ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حد الزانى والزانية ، وقبح جريمة الزنا تقبيحا يحمل عل النفور ، وحرمها على المؤمنين تحريما قاطعا ، فقال - تعالى - : { الزانية .
قوله - تعالى - : { الزانية والزاني . . } شروع فى تفصيل الأحكام ، التى أشار إليها - سبحانه - فى الآية الأولى من هذه السورة ، وهى قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا . . . } والزنا من الرجل معناه : وطء المرأة من غير ملك ولا شبهة ملك ومعناه من المرأة : أن تمكن الرجل من أن يزنى بها .
والخطاب فى قوله - تعالى - : { فاجلدوا . . . } للحكام المكلفين بتنفيذ حدود الله - عز وجل - .
قال الجمل : " وفى رفع " الزانية والزانى " وجهان : أحدهما - وهو مذهب سيبويه - أنه مبتدأ خبره محذوف . أى : فيما يتلى عليكم حكم الزانية ، ثم بين ذلك بقوله : { فاجلدوا . . } والثانى : وهو مذهب الأخفش وغيره - أنه مبتدأ . والخير جملة الأمر ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط . . " .
فإن قيل : ما الحكمة فى أن يبدأ الله فى فاحشة الزنا بالمرأة ، وفى جريمة السرقة بالرجل ، حيث قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا . . . } فالجواب : أن الزنا من المرأة أقبح ، فإنه يترتب عليه فساد الأنساب ، وإلحاق الدنس والعار بزوجها وأهلها ، وافتضاح أمرها عن طريق الحمل ، وفضلا عن ذلك ، فإن تمكينها نفسها للرجل : هو الذى كان السبب فى اقترافه هذه الفاحشة ، فلهذا وغيره قدمت المرأة هنا .
وأما جريمة السرقة ، فالغالب أن الرجال أكثر إقداما عليها ، لأنها تحتاج إلى جسارة وقوة ، واجتياز للمخاطر . . . لذا قدم الرجل على المرأة فيها .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله . . } نهى منه - سبحانه - عن التهاون فى تنفيذ حدوده ، وحض على إقامتها بحزم وقوة ، والرأفة : أعلى درجات الرحمة . يقال : رؤف فلان بفلان - بزنة كرم - إذا اشتد فى رحمته ، وفى العناية بأمره .
أى : أقيموا - أيها الحكام - حدود الله - تعالى - على الزانية والزانى بأن تجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، دون أن تأخذكم شفقة أو رحمة فى تنفيذ هذه الحدود ، ودون أن تقبلوا فى التخفيف عنهما شفاعة شفيع ، أو وساطة وسيط ، فإن الله - تعالى - الذى شرع هذه الحدود . وأمر بتنفيذها بكل شدة وقوة ، أرحم بعباده وبخلقه منكم . والرحمة والرأفة فى تنفيذ أحكامه ، لا فى تعطيلها . ولا فى إجرائها على غير وجهها .
وقوله - سبحانه - : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر . . . } تأكيد لما قبله ، وإلهاب لمشاعرهم ، لتنفيذ حدود الله - تعالى - .
أى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا ، فأقيموا حدود الله ، وأجلدوا الزانية والزانى مائة جلدة ، لا تأخذكم بهما رأفة أو شفقة فى ذلك .
وقوله - سبحانه - : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } بيان لما يجب على الحكام أن يفعلوه عند تنفيذ العقوبة والأمر بشهود عذابهما للاستحباب لا للوجوب .
والمراد بعذابهما : إقامة الحد عليهما ، والطائفة فى الأصل : اسم فاعل من الطواف ، وهو الدوران والإحاطة . وتطلق الطائفة عند كثير من اللغوين على الواحد فما فوقه .
قال الآلوسى : " والحق أن المراد بالطائفة هنا ، جماعة يحصل بهم التشهير والزجر ، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة . وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه " .
ولعل السبب فى وجاهة رأى القائلين بالأربعة أن هذا العدد هو الذى يثبت به الزنا .
