنّ في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النَّبيء صلى الله عليه وسلم للمسلمين، حيث استشارهم في الخروج، وحيث لم يثرِّبهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم، ولمَّا كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرّسول إيّاهم، ألاَن الله لهم الرسول تحقيقاً لرحمته وعفوه، فكان المعنى: ولقد عفا الله عنهم برحمته فَلاَن لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إيّاه راحماً، قال تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]. والباء للمصاحبة، أي لنتَ مع رحمة الله: إذ كان لينه في ذلك كلّه ليناً لا تفريط معه لشيء من مصالحهم، ولا مجاراةً لهم في التساهل في أمر الدّين، فلذلك كان حقيقاً باسم الرحمة. وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي، أي: برحمة من الله لا بغير ذلك من أحوالهم، وهذا القصر مفيد التعريض بأنّ أحوالهم كانت مستوجبة الغلظ عليهم، ولكن الله ألاَن خلق رسوله رحمة بهم، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمَّة. وزيدت (ما) بعد باء الجرّ لتأكيد الجملة بما فيه من القصر، فتعيّنَ بزيادتها كون التَّقديم للحصر، لا لمجرد الاهتمام، ونبّه عليه في « الكشاف». واللِينُ هنا مجاز في سعة الخلق مع أمّة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جَفاء المشركين، وإقالة العثرات. ودلّ فعل المضيّ في قوله: {لنت} على أنّ ذلك وصف تقرّر وعرف من خُلقه، وأنّ فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقَه كذلك {واللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]، فخلق الرسول مُناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله، لأنّ الرسول يجيء بشريعة يبلّغها عن الله تعالى، فالتبليغ متعيّن لا مصانعة فيه، ولا يتأثّر بخلق الرسول، وهو أيضاً مأمور بسياسة أمَّته بتلك الشريعة، وتنفيذها فيهم، وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خُلق الرسول لطباع أمّته حتَّى يلائم خلقه الوسائل المتوسَّل بها لحمل أمَّته على الشَّريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم. أرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم مفطوراً على الرحمة، فكان لِينه رحمة من الله بالأمَّة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها، فلذلك جعل لينه مصاحباً لرحمةٍ من الله أودعها الله فِيه، إذ هو قد بعث للنَّاس كافّة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أولَ شيء لحكمةٍ أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغي الشَّريعة للعالم. والعرب أمَّة عُرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامةِ الفطرة. وسرعةِ الفهم. وهم المتلقُّون الأوّلون للدين فلم تكن تليق بهم الشّدة والغلظة، ولكنّهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم، ليتجنّبوا بذلك المكابرةَ الَّتي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحقّ. وورد أن صفح النَّبيء صلى الله عليه وسلم وعفوه ورحمته كان سبباً في دخول كثير في الإسلام، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء. فضمير {لهم} عائد على جميع الأمَّة كما هو مقتضى مقام التَّشريع وسياسة الأمَّة، وليس عائداً على المسلمين الَّذين عصوا أمر الرسول يوم أُحُد، لأنَّه لا يناسب قوله بعده: {لانفضوا من حولك} إذ لا يُظنّ ذلك بالمسلمين، ولأنَّه لا يناسب قوله بعده: {وشاورهم في الأمر} إذا كان المراد المشاورة للاستعانة بآرائهم، بل المعنى: لو كنت فظّاً لنفرك كثير ممّن استجاب لك فهلكوا، أو يكون الضّمير عائداً على المنافقين المعبّر عنهم بقوله: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} [آل عمران: 154] فالمعنى: ولو كنت فظّاً لأعلنوا الكفر وتفرّقوا عنك، وليس المراد أنَّك لنت لهم في وقعة أُحُد خاصّة، لأنّ قوله بعده: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} إلخ ينافي ذلك المحمل. والفَظّ: السيء الخلق، الجافي الطبع. والغليظ القلب: القاسِيه، إذ الغلظة مجاز عن القسوة وقلّة التسامح، كما كان اللين مجازاً في عكس ذلك، وقالت جواري الأنصار لعمر حين انتهرهنّ « أنت أفظّ وأغلظ من رسول الله» يردن أنت فظّ وغليظ دون رسول الله. والانفضاض: التفرق. و {من حولك} أي من جهتك وإزائك، يقال: حَوْله وحَوْلَيه وحَوَاليْه وحَوَالَه وحِيَالَه وبِحِيَالِه. والضّمير للذين حَوْل رسول الله، أي الَّذين دخلوا في الدّين لأنَّهم لا يطيقون الشدّة، والكلام تمثيل: شبّهت هيئة النفور منه وكراهية الدخول في دينه بالانفضاض من حوله أي الفرار عنه متفرّقين، وهو يؤذَّن بأنَّهم حوله متّبعون له. والتَّفريع في قوله: {فاعف عنهم} على قوله: {لنت لهم} الآية، لأنّ جميع الأفعال المأمور بها مناسب للين، فأمَّا العفو والاستغفار فأمرهما ظاهر، وأمَّا عطف {وشاورهم} فلأنّ الخروج إلى أُحُد كان عن تشاور معهم وإشارتهم، ويشمل هذا الضّميرُ جميع الَّذين لاَن لهم صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه الَّذين حوله سواء من صدر منهم أمر يوم أحُد وغيرهم. والمشاورة مصدر شاور، والاسم الشُّورَى والمَشُورة بفتح الميم وضم الشِّين أصلها مَفْعُلة بضمّ العين، فوقع فيها نقل حركة الواو إلى الساكن. قيل: المشاورة مشتقّة من شار الدابّة إذا اختبر جَريها عند العرض على المشتري، وفعل شار الدابّة مشتقّ من المِشْوَار وهو المكان الَّذي تُركض فيه الدوابّ. وأصله معرّب (نَشْخُوَار) بالفارسية وهو ما تبقيه الدابّة من علفها. وقيل: مشتقّة من شار العسل أي جناه من الوقَبَة لأنّ بها يستخرج الحقّ والصّواب، وإنَّما تكون في الأمر المهمّ المشكل من شؤون المرء في نفسه أو شؤون القبيلة أو شؤون الأمة. و (أل) في الأمر للجنس، والمراد بالأمر المهمّ الَّذي يؤتمر له، ومنه قولهم: أمْر أمِر، وقال أبو سفيان لأصحابه في حديث هرقل: « لقد أمِر أمْرُ ابن أبي كَبشة، إنَّه يَخافُه مَلِك بَنِي الأصفر». وقيل: أريد بالأمر أمر الحرب فاللام للعهد. وظاهر الأمر أنّ المراد المشاورة الحقيقية الَّتي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارَيْن بدليل قوله عقبه: {فإذا عزمت فتوكل على الله} فضمير الجميع في قوله: {وشاورهم} عائد على المسلمين خاصة: أي شاور الَّذين أسلموا مِن بين مَن لنت لهم، أي لا يصدّك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحُد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى، فإنَّما كان ما حصل فلتة منهم، وعشرة قد أقَلْتَهم منها. ويحتمل أن يراد استشارة عبد الله بن أبي وأصحابه، فالمراد الأخذ بظاهر أحوالهم وتأليفهم، لعلّهم أن يُخلصوا الإسلام أو لا يزيدوا نفاقاً، وقطعاً لأعذارهم فيما يستقبل. وقد دلّت الآية على أن الشُّورى مأمور بها الرسُول صلى الله عليه وسلم فيما عبّر عنه ب (الأمر) وهو مُهمّات اللأمّة ومصالحها في الحرب وغيره، وذلك في غير أمر التَّشريع لأنّ أمر التَّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في التَّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء، والمجتهد لا يستشير غيره إلاّ عند القضاء باجتهاده. كما فعل عُمر وعُثمان. فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمَّة ومصالحها، وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38] واشترطها في أمر العائلة فقال: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما} [البقرة: 233]. فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها: وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد، ومصالح الأمَّة. واختلف العلماء في مدلول قوله: {وشاورهم} هل هو للوجوب أو للندب، وهل هو خاصّ بالرسول عليه الصلاة السَّلام، أو عامّ له ولولاة أمور الأمَّة كلّهم. فَذهب المالكية إلى الوجوب والعموم.
