1 - 4 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
الأنفال هي الغنائم التي ينفلها اللّه لهذه الأمة من أموال الكفار ، وكانت هذه الآيات في هذه السورة قد نزلت في قصة بدر أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين ، . فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع ، فسألوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنها ، فأنزل اللّه يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَال كيف تقسم وعلى من تقسم ؟
قُلْ لهم : الأنفال لله ورسوله يضعانها حيث شاءا ، فلا اعتراض لكم على حكم اللّه ورسوله ، . بل عليكم إذا حكم اللّه ورسوله أن ترضوا بحكمهما ، وتسلموا الأمر لهما ، . وذلك داخل في قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . .
وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ أي : أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر ، بالتوادد والتحاب والتواصل . . فبذلك تجتمع كلمتكم ، ويزول ما يحصل - بسبب التقاطع -من التخاصم ، والتشاجر والتنازع .
ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه بذلك يزول كثير مما يكون في القلوب من البغضاء والتدابر ، . والأمر الجامع لذلك كله قوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله ، . كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن .
والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ومن والاه .
وبعد فهذا تفسير لسورة الأنفال أسأل الله –تعالى- أن يجعله خالصاً لوجهه ونافعاً لعباده إنه سميع مجيب .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
1- سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف . فقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية ، ثم جاءت بعد سورة الفاتحة أربع سور مدنية ، هن أطول السور المدنية في القرآن الكريم ، وهن سور : البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، سورتا الأنعام والأعراف . ثم جاءت سورة الأنفال بعد ذلك ، فكانت الثامنة في ترتيب المصحف .
2- وعدد آياتها خمس وسبعون آية في المصحف الكوفي ، وست وسبعون في الحجازي ، وسبع وسبعون في الشامي .
3- وقد سميت سورة الأنفال بهذا الاسم ، لحديثها عن الأنفال أي الغنائم في أكثر من موضع .
وقط أطلق عليها بعض الصحابة سورة بدر ، فقد أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل عنها فقال : تلك سورة بدر( {[1]} ) .
4- وسورة الأنفال كلها مدنية ، وممن قال بذلك : زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وعطاء بن أبي رباح والحسن ، وعكرمة .
قال صاحب المنار : وقيل إنها مدنية إلا آية " 64 " وهي قوله –تعالى- : [ يأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ] فقد روى البزار عن ابن عباس أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب ، فعلى هذا وضعت في سورة الأنفال وقرئت مع آياتها التي نزلت في التحريض على القتال في غزوة بدر لمناسبتها للمقام ، وروى عن مقاتل استثناء قوله –تعالى- [ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك ] . . . " الآية " 30 " ؛ لأن موضوعها ائتمار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم قبيل الهجرة ، بل في الليلة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر بقصد الهجرة وباتا في الغار ، وهذا استنباط من المعنى ، وهو استنباط يرده ما صح عن ابن عباس من أن الآية نفسها نزلت في المدينة .
وزاد بعضهم استثناء خمس آيات أخرى بعد هذه الآية ، وهي قوله –تعالى- : [ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا ] . . إلى قوله : [ بما كنتم تكفرون ] " الآيات من " 31-35 " ؛ لأن موضوعها حال كفار قريش في مكة ، وهذا لا يقتضي نزولها في مكة ، بل ذكَّر الله بها رسوله بعد الهجرة ، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني " ( {[2]} ) .
والذي ترتاح إليه النفس أن سورة الأنفال جميعها مدنية ، وأن ما في بعض آياتها من أوصافٍ لأحوال المشركين في مكة قبل الهجرة لا يعني كون هذه الآيات مكية ؛ لأن هذه الآيات إنما هي من باب تذكير الرسول وأصحابه بما كان عليه أولئك القوم من عتاد ومكابرة وانحراف عن الطريق القويم ، أدى بهم إلى الهزيمة في بدر وفي غيرها من المعارك التي كان النصر فيها للمؤمنين .
5- وقد ذكر بعض المفسرين –ومنهم الزمخشري- أن سورة الأنفال نزلت بعد سورة البقرة ، ولعل مرادهم بذلك أن نزولها كان بعد نزول بعض الآيات من سورة البقرة ، لأنه من المعروف أن سورة البقرة لم تنزل دفعة واحدة ، وإنما ابتدأ نزولها بعد الهجرة ، ثم امتد هذا النزول لآياتها إلى قبيل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بمدة قصيرة .
6- قال الآلوسي : ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن سورة الأعراف فيها [ خذ العفو وأمر بالمعروف . . . ] وفي هذه –أي الأنفال- كثير من أفراد المأمور به ، وفي الأعراف ذكر قصص الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم ، وفي هذه ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه .
وقد فصل –سبحانه- في تلك –قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال : [ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم . . . ] .
وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله –تعالى- [ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها . . . ] وصرح بذلك هنا إذ يقول . . . [ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا . . . ] إلى غير ذلك من المناسبات .
ثم قال الآلوسي : " والظاهر أن وضعها هنا توقيفي ، وكذا وضع براءة بعدها ، وإلى ذلك ذهب غير واحد . . . " ( {[3]} ) .
والحق أنه بمطالعتنا لما يقوله الآلوسي وغيره من المفسرين في بيان وجه مناسبة السورة للتي قبلها ، نرى أن هذه الأقوال لا تخلو من تكلف ، وأن كثيراً مما ذكروه من مناسبات بين سورتين معينتين لا يختص بهما ، بل هو موجود فيهما وفي غيرهما .
فالآلوسي –مثلاً- يجعل من وجوه مناسبة الأنفال للأعراف أن الأعراف فيها [ وأمر بالعرف ] . وأن الأنفال فيها كثير من أفراد المأمور به . .
وهذا المعنى نراه في كثير من السور المتتالية ، فسورة آل عمران –مثلاً- من بين آياتها قوله –تعالى- : [ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر . . ]( {[4]} ) .
وسورة النساء –التي بعدها- فيها –أيضاً- كثير من أفراد المأمور به ؛ لأن الأمر بالمعروف من الدعائم التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي .
والذي تميل إليه النفس أن ترتيب السور توقيفي ، وأن كل سورة لها موضوعاتها التي نراها بارزة بصورة تميزها عن غيرها .
7- وسورة الأنفال عندما نتأمل ما اشتملت عليه من آيات ، نراها تحدثنا –في مجموعها- عن غزوة بدر ، فتعرض أحداثها الظاهرة ، كما تعرض بشارات النصر فيها ، وتكشف عن قدرة الله وتدبيره في وقائع هذه الغزوة الحاسمة ، وتبين كثيراً من الإرشادات والتشريعات الحربية التي يجب على المؤمنين اتباعها حتى ينالوا النجاح والفلاح .
أخرج البخاري عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر( {[5]} ) :
( أ ) لقد افتتحت السورة الكريمة ببيان أن قسمة الأنفال أي –الغنائم- مردها إلى الله ورسوله ، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم صلى الله عليه وسلم ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف ، وبشرتهم بأسمى المنازل ، وأرفع الدرجات .
قال –تعالى- : [ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ] .
( ب ) وبعد هذا الحديث الطيب عن أوصاف المؤمنين الصادقين ، تبدأ السورة في الحديث عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر ، لأنهم لم يخرجوا من أجله وإنما خرجوا من أجل الحصول على التجارة التي قدم بها مشركو قريش من بلاد الشام لكن الله –تعالى- أراد أن يعلمهم وغيرهم أن الخير فيما قدره ، لا فيما يقدرون ويريدون .
استمع إلى السورة الكريمة بتأمل وتدبر وهي تصور هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فنقول .
[ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ] .
( ج ) ثم تسوق السورة بعد ذلك ألواناً من البشارات التي تُشعِر المؤمنين بأن الله –تعالى- قد أجاب لهم دعاءهم ، وأنه –سبحانه- سيجعل النصر في هذه المعركة حليفاً لهم .
ومن مظاهر هذه البشارات أن الله –تعالى- أمدهم بألف من الملائكة مردفين ، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم ، وأمدهم بمياه الأمطار ليتطهروا بها ، ولتثبت الأرض من تحتهم ، وأمدهم قبل ذلك وبعده بعونه الذي جعلهم يقبلون على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الإقدام والشجاعة .
قال –تعالى- : [ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ] .
( د ) ثم وجهت السورة الكريمة خمسة نداءات إلى المؤمنين ، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم .
فقد أمرتهم في النداء الأول بالثبات في وجوه أعدائهم ، ونهتهم عن الفرار منهم ، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير ، وأخبرتهم بأن الله معهم ما داموا معتمدين عليه ، ومستجيبين لما يدعوهم إليه .
وأمرتهم في النداء الثاني بطاعة الله ورسوله ، وحذرتهم من المعصية ، ومن التشبه بالكافرين الذين " قالوا سمعنا وهم لا يسمعون "
وأمرتهم في النداء الثالث بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم ، وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم ، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره .
ونهتهم في النداء الرابع عن خيانة الله ورسوله ، أي : عن ترك فرائض الله وعن هجر سنة رسوله . . وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله وعن أداء واجباته .
ثم بشرتهم في النداء الخامس بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته ، فإنه –سبحانه- سيرزقهم الهداية والنصر والنجاة من كل مكروه .
تدبر معي –أخي القارئ- هذه النداءات ، وما اشتملت عليه من توجيهات سامية وإرشادات عالية ، حيث يقول –سبحانه- :
[ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ] . .
[ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ] . .
[ يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ] . .
[ يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ] . .
( ه ) ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكراً ، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران .
فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة .
وحكت استهزاءهم بالدين ، وإمعانهم في الجحود ، وتعجلهم للعذاب . .
وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو عند قراءة القرآن ، حتى يشغلوا الناس عن سماعه . .
وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم ، لا في وجوه الخير ، ولكن في وجوه الشر التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير .
وبعد أن حكت كل هذه الرذائل عن الكافرين ، أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم ، فإن الله –تعالى- سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم . أما إذا استمروا في طغيانهم وجحودهم ، فستدور الدائرة عليهم .
قال –تعالى- : [ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين . وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا ، لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين . وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو اثتنا بعذاب أليم . وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ] .
( و ) وبعد أن افتتحت السورة الكريمة بالحديث المجمل عن الغنائم وساقت في أعقابه ما ساقت من توجيه وإرشاد وترغيب وترهيب .
بعد كل ذلك عادت السورة إلى الحديث عن الغنائم ، ففصلت ما أجملته في مطلعها ، وذكَّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم الله إياها في بدر .
ومن ذلك : أنه –سبحانه- هيأ لهم المكان المناسب لقتال أعدائهم ، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين بدون موعد سابق . . وقلل كل فريق في عين الآخر ليقضي –سبحانه- قضاءه النافذ . .
قال –تعالى- : [ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير . إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ، والركب أسفل منكم ، ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ] .
( ز ) ثم يأتي بعد ذلك النداء السادس والأخير للمؤمنين ، فيأمرهم –سبحانه- فيه بالثبات عند لقائهم لأعدائهم ، وبالإكثار من ذركه ، وبالطاعة التامة له ولرسوله ، وبالابتعاد عن التنازع والاختلاف .
ثم ينهاهم عن التشبه بالمرائين ، والمتكبرين ، والمغرورين ، الذين زين لهم الشيطان سوء أعمالهم –ولكنه عندما تراءى الجمعان نكص على عقبيه- والذين سيكون مصيرهم الهزيمة في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة بسبب كفرهم بآيات الله ، وإيثارهم الضلالة على الهداية .
قال –تعالى- : [ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، والله بما يعملون محيط . وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب ] .
( ح ) ثم تمضي السورة الكريمة في تصوير رذائل الكافرين ، وفي تشجيع المؤمنين على قتالهم ، وإعداد العدة لدحرهم وتشريدهم ما داموا مستمرين على كفرهم وخيانتهم . . ، فإن جنحوا للسلم . ومالوا إلى المصالحة والمهادنة فاقبل منهم ذلك –أيها الرسول الكريم ، واحترس من خداعهم وغدرهم ، وحرض أتباعك على قتالهم بصبر وجلد .
قال –تعالى- : [ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا لا يؤمنون ، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين . ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ] .
( ط ) ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى غزوة بدر من المشركين فبينت ما كان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في شأنهم ، وعاتبتهم لإيثارهم أخذ الفداء على ما عند الله من ثواب عظيم ، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه ، فإنه حلال طيب ، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق ، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخير الدنيا والآخرة . .
تأمل معي –أخي القارئ- هذه الآيات الكريمة التي ساقتها السورة في هذا المعنى .
[ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم . يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم ] .
( ي ) وإذا كانت السورة قد تحدثت في أوائلها عن صفات المؤمنين . . الصادقين ، وعن حال الذين كرهوا الخروج إلى القتال في بدر . . فإنها قد تحدثت في ختامها –أيضا- عن أصناف المؤمنين . . فمدحت المهاجرين السابقين ، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا ، لأنهم قد اشتركوا جميعاً في بذل أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله . . ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، بل ظلوا في أرض الشرك . ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية – وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين .
قال –تعالى- : [ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ، والذين آمنوا ولم يهاجر ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ، وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعلمون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم ] .
8- هذا عرض مجمل لما اشتملت عليه سورة الأنفال من توجيهات سامية ، وآداب عالية ، وتشريعات حكيمة . . .
ومن هذا العرض نرى أن السورة الكريمة قد اهتمت بأمور من أبرزها ما يلي :
( 1 ) تربية المؤمنين على العقيدة السليمة ، وعلى الطاعة لله ولرسوله . وإصلاح ذات بينهم ، والثبات في وجه أعدائهم ، والإكثار من التقرب إلى خالقهم ، والمداومة على مراقبته وخشيته وشكره ، فهو الذي هداهم للإيمان ، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره ورزقهم من الطيبات . . بعد أن كانوا ضالين ومستضعفين في الأرض .
ولقد أفاضت السورة في غرس هذه المعاني في نفوس المؤمنين لأنها نزلت كما سبق أن بينا –في أعقاب اللقاء الأول بينهم وبين أعدائهم- فكان من المناسب أن تكرر غرس هذه المعاني في القلوب حتى تستمر على طاعة الله ورسوله ، تلك الطاعة التي من ثمارها الظفر الدائم والخير الباقي . .
( ب ) تذكير المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد ، وبما كان منهم من مكر برسولهم صلى الله عليه وسلم ومن استهزائهم بدينهم وقرآنهم ومن عداوة شديدة للحق وأهله ، ومن صفات ذميمة جعلتهم أهلاً لاستحواذ الشيطان عليهم . . .
وهذا التذكير قد تكرر كثيراً في سورتنا هذه ، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم ، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء ، وما يبيتونه لهم من سوء وشر .
( ج ) إرشاد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي حربهم وسلمهم ، لأنه متى ساروا عليه حالفهم النصر ، وصاحبهم التوفيق .
ففي حالة الحرب : أمرتهم السورة الكريمة بأن يعدوا لأعدائهم كل ما يستطيعون من قوة . وأن يبذلوا أموالهم بسخاء من أجل نصرة الحق . . وأن يقاتلوا خصومهم بشجاعة وإقدام ، وأن يكثروا من التقرب إلى الله بصالح الأقوال والأعمال –خصوصاً في مواطن القتال- . . وأن يجعلوا غايتهم في قتالهم إحقاق الحق وإبطال الباطل [ حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . . ] .
وأن يؤثروا السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه ، فإن السلم هو الأصل أما الحرب فهي أمر لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة التي تقتضيها . . أما في حالة سلمهم : فقد أمرتهم السورة الكريمة بالتآخي والتناصر والتواد والتراحم والتصالح . . ونبذ التنازع والتخاصم والاختلاف والبطر .
كما أمرتهم بتقوى الله وبإيثار ما عنده من ثواب وأجر على الأموال والأولاد .
قال –تعالى- : [ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ] .
وهناك موضوعات أخرى تعرضت لها السورة :
كحديثها عن الغنائم ، وعن الأسرى ، وعن المعاهدات ، وعن أحداث غزوة بدر ، وعن الشاعر التي تحركت في نفوس بعض المشتركين فيها قبل أن تبدأ المعركة وخلالها وبعدها .
وقد ساقت السورة الكريمة كل ذلك بأسلوب يهدي القلوب ، ويشرح الصدور ، ويرشد الناس إلى مواطن عزهم وسعادتهم .
هذا ، ونرى من المناسب –أخي القارئ- أن نختم هذا العرض المجمل لسورة بدر –كما سماها ابن عباس- بتلخيص لقصة هذه الغزوة لنتنسم الجو الذي نزلت فيه هذه السورة ، ولندرك مرامي النصوص فيها . . لأننا نعتقد أن ما يعين على فهم الآيات القرآنية فهماً قويماً مستتيراً ، أن يكون القارئ أو المفسر لها ملماً بأسباب نزولها وبالجو التاريخي الذي نزلت فيه ، وبالأحداث التي لابست نزولها . . بجانب إلمامه بمدلولاتها اللغوية والبيانية . .
قال الإمام ابن هشام عند حديثه عن " غزوة بدر الكبرى " ( {[6]} ) .
قال ابن إسحاق : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام في عير لقريش عظيمة . . ندب المسلمين إليها وقال : " هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها " فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً .
وكان أبو سفيان –حين دنا من الحجاز- يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان : تخوفاً على أمر الناس –أي : على أموالهم التي معه في القافلة حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمر الغفاري فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة .
فلما وصلها أخذ يصرخ ببطن الوادي . . ويقول يا معشر قريش : اللطيمة اللطيمة –أي : العير التي تحمل الطيب والمسك والثياب . . - أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها . الغوث الغوث .
فتجهز الناس سراعاً وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً ، وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد .
- خرجوا بالقيان والدفوف يغنين في كل منهل ، وينحرون الجزر ، وهم تسعمائة وخمسون مقاتلاً ، وقادوا مائة فرس ، عليها مائة درع سوى درع المشاة ، وكان إبلهم سبعمائة بعير .
قال ابن إسحاق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه : واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس ، واستعمل على المدينة أبا لبابة . . ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير .
وكان إبل المسلمين يومئذ سبعين بعيراً ، فاعتقبوها –أي كانوا يركبونها بالتعاقب- وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ .
وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقه من المدينة إلى مكة على نقب المدينة ، ثم على العقيق ، ثم على ذي الحليفة . . ثم نزل قريباً من بدر . . وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال وأحسن . ثم قام عمر بن الخطب فقال وأحسن . ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : [ اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك لأنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله : إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلى ديارنا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا .
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله : لقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، وإنا لصُبُر في الحرب صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله .
ففرح –رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد . .
ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله –تعالى- قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم .
قال ابن إسحاق : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فسارا حتى وقفا على شيخ من العرب . فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم ، فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك . قال : أذاك بذاك ؟ قال : نعم ، قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به المسلمون .
وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان الذي أخبرني صدقني ، فهم اليوم بمكان كذا وكذا ، للمكان الذي فيه قريش .
فلما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء ، ثم انصرف عنه .
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى أرسل بعضهم إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له . . فأصابوا ساقيين لقريش فأتوا بهما . . فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم أخبراني عن قريش .
قالا : هم والله وراء الكثيب الذي نرى بالعدوة القصوى .
فقال لهما : كم القوم ؟ قالا كثير قال : ما عددهم ؟ قالا لا ندري قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً . فقال : القوم فيما بين التسعمائة والألف ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأمية بن خلف . . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها . .
قال ابن إسحاق : ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله فارجعوا . فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، فنقيم عليه ثلاثة ، ننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها .
وقال الأخنس بن شريق لبني زهرة ، يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم فارجعوا فرجعوا فلم يشهد غزوة بدر زهري واحد .
ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي : وبعث الله السماء بالماء فأصاب المسلمون منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء ماء نزل به . .
فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله ؟ أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والمكيدة والحرب ؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل هو الرأي والمكيدة والحرب .
فقال الحباب يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القُلُب –أي : ثم نغطي ما خلفه من الآبار- ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي " ثم نهض ومعه الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء . ثم قال سعد بن معاذ يا رسول الله ، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا . كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا . فقد تخلف عنك أقوام –يا نبي الله- ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك .
فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير ، ثم بنى لرسول الله عريش فكان فيه .
ثم ارتحل قريش حين أصبحت ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمة من الكثيب إلى الوادي قال : " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني . اللهم احثهم الغداة " .
ثم أرسلت قريش عمير بن وهب الجمحي فقالوا له : احزر لنا أصحاب محمد ، فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : هم ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً . .
ولقد رأيت –يا معشر قريش- البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت النافع . قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم . والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ، فرَوْا رأيكم .
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك إلى أن تفعل شيئاً تذكر به بخير إلى آخر الدهر ؟ فقال عتبة : وما ذاك يا حكيم ؟
قال : ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي . . .
قال عتبة : قد فعلت . . قم قام عتبة خطيباً في الناس فقال :
يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه . قتل ابن عمه أو ابن خاله . . فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب ؛ فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون . .
وبلغ كلام عتبة أبا جهل فسبه . . ثم بعث أبو جهل إلى ابن الحضرمي فقال له : هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك –أي : فقم فاطلب من الناس الوفاء بالعهد والأخذ بثأر أخيك . .
فقام ابن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ : واعمراه ، واعمراه ، فحميت الحرب ، واشتد أمر الناس ، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد أبو جهل الرأي الذي دعا عتبة الناس إليه . .
قال ابن إسحاق : ثم خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي –وكان شرساً سيئ الخلق- فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه فلما دنا منه خرج إليه حمزة بن عبد المطلب . فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه –أي أطارها- وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه . ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، فضربه حمزة حتى قتله في الحوض . .
ثم خرج عتبة بين أخيه شيبة وابنه الوليد بن عتبة . . فنادى يا محمد : أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يا عبيدة وقم يا حمزة وقم يا علي . . أما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه –أي : جرحه جرحاً شديداً لا يملك معه الحركة- وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه ، واحتملا عبيدة فحازاه إلى أصحابه .
قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله الناس أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : " إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل " . . .
ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله –ومعه أبو بكر الصديق . . وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ويقول فيما يقول : " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، وأبو بكر يقول : يا رسول الله بعض مناشدتك ربك ، فإن ا لله منجز لك ما وعدك " .
ثم خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال : " أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله . هذا جبريل آخذ بعنان فرس . . يقوده على ثناياه النقع " –أي الغبار .
وكان قد رمى مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل . . من المسلمين .
ثم رمى حارثة بن سراقة وهو يشرب من الحوض بسهم فقتل .
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال : " والذي نفس محمد بيده . لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة " . .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشاً بها ، ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال : " شدوا " فكانت الهزيمة فقتل الله –تعالى- من قتل من صناديد قريش ، وأسر من أسر من أشرافهم . .
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ! " .
فقال سعد : أجل والله يا رسول الله ؟ كانت هذه أول موقعة أوقعها الله بأهل الشرك ، فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال . .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه يومئذ : " إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً ، ولا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البحتري فلا يقتله . .
