تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الأنفال وهي مدنية

1 - 4 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

الأنفال هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار ، وكانت هذه الآيات في هذه السورة قد نزلت في قصة بدر أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين ، . فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع ، فسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنها ، فأنزل اللّه يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَال كيف تقسم وعلى من تقسم ؟

قُلْ لهم : الأنفال لله ورسوله يضعانها حيث شاءا ، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله ، . بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما ، وتسلموا الأمر لهما ، . وذلك داخل في قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . .

وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أي : أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر ، بالتوادد والتحاب والتواصل . . فبذلك تجتمع كلمتكم ، ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع -من التخاصم ، والتشاجر والتنازع .

ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر ، . والأمر الجامع لذلك كله قوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله ، . كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن .

ومن نقصت طاعته للّه ورسوله ، فذلك لنقص إيمانه

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الأنفال مدنية وأياتها خمس وسبعون

بسم الله الرحمن الرحيم

نعود الآن إلى القرآن المدني - بعد سورتي الأنعام والأعراف المكيتين - وقد سبقت منه في هذه الظلال - التي نسير فيها وفق ترتيب المصحف لاوفق ترتيب النزول - سور : البقرة ، وآل عمران ، والنساء والمائدة . . ذلك أن الترتيب الزمني للنزول لا يمكن القطع فيه الآن بشيء - اللهم إلا من ناحية أن هذا قرآن مكي وهذا قرآن مدني على وجه الإجمال ، على ما في هذا من خلافات قليلة - فأما الترتيب الزمني المقطوع به من ناحية زمن نزول كل آية أو كل مجموعة من الآيات أو كل سورة ، فيكاد يكون متعذراً ؛ ولا يكاد يجد الإنسان فيه اليوم شيئاً مستيقناً - إلا في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات أو تقطع بشأنها بعض الروايات . . وعلى كل ما في محاولة تتبع آيات القرآن وسوره وفق الترتيب الزمني للنزول من قيمة ، ومن مساعدة على تصور منهج الحركة الإسلامية ومراحلها وخطواتها ، فإن قلة اليقين في هذا الترتيب تجعل الأمر شاقاً ؛ كما أنها تجعل النتائج التي يتوصل إليها تقريبية ظنية ، وليست نهائية يقينية . . وقد تترتب على هذه النتائج الظنية التقريبية نتائج أخرى خطيرة . . لذلك آثرت في هذه الظلال أن أعرض القرآن بترتيب سوره في المصحف العثماني ؛ مع محاولة الإلمام بالملابسات التاريخية لكل سورة - على وجه الإجمال والترجيح - والاستئناس بهذا في إيضاح الجو والملابسات المحيطة بالنص - على وجه الإجمال والترجيح أيضاً - على النحو الذي سبق في التعريف بالسور الماضية في هذه الطبعة الجديدة من الظلال . . وعلى هذا النحو نمضي - بعون الله - في هذه السورة . .

نزلت سورة الأنفال التي نعرض لها هنا بعد سورة البقرة . . نزلت في غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة بعد تسعة عشر شهراً من الهجرة على الأرجح . . ولكن القول بأن هذه السورة نزلت بعد سورة البقرة لا يمثل حقيقة نهائية . فسورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة ؛ بل أن منها ما نزل في أوائل العهد بالمدينة ، ومنها ما نزل في أواخر هذا العهد . وبين هذه الأوائل وهذه الأواخر نحو تسع سنوات ! ومن المؤكد أن سورة الأنفال نزلت بين هذين الموعدين ؛ وأن سورة البقرة قبلها وبعدها ظلت مفتوحة ؛ تنزل الآيات ذوات العدد منها بين هذين الموعدين ؛ وتضم إليها وفق الأمر النبوي التوقيفي . ولكن المعول عليه في قولهم : إن هذه السورة نزلت بعد هذه السورة ، هو نزول أوائل السور . كما ذكرنا ذلك في التعريف بسورة البقرة .

وفي بعض الروايات أن الآيات من 30 إلى غاية 36 من سورة الأنفال مكية . . وهي هذه الآيات :

( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا : قد سمعنا . لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين . وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم . وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لايعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . . )

ولعل الذي دعا أصحاب هذه الروايات إلى القول بمكية هذه الآيات أنها تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة . . ولكن هذا ليس بسبب . . فإن هناك كثيراً من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة . وفي هذه السورة نفسها آية : 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن :

( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ، تخافون أن يتخطفكم الناس ، فآواكم وأيدكم بنصره ، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ) . .

كما أن الآية : 36 وهي الأخيرة من تلك الآيات تتحدث عن أمر كان بعد بدر ، خاص بإنفاق المشركين أموالهم للتجهيز لغزوة أحد :

( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، ثم يغلبون ، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ) . .

والروايات التي تذكر أن هذه الآيات مكية ذكرت في سبب النزول مناسبة هي محل اعتراض . فقد جاء فيها : أن أبا طالب قال لرسول الله [ ص ] ما يأتمر به قومك ? قال : يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني ! فقال : من أخبرك بهذا ? قال : ربي . قال : نعم الرب ربك . فاستوص به خيراً ! فقال رسول الله [ ص ] : أنا استوصي به ! بل هو يستوصي بي خيراً ! فنزلت : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ) . . الآية . .