أى : وليشهد إقامة الحد على الزانية والزانى ، عدد من المؤمنين ، ليكون زيادة فى التنكيل بمن يرتكب هذه الفاحشة ، وأدعى إلى الاعتبار والاتعاظ وأزجر لمن تسول له نفسه الإقدام على تلك الجريمة النكراء .
وقرأ جمهور الناس «الزانيةُ » بالرفع ، وقرأ عيسى الثقفي «الزانيةَ » بالنصب وهو أوجه عن سيبويه لأنه عنده كقولك زيداً أضرب ، ووجه الرفع عنده خبر ابتداء تقديره فيما يتلى عليكم { الزانية والزاني } ، وأجمع الناس على الرفع ، وإن كان القياس عند سيبويه النصب ، وأما الفراء والمبرد والزجاج فإن الرفع عندهم هو الأوجه والخبر في قوله { فاجلدوا } لأن المعنى { الزانية والزاني } مجلودان بحكم الله تعالى وهذا قول جيد وهو قول أكثر النحاة ، وان شئت قدرت الخبر ينبغي أن يجلدا ، وقرأ ابن مسعود «والزان » بغير ياء ، وقدمت { الزانية } في اللفظ من حيث كان في ذلك الزمن زنى النساء أفشى{[8564]} وكان لأمراء العرب وبغايا الوقت رايات وكن مجاهرات بذلك وإذا العار بالنساء ألحق إذ موضعهن الحجبة{[8565]} والصيانة ، فقدم ذكرهن تغليظاً واهتماماً ، والألف واللام في قوله : { الزانية والزاني } للجنس وذلك يعطي أنها عامة في جميع الزناة وهذه الآية باتفاق ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء{[8566]} ، وجماعة العلماء على عموم هذه الآية وأن حكم المحصنين منسوخ منها ، واختلفوا في الناسخ فقالت فرقة الناسخ السنة المتواترة في الرجم ، وقالت فرقة بل القرآن الذي ارتفع لفظه وبقي حكمه وهو الذي قرأه عمر في المنبر بمحضر الصحابة : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة » ، وقال إنا قرأناه في كتاب الله تعالى{[8567]} ، واتفق الجميع على أن لفظه رفع وبقي حكمه ، وقال الحسن بن أبي الحسن وابن راهويه ليس في هذه الآية نسخ بل سنة الرجم جاءت بزيادة ، فالمحصن ، على رأي هذه الفرقة يجلد ثم يرجم ، وهو قول علي بن أبي طالب وفعله بشراحة{[8568]} ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم
«والثيب بالثيب جلد مائة والرجم »{[8569]} ، ويرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث يرجم ولم يجلد ، وبه قال جمهور الأمة إذ فعله كقوله رفع الجلد عن المحصن وقال ابن سلام وغيره هذه الآية خاصة في البكرين .
قال الفقيه الإمام القاضي : لأنه لم يبق من هذا حكمه إلا البكران واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام »{[8570]} ، وبقوله «على ابنك جلد مائة »{[8571]} ، واستدلوا على أنها غير عامة بخروج الإماء والعبيد وغيرهم منها ، وقد تقدم بسط كثير من هذه المعاني في سورة النساء{[8572]} ، و «الجلد » يكون والمجلود قاعد ، عند مالك ولا يجزىء عنده إلا في الظهر ، وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يجلد الرجل وهو واقف وهو قول علي بن أبي طالب ويفرق الضرب على كل الأعضاء ، وأشار ابن عمر بالضرب إلى رجلي أمة جلدها في الزنى والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمقاتل ، ويترجح قول مالك رحمه الله بقول النبي صلى الله عليه وسلم «البينة أو حد في ظهرك »{[8573]} ، وقول عمر : أو لأوجعن مثناك{[8574]} ، ويعرى الرجل عند مالك والنخعي وأبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وعمر بن عبدالعزيز والحسن والشعبي وغيرهم يرون أن يضرب على قميص وهو قول عثمان بن مسعود أيضاً ، وأما المرأة فتستر قولاً واحداً ، وقرأ الجمهور «رأْفة » همزة ساكنة على وزن فعلة ، وقرأ ابن كثير «رأَفة » على وزن فعَله بفتح العين ، وقرأ عاصم أيضاً «رآفة » على وزن فعالة كسآمة وكآبة ، وهذه مصادر أشهرها الأولى من رأف إذا أرق ورحم ، وقرأ الجمهور «تأخذكم » بالتاء من فوق ، وقرأ أبو عبد الرحمن «يأخذكم » بالياء من تحت واختلف الناس في الرأفة المنهي عنها فيم هي فقال أبو مجلز ولاحق بن حميد{[8575]} ومجاهد وعكرمة وعطاء هي في إسقاط الحد أي أقيموه ، ولا بد وهذا تأويل ابن عمر وابن جبير وغيرهما ومن رأيهم أن الضرب في الزنا والفرية والخمر على نحو واحد ، وقال قتادة وابن المسيب وغيرهما «الرأفة » المنهي عنها في تخفيف الضرب عن الزناة ، ومن رأيهم أن يخفف ضرب الخمر والفرية ، ويشتد ضرب الزنا ، وقال سليمان بي يسار{[8576]} نهي عن الرأفة في الوجهين ، وقال أبو مجلز إنا لنرجم المحدود ولكن لا نسقط الحد .
قال الفقيه الإمام القاضي : وقول النبي عليه السلام في السوط دون هذا{[8577]} ، ضرب من الرأفة وقال عمر اضرب ولا تبدين إبطك ، واتفق الناس على أن الضرب سوط بين سوطين ، وقال الزهري ضرب الزنا والفرية مشدد لأَنهما بمعنى واحد وضرب الخمر مخفف ، وقوله { في دين الله } بمعنى في الإخلال بدين الله أَي بشرعه ، ويحتمل أن يكون «الدين » هنا بمعنى الحكم{[8578]} ، ثم قررهم على معنى التثبيت والحض بقوله : { إن كنتم تؤمنون بالله } وهذا كما تقول لرجل تحضه إن كنت رجلاً فافعل كذا أي هذه أفعال الرجال وقوله { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ، المقصد بالآية الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضرة الناس ، فلا خلاف أن «الطائفة » كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر ، واختلف الناس في أَقل ما يجزىء فقال الحسن بن أبي الحسن لا بد من حضور عشرة رأى أن هذا العدد عقد خارج عن الآحاد وهي أقل الكثرة .
وقال ابن زيد وغيره ولا بد من حضور أربعة ، ورأوا أن شهادة الزنا كذلك وأن هذا باب منه ، وقال الزهري «الطائفة » ثلاثة فصاعداً ، وقال عطاء وعكرمة لا بد من اثنين وهذا مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة ، وقال مجاهد : يجزىء الواحد ويسمى طائفة إلى الألف ، وقاله ابن عباس ونزعا{[8579]} بقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة }{[8580]} [ التوبة : 122 ] ، وقوله : { وإن طائفتان }{[8581]} [ الحجرات : 9 ] ونزلت في تقاتل رجلين ، واختلف العلماء في التغريب ، وقد غرب الصديق إلى فدك وهو رأي عمر وعثمان وعلي وأبي ذر وابن مسعود وأَبي بن كعب ولكن عمر بعد نفى رجلاً فلحق بالروم فقال لا أنفي أحداً بعدها ، وفيه عن مالك قولان ، ولا يرى تغريب النساء والعبيد واحتج بقوله عليه السلام «لا تسافر المرأة مسيرة يوم إلا مع ذي محرم »{[8582]} ، وممن أبى التغريب جملة أصحاب الرأي ، وقال الشافعي ينفى البكر رجلاً كان أو امرأة ونفى علي امرأة إلى البصرة .
{ الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } .
ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط . فالتقدير : الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت . ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة : إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة . وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر ، وهو من شواهد « كتاب سيبويه » التي لم يعرف قائلها :
وقائلة : خولانُ فانكح فتاتهم *** وأُكرومة الحيين خِلو كما هِيا
التقدير : هذه خولان ، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت . ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر . وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } في سورة العقود ( 38 ) .
وصيغتا { الزانية والزاني } صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال ، فكأنه قيل : التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ . ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه .
ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زنية أو مشركة } [ النور : 3 ] إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة . f فتكون آية { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } تمهيداً ومقدمة لقوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } [ النور : 3 ] فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى . ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها .
وقدم ذكر { الزانية } على { الزاني } للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكيناً ، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد ي تحذيرها . وقوله : { كل واحد منهما } للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر .
وتعريف { الزانية والزاني } تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً ومقام التشريع يقتضيه ، وشأن ( أل ) الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه .
وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد ، ف { الزانية والزاني } من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى .
والزنى : اسم مصدر زَنى ، وهو جماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر ، يقال : زنى الرجل وزنت المرأة ، ويقال : زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمدّ أيضاً بوزن الفِعال ويخفف همزه فيصير اسماً مقصوراً . وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض ، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي . وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنى } في سورة الإسراء ( 32 ) .
والجلد : الضرب بسير من جلد . مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد . أي البشرة . كما اشتق الجَبْه ، والبَطْن ، والرأس في قولهم جَبَهه إذا ضرب جبهته ، وبَطنَه إذا ضرب بطنه ، ورَأسه إذا ضرب رأسه . قال في « الكشاف » : وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم اهـ . أي لا يكون الضرب يُطير الجلد حتى يظهر اللحم ، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج .
واتفق فقهاء الأمصار على : أن ضرب الجلد بالسوط . أي بسَيْر من جلد . والسوط : هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور ، وأن يكون السوط متوسط اللين ، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطاً . ومحل الجلد هو الظهر عند مالك . وقال الشافعي : تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج . وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل ، ومنها الرأس في الحد . روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد : اجلد رجليها وأسفلها ، فقال له ابنه عبد الله : فأين قول الله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فقال فاقتها . وقوله : { كل واحد منهما } تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال : فاجلدوهما ، كما قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل { وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] .
والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء ، وقال مالك والشافعي وأحمد : يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى ، وقال أبو حنيفة لا يقيمه إلا الإمام . وقال مالك : لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر .
وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرىء القيس :
تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً *** علي حراصاً لو يسرّون مقتلي
وهن بنات القوم إن يشعروا بنا *** يكن في بنات القوم إحدى الدهارس
الدهارس : الدواهي . ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه . وفي « الموطأ » عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم . فقال : تكلم . قال : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك . وجلد ابنه مائة وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رَجمها فاعترفت فرجمها . قال مالك : والعسيف الأجير اهـ .
فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية ، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني ، أي بالعقاب الموجع ، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها . وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبيّن بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } [ النساء : 15 ] ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة .
ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعمّ المحصن وغيره ، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء . فأما من أحصن منهما ، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت . وكان ذلك سُنةً متواترةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ورجم ماعز بن مالك . وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجماع أثراً من آثار تواترها .
وقد روي عن عمر أن الرجم كان في القرآن « الثيِّب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة » وفي رواية « الشيخ والشيخة » وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته . وفي « أحكام ابن الفرس » في سورة النساء : « وقد أنكر هذا قوم » ، ولم أر من عيّن الذين أنكروا . وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون : ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم .
ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور . وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم : أكان قبل سورة النور أو بعدها ؟ ( يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس ، أي أن الرجم منسوخ بالجلد ) فقال ابن أبي أوفى : لا أدري .
وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم . وهذا يقتضي أنه كان معمولاً به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزاني المحصن الرجم .
وقد ثبت بالسنة أيضاً تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة ، ولا تغريب على المرأة . وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته . وصفة الرجم والجلد وآلتهما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها .
{ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }
عطف على جملة { فاجلدوا } ؛ فلما كان الجلد موجعاً وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نُهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه .
والأخذ : حقيقته الاستيلاء . وهو هنا مستعار لشدة تأثير الرأفة على المخاطبين وامتلاكها إرادتهم بحيث يضعفون عن إقامة الحد فيكون كقوله : { أخذته العزة بالإثم } [ البقرة : 206 ] فهو مستعمل في قوة ملابسة الوصف للموصوف .
و { بهما } يجوز أن يتعلق ب { رأفة } فالباء للمصاحبة لأن معنى الأخذ هنا حدوث الوصف عند مشاهدتهما . ويجوز تعليقه ب { تأخذكم } فتكون الباء للسببية ، أي أخذ الرأفة بسببهما أي بسبب جلدهما .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكر الزاني والزانية تنبيهاً على الاعتناء بإقامة الحد . والنهي عن أن تأخذهم رأفة كناية عن النهي عن أثر ذلك وهو ترك الحد أو نقصه . وأما الرأفة فتقع في النفس بدون اختيار فلا يتعلق بها النهي ؛ فعلى المسلم أن يروض نفسه على دفع الرأفة في المواضع المذمومة فيها الرأفة .
والرأفة : رحمة خاصة تنشأ عند مشاهدة ضُرّ بالمرؤوف . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } في سورة البقرة ( 143 ) . ويجوز سكون الهمزة وبذلك قرأ الجمهور . ويجوز فتحها وبالفتح قرأ ابن كثير .
وعلق بالرأفة قوله : { في دين الله } لإفادة أنها رأفة غير محمودة لأنها تعطل دين الله ، أي أحكامه ، وإنما شرع الله الحد استصلاحاً فكانت الرأفة في إقامته فساداً . وفيه تعريض بأن الله الذي شرع الحد هو أرأف بعباده من بعضهم ببعض . وفي « مسند أبي يعلى » عن حذيفة مرفوعاً : " يؤتى بالذي ضَرب فوق الحد فيقول الله له : عبدي لم ضربت فوق الحد ؟ فيقول : غضبت لك فيقول الله : أكان غضبك أشد من غضبي ؟ ويؤتى بالذي قصّر فيقول : عبدي لِمَ قصرت ؟ فيقول : رحِمتُهُ . فيقول : أكانت رحمتك أشد من رحمتي . ويؤمر بهما إلى النار " .
وجملة : { إن كنتم تؤمنون بالله } شرط محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين فلا تأخذكم بهما رأفة ، أي لا تؤثر فيكم رأفة بهما . والمقصود : شدة التحذير من أن يتأثروا بالرأفة بهما بحيث يفرض أنهم لا يؤمنون . وهذا صادر مصدر التلهيب والتهييج حتى يقول السامع : كيف لا أومن بالله واليوم الآخر .
وعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله للتذكير بأن الرأفة بهما في تعطيل الحد أو نقصه نسيان لليوم الآخر فإن تلك الرأفة تفضي بهما إلى أن يؤخذ منهما العقاب يوم القيامة فهي رأفة ضارة كرأفة ترك الدواء للمريض ، فإن الحدود جوابر على ما تؤذن به أدلة الشريعة .
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } .
أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقاً لإقامة الحد وحذراً من التساهل فيه فإن الإخفاء ذريعة للإنساء ، فإذا لم يشهده المؤمنون فقد يتساءلون عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود .
وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره ، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب .
والطائفة : الجماعة من الناس . وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) ، وعند قوله : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } في آخر الأنعام ( 156 ) . وقد اختلف في ضبط عددها هنا . والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة . والمشهور عن مالك الاثنان فصاعداً ، وقال ابن أبي زيد : أربعة اعتباراً بشهادة الزنا . وقيل عشرة .
وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد . وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي . ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزىء من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك . وأيَّاً مَّا كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به من له بالمحدود مزيد صلة يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه .