فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمٗا مَّقۡضِيّٗا} (71)

{ وإن منكم إلا واردها } الخطاب للناس من غير التفاف أو للإنسان المذكور فيكون التفاتا ، وقيل للكفار ، وقرئ وإن منهم لمناسبة الآيات التي قبل هذه فإنها في الكفار ، وهي قوله : فوربك لنحشرنهم ، الآيات وكذلك قرأ عكرمة وجماعة ، لكن الأكثرون على أن المخاطب العالم كلهم ، والمعنى ما منكم من أحد مسلما كان أو كافرا إلا واردها أي واصلها وداخلها ، والضمير يرجع إلى النار ؛ وقيل إلى يوم القيامة والأول أولى .

وقد اختلف الناس في هذا الورود ، فقيل الورود الدخول لقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ، لكنه يختص بالكفار لقراءة وإن منهم ، وتحمل القراءة المشهورة على الالتفات ويستثنى الأنبياء والمرسلون ، وتكون على المؤمنين بردا وسلاما ، كما كانت على لإبراهيم .

وقالت فرقة : الورود هو المرور على الصراط ، لان الصراط ممدود عليها ، فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار ، وعلى هذا لا يستثنى الأنبياء والمرسلون ، بل يمر عليه جميع الخلق . روي ذلك عن ابن عباس وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم والحسن .

وعن مجاهد :ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : الحمى حظ كل مؤمن من النار{[1174]} ، وفيه بعد . وقيل ليس الورود الدخول إنما هو كما تقول وردت البصرة ولم أدخلها ، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود ، وحمله على ظاهره لقوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } قالوا فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها ، وأجابوا عنه بأن معناه أنهم مبعدون عن العذاب فيها والاحتراق بها ، فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها .

وقالت فرقة : الورود هو الإشراف والاطلاع والقرب ، وذلك أنهم يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ، ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة كما سيأتي ، ومما يدل على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى : { ولما ورد ماء مدين } فإن المراد أنه أشرف عليه لا أنه دخل فيه ، ولا يخفى أن القول بأن الورود هو المرور على الصراط أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه ، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنة فينبغي حمل هذه الآية على ذلك لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعدا من عذابها ، أو بحمله على المضي فوق الجسر المنصوب عليها ، وهو الصراط .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضنا يدخلونها جميعا ثم ننجي الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له فقال- وأهوى بأصبعه إلى أذنيه- صممنا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردها { ثم ننجي الذين اتقوا } الآية{[1175]} . وأسنده أبو عمرو في كتاب التمهيد . وعلى هذا فالورود الدخول ؛وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم .

وفي الحديث فتقول النار للمؤمنين : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي وعن مجاهد قال : خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال : الورود الدخول وقال نافع : لا ، فقرأ ابن عباس : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } وقال أورود أم لا ؟ وقرأ . { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } ، ورود أم لا ؟ أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر هال نخرج منها أم لا ؟ وقرأ ابن مسعود " وإن منكم إلا داخلها " مكان " واردها " وعنه قال : ورودها الصراط وقال رجل من الصحابة لآخر : أيقنت بالورود . قال نعم ، قال وأيقنت بالصدور قال لا ، قال ففيم الضحك وفيما التثاقل .

وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يرد الناس كلهم النار ثم يصدرون منها بأعمالهم ، فأولهم كلمح البرق ، ثم كالريح ، ثم كحضر الفرس ، ثم كالركب المجد في رحله ، ثم كشد الرجل في مشية{[1176]} وقد روى نحوه عنه من طريق ، وهو في مسند الدرامي أيضا . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وإن منكم إلا واردها } يقول مجتازا فيها .

وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية . قالت حفصة أليس الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } قال ألم تسمعيه يقول { ثم ننجي الذين اتقوا } .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يموت لمسلم ثلاث من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم ؛ ثم قرأ سفيان { وإن منكم إلا واردها } {[1177]} .

وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والطبراني عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من جهس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا . لا يأخذه سلطان لم يرى النار بعينيه إلا تحلة القسم ، فإن الله يقول : { وإن منكم إلا واردها } والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جدا .

وأما فائدة دخول المؤمنين النار ، إذا لم يكن عذاب فبوجوه . أحدها أن ذلك مما يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه ؛ وثانيها أن فيه مزيد همّ على أهل النار حيث يرون المؤمنين يتخلصون منها وهم باقون فيها ، وثالثها أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب على الكفار صار ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة ، ولا نقول صريحا إن الأنبياء يدخلون النار أدبا معهم ، ولكن نقول إن الخلق جميعا يردونها كما دلت عليه أحاديث الباب ، فالعصاة يدخلونها بجرائمهم ، والأولياء والسعداء يدخلونها لشفاعتهم ، فبين الداخلين بون .

{ كان على ربك حتما مقضيا } أي كان ورودهم المذكور أمرا محتوما لازما قد قضى سبحانه أنه لابد من وقوعه لا محالة بمقتضى حكمته لا بإيجاب غيره عليه قال مجاهد : مقضيا قضاء من الله . وقال عكرمة : قسما واجبا . قالت الأشاعرة : إن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرق الخلف إليه .

وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله ، وأن صاحب الكبيرة مخلد ، والفاسق مخلد في النار ، بدليل أن الله بين أن الكل يردونها ، ثم بين صفة من ينجو ، وهم المتقون ، والفاسق لا يكون متقيا فبقي في النار أبدا .

وأجيب عن ذلك بأن المتقي هو الذي يتقي الشرك ، فصاحب الكبيرة متق ، فوجب أن يخرج من النار بعموم قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا } فالآية التي توهموها دليلا لهم هي من أقوى الدلائل على فساد قولهم ، وهذا من حيث البحث وأما من حيث النص فقد وردت أحاديث تدل على إخراج المؤمن الموحد من النار وهي معروفة .


[1174]:وتتمته:"وحمى ليلة تكفر خطايا سنة مجرمة" ضعيف الجامع الصغير 2795 سلسلة الأحاديث الضعيفة 3532.
[1175]:المستدرك كتاب الأحوال 4/587.
[1176]:المستدرك كتاب الأهوال 4/586.
[1177]:مسلم2632- البخاري 671