وقد ذكر ابن كثير هذه الرواية واعترض عليها بقوله : " وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً ، بل منكر . لأن هذه الآية مدنية . ثم إن هذه القصة ، واجتماع قريش على هذا الائتمار ، والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما كانت ليلة الهجرة سواء . وذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين . لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه " . .

وقد ذكر ابن إسحاق . عن عبد الله ابن أبي نجيح . عن مجاهد . عن ابن عباس - وعنه كذلك من طريق آخر - حديثاً طويلاً عن تبييت قريش ومكرهم هذا ، جاء في نهايته قوله : " . . وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل عليه - بعد قدومه المدينة - " الأنفال " يذكره نعمه عليه ، وبلاءه عنده : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين ) " . .

وهذه الرواية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هي التي تتفق مع السياق القرآني قبل هذه الآيات وبعدها . من تذكير الله سبحانه لنبيه [ ص ] وللمؤمنين بما أسلف إليهم من فضله ؛ في معرض تحريضهم على الجهاد في سبيل الله والاستجابة لما يدعوهم إليه منه والثبات يوم الزحف . . إلى آخر ما تعالجه السورة من هذاالأمر كما سنبين . . والقول بأن هذه الآيات مدنية كالسورة كلها هو الأولى . .

وبعد ، فإنه من أجل مثل هذه الملابسات في الروايات الواردة عن أسباب النزول ، آثرنا المنهج الذي جرينا عليه في عرض القرآن الكريم كما هو ترتيب السور في مصحف عثمان - رضي الله عنه - لا وفق ترتيب النزول الذي لا سبيل اليوم فيه إلى يقين . . مع محاولة الاستئناس بأسباب النزول وملابساته قدر ما يستطاع .

والله المستعان . .

هذه السورة نزلت في غزوة بدر الكبرى . . وغزوة بدر - بملابساتها وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية وفي التاريخ البشري جملة - تقوم معلماً ضخماً في طريق تلك الحركة وفي طريق هذا التاريخ .

وقد سمى الله - سبحانه - يومها ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . . كما أنه جعلها مفرق الطريق بين الناس في الآخرة كذلك لا في هذه الأرض وحدها ؛ ولا في التاريخ البشري على هذه الأرض في الحياة الدنيا وحدها . فقال سبحانه : ( هذان خصمان اختصموا في ربهم : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود . ولهم مقامع من حديد . كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها ، وذوقوا عذاب الحريق . . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير . وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد . . ) . . [ الحج : 19 - 24 ] وقد ورد أن هذه الآيات نزلت في الفريقين اللذين التقيا يوم بدر . . يوم الفرقان . . لا في الدنيا وحدها ، ولا في التاريخ البشري على الأرض وحدها ؛ ولكن كذلك في الآخرة وفي الأبد الطويل . . وتكفي هذه الشهادة من الجليل - سبحانه - لتصوير ذلك اليوم وتقديره . . وسنعرف شيئاً من قيمة هذا اليوم ، حين نستعرض الوقعة وملابساتها ونتائجها . .

ومع كل عظمة هذه الغزوة ، فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها وحين نراها حلقة من حلقات " الجهاد في الإسلام " ، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه . كذلك نحن لا ندرك طبيعة " الجهاد في الإسلام " وبواعثه وأهدافه ، قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته . .

لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في " زاد المعاد " ، في الفصل الذي عقده باسم : " فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل : أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى : أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته . فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ . ثم أنزل عليه : ( يا أيها المدثر . قم فأنذر )فنبأه بقوله : ( اقرأ )وأرسله ب( يا أيها المدثر ) . ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ؛ ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة . وأهل حرب . وأهل ذمة . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ؛ فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد . وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها : فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام . وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم . فجاهد الكفار بالسيفوالسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان . وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه ؛ أو كان لهم عهد مطلق ، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر ؛ فإذا انسلخت قاتلهم . . فقتل الناقض لعهده ؛ وأجل من لا عهد له ، أو له عهد مطلق ، أربعة أشهر . وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته ؛ فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . . فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه . فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به . ومسالم له آمن . وخائف محارب . . وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ؛ ويكل سرائرهم إلى الله ؛ وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ؛ وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم ، وأن يقوم على قبورهم ، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم . . فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين " . .

ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً . ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :

السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين . . فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً . . وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي . . إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ؛ تقوم عليها أنظمة واقعية عملية ؛ تسندها سلطات ذات قوة مادية . . ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه . . تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ؛ تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ؛ وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل . . إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي . كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد . . وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء . .

والسمة الثانية في منهج هذا الدين . . هي الواقعية الحركية . فهو حركة ذات مراحل . كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية . وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها . . فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة . كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة . . والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها . . الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ؛ ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية . ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً ؛ يمثل القواعد النهائية في هذا الدين . ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً ، وتعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته . ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة . . بعد تحطيمالأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها . .

والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة . فهو منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشاً ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين ، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ؛ ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد . . هو إخلاص العبودية لله ، والخروج من العبودية للعباد . . لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين . ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد ، في خطة مرسومة ؛ ذات مراحل محددة ؛ لكل مرحلة وسائلها المتجددة . على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة .

والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " . وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ؛ أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية . وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته . ولكن لا يقاومه ولا يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه !

والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام ! " . . يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة ، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه ؛ والتي تعبد الناس للناس ؛ وتمنعهم من العبودية لله . . وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما . . ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : " الحرب الدفاعية " . . والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك . . إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته ، ودوره في هذه الأرض ، وأهدافه العليا التي قررها الله ؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات . .

إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين . . إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ؛ والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور . . أو بتعبير آخر مرادف : الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور . . ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله ؛ وطرد المغتصبين له ؛ الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ؛ ويقوم الناس منهم مقام العبيد . . إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض . . أو بالتعبير القرآني الكريم :

( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . .

( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه . . ذلك الدين القيم . . ) . .

( قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) . .

ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال في ما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس ! ! ! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ؛ وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة .

وقيام مملكة الله في الأرض ، وإزالة مملكة البشر . وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده . وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية . . كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان . لأن المتسلطين على رقاب العباد ، المغتصبين لسلطان الله في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان . وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال !

إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله ، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً . . إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً . . إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ؛ ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " . . ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه .

والواقع الإنساني ، أمس واليوم وغداً ، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية . وعقبات مادية واقعية . . عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة . . وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد . .

وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات ، فإن " الحركة " تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية ، والعنصرية والطبقية ، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة . . وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان " الواقع البشري " بجملته ، بوسائل مكافئة لكل مكوناته . . وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض . . " الإنسان " كله في " الأرض " كلها . . وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى !

إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! . . إن موضوعه هو " الإنسان " . . نوع " الإنسان " . . ومجاله هو " الأرض " . . كل الأرض . إن الله - سبحانه - ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم . . إن الله هو ( رب العالمين ) . . وهذا الدين يريد أن يرد( العالمين )إلى ربهم ؛ وأن ينتزعهم من العبودية لغيره . والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر . . وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله . وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين . ولقد نص رسول الله [ ص ] على أن " الاتباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين " مخالفين لما أمروا به من " عبادة " الله وحده . .

أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدى بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله [ ص ] فر إلى الشام . وكان قد تنصر في الجاهلية . فأسرت أخته وجماعة من قومه . ثم منّ رسول الله [ ص ] على أخته وأعطاها . فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله [ ص ] فتحدث الناس بقدومه . فدخل على رسول الله [ ص ] وفي عنقه [ أي عدي ] صليب من فضة وهو [ أي النبي [ ص ] ] يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) . . قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : " بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام . فاتبعوهم . فذلك عبادتهم إياهم " . .

وتفسير رسول الله [ ص ] لقول الله سبحانه ، نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض . . الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير " الإنسان " ، في " الأرض " من العبودية لغير الله . .

ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام . . بالبيان وبالحركة مجتمعين . . وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى " البيان " واعتناق " العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان . ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة ، أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد !

إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته . . ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة " . . إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد . فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان . . ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه الحرية ليس معناها أن يجعلوا إلههم هواهم ؛ أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد ! وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ! . . إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده ؛ وذلك بتلقي الشرائع منه وحده . ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله . أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله . . إن مدلول " الدين " أشمل من مدلول " العقيدة " . . إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة . ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة . . وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام . .

والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح " الحرب الدفاعية " - كما يريد المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " . . بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري ؛ وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة .

وإذا لم يكن بد من أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية ، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة " دفاع " .

ونعتبره " دفاعاً عن الإنسان " ذاته ، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره . . هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ؛ كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ؛ والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !

وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في " الأرض " بالجهاد ؛ ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ؛ وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان . .

أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ؛ ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي ! " _وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض . كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ؛ وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !

ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ? وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية - من أنظمة الدولة السياسية ؛ وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ? !

إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير " الإنسان " . . نوع الإنسان . . في " الأرض " . . كل الأرض . . ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان ! . . إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد ، تخاطبهم بحرية ، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات . . فهنا ( لا إكراه في الدين ) . . أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله ؛ وهو طليق من هذه الأغلال !

إن الجهاد ضرورة للدعوة . إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ؛ ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي ! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمنا أم مهدداً من جيرانه . فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة ؛ وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية . إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله . أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله ؛ والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها . . ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : " فاستقر أمر الكفار معه - بعد نزول براءة - على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة . . ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام . . فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه . . فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به . ومسالم له آمن [ وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة ] وخائف محارب " . . وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه . لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر !

ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة ؛ وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة . . وقيل للمسلمين : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . . ثم أذن لهم فيه ، فقيل لهم : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق - إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ، ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ) . . ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) . . ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقيل لهم : ( وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ) . . وقيل لهم : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . . فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - " محرماً ، ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين " . .

إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد ؛ وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه ؛ وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام ، وعلى مدى طويل من تاريخه . . إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !

ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله [ ص ] ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ؛ ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء ؛ ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود ? !

لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، لدفع الفساد عن الأرض : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ) . . وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة . الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض . وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط ؛ وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن " الإنسان " في " الأرض " ذلك السلطان الغاصب . . حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله .

إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة . كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة . والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة . . هذا هدف أولي لا بد منه . . ولكنه ليس الهدف الأخير . . إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ؛ ويؤمن قاعدة الانطلاق . . الانطلاق لتحرير " الإنسان " ، ولإزالة العقبات التي تمنع " الإنسان " ذاته من الانطلاق !

وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم . لأنه كان مكفولاً للدعوة في مكة حرية البلاغ . . كان صاحبها [ ص ] يملك بحماية سيوف بني هاشم ، أن يصدع بالدعوة ؛ ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ؛ ويواجه بها الأفراد . . لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة ، أو تمنع الأفراد من سماعه ! فلا ضرورة - في هذه المرحلة - لاستخدام القوة . وذلك إلى أسباب أخرى لعلها

كانت قائمة في هذه المرحلة . وقد لخصناها عند تفسير قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . . )من سورة النساء . ولا نرى بأساً في إثبات بعض هذا التلخيص هنا مرة أخرى :

" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج ، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ، المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي !

" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً و أنفذ ، في مثل بيئة قريش ، ذات العنجهية والشرف ؛ والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس ، أعواماً طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها . وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبداً . ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبداً !

" وربما كان ذلك أيضاً ، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه ! " ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمداً يفرق بين الوالد وولده ، فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وفي كل محلة ?

" وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته . . ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ? !

" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عاراً على العرب ! وعُرض عليه جواره وحمايته . . وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من بيئات " الحضارة " القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !

" وربما كان ذلك ، أيضاً ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة ، أو بلغت أخبارها متناثرة ، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة . " . . . الخ . . . "

فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله [ ص ] مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك . .

أولاً : لأن هناك مجالاً للتبليغ والبيان ، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه ، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ؛ وبقيادة رسول الله [ ص ] في تصريف شؤونها السياسية . فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحاً ولا يثير حرباً ، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله [ ص ] وكان واضحاً أن السلطة الحقيقية في المدينة في يد القيادة المسلمة . فالمجال أمام الدعوة مفتوح ، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة .

ثانياً : أن الرسول [ ص ] كان يريد التفرغ - في هذه المرحلة - لقريش ؛ التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى ؛ الواقفة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول الله [ ص ] بإرسال " السرايا " وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة .

ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة أشهر . ثم على رأس ثلاثة عشر شهراً . ثم على رأس ستة عشر شهراً . ثم كانت سرية عبدالله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً . وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال . وكان ذلك في الشهر الحرام . والتي نزلت فيها آيات البقرة : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ! قل : قتال فيه كبير ، وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، والفتنة أكبر من القتل . ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . . . ) .

ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة . . وهي التي نزلت فيها هذه السورة التي نحن بصددها .

ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالاً للقول بأن " الدفاع " بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية . كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر !

إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم تعد للمسلمين شوكة بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان إلا سلطان الله ، ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !

والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية :

( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً . وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ? الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ) . . . [ النساء : 74 - 76 ] .

( قل للذين كفروا : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم ، نعم المولى ونعم النصير ) . . . [ الأنفال : 38 - 40 ] . .

( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله . ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ، لا إله إلّا هو ، سبحانه عما يشركون . يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ؛ ولو كره الكافرون ) . . [ التوبة : 29 - 32 ] .

إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ؛ وتحقيق منهجه في حياة الناس . ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ؛ وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد الله وحده يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي . . مع تقرير مبدأ : ( لا إكراه في الدين ) . . أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ؛ والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله . أو أن الدين كله لله . بهذا الاعتبار .

إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . وهذه وحدها تكفي . . ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !

لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر ، وحذيفة بن محصن ، والمغيرة بن شعبة ، جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم ? فيكون الجواب : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر " .

إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ؛ وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة . . وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية . . لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة !

وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله . . ( في سبيل الله ) . في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ؛ ولا يخرجه لها مغنم ذاتي . .

إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان . . مع هواه وشهواته . . مع مطامعه ورغباته . . مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه . . مع كل شارة غير شارة الإسلام . . ومع كل دافع إلا العبودية لله ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله . .

والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية " الوطن الإسلامي " يغضون من شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الموطن " ! وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . . إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها . وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار الإسلام " ونقطة الانطلاق لتحرير " الإنسان " . .

وحقيقة أن حماية " دار الإسلام " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها هي ليست الهدف النهائي . وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي . إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها . ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها ، وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين ، والأرض هي مجاله الكبير !

وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة . . وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة . كي يخلو له وجه الأ

( يسألونك عن الأنفال . قل : الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ، وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) .

ذكرنا من قبل في التعريف الإجمالي بالسورة جانباً من الروايات التي وردت عن نزول هذه الآيات . ونضيف هنا إليها بعض الروايات ؛ زيادة في استحضار الجو الذي نزلت فيه السورة جملة ، والذي نزلت فيه الآيات الخاصة بالغنائم والأنفال بوجه خاص ؛ واستحضار الملامح الواقعية للجماعة المسلمة في أول وقعة كبيرة بعد قيام الدولة المسلمة في المدينة .

قال ابن كثير في التفسير : روى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا " . فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقي الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لها ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا رداء لكم ، لو انكشفتم لفئتم إلينا . فتنازعوا ، فأنزل الله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال ) . . . إلى قوله : ( وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) . . وقال الثوري ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ] : " من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " . فجاء أبو اليسير بأسيرين ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ، ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : ( يسألونك عن الأنفال قل : الأنفال لله والرسول ) . . . قال : ونزل القرآن :

إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( 19 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ( 20 ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( 21 ) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ( 22 )

( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) . . . إلى آخر الآية . . .