قال ابن إسحاق : -وبعد انتهاء المعركة- أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن يطرحوا في القليب فلما طرحوا وقف عليهم فقال : " بئس العشيرة كنتم لنبيكم- يا أهل القليب- لقد كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس " .
ثم قال : " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً " فقال المسلمون : يا رسول الله ! أتنادي قوماً قد جَيَّفوا ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني " .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع ، فاختلف فيه المسلمون ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو . . : والله لولا نحن ما أصبتموه . .
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشر أهل المدينة بنصر الله لهم على المشركين .
ثم فرق الرسول صلى الله عليه وسلم الأسرى من المشركين بين أصحابه وقال لهم :
قال ابن إسحاق : وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي فقالوا له : ما وراءك ؟ فقال ، قتل عتبة ، وشيبة ، وأبو الحكم بن هشام ، وأمية بن خلف . . فلما جعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا ، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر : والله إن يعقل هذا فاسألوه عني ! ! فقالوا له : ما فعل صفوان بن أمية ؟ فقال : ها هو ذاك في الحجر ، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا . .
ولما قدم أبو سفيان بن الحارث قال له أبو لهب : هلم إلى ، فعندك لعمري الخير ! ! فجلس إليه الناس قيام عليه فقال له أبو لهب : يا بن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ؟
فقال أبو سفيان : والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا . ويأسروننا كيف شاءوا . .
أما بعد : فهذا ملخص لغزوة بدر سقناه قبل البدء في التفسير التحليلي لسورة الأنفال ، وقصدنا من ذكر هذا الملخص لهذه الغزوة الحاسمة : أن نتنسم الجو الذي نزلت فيه السورة –كما سبق وأشرنا- وأن نستعين به على فهم الآيات فهما واضحاً مستنيراً . .
لأن سورة الأنفال هي سورة بدر كما سماها ابن عباس –رضي الله عنه- وفي ختام هذا التعريف بسورة الأنفال ، نسأل الله –تعالى- أن يوفقنا لتفسير آياتها تفسيرا واضحاً مقبولاً ، بعيداً عن الانحراف . محرراً من لغو القول وباطله . .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
لعل من الخير قبل أن نتكلم في تفسير هذه الآيات الكريمة أن نذكر بعض الروايات التي وردت في سبب نزولها . فإن معرفة سبب النزول يعين على الفهم السليم .
قال الإِمام ابن كثير - ما ملخصه - روى الإِمام أحمد بن عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرا فالتقى الناس . فهزم الله - تعالى - العدو ، فانطلقت طائفة في آثام يهزمون ويقتلون . وأقبلت طائفة على العسكر يجوزونه ويجمعونه . وأحدثت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكى لا يصيب العدو منه غرة . حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها ، فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم . وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لستم أحق بها منا . نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم مخافة أن صيب منه غرة فاشتغلنا به - فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } . . فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين .
وروى أبو داود والنسائى وابن جرير وابن مردويه - واللفظ له - عن ابن عباس قال : " لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع في ذلك شبان القوم ، وبقى الشيوخ تحت الرايات . فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم . فقال الشيوخ : لا تسأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، لو انكشفتم لبثتم إينا . فتنازعوا ، فأنزل الله - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } " .
وقال الثورى ، عن الكلبى ، عن أبى صالح عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " ، فجاء أبو اليسر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليك - أنت وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شئ ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك . فتشاجروا ، ونزل القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } " .
وقال الإِمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول عن أبى أمامة قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدنا وجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقسمه بين المسلمين عن بواء - أى : على السواء .
هذه بعض الروايات التي وردت في سبب نزول هذه الآيات ، ومنها يتبين لنا أن نزاعاً حدث بين بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، حول الغنائم التي ظفروا بها من هذه الغزوة ، فأنزل الله - تعالى - في هذه الآيات بيان حكمه فيها .
والضمير في قوله { يَسْأَلُونَكَ } يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر ، لأن السورة نزلت في هذه الغزوة ، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها ، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها .
قال الإِمام الرازى - ما ملخصه - : فإن قيل من هم الذين سألوا ؟ فالجواب : إن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } إخبار عمن لم يسبق ذكرهم ، وحسن ذلك ههنا ، لأنه في حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً فانصرف اللفظ إليهم . ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال ، وهم أقوام من الصحابة اشتركوا في غزوة بدر .
والأنفال جمع نفل - بفتح النون والفاء - كسبب وأسباب - وهو في أصل اللغة من النفل - بفتح فسكون - أى : الزيادة ، ولذا قيل للتطوع نافلة ، لأنه زيادة عن الأصل وهو الفرض وقيل لولد الولد نافلة ، لأنه زيادة على الولد . قال - تعالى - : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قال الآلوسى : ثم صار النفل حقيقة في العطية ، لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كان زيادة ، ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإِمام للغازى زيادة على سهمه لرأى يراه سواء أكان لشخص معين أو لغير معين ، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإِمام لمن صدر منه اثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام ، وغيرهما .
وإطلاقه على الغنيمة ، باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله ، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة ، أو باعتبار أنها منحة من الله - تعالى - من غير وجوب .
ثم قال : ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص . فقيل : الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء أكان بتعب أو بغير تعب ، قبل الظفر أو بعده ، والنفل ما كان قبل الظفر ، أو ما كان بغير قتال وهو " الفئ " .
والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما ورى عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، وطائفة من الصحابة وغيرهم .
هذا ، وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأنفال - أي الغنائم - إنما هو حكمها وعن المستحق لها ، فيكون المعنى :
يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ؟ ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال يحكم فيها بحكمه - سبحانه - وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها .
وفى هذه الإِجابة على سؤالهم تريبة حكيمة لهم - وهم في أول لقاء لهم مع أعداءهم حتى يجعلوا جهادهم من أجل إعلاء كملة الله . أما الغنائم والأسلوب وأعراض الدنيا التي تأتيهم من وراء جهاده فعليهم ألا يجعلوها ضمن غايتهم السامية من جهادهم ، وأن يفوضوا الأمر فيها لله ورسوله عن إذعان وتسليم .
وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء ، وأن المراد بالأنفعال ما شرط للغازى زيادة على سهمه ، وأن حرف " عن " زائدة ، أو هو بمعنى من ، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفعال التي وعدتهم بها زايدة على سهامهم فيها . قل لهم : الأنفال لله ولرسوله .
والذى نراه أن الرأى الأول أرجح وذلك لأمور منها :
1- بعض الروايات التي وردت في أسباب نزول هذه الآية تؤيده تأييداً صريحاً ، ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن عبادة بن الصامت أنه قال : " فينا معشر أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا . فجعله إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم فقسمه بين المسلمين عن بواء " .
2- ولأن غزوة بدر كانت أول غزوة لها شأنها وأثرها بين المسلمين والكافرين ، وكانت غنائهما الضخمة التي ظفر بها المؤمنون من المشركين ، حافزاً لسؤال بعض المؤمنين رسولهم - صلى الله عليه وسلم -عن حكمها وعن المستحق لها .
3- ولأن الجواب عن السؤال بقوله - تعالى - : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } يؤيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن مصرفها ، إذ أن هذا الجواب يفيد أن اختصاص أمرها وحكمها مرجعه إلى الله ورسوله دون تدخل أحد سواهما .
ولو كان السؤال للاستعطاء لما كان هذا جواباً له ، فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله والرسول لا ينافى إعطاءه إياهم بل يحققه ، لأنهم إنما يسألونه بموجب شطره لهم الصادر عنه بإذن الله - تعالى - لا بحكم سبق أيديهم إليهم أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور .
4- ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ . . } إلخ يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها بعد أن تنازعوا في شأنها ، فهو - سبحانه - ينهاهم عن هذا التنازع ، وبأمرهم بأن يصونوا أنفهسم عن كل ما يغضب الله . . . ولو كان السؤال للاستعطاء - بناء على ما شرطه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض زيادة على سهامهم - لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه ، لأنهم لم يطلبوا من الرسول إلا ما وعدهم به وهذا لا محظور فيه .
5- ولأن الآية الكريمة بمطوقها الواضح ، وبتركيبها البليغ ، وبتوجيهها السامى ، تفيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال وعن المستحق لها . . أما القول بأن السؤال سؤال استعطاء وأن عن زائدة أو بمعنى من فهو تكلف لا ضرورة إليه .
والمعنى الواضح الجلى للآية الكريمة - كما سبق أن بينا - : يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ، ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه ، ولرسوله يقسمها بحسب حكم الله فيها ، فهو - سبحانه - العليم بمصالح عباده ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وحه الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله : { قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } ؟
قلت : معناه أن حكمها مختص بالله ورسوله ، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، و يمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأى أحد ، والمراد : " أن الذي اقتضته حكمته الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات ، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم ، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافى " .
وقوله : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حض لهم على تقوى الله وامتثال أمره ، وإصلاح ذات بينهم ، وتحذير لهم من الوقوع في المعاصى والنزاع والخلاف .
وكلمة { ذَاتَ } بمعنى حقيقة الشئ ونفسه . ، ولا تستعمل إلا مضافة إلى الظاهر ، كذات الصدور ، وذات الشوكة .
وكلمة { بِيْنِكُمْ } ، من البين ، وهو مصدر بان يبين بيناً ، متى بعد ، ويطلق على الاتصال والفراق ، أى : على الضدين ، ومنه قول الشاعر :
فوالله لولا البين لم يكن الهوى . . . ولولا الهوى ما حس للبين آلف
أى : فاتقوا الله - أيها المؤمنون - ، واصلحوا نفس ما بينكم وهى الحال والصفة التي بينكم والتى تربط بعضكم ببضع وهى رابطة الإِسلام . وإصلاحها يكون بما يقتضيه كمال الإِيمان من الموادة والمصافاة ، وترك الاختلاف والتنازع ، والتمسك بفضيلة الإِيثار .
وكلمة { ذَاتَ } على هذا المعنى مفعول به .
ومنهم من يرى أن كلمة " ذات " بمعنى صاحبة ، وأنها صفة لمفعول محذوف ، فيكون المعنى : فاتقوا الله وأصلحوا أحوالا ذات بينكم .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " فإن قلت : ما حقيقة قوله : { ذَاتَ بِيْنِكُمْ } " .
قلت : أحوال بينكم ، يعنى ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال ألفة ومودة واتفاق .
كقوله : { بِذَاتِ الصدور } وهى مضمراتها .
ولما كانت أحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : استقنى ذا إنائك ، يريدون ما في الإِناء من الشراب . .
وقوله { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } معطوف على ما قبله ، وهو قوله : { فاتقوا الله } .
أى : فاتقوا الله - أيها المؤمنون - في كل أقوالكم وأفعالكم ، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة ومودة ، وأطيعوا الله ورسوله في حكمه الذي قضاه في الأنفال وفى غيرها ، من كل أمر ونهى ، وقضاء وحكم . .
وقد كر - سبحانه - الاسم الجليل في هذه الآية ثلاث مرات ، لتربية المهابة في القلوب ، وتعليل الحكم حتى تقبله النفوس بإذعان وتسليم .
وذكر - سبحانه - رسوله معه مرتين في هذه الآية ، لتعظيم شأنه ، وإظهار شرفه ، والإِذيان بأن طاعته - صلى الله عليه وسلم - طاعة لله - تعالى - ، ومخالفته مخالفة لأمر الله - تعالى ؟ قال - سبحانه - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ووسَّط - سبحانه - الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة ، لإِظهار كمال العناية بالإِصلاح ، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة .
وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالأوامر الثلاثة السابقة ، وهى : التقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله ورسوله .
وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أى : إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة السابقة .
قال الآلوسى : قوله { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه ، أو المذكور هو الجواب على الخلاف المشهور . وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم ، وهو يكفى التعليق بالشرط .
والمراد بالإِيمان : التصديق . ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر ، على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة .
وقد يراد بالإِيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر ، فالمعنى : إن كنتم كاملى الإِيمان ، فإن كمال الإِيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة : الاتقاء ، والإِصلاح ، وإطاعة الله - تعالى - .
ويؤيد إرادة الكمال قوله - سبحانه - بعد ذلك { إِنَّمَا المؤمنون } إذ المراد به قطعا الكاملون في الإِيمان وإلا لم يصح الحصر . .
وعلى أية حال ففى هذا التذييل تنشيط للمخاطبين ، وحث لهم على الامتثال والطاعة ، ودعوة لهم إلى أن يكون إيمانهم إيمانا عميقا راسخا ، متفقا مع كل ما جاءهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من هدايات وإرشادات ، ومتساميا عن كل ما يخدش صفاءه ونقاءه من متع وشهوات .
{ يسألونك عن الأنفال } أي الغنائم يعني حكمها ، وإنما سميت الغنيمة نفلا لأنها عطية من الله وفضل كما سمي به ما يشرطه الأمام لمقتحم خطر عطية له وزيادة على سهمه . { قل الأنفال لله والرسول } أي أمرها مختص بهما يقسمها الرسول على ما يأمره الله به . وسبب نزوله اختلاف المسلمين في غنائم بدر أنها كيف تقسم ومن يقسم المهاجرون منهم أو الأنصار . وقيل شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم -وكان المال قليلا- فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا ردءاً لكم وفئة تنحازون إلينا ، فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء ، ولهذا قيل : لا يلزم الإمام أن يفي بما وعد وهو قول الشافعي رضي الله عنه ، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوهبته منه فقال : ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألتني السيف وليس لي وأنه قد صار لي فاذهب فخذه . وقرئ " ويسألونك علنفال " بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ، ويسألونك الأنفال أي يسألك الشبان ما شرطت لهم . { فاتقوا الله } في الاختلاف والمشاجرة . { وأصلحوا ذات بينكم } الحال التي بينكم بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله وتسليم أمره إلى الله والرسول . { وأطيعوا الله ورسوله } فيه . { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي ذلك ، أو إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان بهذه الثلاثة : طاعة الأوامر ، والاتقاء عن المعاصي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان .