{ وإن منكم إلا واردها } الخطاب للناس من غير التفاف أو للإنسان المذكور فيكون التفاتا ، وقيل للكفار ، وقرئ وإن منهم لمناسبة الآيات التي قبل هذه فإنها في الكفار ، وهي قوله : فوربك لنحشرنهم ، الآيات وكذلك قرأ عكرمة وجماعة ، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم ، والمعنى ما منكم من أحد مسلما كان أو كافرا إلا واردها أي واصلها وداخلها ، والضمير يرجع إلى النار ؛ وقيل إلى يوم القيامة والأول أولى .
وقد اختلف الناس في هذا الورود ، فقيل الورود الدخول لقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ، لكنه يختص بالكفار لقراءة وإن منهم ، وتحمل القراءة المشهورة على الالتفات ويستثنى الأنبياء والمرسلون ، وتكون على المؤمنين بردا وسلاما ، كما كانت على لإبراهيم .
وقالت فرقة : الورود هو المرور على الصراط ، لان الصراط ممدود عليها ، فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار ، وعلى هذا لا يستثنى الأنبياء والمرسلون ، بل يمر عليه جميع الخلق . روي ذلك عن ابن عباس وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم والحسن .
وعن مجاهد :ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : الحمى حظ كل مؤمن من النار{[1174]} ، وفيه بعد . وقيل ليس الورود الدخول إنما هو كما تقول وردت البصرة ولم أدخلها ، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود ، وحمله على ظاهره لقوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } قالوا فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها ، وأجابوا عنه بأن معناه أنهم مبعدون عن العذاب فيها والاحتراق بها ، فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها .
وقالت فرقة : الورود هو الإشراف والاطلاع والقرب ، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة كما سيأتي ، ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى : { ولما ورد ماء مدين } فإن المراد أنه أشرف عليه لا أنه دخل فيه ، ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه ، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة فينبغي حمل هذه الآية على ذلك لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعدا من عذابها ، أو بحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها ، وهو الصراط .
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضنا يدخلونها جميعا ثم ننجي الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له فقال- وأهوى بأصبعه إلى أذنيه- صممنا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردها { ثم ننجي الذين اتقوا } الآية{[1175]} . وأسنده أبو عمرو في كتاب التمهيد . وعلى هذا فالورود الدخول ؛وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم .
وفي الحديث فتقول النار للمؤمنين : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي وعن مجاهد قال : خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال : الورود الدخول وقال نافع : لا ، فقرأ ابن عباس : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } وقال أورود أم لا ؟ وقرأ . { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } ، ورود أم لا ؟ أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر هال نخرج منها أم لا ؟ وقرأ ابن مسعود " وإن منكم إلا داخلها " مكان " واردها " وعنه قال : ورودها الصراط وقال رجل من الصحابة لآخر : أيقنت بالورود . قال نعم ، قال وأيقنت بالصدور قال لا ، قال ففيم الضحك وفيما التثاقل .
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون منها بأعمالهم ، فأولهم كلمح البرق ، ثم كالريح ، ثم كحضر الفرس ، ثم كالركب المجد في رحله ، ثم كشد الرجل في مشية{[1176]} وقد روى نحوه عنه من طريق ، وهو في مسند الدرامي أيضا . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وإن منكم إلا واردها } يقول مجتازا فيها .
وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية . قالت حفصة أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } قال ألم تسمعيه يقول { ثم ننجي الذين اتقوا } .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم ؛ ثم قرأ سفيان { وإن منكم إلا واردها } {[1177]} .
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والطبراني عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من جهس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا . لا يأخذه سلطان لم يرى النار بعينيه إلا تحلة القسم ، فإن الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جدا .
وأما فائدة دخول المؤمنين النار ، إذا لم يكن عذاب فبوجوه . أحدها أن ذلك مما يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه ؛ وثانيها أن فيه مزيد همّ على أهل النار حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها ، وثالثها أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب على الكفار صار ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة ، ولا نقول صريحا إن الأنبياء يدخلون النار أدبا معهم ، ولكن نقول إن الخلق جميعا يردونها كما دلت عليه أحاديث الباب ، فالعصاة يدخلونها بجرائمهم ، والأولياء والسعداء يدخلونها لشفاعتهم ، فبين الداخلين بون .
{ كان على ربك حتما مقضيا } أي كان ورودهم المذكور أمرا محتوما لازما قد قضى سبحانه أنه لابد من وقوعه لا محالة بمقتضى حكمته لا بإيجاب غيره عليه قال مجاهد : مقضيا قضاء من الله . وقال عكرمة : قسما واجبا . قالت الأشاعرة : إن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرق الخلف إليه .
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله ، وأن صاحب الكبيرة مخلد ، والفاسق مخلد في النار ، بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ، ثم بين صفة من ينجو ، وهم المتقون ، والفاسق لا يكون متقيا فبقي في النار أبدا .
وأجيب عن ذلك بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك ، فصاحب الكبيرة متق ، فوجب أن يخرج من النار بعموم قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا } فالآية التي توهموها دليلا لهم هي من أقوى الدلائل على فساد قولهم ، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار وهي معروفة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.