وروى الإمام أحمد قال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا أبو إسحق الشيباني ، عن محمد بن عبيدالله الثقفي . عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر ، وقتل أخي عمير ، قتلت سعيد بن العاص ؛ وأخذت سيفه . وكان يسمى ذا الكثيفة . فأتيت به النبي [ ص ] فقال : " اذهب فاطرحه في القبض " قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي . قال : فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله [ ص ] " اذهب فخذ سلبك " .

وقال الإمام أحمد أيضاً : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن مصعب ابن سعد ، عن سعد بن مالك ، قال : قلت يا رسول الله ، قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف . فقال : " إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه " . قال : فوضعته ثم رجعت ، فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي . قال : فإذا رجل يدعوني من ورائي . قال : قلت : قد أنزل الله فيّ شيئاً ? قال : " كنت سألتني السيف ، وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي ، فهو لك " . قال : وأنزل الله هذه الآية : ( يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول ) . . [ ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به ، وقال الترمذي : حسن صحيح . ]

فهذه الروايات تصور لنا الجو الذي تنزلت فيه آيات الأنفال . . ولقد يدهش الإنسان حين يرى أهل بدر يتكلمون في الغنائم ؛ وهم إما من المهاجرين السابقين الذين تركوا وراءهم كل شيء ، وهاجروا إلى الله بعقيدتهم ، لا يلوون على شيء من أعراض هذه الحياة الدنيا ؛ وإما من الأنصار الذين آووا المهاجرين ، وشاركوهم ديارهم وأموالهم ، لا يبخلون بشيء من أعراض هذه الحياة الدنيا أو كما قال فيهم ربهم : ( يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) . . ولكننا نجد بعض التفسير لهذه الظاهرة في الروايات نفسها . لقد كانت الأنفال مرتبطة في الوقت ذاته بحسن البلاء في المعركة ؛ وكانت بذلك شهادة على حسن البلاء ؛ وكان الناس - يومئذ - حريصين على هذه الشهادة من رسول الله [ ص ] ومن الله سبحانه وتعالى ، في أول وقعة يشفي فيها صدورهم من المشركين ! . . ولقد غطى هذا الحرص وغلب على أمر آخر نسيه من تكلموا في الأنفال حتى ذكّرهم الله سبحانه به ، وردهم إليه . . ذلك هو ضرورة السماحة فيما بينهم في التعامل ، والصلاح بين قلوبهم في المشاعر ؛ حتى أحسوا ذلك في مثل ما قاله عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : " فينا - أصحاب بدر - نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله [ ص ] . . " .

ولقد أخذهم الله سبحانه بالتربية الربانية قولاً وعملاً . نزع أمر الأنفال كله منهم ورده إلى رسول الله [ ص ] حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها ، فلم يعد الأمر حقاً لهم يتنازعون عليه ؛ إنما أصبح فضلاً من الله عليهم ؛ يقسمه رسول الله بينهم كما علمه ربه . . . وإلى جانب الإجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل ، الذي بدأ بهذه الآيات ، واستطرد فيما تلاها كذلك .

( يسألونك عن الأنفال . قل : الأنفال لله والرسول . فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله ، إن كنتم مؤمنين ) . .

لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال ، هو الهتاف بتقوى الله . . وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب . . إنه لا يرد القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا ، والنزاع عليها - وإن كانهذا النزاع متلبساً هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء - إلا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى . . إن قلباًلا يتعلق باللّه ، يخشى غضبه ويتلمس رضاه ، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض ، ولا يملك أن يرف شاعراً بالانطلاق !

إن التقوى زمام هذه القلوب الذي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة في يسر وفي هوادة . . وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينها :

( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) . .

وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة اللّه ورسوله :

( وأطيعوا اللّه ورسوله ) .

وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال . فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق ، وارتدت ملكيتها ابتداء للّه والرسول ، فانتهى حق التصرف فيها إلى اللّه والرسول . فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم اللّه وقسم رسول اللّه ؛ طيبة قلوبهم ، راضية نفوسهم ؛ وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم ، ويصفوا قلوبهم بعضهم لبعضهم . . ذلك :

( إن كنتم مؤمنين ) . .

فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية . يتجلى فيها ، ليثبت وجوده ، ويترجم عن حقيقته . وكما قال رسول اللّه - [ ص ] - : " ليس الإيمان بالتمني ، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " . ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول اللّه - [ ص ] - ولتعريف الإيمان وتحديده ؛ وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان ، أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع .

ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان " الحق " كما يريده رب هذا الدين ؛ ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى :

( إن كنتم مؤمنين ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُواْ ذَاتَ بَيۡنِكُمۡۖ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (1)

بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ

القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنفال

{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ } . .

اختلف أهل التأويل في معنى الأنفال التي ذكرها الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هي الغنائم ، وقالوا : معنى الكلام : يسألك أصحابك يا محمد عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر لمن هي ، فقل هي لله ولرسوله . ذكر من قال ذلك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن عكرمة : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأنفال : المغنم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الغنائم .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الأنْفال قال : يعني الغنائم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ الأنفال : الغنائم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الأنفال : الغنائم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الأنفال : الغنائم .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : الغنائم .

وقال آخرون : هي أنفال السرايا . ذكر من قال ذلك .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عليّ بن صالح بن حيّ ، قال : بلغني في قوله : يَسأَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : السرايا .

وقال آخرون : الأنفال ما شذّ من المشركين إلى المسلمين من عبد أو دابّة وما أشبه ذلك . ذكر من قال ذلك .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، في قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال دابّة أو عبد أو متاع ، ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن عبد الملك ، عن عطاء : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو أمة أو متاع أو نفل ، فهو للنبيّ صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء .

قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، أن ابن عباس سئل عن الأنفال ، فقال : السلَب والفرس .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ويقال : الأنفال : ما أخذ مما سقط من المتاع بعدما تقسم الغنائم ، فهي نفل لله ولرسوله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عثمان بن أبي سليمان ، عن محمد بن شهاب أن رجلاً قال لابن عباس : ما الأنفال ؟ قال : الفرس والدرع والرمح .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : قال ابن جريج ، قال عطاء : الأنفال : الفرس الشاذّ ، والدرع ، والثوب .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهريّ ، عن ابن عباس ، قال : كان ينفّل الرجل فرس الرجل وسلبه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد ، قال : سمعت رجلاً سأل ابن عباس عن الأنفال ، فقال ابن عباس : الفرس من النفل ، والسّلب من النفل . ثم عاد لمسألته ، فقال ابن عباس ذلك أيضا ، ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهريّ ، عن القاسم بن محمد ، قال : قال ابن عباس : كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال : لا آمرك ولا أنهاك . ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلاّ زاجرا آمرا محللاً محرّما . قال القاسم : فسلط على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال ، فقال ابن عباس : كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه . فأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك ، ثم أعاد عليه حتى أغضبه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه ، أو على رجليه ، فقال الرجل : أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الملك ، عن عطاء : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك فيما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابّة أو عبد ، فهو نفل للنبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : النفل : الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس . ذكر من قال ذلك .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : هو الخمس . قال المهاجرون : لم يرفع عنا هذا الخمس ؟ لم يخرج منا ؟ فقال الله : هو لله والرسول .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنهم سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس ، فنزلت : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى الأنفال قول من قال : هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم إما من سلبه على حقوقهم من القسمة ، وإما مما وصل إليه بالنفل ، أو ببعض أسبابه ، ترغيبا له وتحريضا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين ، أو صلاح أحد الفريقين . وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك ، ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس لأن ذلك أمره إلى الإمام إذا لم يكن ما وصلوا إليه لغلبة وقهر ، يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام ، وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقهر .

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب ، لأن النّفَل في كلام العرب إنما هو الزيادة على الشيء ، يقال منه : نفلتك كذا ، وأنفلتك : إذا زدتك ، والأنفال : جمع نَفَل ومنه قول لبيد بن ربيعة :

إنّ تَقْوَى رَبّنا خَيْرُ نَفَلْ ***وَباذْنِ اللّهِ رَيْثي وَعَجَلْ

فإذ كان معناه ما ذكرنا ، فكلّ من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة ، إن كان ذلك لبلاء أبلاه أو لغناء كان منه عن المسلمين ، بتنفيل الوالي ذلك إياه ، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل ، فهو منفل ما زيد من ذلك لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحقّ ، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة ، وكذلك كلّ ما رضخ لمن لا سهم له في الغنيمة فهو نفل ، لأنه وإن كان مغلوبا عليه فليس مما وقعت عليه القسمة . فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين الغنيمة والنفل ، أن الغنيمة هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر نفل منه منفل أو لم ينفل والنفَل : هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغناء عن الجيش على غير قسمة . وإذ كان ذلك معنى النفل ، فتأويل الكلام : يسألك أصحابك يا محمد عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر لمن هو قل لهم يا محمد : هو لله ولرسوله دونكم ، يجعله حيث شاء .

واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في غنائم بدر لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان نفّل أقواما على بلاء ، فأبلى أقوام وتخلّف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب ، فأنزل الله هذه الاَية على رسوله ، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فماض جائز . ذكر من قال ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أتَى مَكانَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا ، أوْ فَعَلَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا » . فتسارع إليه الشبان ، وبقي الشيوخ عند الرايات . فلما فتح الله عليهم ، جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم الأشياخ : لا تذهبوا به دوننا فأنزل الله عليه الاَية : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ صَنَعَ كَذَا وكَذَا ، فَلَهُ كَذَا وكَذَا » قال : فتسارع في ذلك شبان الرجال ، وبقيت الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنائم ، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقالت الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم ، وكنا تحت الرايات ، ولو انكشفتم لفئتم إلينا فتنازعوا ، فأنزل الله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

حدثني إسحاق بن شاهين ، قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ فَعَلَ كَذَا فَلَهُ كَذَا وكَذَا مِنَ النّفَلِ » قال : فتقدّم الفتيان ولزم المشيخة الرايات ، فلم يبرحوا ، فلما فتح عليهم ، قالت المشيخة : كنا ردءا لكم ، فلو انهزمتم انحزتم إلينا ، لا تذهبوا بالمغنم دوننا فأبى الفتيان وقالوا : جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا فأنزل الله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : فكان ذلك خيرا لهم ، وكذلك أيضا : أطيعوني فإني أعلم .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة في هذه الاَية : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ صَنَعَ كَذَا فَلَهُ مِنَ النّفَلِ كَذَا » فخرج شبان من الرجال فجعلوا يصنعونه ، فلما كان عند القسمة ، قال الشيوخ : نحن أصحاب الرايات ، وقد كنا ردءا لكم فأنزل الله في ذلك : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب الزبيري ، قال : ثني المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحول مولى هذيل ، عن أبي سلام ، عن أبي أُمامة الباهلي ، عن عبادة بن الصامت ، قال : أنزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ . . . إلى قوله : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عن سواء .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، قال : ثني عبد الرحمن بن الحرث وغيره من أصحابنا ، عن سليمان بن موسى الأسدي ، عن مكحول ، عن أبي أمامة الباهلي ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن سواء ، يقول : على السواء ، فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وصلاح ذات البين .

وقال آخرون : إنما نزلت هذه الاَية لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئا قبل قسمتها ، فلم يعطه إياه ، إذ كان شركا بين الجيش ، فجعل الله جميع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك .

حدثني إسماعيل بن موسى السديّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف ، فقلت : يا رسول الله هذا السيف قد شفى الله به من المشركين فسألته إياه ، فقال : «لَيْسَ هذا لي ولا لَكَ » . قال : فلما وليت ، قلت : أخاف أن يعطيه من لم يبل بلائي . فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي ، قال : فقلت : أخاف أن يكون نزل فيّ شيء قال : «إنّ السّيْفَ قد صَارَ لي » . قال : فأعطانيه ، ونزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر ، قال : حدثنا عاصم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن مالك ، قال : لما كان يوم بدر ، جئت بسيف ، قال : فقلت : يا رسول الله ، إن الله قد شفي صدري من المشركين أو نحو هذا ، فهب لي هذا السيف فقال لي : «هَذَا لَيْسَ لي وَلا لَكَ » . فرجعت فقلت : عسى أن يعطى هذا من لم يبل بلائي فجاءني الرسول ، فقلت : حدث فيّ حدث : فلما انتهيت ، قال : «يا سَعْدُ إنّكَ سألْتَنِي السّيْفَ وَلَيْسَ لي ، وَإنّهُ قَدْ صَارَ لي فَهُوَ لَكَ » . ونزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : أصبت سيفا يوم بدر ، فأعجبني ، فقلت : يا رسول الله هبه لي فأنزل الله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .

حدثنا ابن المثنى وابن وكيع ، قال ابن المثنى ، ثني معاوية ، وقال ابن وكيع : حدثنا أبو معاوية ، قال : حدثنا الشيباني ، عن محمد بن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكُتيفة ، فجئت به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اذْهَبْ فاطْرَحَهُ في القبَض » فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلاّ الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال : فما جاوزت إلاّ قريبا حتى نزلت عليه سورة الأنفال ، فقال : «اذْهَبْ فَخُذُ سَيْفَكَ » . ولفظ الحديث لابن المثنى .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة جميعا ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي بكر ، عن قيس بن ساعدة ، قال : سمعت أبا أسيد بن مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائد يوم بدر ، وكان السيف يدعى المرَزُبان فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت به فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يُسأله ، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه إياه .

حدثني يحيى بن جعفر ، قال : حدثنا أحمد بن أبي بكر ، عن يحيى بن عمران ، عن جده عثمان بن الأرقم ، عن عمه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : «رُدّوا ما كانَ مِنَ الأنْفالِ » فوضع أبو أسيد الساعدي سيف بن عائد المرزبان ، فعرفه الأرقم فقال : هبه لي يا رسول الله قال : فأعطاه إياه .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شبعة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : أصبت سيفا . قال : فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله نفلنيه فقال : «ضَعْهُ » ثم قام فقال : يا رسول الله نفلنيه قال : «ضَعْهُ » قال : ثم قام فقال : يا رسول الله نفلنيه اجُعل كمن لا غناء له ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أخَذْتَهُ » فنزلت هذه الاَية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرّسُولِ .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أخذت سيفا من المغنم ، فقلت : يا رسول الله هب لي هذا فنزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، في قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : قال سعد : كنت أخذت سيف سعيد بن العاص بن أمية ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : أعطني هذا السيف يا رسول الله فسكت ، فنزلت : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ . . . إلى قوله : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال : فأعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : بل نزلت لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر فأعلمهم الله أن ذلك لله ولرسوله دونهم ليس لهم فيه شيء . وقالوا : معنى «عن » في هذا الموضع «من » وإنما معنى الكلام : يسألونك من الأنفال ، وقالوا : قد كان ابن مسعود يقرؤه : «يَسْألُونَكَ الأنْفالَ » على هذا التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، قال : كان أصحاب عبد الله يقرءونها : «يَسألُونَكَ الأنْفالَ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : هي في قراءة ابن مسعود «يَسألُونَكَ الأنْفالَ » . ذكر من قال ذلك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ قال : الأنفال : المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به ، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول . فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها ، قال الله : يَسألونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفَالُ لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، ثم أنزل الله : واعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن سمي في الاَية .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا . قال : واختلفوا فكانوا أثلاثا . قال : فنزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالِ لِلّهِ وَالرسُولِ وملكه الله رسوله ، فقسمه كما أراه الله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه : أن الناس سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر ، فنزلت : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ .

قال : حدثنا عباد بن العوام ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك أن تُنَفّلهُمْ .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : يسألونك الأنفال .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى أخبر في هذه الاَية عن قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يعطيهموها ، فأخبرهم الله أنها لله وأنه جعلها لرسوله . وإذا كان ذلك معناه جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه ، وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش .

واختلفوا فيها ، أمنسوخة هي أم غير منسوخة ؟ فقال بعضهم : هي منسوخة ، وقالوا : نسخها قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، قالا : كانت الأنفال لله وللرسول فنسختها : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمَسَهُ وللرّسُولِ .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفا ، فاختصم فيه وناس معه ، فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم ، فقال الله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ والرّسُولِ . . . الاَية ، فكانت الغنائم يومئذٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة ، فنسخها الله بالخمس .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني سليم مولى أم محمد ، عن مجاهد ، في قوله : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قال : نسختها : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة ، أو عكرمة وعامر ، قالا : نسخت الأنفال : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ .

وقال آخرون : هي محكمة وليست منسوخة . وإنما معنى ذلك : قل الأنفال لله ، وهي لا شكّ لله مع الدنيا بما فيها والاَخرة ، وللرسول يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه . ذكر من قال ذلك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَسألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ فقرأ حتى بلغ : إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فسلموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاء ويضعانها حيث أرادا ، فقالوا : نعم . ثم جاء بعد الأربعين : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية ، ولكم أربعة أخماس ، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم خَيبر : «وَهَذا الخُمُسُ مَرْدُودٌ على فُقَرائِكُمْ يَصْنَعُ اللّهُ وَرَسُولَهُ فِي ذلكَ الخُمْسَ ما أحَبّا ، وَيَضَعانِهِ حَيْثُ أحَبّا ، ثم أخبرنا الله الذي يجب من ذلك » ثم قرأ الاَية : لِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ كَيْلا يَكونَ دُولَةً بينَ الأغْنِياءِ مِنْكُمْ .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم ينفل من شاء ، فنفل القاتل السلب ، وجعل للجيش في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث بعد الخمس ، ونفل قوما بعد سهمانهم بعيرا بعيرا في بعض المغازي . فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ينفل على ما يرى مما فيه صلاح المسلمين ، وعلى من بعده من الأئمة أن يستنوا بسنته في ذلك ، وليس في الاَية دليل على أن حكمها منسوخ لاحتمالها ما ذكرت من المعنى الذي وصفت ، وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ إلاّ بحجة يجب التسليم لها ، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلاّ ما أبطل حكمه حادث حكم بخلافه ينفيه من كلّ معانيه ، أو يأتي خبر يوجب الحجة أن أحدهما ناسخ الاَخر . وقد ذُكر عن سعيد بن المسيب أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويلاً منه لقول الله تعالى : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، قال : أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء ، فقال : إنكم أرسلتم إليّ تسألوني عن الأنفال ، فلا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد بيّنا أن للأئمة أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم بفعله ، فينفلوا على نحو ما كان ينفل ، إذا كان التنفيل صلاحا للمسلمين .

القول في تأويل قوله تعالى : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

يقول تعالى ذكره : فخافوا الله أيها القوم ، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه ، وأصلحوا الحال بينكم .

واختلف أهل التأويل في الذي عني بقوله : وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فقال بعضهم : هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اختلفوا في الغنيمة أن يردّوا ما أصابوا منها بعضهم على بعض . ذكر من قال ذلك .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ قال : كان نبيّ الله ينفّل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفار إذا قتله ، ثم أنزل الله : فاتّقوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أمرهم أن يردّ بعضُهم على بعض .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : بلغني أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل الرجل على قدر جِدّه وغَنائه على ما رأى ، حتى إذا كان يوم بدر وملأ الناس أيديهم غنائم ، قال أهل الضعف من الناس : ذهب أهل القوّة بالغنائم فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : قُلِ الأنْفالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ ليردّ أهل القوّة على أهل الضعف .

وقال آخرون : هذا تحريج من الله على القوم ، ونهي لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره . ذكر من قال ذلك .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا خالد بن يزيد ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قالا : حدثنا أبو إسرائيل ، عن فضيل ، عن مجاهد ، في قول الله : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتِ بَيْنِكُمْ قال : حرّج عليهم .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن سفيان بن حسين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ قال هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم . قال عباد ، قال سفيان : هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ : أي لا تستبوا .

واختلف أهل العربية في وجه تأنيث البين ، فقال بعض نحويي البصرة : أضاف ذات إلى البين وجعله ذاتا ، لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث ، وبعضا يذكر نحو الدار ، والحائط أنث الدار وذكر الحائط . وقال بعضهم : إنما أراد بقوله : ذَاتَ بَيْنِكُمْ : الحال التي للبين فقال : وكذلك «ذات العشاء » يريد الساعة التي فيها العشاء . قال : ولم يضعوا مذكرا لمؤنث ولا مؤنثا لمذكر إلاّ لمعنى .

قال أبو جعفر : هذا القول أولى القولين بالصواب للعلة التي ذكرتها له .

وأما قوله : وأطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ فإن معناه : وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم ، فقد بين لكم وجوهه وسبُله . إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقول : إن كنتم مصدّقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : فاتّقُوا اللّهَ وأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وأطِيعُوا اللّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فسلموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا ، ويضعانها حيث أرادا .