قال ابن خُوَيْز منداد: واجب على الولاة المشاورة، فيُشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب، ويشاورون وجوه النَّاس فيما يتعلَّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها. وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنَّها سبب للصّواب فقالَ: والشورى مِسبار العقل وسبب الصّواب. يشير إلى أنَّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمَّة، وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب. وقال ابن عطية: الشورى من قواعد الشَّريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وهذا ما لا اختلاف فيه. واعتراض عليه ابن عرفة قوله: فعزله واجب ولم يعترض كونَها واجبة، إلاّ أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازماً به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه، يعني ولا يزيد تركُ الشورى على كونه تركَ واجب فهو فسق. وقلت: من حفظ حجَّة على من لم يحفظ، وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التَّشريع إلاّ لدليل. وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب، ولتقتدي به الأمّة، وهو عامّ للرسول وغيره، تطييباً لنفوس أصحابه ورفعاً لأقدارهم، وروى مثله عن قتادة، والرّبيع، وابن إسحاق. وردّ هذا أبو بكر أحمدُ بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجَصّاص بقوله: لو كان معلوماً عندهم أنَّهم إذا استَفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمَّا سُئِلُوا عنه، ثُمّ لم يكن معمولاً به، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم، بل فيه إيحاشُهم فالمشاورة لم تفد شيئاً فهذا تأويل ساقط.
وقال النووي، في صدر كتاب الصلاة من « شرح مسلم»: الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار. وقال الفخر: ظاهر الأمر أنَّه للوجوب. ولم ينسب العلماء للحنفية قولاً في هذا الأمر إلا أنّ الجَصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} ): هذا يدلّ على جلالة وقع المَشُورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنَّنا مأمورون بها. ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها. ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنَّبيء صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسفيان، قالا: وإنَّما أمر بها ليقتدي به غيره وتشيع في أمَّته وذلك فيما لا وحي فيه. وقد استشار النَّبيء صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لبدر، وفي الخروج إلى أحُد، وفي شأن الأسرى يوم بدر، واستشار عموم الجيش في رَدِّ سبي هوازن. والظاهر أنَّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر، وإن كانت اجتهادية، بناء على جواز الاجتهاد للنَّبيء صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية، فالاجتهاد إنَّما يستند للأدلَّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمَّته لا يستشير في اجتهاده، فكيف تجب الاستشارة على النَّبيء صلى الله عليه وسلم مع أنَّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطأ عليه فإنَّه لا يُقرّ على خطأ باتّفاق العلماء. ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين.
قال البخاري في كتاب الاعتصام من « صحيحه»: « وكانت الأئمة بعد النَّبيء صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم، وكان القُرّاء أصحابَ مشُورة عمَرَ: كُهولاً كانوا أو شُبَّاناً، وكان وقّافاً عند كتاب الله». وأخرج الخطيب عن عليّ قال: « قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بعدَك لم يَنزل فيه قرآن ولم يسْمع منك فيه شيء قال: اجمعوا له العابِد من أمّتي واجعلوه بينكم شُورى ولا تقضوه برأي واحد» واستشار أبو بكر في قتال أهل الردّة، وتشاور الصّحابةُ في أمر الخليفة بعد وفاة النَّبيء صلى الله عليه وسلم وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بعده في ستَّة عيّنهم، وجعل مراقبة الشورى لِخمسين من الأنصار، وكان عمر يكتب لعمّاله يأمرهم بالتَّشاور، ويتمثّل لهم في كتابه بقول الشاعر (لم أقف على اسمه): خَلِيلَيّ ليسَ الرأيُ في صَدرِ واحد *** أشِيرا عَلَيّ بالَّذِي تَرَيَــانِ. هذا والشورى ممَّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]، إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه، ولمَّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين. ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السَّلام فيما حكى الله عنه بقوله: {فماذا تأمرون} [الأعراف: 110].
واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله: {قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} وإنَّما يلهي النَّاس عنها حبّ الاستبداد، وكراهية سماع ما يخالف الهوى، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق. قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس: الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحداً رضِي الاستبداد إلاّ رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكلا الرجلين فاسق...
وقوله: {فإذا عزمت فتوكل على الله} العزم هو تصميم الرأي على الفعل وحُذف متعلَّق (عزمت) لأنَّه دلّ عليه التفريع عن قوله: {وشاورهم في الأمر}، فالتقدير: فإذا عزمت على الأمر. وقد ظهر من التفريع أنّ المراد: فإذا عزمت بعد الشورى أي تبيّن لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تَنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأياً آخر لاح للرّسول سدادُه فقد يَخْرج من آراء أهل الشورى رأي، وفي المثل: « مَا بَيْنَ الرأيَيْن رأي».
وقوله: {فتوكل على الله} التوكُّل حقيقته الاعتماد، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله، وهو شأن أهل الإيمان، فالتوكّل انفعال قلبي عقلي يتوجّه به الفاعل إلى الله راجياً الإعانة ومستعيذاً من الخيبة والعوائق، وربَّما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك. وبذلك يَظهر أن قوله: {فتوكل على الله} دليل على جواب إذَا، وفَرع عنه، والتقدير: فإذَا عزمت فَبَادر ولا تتأخّر وتَوكَّل على الله، لأنّ للتأخّر آفاتٍ، والتردّد يضيّع الأوقات، ولو كان التَّوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأنّ الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه، فإنّ القصد منها العمل بما يتضّح منها، ولو كان المراد حصول التوكّل من أوّل خطور الخاطر، لما كان للأمر بالشورى من فائدة. وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التَّوكل الَّذي حرَف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه، فأفسدوا هذا الدين من مبناه. وقوله: {إن الله يحب المتوكلين} لأنّ التوكّل علامة صدق الإيمان، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته، واعتقادُ الحاجة إليه، وعدم الاستغناء عنه وهذا، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبَّه الله...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين159 إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون160}
بين سبحانه حال المؤمنين قبيل المعركة في غزوة أحد، وبعدها، وفي أثنائها وما أصابهم من غم، ثم بين سبحانه دواء أسقامهم، ودعاهم إلى استئناف الجهاد، وإن يكونوا قد مسهم قرح، فقد مس القوم قرح مثله، وقد بين سبحانه أسباب الهزيمة ليتوقوها، فإن الغلط الذي يعلم الصواب خير، وليس بشر، ولقد بين بعد ذلك سبحانه حال النبي صلى الله عليه وسلم في القيادة الحكيمة، وما اتبعه وما تحلى به، وأمره سبحانه وتعالى بالاستمرار عليها، فبين سبحانه ان القيادة الحكيمة تكون مع العزيمة رحيمة، ومع استقبال الأحداث بقوة تكون خالية من الفظاظة والقسوة، وتلتزم الصفح عن الخطأ ليعتزموا الصواب، والاستغفار من الذنب لتجدد التوبة،
ولذا قال تعالى في حال النبي صلى الله عليه وسلم، وما انبعث منه في موقفه يوم أحد، فقال تعالت كلماته: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
"الباء "هنا باء السببية، و"ما "زائدة في الإعراب، ولكنها في المعنى لتقوية معنى الرحمة، والمعنى: بسبب رحمة أي رحمة عظيمة فياضة أفاضها المولى العلي القدير كنت لينا معهم في كل أحوالك، وكنت لينا لهم بعد الأخطاء التي وقعوا فيها، والكارثة التي نتجت عن مخالفتك، فما لمتهم، ولا عنفتهم بل سكت حيث رأيت ما أصابهم من غم أستغرقهم، وحزن استولى عليهم، ولقد شكر الله سبحانه وتعالى لنبيه ذلك اللين؛ إذ لم يؤاخذهم، ولم يفرط في القول معهم؛ لأن اللوم على الماضي ييئس النفس من غير جدوى، وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه، وبمقدار ما يجنبه خطأ وقع فيه، وبمقدار ما يحفز همة من معه، ويشحذ عزيمتهم، وإن المبالغة في اللوم على ما وقع في الماضي يلقى باليأس، وفي اليأس الهزيمة، واليأس والقنوط إسراف على النفس بالهموم، ولا نجاح لمن في هم دائم، وحزن واصب، فكان لين النبي صلى الله عليه وسلم معهم في هذه الآلام التي أصابتهم كالبلسم الشافي لأسقامهم، والقائد الماهر الحكيم يجب أن يجمع إلى العزيمة القوية الموجهة إلى العمل البشر ولين العريكة، وتسهيل الخروج من أوضار الخطأ، حتى لا يعنتهم ولا يبهظهم، وحسبهم ما أصابهم، وإن الشدة في مثل هذه الأحوال والغلظة في القول والعمل تنفر ولا تجمع، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله: {ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
وهذا النص الكريم يثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم ليس فظا ولا غليظا ولا قاسيا؛ لأن (لو) تدل على نفي الجواب لنفي الشرط، والمعنى انك لست فظا ولا غليظ القلب، وهذا هو الذي يتفق مع صفات النبوة والقيادة الحكيمة الرشيدة الهادية الموجهة على أمثل الطرق الجامعة للقلوب، لأنك لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. والفظاظة خشونة المظهر، والعشرة السيئة، وسوء القول، وتجهم الوجه؛ وغلظ القلب قسوته، وقد نفى الله سبحانه وتعالى عن نبيه الغلظة في المظهر والباطن، فالغلظة في المظهر هي الفظاظة، والغلظة في الباطن قسوة القلب وكلا الوضعين من شانه ان ينفر، ولقد قال الله تعالى في وصف نبيه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم128} [التوبة]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم باشا لطيف المعشر متسامحا رحيما لا يقسو ولا يتعنت أحدا ولا يغضب ولا يسب، وما ضرب أحدا بيده قط، وكان سهلا في معاملاته متسامحا، وكان طلق الوجه دائما، رآه أعرابي، فاسترعاه بشاشته وطلق محياه فقال له: أأنت الذي تقول عنه قريش إنه كذاب؟ والله ما هذا الوجه بوجه كذاب!. وأسلم إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد وصف عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى اله عليه وسلم، فقال (إنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح). وكان عليه الصلاة والسلام لا يثير غيظه شيء، ويداري الناس إلا أن يكون في المداراة حق مضيع، ولقد روت عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض".
وإذا كانت الغلظة منفرة فالعفو جامع، ولذلك امر الله تعالى نبيه الكريم بما يترتب على الرفق والبشاشة، وهو العفو فقال: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}.
الفاء هنا تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي انه يترتب على اتصافك بالعفو والرحمة والبشاشة، والبعد عن الفظاظة وغلظ القلب ان تكون عفوا، ولذا امره سبحانه بالعفو عن المخالفة التي وقعوا فيها، وترتب عليها ما ترتب من هزيمة وفوات فرصة، وإن العفو في هذه الحال ليس للرحمة فقط، بل هو للمصلحة أيضا؛ لأنه يشحذ العزائم، إذ هو يقيل من العثرة،و ويرفع من الكبوة، وعندئذ تستقيم القلوب نحو الحق، كما قامت الأجسام بعد الوقوع.
وأمره سبحانه بأن يستغفر لهم، بأن يطلب من الله ان يغفر لهم ما أساءوا، وأن يغفر هو لهم هذا الخطأ، وإن في استغفاره الله تعالى لهم، وإعلانه ذلك الاستغفار بينهم تأكيدا لعفوه، وتشجيعا، وضراعة إليه سبحانه ان يجعل حاضرهم وقابلهم خيرا من ماضيهم الذي أخطئوا فيه.
وقد أمر نبيه بأمر ثالث، وهو أن يشاورهم، وإن المشاورة من بعد ما كان منهم دليل على عفو النبي صلى الله عليه وسلم بعد الله تعالى وغفرانه؛ لأن مما اخطئوا فيه في الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم شاورهم في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أحد، وانه كان يميل إلى البقاء حتى يدخلوا المدينة، وشبابهم كان يريد الخروج، فنزل عليه الصلاة والسلام عند رأيهم، ثم كان ما كان منهم من أن طائفتين همتا بأن تفشلا، ثم ما كان من خروج الرماة عن مواقفهم، ولو بقوا في المدينة ما وقع هذا، ولكن الله سبحانه مع ذلك أمره بمشاورتهم للإعلان عن سماحته المطلقة، ولأن المشاورة إن أخطأت فيها النتيجة مرة، فصوابها كثير.
والشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، قد التزمها النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمر كان يمس أمور المسلمين العامة؛ فقد استشار في غزوة بدر قبل وقوعها، واستشار في الأسرى غب وقوعها، واستشار في أحد، واستشار في غزوة الأحزاب، وكان من نتائج الشورى حفر الخندق والتحصن وراءه، واستشار في القتال يوم الحديبية، والتزم أبو بكر ومن بعده عمر الشورى، وما اضطرب حبل الأمور من بعد إلا عندما منعت امر الشورى.
والأمر الذي وجه للنبي صلى الله عليه وسلم في الشورى قال بعضهم إنه أمر إلزام، وقال آخرون إنه بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس أمر إلزام، بل طلب استحباب، ولكن الأكثرين على أنه أمر إلزام، بدليل التزام النبي صلى الله عليه وسلم للمشاورة في كل أمر يمس مصلحة المسلمين في السلم او في الحرب، ولم يكن تبليغا لرسالة ربه؛ وإن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تعليم لنا.
ومن المتفق عليه أن الشورى لازمة بالنسبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال تعالى: {وأمرهم شورى بينهم...38} [الشورى] أي الأمر الجامع للمسلمين يكون بالشورى وتبادل الآراء، والتعاون والإخلاص في القول، ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". والنصيحة لعامة المؤمنين هي بالشورى التي تبدى فيها الآراء لله وحده، لا لشيء سواه، ولا لطلب الجاه عند الناس. ولقد قال البخاري:"وكان الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها".
ومع اتفاق الفقهاء على أن الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام، لم نجد نصا قرآنيا وضع منهاجا لها، ولم نجد النبي صلى الله عليه وسلم وضح أسسها وطرائقها، نعم إنه كان يستشير من معه من اهل المدينة، وكذلك كان يفعل الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلماذا لم يبين ذلك في كتاب ولا سنة؟ والجواب عن ذلك أن مناهج الشورى تختلف باختلاف الجماعات وباختلاف الأحوال، وباختلاف الموضوعات ولا يوجد نظام ضابط لكل ذلك، بل ترك سن النظام للناس، ولا بد أن يتحقق معنى الشورى في النظام على أن يكون أهل الشورى من ذوي العلم والخبرة، ففي أمور الحروب يستشار أهل الحرب، وفي أمور القانون يستشار الفقهاء والمشرعون، وفي أمور العمران يستشار أهل الهندسة، ولذلك تتألف اللجان في المجالس النيابية من أهل الخبرة في كل أمر من أمور العامة.
وفي الجملة فإن الشورى مطلب كالعدل، يجب تحققه من اقرب الوسائل إليه توصيلا، ولقد جاء في تفسير القرظي ما نصه:
" والشورى بركة، وقال عليه الصلاة والسلام:"ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار" وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما شقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي".
وإنه يجب أن نعلم حقيقتين ثابتتين:
أولاهما: إن الشورى إحساس نفسي من الحاكم يدفعه إلى طلب أمثل الطرق للحكم وتحقيق العدالة والمصلحة، فإن لم يكن في الحاكم ذلك الخلق، فإنه لا ينتفع بأي نظام للشورى مهما يكن، وإذا لم يكن المستشار يحس بأن إبداء القول في الشورى واجب عليه وليس مجرد حق له فإنه لا يمكن أن يكون من رجال الشورى.
ثانيهما: أنه لا يعادي الشورى من الحكام إلا أحد اثنين؛ إما رجل قد أصابه داء الغرور، فظن أن قوله الحق الذي لا يخالطه باطل، وإما رجل يخاف من اطلاع الناس حتى لا يظهر شيء من أموره.
والمشاورة لها وقت معلوم، وهو وقت الدراسة والفحص، فإذا تمت المشاورة وجب الأخذ بالعزيمة في الأمر والإقدام على العمل؛ ولذا قال سبحانه بعد الأمر بالشورى: {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.
العزيمة: عقد النية على إتمام الأمر بعد الاستشارة، والنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لتحقق العزم سبق الاستشارة فاعتبر الشورى ركنا من أركان العزم، فقد سئل صلى اله عليه وسلم عن العزم، فقال:"مشاورة اهل الرأي ثم أتباعهم". وفي النص القرآني الكريم، والحديث النبوي الشريف إشارة إلى أنه بعد تعرف كل وجوه الرأي يكون الاعتزام ثم يكون العمل، ولا يصح أن تكون مشاورة أخرى بعد الدراسة العميقة السابقة إلا إذا جد أمر لم يكن في الحسبان ولم يكن في تقدير الذين استشيروا أولا فإنه يعاد النظر إليهم، وفي غير هذه الصورة تكون العودة إلى الاستشارة ترددا يدعو إلى الهزيمة والاضطراب، ولا يصح أن يكون التعصب لرأي إذا لم يؤخذ به باعثا على إعادة النظر، فإن ذلك استبداد من أصحاب هذا الرأي، وفوضى في الشورى؛ لأن ما يعتزم من آراء بعد الشورى هو رأي الجميع، ويجب أن يفنى معه كل رأي معارض وإن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه في غزوة أحد كان يرى البقاء في المدينة حتى يجيئ إليها المشركون فيضيعوا في طرقها وأزقتها، وتكون الدور حصونا يرمون منها ولكن الكثرة رأت غيره، فنزل على رأيها، وأمضى الأمر، ولما وجدت حركة تدعو إلى رأيه وتكونت له كثرة، قال الرسول الحازم الرشيد:"لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها، حتى يحكم الله" واللأمة: الدرع أو السلاح.
ولقد أمر سبحانه وتعالى بالتوكل بعد المشاورة وأخذ الأهبة، وأن يكون التوكل مصاحبا للعزيمة والإقدام على العمل، وإن ذلك يستفاد منه أن التوكل على الله تعالى حق التوكل لا بد أن يقترن بالعمل، وأن يسبقه دراسة للموضع من كل نواحيه، وإن التوكل بعد ذلك أمر لا بد منه؛ لأن العلم بالحق الأمثل من المناهج والعمال عند علام الغيوب، فمهما يكن علم الإنسان فهو ناقص، فالتوكل عليه سبحانه فيه معنى الشعور بالنقص الإنساني مهما يظهر كماله، ولأن الله تعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو القادر على تغييرها، أو جعل الأمور على غير ما توجبه أسبابها، فالتوكل عليه ضراعة وإحساس بالكمال المطلق لله تعالى وقدرته الشاملة الكاملة على كل مل خلق، وإن عدم التفويض مع العمل غرور من الإنسان، واستعلاء بغير سبب، وإنه مهما يدبر الإنسان فقد يخطئه التنفيذ كما كان في غزوة أحد.
ويجب أن نقرر هنا حقيقتين:إحداهما: أن قدرة الله تعالى واضحة في نتائج الأفعال، فعليه المعتمد. ألم تر إلى رجلين يبذران بذرا، ويلقيانه في قطع متجاورات من الأرض، ويأتي الله لأحدهما بأبرك الثمرات، والآخر تأكل الآفات زرعه وكلاهما احتاط واخذ بالأسباب. والثانية: أن الاتكال على الله تعالى ذكر لله، فتطمئن القلوب ويذهب الخوف والجزع ويكون الإقدام.
ولهذه المعاني النفيسة العالية في التوكل الحق صرح بحب المتوكلين المولى العلي القدير فقال تعالت كلماته: {إن الله يحب المتوكلين} وأي منزلة أعلى في الوجود من هذه المحبة التي تتضمن الرضا، ورضوان الله اكبر من كل شيء، فكيف تكون محبته، والمتوكل على الله حق توكله قد تسامى بنفسه عن أعلاق الأرض، ودرج بنفسه في مدراج الروحانية؛ لأنه اعتبر إرادته وعزيمته وتدبيره وعمله ليست بشيء بجوار قدرة الله.
إن الآية كما نرى تبدأ بكلام إخباري هو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}. فكأنه -سبحانه- يريد أن يقول: إن طبيعتك يا محمد طبيعة تتناسب لما يطلب منك في هذه المسألة، هم خالفوك وهم لم يستجيبوا لك حينما قلت: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله إني رسول الله، وهذا شيء يٌحْفِظ ويُغضِب. ولكنه لا يُحفِظ طبيعتك ولا يُغضب سجيتك لأنك مفطور مع أُمّتك على الرحمة. فكأنه يريد أن يُحنن رسول الله على أمته التي أصابته بالغم؛ فقال له: إياك أن تجازيها على هذا؛ لأن طبيعتك أنك رحيم، وطبيعتك أنك لست فظاً، طبيعتك أنك لست غليظ القلب، فلا تخرج عن طبيعتك في هذه المسألة... {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} أي بأي رحمة أودعت فيك. ساعة تقول: بأي رحمة فأنت تبهم الأمر، وعندما تُبهم الشيء فكأنه شيء عظيم...
{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لماذا؟ لأنك تُخرجهم عما ألفوا من أمور الجاهلية. والذي يخرج واحدا عما ألِف لا يصح أن يَجْمَع عليه إخراجه عما اعتاد بالأسلوب الخشن الفظ؛ لأنه في حاجة إلى التودد وإلى الرحمة، لا تجمع عليه بين أمرين تقبيح فعله، وإخراجه عما ألف واعتاد، ولذلك يقولون للذي ينصح إنسانا، النصح ثقيل؛ لأن النصح معناه تجريم الفعل في المنصوح، فعندما تقول لواحد: لا تفعل هذا، ما معناها؟ معناها أن هذا الفعل سيء، فما دمت تُجِرّم فعله فلا تجمع عليه أمرين، إنك قبحت فِعْله وأخرجته مما أَلِف، وبعد ذلك تنصحه بما يكره لا، إنه في حاجة إلى ملاطفة وملاينة لتستل منه الخصال القبيحة، ونحن نستعمل ذلك في ذوات أنفسنا حين نجد مرضا يحتاج إلى علاج مر، فنغلف العلاج المر في غلاف من السكر بحيث يمر من منطقة الذوق بلا ألم أو نغص، حتى ينزل في المنطقة التي لا تحس بهذه المرارة؛ لأن الإحساس كله في الفم. فإذا كنتم تفعلون ذلك في الأمور المادية، فلا بد إذن أن نطبق ذلك أيضا في الأمور المعنوية، ولأن النُصح ثقيل فلا تجعله جدلا ولا ترسله جبلا، وخِفة البيان تؤدى عنك بدون إثارة أو استثارة، وبلطف يحمل على التقبل... {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} إذن فبالرحمة لِنت لهم وبلين القول تبعوك وألفوك وأحبوك...
إن الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} و {عَزَمْتَ} تقتضي عزيمة، والتوكل يقتضي إظهار عجز، فمعنى أني أتوكل على الله أنني استنفدت أسبابي، ولذلك أرجع إلى من عنده قدرة وليس عنده عجز، وهذا هو التوكل المطلق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ويكون معنى الآية: أي بسبب الرحمة التي رحم اللّه بها المسلمين الذين اتبعوك وآمنوا بك، وما أودعه في شخصيتك الرسالية من محبة لهم وانفتاحٍ على قضاياهم وإحساسٍ بالمسؤولية في تثبيتهم على الخطّ الإيماني والتزامهم به، وفي إبعادهم عن حالة الاهتزاز النفسي التي قد تحرّكها في الذات الأجواء السلبيّة، التي قد تسيطر عليها من خلال ردود الفعل على قسوة هنا وغضبٍ هناك، وتشنج من الداعية في بعض المواقع، [لِنتَ لهُم] فكنت الرقيق في أسلوبك وكلامك معهم وخطابك لهم، والرّقيق في نبضات قلبك أمام آلامهم وأحلامهم ومشاكلهم، والمتسامح معهم إذا أخطأوا، والمتساهل معهم إذا خالفوا تعاليمك.. وذلك هو سرّ العظمة في أخلاقه النبوية وروحيته الإنسانية وسلوكيته الإسلامية التي تعمّق إحساس النبيّ بالآخرين في خطّ الانتماء، وانفتاح الإنسان على النَّاس الذين يلتقي بهم في الخطّ الفكري والعملي، لتأكيد الانتماء والعلاقة القوية وحركية المسلم الداعية في تقوية روحية المسلمين في مواقع الصراع. [ولو كنت فظّا] أي فظّ اللسان والطباع، خشن المعاملة، سيّئ الخلق، [غليظ القلب] في قسوة الإحساس الداخلي في خفقاته ونبضاته بالطريقة السلبيّة، [لانفضُّوا من حولك] أي لتفرّقوا عنك، لأنَّ النَّاس يبتعدون عن أيّ شخص يغلق قلبه عنهم، ويقسو في المعاملة معهم، ويضغط بالخلق السيئ على مشاعرهم، لأنَّ النفس مجبولة على النفور ممن يسيء إليها، كما هي مجبولة على حبّ من أحسن إليها. وهكذا كنت يا محمَّد تمثِّل الرَّسول القائد الذي ينطلق بروحية الرسالة وعفوية الإنسانية لاحتضان النَّاس الذين اتبعوه وعاشوا معه، كوسيلة من وسائل تأكيد قوّة الرسالة في جمهورها والتزام جمهورها بقيادتهم الحكيمة الحميمة. المسلمون وعفو الرَّسول عنهم: ولا بُدَّ للرَّسول في الدعوة، وللداعية في وعيه للعمل، من أن يعيش الأجواء الواقعية للمسلمين في ما يقعون فيه من الأخطاء، أو يتأثرون به من الانحرافات، أو يخضعون له من الضغوط الخاصّة والعامّة، انطلاقاً من حركة الصراع في داخل النفس التي قد تؤدّي إلى الحقّ، وقد تقع في قبضة الباطل، وذلك بإفساح المجال لهم للتراجع عن الخطأ، والاستقامة في مواقع الانحراف، والرجوع إلى الحقّ في مواطن الباطل... بالابتعاد عن الإيحاء الدائم بذلك كعقدةٍ مستعصيةٍ غير قابلة للحلّ، أو كجريمةٍ غير خاضعة للعفو، فلا بُدَّ من إعطاء المجال للعفو عن كلّ ذلك والمغفرة للفاعلين، للإيحاء لهم بأنَّ الخطيئة ليست ضريبة مفروضة على الإنسان، وأنَّ الانحراف ليس قَدَر الإنسان في حركته في الحياة، بل يمكن له أن يتحرر من هذه أو ذاك في عمليّة تجديد الشخصية في خطّةٍ روحيّة فكريّة عمليّة، تحتوي كلّ أوضاع الإنسان في كلّ ما يقوله وما يفعله، وهذا ما أراد اللّه سبحانه أن يثيره أمام رسوله: [فاعفُ عنهم واستغفر لهم] داعياً له إلى العفو عن المسلمين الذين يخطئون في حالة السلم وفي حالة الحرب في ما يتعلّق بحقوقه كرسول وقائد وحاكم... وإلى الاستغفار لهم في ما يتعلّق بحقوق اللّه من ترك طاعته والإقبال على معصيته، ليستقيم لهم الطريق من جديد، وتتحرّك الطاعة في حياتهم على طريق اللّه. وشاورهم في الأمر:
[وشاورهم في الأمر] وهذا توجيه عمليّ آخر يوجّه به اللّه رسوله، ويوجّه الأمّة من خلاله، وهو مبدأ المشاورة في الأمور التي تمسّ حياتهم وحياة الإسلام بشكلٍ عام في ما يريد أن يقوم به الرَّسول من عمل، أو يقرّره من قرار، أو يخطّط له من وسائل وأهداف في حالة السلم وفي حالة الحرب، ليحقّق من خلال ذلك أمرين تربويين عمليين في حركة العاملين في الحياة:
الأوّل: التخطيط للسلوك الفردي والاجتماعي على أساس الابتعاد عن الاستبداد بالرأي في اتخاذ المواقف الحاسمة والقرارات المصيريّة، والتأكيد على أن يرجع الإنسان إلى فكر الآخرين الذين يملكون الفكر السليم، فيحاورهم ويناقشهم ويستثيرهم في كلّ خطوةٍ من خطوات العمل، ثُمَّ يرجع إلى فكره ليُقارن بين الآراء ويدرس كلّ واحدٍ منها بمفرده بهدوء وموضوعية، لينتهي إلى النتيجة الأخيرة بطريقةٍ فكريّة سليمة، فيعمل على أساسها بقوّة وثبات.
الثاني: إعداد الأمّة التي تمثِّل القاعدة الواسعة لتفكّر مع القيادة في كلّ ما تريد القيادة أن تقوم به من خططٍ ومشاريع، لتعرف من موقع الفكر كيف يكون التحرّك وأين تقع الوسيلة من خطّ الهدف، فتتابع القرارات من بدايتها بوعي وتأمّلٍ وتركيز، وتتدرّب بذلك على ممارسة الدور القيادي في المرحلة الفكرية، من أجل أن تعدّ نفسها لاستلام القيادة في حالات الفراغ بكفاءةٍ وقدرةٍ على اتخاذ القرارات وتخطيط المواقف، وتتعلّم كيف تراقب خطوات القيادة غير المعصومة، أو ترصد قراراتها، لئلا تنحرف أو تغفل أو تخون، فتكون بالمرصاد لها من بداية الطريق، قبل أن تتعقّد المشكلة ويستفحل الأمر في نهايته، وبذلك يصعب على القيادات المنحرفة التي قد تفرض نفسها على الساحة في المستقبل، أن تُمارس حريتها في التلاعب بمقدرات الأمّة واللعب على عواطفها ومشاعرها بالكلمات المبهمة، لأنَّ الأمّة قد أعدّت لترصد الحكم في عمليّة محاكمة ومناقشة على أساس تحصيل القناعة من قاعدة الحجّة والبرهان المتمثّل بحركة الحوار الفكري. وتلك هي عظمة التربية الإسلامية التي توحي للقادة، وإن كانوا في مستوى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الذي لا يحتاج إلى فكرٍ أحد، بأن يبحثوا عن القاعدة التي تفكّر وتقتنع لتطيع من خلال ذلك، لا عن القاعدة التي تطيع من دون فهم ووعي، وذلك كوسيلة مُثلى من وسائل التحضير العملي لقيادات المستقبل من بين أفراد القاعدة.
الآية وعلاقتها بالشورى في الحكم:
وقد أثار الكثيرون من المفكّرين الإسلاميين في حديثهم عن هذه الفقرة من الآية، موضوع الشورى وعلاقتها بشرعيتها كأساسٍ للحكم الإسلامي، فرأوا في هذه الآية قاعدة التشريع التي توحي للرَّسول صلى الله عليه وسلم وللأمّة من خلاله، بأن يعتمد الشورى كأساس للقضايا العامّة، ليكون ذلك دستوراً عملياً شاملاً، حتّى في الحالات التي لا تحتاج فيها القيادة إلى ذلك، كما في حالة وجود إمام معصوم. ولكنَّنا لا نستطيع أن نوافق على إخضاع الآية لهذه الفكرة، فإنَّنا لا نلمح فيها مثل هذا الجوّ، فقد وردت في الحديث عن السلوك العملي للرّسول صلى الله عليه وسلم مع المسلمين كوجهٍ للصورة الإنسانيّة الإسلاميّة التي تتمثّل فيها إنسانية الرسالة وواقعيتها في ما يعيشه الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه من الرحمة في رقّة القلب ولين الكلمة، وفي ما يريد اللّه له أن يعيشه معهم من العفو عنهم والاستغفار لهم إذا أخطأوا، ومن استشارتهم في الأمر كأسلوب من أساليب تأكيد اهتمامه بهم وتقديره لهم، وإعدادهم من خلال ذلك للمستقبل ليعتادوا على التفكير في الأمور، ولم تتحدّث الآية الكريمة عمّا تفرضه الاستشارة من مسؤوليات على المستشير إذا لم يقتنع بالرأي المشار به، كما هو المفروض في ما تقتضيه فكرة الشورى في اعتبارها قاعدة لشرعية الحكم في الدولة الإسلامية من حيث الإلزام للأمّة بما تفرضه من قرارات وما تستتبعه من التزامات... بل ربَّما نستوحي من الفقرة التالية [فإذا عزمت فتوكَّل على اللّه] أنَّ الاستشارة لا تفرض شيئاً، بل القضية هي إرادة الإنسان وعزمه المنطلق من قناعته بعد الاستشارة، سواء كانت منسجمة معها أو غير منسجمة. ويؤكّد هذا المعنى، أو يوحي به، بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال، فقد جاء في بعضها: لما نزلت [وشاورهم في الأمر] قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أما إنَّ اللّه ورسوله لغنيّان عنها، ولكن جعلها اللّه تعالى رحمةً لأمّتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً...
ولا تقتصر مسألة الشورى على الدائرة القيادية، بل تمتد إلى الواقع العام للنَّاس لأنَّها من المسائل الحيّة التي تكفل لهم المزيد من الانفتاح على بعضهم البعض في موقع الفكر المشترك في كلّ قضاياهم، كما تمنع الكثير من الزلل الذي يقع فيه المستبدون من خلال استبدادهم في إدارة أمورهم، ولذلك اعتبرها الإسلام عنواناً من عناوين المجتمع الإسلامي في قوله تعالى: [فإذا عزمت فتوكّل على اللّه] فإنَّ المؤمن ينطلق في حياته من موقع العزم المرتكز على الفكر الذاتي والاستشارة، لدراسة كلّ الجوانب المحيطة بالموضوع، حتّى إذا استكمل كلّ الأسباب الموضوعية للقرار، أعطى الموقف قوّة الإلزام من إرادته، وتحرّك نحو الهدف متوكلاً على اللّه غير خائفٍ من الطوارئ التي تعيش في أجواء الغيب المجهول، لأنَّ الثقة باللّه تدفع الإنسان إلى الثقة بالموقف، فإنَّ اللّه قد تكفّل لعبده المتوكل عليه بأن يكفيه ما أهمّه مما لم يحتسبه من أوضاع إذا أعدّ كلّ ما يحتسبه من أسباب ومؤثرات، وذلك هو معنى التوكل في ما يجمعه من واقعية النظرة إلى الساحة، وغيبيّة الاستسلام للمستقبل المجهول بالاعتماد على اللّه،] إنَّ اللّه يُحبُّ المتوكِّلين [لأنَّهم يمثِّلون في توكلهم عليه، قوّة الثقة به والاعتماد عليه، وينطلقون من سنّته الحكيمة إلى الكون في ما أراده من توفير الوسائل للحركة من خلال ما أودعه في الحياة من ذلك كلّه... وبذلك يخلصون له بالإخلاص لسننه، وبالإخلاص العميق لقدرته التي تحمي الإنسان من كلّ مفاجآت المجهول...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآية وإن كانت تتضمن سلسلة من التعاليم الكلية الموجهة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتشتمل من حيث المحتوى على برامج كلية وأساسية، ولكنها من حيث النزول ترتبط بواقعة «أُحد» لأنه بعد رجوع المسلمين من «أُحد» أحاط الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهروا له الندامة من فعلتهم وموقفهم، وطلبوا منه العفو.
فأصدر الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بأن يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئهم ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب.
إذ قال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) ولقد أشير في هذه الآية قبل أي شيء إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم، وخلوه من الفظاظة والخشونة.
«الفظَّ» في اللغة هو الغليظ الجافي الخشن الكلام، و «غليظ القلب» هو قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة، ولا يحس منه لين.
وهاتان الكلمتان وان كانتا بمعنى واحد هو الخشونة، إلاّ أن الغالب استعمال الأُولى في الخشونة الكلامية، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم من لين ولطف تجاه المذنبين والجاهلين.
ثمّ إنه سبحانه يأمر نبيه بأن يعفو عنهم إذ يقول: (فاعف عنهم واستغفر لهم).
وهذا الكلام يعني أنه سبحانه يطلب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتنازل عن حقه لهم إذ تفرقوا عنه في أحلك الظروف، وسببوا له تلك المصائب والمتاعب في تلك المعركة، وأنه يشفع لهم لدى نبيه بأن يتجاوز عنهم، وأن يشفع هو بدوره لهم عند الله ويطلب المغفرة لهم منه سبحانه.
وبتعبير آخر أنه سبحانه يطلب من نبيه أن يعفو عنهم فيما بينه وبينهم، وأما ما بين الله وبينهم فهو سبحانه يغفر لهم ذلك. وقد فعل الرسول الكريم ما أمره به ربه وعفى عنهم جميعاً.
ومن الواضح أن هذا المقام كان من الموارد التي تتطلب حتماً العفو والمغفرة، واللطف واللين، ولو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل غير ذلك لكان يؤدي ذلك إلى انفضاض الناس من حوله، وتفرقهم عنه، إذ أن الجماعة رغم أنها أُصيبت بالهزيمة النكراء، وتحملت ما تحملت من القتلى والجرحى، وكانوا هم السبب في ذلك، إلاّ أنهم أحوج ما يكونون إلى العطف واللطف وإلى اللين والعفو، وإلى البلاسم التي تبل جراحاتهم، وإلى المراهم التي تهدئ خواطرهم، حتّى يتهيؤوا بعد شفائها واستعادة معنوياتهم إلى مواجهة أحداث المستقبل، وتحمل المسؤوليات القادمة.
إن في هذه الآية إشارة صريحة إلى إحدى أهم الصفات التي يجب توفرها في أية قيادة، ألا وهي العفو واللين تجاه المتخلفين التائبين، والعصاة النادمين، والمتمردين العائدين، ومن البديهي أن الذي يتصدى للقيادة لو خلى عن هذه الخصلة الهامة، وافتقر إلى روح السماحة، وافتقد صفة اللين، وعامل من حوله بالخشونة والعنف والفظاظة فسرعان ما يواجه الهزيمة، وسرعان ما تصاب مشاريعه وبرامجه بنكسات ماحقة، تبدد جهوده، وتذري مساعيه أدراج الرياح، إذ يتفرق الناس من حوله، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسؤولياتها الجسيمة، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين مشيراً إلى هذه الخصلة القيادية الحساسة «آلة الرياسة سعة الصدر».
بعد إصدار الأمر بالعفو العام يأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يشاور المسلمين في الأمر ويقف على وجهات نظرهم، وذلك إحياءاً لشخصيتهم، ولِبث الروح الجديدة في كيانهم الفكري والروحي اللذين أصابهما الفتور بعد الذي حدث.
على أن هذا الأمر للنبي بمشاورة المسلمين إنما هو لأجل أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أسلفنا قد استشار المسلمين قبل الدخول في معركة «أُحد» في كيفية مواجهة العدو واستقر رأي الأغلبية منهم على التعسكر عند جبل «أُحد» فكان ما كان من المكروه ووقع ما وقع من البلاء، وهنا كان كثيرون يتصورون بأن على النبي أن لا يشاور بعد ذلك أحداً، وأن عليه أن يتصرف كما يرى هو، ولكن القرآن الكريم جاء يرد على هذا التصور، ويجيب على هذا النوع من التفكير ويأمر النبي بأن يعيد المشاورة إذ يقول (وشاورهم في الأمر) لأن المشاورة وإن لم تنفع في بعض المواضع، فإنها نافعة على العموم، بل إن نتائجها المفيدة الكثيرة لو قيست إلى بعض النتائج السلبية وغير المفيدة تبدو أكثر إضعافا كما وأن أثرها في صياغة الأفراد والجماعات وإنماء شخصيتهم من الأهمية بحيث يغطي على نقاط ضعفها، بل هو أبرز آثارها وأهم فوائدها الذي لا يمكن ولا يجوز التغاضي عنه.
والآن نرى في أي المواضيع كان يشاور الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه؟
صحيح أن كلمة «الأمر» في قوله تعالى (وشاورهم في الأمر) ذات مفهوم واسع يشمل جميع الأُمور، ولكن من المسلم أيضاً أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشاور الناس في الأحكام الإلهية مطلقاً، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط.
وعلى هذا الأساس كانت المشاورة في كيفية تنفيذ التعاليم والأحكام الإلهية على أرض الواقع.
وبعبارة أخرى: إن النبي لم يشاور أحداً في التقنين، بل كان يشاور في كيفية التطبيق ويطلب وجهة نظر المسلمين في ذلك.
ولهذا عندما كان يقترح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً أحياناً بادره المسلمون بهذا السؤال: هل هذا حكم إلهي لا يجوز إبداء الرأي فيه، أو أنه يرتبط بكيفية التطبيق والتنفيذ؟ فإذا كان من النوع الثاني، أدلى الناس فيه بآرائهم، وأما إذا كان من النوع الأول لم يكن منهم تجاهه سوى التسليم والتفويض.
ففي يوم بدر جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال «الحباب ابن المنذر»: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب والمكيدة؟ فقال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثمّ نغور ما وراءه إلى آخر ما قال... فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لقد أشرت بالرأي» وعمل برأيه.
أهمية المشاورة في نظر الإسلام:
لقد حظيت مسألة المشاورة بأهمية خاصة في نظر الإسلام، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم أنه كان يملك بغض النظر عن الوحي الإلهي قدرة فكرية كبيرة تؤهله لتسيير الأُمور وتصريفها دون حاجة إلى مشاورة أحد، إلاّ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يُشعر المسلمين بأهمية المشاورة وفوائدها حتّى يتخذوها ركناً أساسياً في برامجهم وحتّى ينمي فيهم قواهم العقلية والفكرية نجده يشاور أصحابه في أُمور المسلمين العامة التي تتعلق بتنفيذ القوانين والأحكام الإلهية (لا أصل الأحكام والتشريعات التي مدارها الوحي) ويقيم لآراء مشيريه أهمية خاصة ويعطيها قيمتها اللائقة بها، حتّى أنه كان أحياناً ينصرف عن الأخذ برأي نفسه احتراماً لهم ولآرائهم كما فعل ذلك في «أُحد»، ويمكن القول بأن هذا الأمر بالذات كان أحد العوامل المؤثرة وراء نجاح الرسول الأكرم في تحقيق أهدافه الإسلامية العليا.
والحقّ أن أية أُمة أقامت إدارة شؤونها على أساس من الشورى والمشاورة، قل خطأها، وندر عثارها، على العكس من الأفراد الذين يعانون من استبداد الرأي، ويرون أنفسهم في غنى عن نصح الناصحين ورأي الآخرين فإنهم إلى العثار أقرب، ومن الصواب والرشد أبعد، مهما تمتعوا بسديد الرأي، وقوي التفكير.
هذا مضافاً إلى أن الاستبداد في الرأي يقضي على الشخصية في الجمهور، ويوقف حركة الفكر وتقدمه، ويميت المواهب المستعدة بل يأتي عليها، وبهذا الطريق تهدر أعظم طاقات الأمة الإنسانية.
ومضافاً أيضاً إلى أن الذي يشاور الآخرين في أُموره وأعماله إذا حقق نجاحاً قل أن يتعرض لحسد الحاسدين، لأن الآخرين يرون أنفسهم شركاء في تحقيق ذلك الانتصار والنجاح، وليس من المتعارف أن يحسد الإنسان نفسه على نجاح حققه، أو انتصار أحرزه.
وأما إذا أصابته نكسة لم تلمه ألسن الناس، ولم يتعرض لسهام نقدهم واعتراضهم، لأن الإنسان لا يعترض على عمل نفسه، ولا ينقد فعل ذاته، بل سيشاطرونه الألم، ويتعاطفون معه، ويشاركونه في التبعات.
كلّ ذلك لأنهم شاركوه في الرأي وشاطروه في التخطيط، ولم يكن متفرداً في العمل، ولا مستبداً في الرأي.
ثمّ إن هناك فائدة أخرى للمشاورة وهي أن المشاورة خير محك لمعرفة الآخرين، والتعرف على ما يكنونه للمستشير من حب أو كراهية، وولاء أو عداء، ولا ريب في أن هذه المعرفة ممّا يمهد سبيل النجاح، ولعلّ استشارات النبي الأكرم مع ما كان يتمتع به من قوة فكرية وعقلية جبارة كانت لهذه الأسباب مجتمعة.
من المسلم أن للمشورة أهلاً، فلا يصح أن يستشار كلّ من هب ودب، فرب مشيرين يعانون من نقاط ضعف، توجب مشورتهم فساد الأمر، وضياع الجهود، وفشل العمل، والتأخر والسقوط.
فعن علي (عليه السلام) أنه قال في هذا الصدد «لا تدخلن في مشورتك»:
بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك بالفقر.
ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور.
كما تأكد الحث في الإسلام على المشاورة فقد أكدت النصوص على المشيرين أيضاً بأن لا يألوا جهداً في النصح، ولا يدخروا في هذا السبيل خيراً، وتعتبر خيانة المشير للمستشير من الذنوب الكبيرة، بل وتذهب أبعد من ذلك حيث لا تفرق في هذا الحكم بين المسلم والكافر، يعني أنه لا يحق لمن تكفل تقديم النصح والمشورة أن يخون من استشاره، فلا يدله على ما هو الصحيح في نظره، مسلماً كان ذلك المستشير أو كافراً.
في رسالة الحقوق عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال: «وحق المستشير إن علمت له رأياً أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم، وحق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه»...