ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حد الزانى والزانية ، وقبح جريمة الزنا تقبيحا يحمل عل النفور ، وحرمها على المؤمنين تحريما قاطعا ، فقال - تعالى - : { الزانية .
قوله - تعالى - : { الزانية والزاني . . } شروع فى تفصيل الأحكام ، التى أشار إليها - سبحانه - فى الآية الأولى من هذه السورة ، وهى قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا . . . } والزنا من الرجل معناه : وطء المرأة من غير ملك ولا شبهة ملك ومعناه من المرأة : أن تمكن الرجل من أن يزنى بها .
والخطاب فى قوله - تعالى - : { فاجلدوا . . . } للحكام المكلفين بتنفيذ حدود الله - عز وجل - .
قال الجمل : " وفى رفع " الزانية والزانى " وجهان : أحدهما - وهو مذهب سيبويه - أنه مبتدأ خبره محذوف . أى : فيما يتلى عليكم حكم الزانية ، ثم بين ذلك بقوله : { فاجلدوا . . } والثانى : وهو مذهب الأخفش وغيره - أنه مبتدأ . والخير جملة الأمر ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط . . " .
فإن قيل : ما الحكمة فى أن يبدأ الله فى فاحشة الزنا بالمرأة ، وفى جريمة السرقة بالرجل ، حيث قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا . . . } فالجواب : أن الزنا من المرأة أقبح ، فإنه يترتب عليه فساد الأنساب ، وإلحاق الدنس والعار بزوجها وأهلها ، وافتضاح أمرها عن طريق الحمل ، وفضلا عن ذلك ، فإن تمكينها نفسها للرجل : هو الذى كان السبب فى اقترافه هذه الفاحشة ، فلهذا وغيره قدمت المرأة هنا .
وأما جريمة السرقة ، فالغالب أن الرجال أكثر إقداما عليها ، لأنها تحتاج إلى جسارة وقوة ، واجتياز للمخاطر . . . لذا قدم الرجل على المرأة فيها .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله . . } نهى منه - سبحانه - عن التهاون فى تنفيذ حدوده ، وحض على إقامتها بحزم وقوة ، والرأفة : أعلى درجات الرحمة . يقال : رؤف فلان بفلان - بزنة كرم - إذا اشتد فى رحمته ، وفى العناية بأمره .
أى : أقيموا - أيها الحكام - حدود الله - تعالى - على الزانية والزانى بأن تجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، دون أن تأخذكم شفقة أو رحمة فى تنفيذ هذه الحدود ، ودون أن تقبلوا فى التخفيف عنهما شفاعة شفيع ، أو وساطة وسيط ، فإن الله - تعالى - الذى شرع هذه الحدود . وأمر بتنفيذها بكل شدة وقوة ، أرحم بعباده وبخلقه منكم . والرحمة والرأفة فى تنفيذ أحكامه ، لا فى تعطيلها . ولا فى إجرائها على غير وجهها .
وقوله - سبحانه - : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر . . . } تأكيد لما قبله ، وإلهاب لمشاعرهم ، لتنفيذ حدود الله - تعالى - .
أى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا ، فأقيموا حدود الله ، وأجلدوا الزانية والزانى مائة جلدة ، لا تأخذكم بهما رأفة أو شفقة فى ذلك .
وقوله - سبحانه - : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } بيان لما يجب على الحكام أن يفعلوه عند تنفيذ العقوبة والأمر بشهود عذابهما للاستحباب لا للوجوب .
والمراد بعذابهما : إقامة الحد عليهما ، والطائفة فى الأصل : اسم فاعل من الطواف ، وهو الدوران والإحاطة . وتطلق الطائفة عند كثير من اللغوين على الواحد فما فوقه .
قال الآلوسى : " والحق أن المراد بالطائفة هنا ، جماعة يحصل بهم التشهير والزجر ، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة . وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه " .
ولعل السبب فى وجاهة رأى القائلين بالأربعة أن هذا العدد هو الذى يثبت به الزنا .
أى : وليشهد إقامة الحد على الزانية والزانى ، عدد من المؤمنين ، ليكون زيادة فى التنكيل بمن يرتكب هذه الفاحشة ، وأدعى إلى الاعتبار والاتعاظ وأزجر لمن تسول له نفسه الإقدام على تلك الجريمة النكراء .
ثم قال تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع ؛ فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرًا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا ، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل . فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج ، فإن حدَّه مائة جلدة{[20714]} كما في الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما [ عن بلده ]{[20715]} عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله ؛ فإن عنده أن التغريبَ إلى رأي الإمام ، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب .
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهَنيّ ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عَسِيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ ابني ]{[20716]} منه بمائة شاة وَوَليدَة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن{[20717]} على ابني جلد مائة وتغريبَ عام ، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رَدٌّ عليك ، وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها{[20718]} .
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :
حدثني ابن شهاب ، أخبرنا{[20719]} عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن{[20720]} الله بعث محمدًا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وَوَعَيْناها ، وَرَجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجمْنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا{[20721]} وهذا{[20722]} قطعة منه ، فيها مقصودنا هاهنا .
وروى الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف ؛ أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وَإنّ أناسا{[20723]} يقولون : ما بالُ الرجم ؟ في كتاب الله الجلدُ . وقد رَجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده . ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم{[20724]} متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه{[20725]} لأثبتها كما نزلت .
وأخرجه النسائي ، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله ، به{[20726]} .
وقد روى أحمد{[20727]} أيضًا ، عن هُشَيْم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تُخْدَعُن{[20728]} عنه ؛ فإنه حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده . ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال{[20729]} وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا{[20730]} .
وروى أحمد{[20731]} أيضا ، عن يحيى القَطَّان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب{[20732]} : إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم .
الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عُمَر ، وقال : صحيح{[20733]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيْد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا ابن{[20734]} عَوْن ، عن محمد - هو ابن سِيرِين - قال : نُبِّئتُ عن كَثِير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : " والشيخ والشيخة فارجموهما{[20735]} البتة " . قال مروان : ألا كتبتَها في المصحف ؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك . قال : قلنا : فكيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكْتِبْني آية الرجم : قال : " لا أستطيع الآن " . هذا أو نحو{[20736]} ذلك .
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جُبَير ، عن كَثِير بن الصَّلْت ، عن زيد بن ثابت ، به{[20737]} .
وهذه طرق كلها متعددة{[20738]} ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي حكمها معمولا به ، ولله الحمد{[20739]} .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير . ورجم النبي{[20740]} صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامِدِيَّة . وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جَلدهم قبل الرجم . وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد ؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين{[20741]} الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشُرَاحة{[20742]} وكانت قد زنت وهي مُحْصَنَةٌ ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتهُا بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان{[20743]} بن عبد الله الرَّقَاشِيّ ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر بالبِكْر ، جَلْد مائة وتغريب سنة{[20744]} والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم " {[20745]} .
وقوله : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي : في حكم الله . لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه{[20746]} الرأفة الطبيعية [ ألا تكون حاصلة ]{[20747]} على ترك الحد ، [ وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد ]{[20748]} فلا{[20749]} يجوز ذلك .
قال مجاهد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل . وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَيْر ، وعَطَاء بن أبي رَبَاح . وقد جاء في الحديث :
" تعافَوُا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب " {[20750]} . وفي الحديث الآخر : " لَحَدٌّ يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا " {[20751]} .
وقيل : المراد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فلا تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرِّح .
قال عامر الشعبي : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : رحمة{[20752]} في شدة الضرب . وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرِّح . وقال سعيد بن أبي عَرُوُبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد{[20753]} القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع ثيابه ، ثم تلا { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فقلت : هذا في الحكم ؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ{[20754]} حدثنا وَكيع ، عن نافع ، [ عن ]{[20755]} ابن عمرو ، عن{[20756]} ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عبيد الله{[20757]} بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها - قال : قلت : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : يا بني ، ورأيتَني أخَذَتْني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جَلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت{[20758]} .
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرِّحا ؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك . وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : " ولك في ذلك أجر " {[20759]} .
وقوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .
قال الحسن البصري في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يعني : علانية .
ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الطائفة : الرجل فما فوقه .
وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف . وكذا قال عكرمة ؛ ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدُق على واحد .
وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان . وبه قال إسحاق بن رَاهَويه . وكذا قال سعيد بن جبير : { طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : يعني : رجلين فصاعدا .
وقال الزهري : ثلاث نفر فصاعدا .
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وَهْب ، عن الإمام مالك في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا ؛ لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدًا . وبه قال الشافعي .
وقال ربيعة : خمسة . وقال الحسن البصري : عشرة . وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين ؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بَقِيَّةُ قال : سمعت نصر بن علقمة في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة .
{ الزانية والزاني } أو فيما فرضنا أو أنزلنا حكمها وهو الجلد ، ويجوز أن يرفعا بالابتداء والخبر : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } والفاء لتضمنها معنى الشرط إذ اللام بمعنى الذي ، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سورة لأجل الأمر والزان بلا ياء ، وإنما قدم { الزانية } لأن الزنا في الأغلب يكون بتعرضها للرجل وعرض نفسها عليه ولأن مفسدته تتحقق بالإضافة إليها ، والجلد ضرب الجلد وهو حكم يخص بمن ليس بمحصن لما دل على أن حد المحصن هو الرجم ، وزاد الشافعي عليه تغريب الحر سنة لقوله عليه الصلاة والسلام " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام " ، وليس في الآية ما يدفعه لينسخ أحدهما الآخر نسخا مقبولا أو مردودا ، وله في العبد ثلاثة أقوال . والإحصان : بالحرية والبلوغ والعقل والإصابة في نكاح صحيح ، واعتبرت الحنفية الإسلام أيضا وهو مردود برجمه عليه الصلاة والسلام يهوديين ، ولا يعارضه " من أشرك بالله فليس بمحصن " إذ المراد بالمحصن الذي يقتنص له من المسلم . { ولا تأخذكم بهما رأفة } رحمة . { في دين الله } في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أن تسامحوا فيه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " . وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة وقرئت بالمد على فعالة . { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعة الله تعالى والاجتهاد في إقامة حدوده وأحكامه ، وهو من باب التهييج . { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب ، وال { طائفة } فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة وقيل واحد واثنان ، والمراد جمع يحصل به التشهير .
{ الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ } .
ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط . فالتقدير : الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت . ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة : إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة . وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر ، وهو من شواهد « كتاب سيبويه » التي لم يعرف قائلها :
وقائلة : خولانُ فانكح فتاتهم *** وأُكرومة الحيين خِلو كما هِيا
التقدير : هذه خولان ، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت . ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر . وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } في سورة العقود ( 38 ) .
وصيغتا { الزانية والزاني } صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال ، فكأنه قيل : التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ . ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه .
ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زنية أو مشركة } [ النور : 3 ] إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة . f فتكون آية { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } تمهيداً ومقدمة لقوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } [ النور : 3 ] فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى . ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها .
وقدم ذكر { الزانية } على { الزاني } للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكيناً ، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد ي تحذيرها . وقوله : { كل واحد منهما } للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر .
وتعريف { الزانية والزاني } تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالباً ومقام التشريع يقتضيه ، وشأن ( أل ) الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه .
وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد ، ف { الزانية والزاني } من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى .
والزنى : اسم مصدر زَنى ، وهو جماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر ، يقال : زنى الرجل وزنت المرأة ، ويقال : زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمدّ أيضاً بوزن الفِعال ويخفف همزه فيصير اسماً مقصوراً . وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض ، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي . وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى : { ولا تقربوا الزنى } في سورة الإسراء ( 32 ) .
والجلد : الضرب بسير من جلد . مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد . أي البشرة . كما اشتق الجَبْه ، والبَطْن ، والرأس في قولهم جَبَهه إذا ضرب جبهته ، وبَطنَه إذا ضرب بطنه ، ورَأسه إذا ضرب رأسه . قال في « الكشاف » : وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم اهـ . أي لا يكون الضرب يُطير الجلد حتى يظهر اللحم ، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج .
واتفق فقهاء الأمصار على : أن ضرب الجلد بالسوط . أي بسَيْر من جلد . والسوط : هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور ، وأن يكون السوط متوسط اللين ، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطاً . ومحل الجلد هو الظهر عند مالك . وقال الشافعي : تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج . وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل ، ومنها الرأس في الحد . روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد : اجلد رجليها وأسفلها ، فقال له ابنه عبد الله : فأين قول الله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فقال فاقتها . وقوله : { كل واحد منهما } تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال : فاجلدوهما ، كما قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل { وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] .
والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء ، وقال مالك والشافعي وأحمد : يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى ، وقال أبو حنيفة لا يقيمه إلا الإمام . وقال مالك : لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر .
وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرىء القيس :
تجاوزت أحراساً إليها ومعشراً *** علي حراصاً لو يسرّون مقتلي
وهن بنات القوم إن يشعروا بنا *** يكن في بنات القوم إحدى الدهارس
الدهارس : الدواهي . ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه . وفي « الموطأ » عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم . فقال : تكلم . قال : إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك . وجلد ابنه مائة وغربه عاماً وأمر أنيساً الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رَجمها فاعترفت فرجمها . قال مالك : والعسيف الأجير اهـ .
فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية ، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني ، أي بالعقاب الموجع ، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها . وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبيّن بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله : { أو يجعل الله لهن سبيلاً } [ النساء : 15 ] ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة .
ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعمّ المحصن وغيره ، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء . فأما من أحصن منهما ، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت . وكان ذلك سُنةً متواترةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ورجم ماعز بن مالك . وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجماع أثراً من آثار تواترها .
وقد روي عن عمر أن الرجم كان في القرآن « الثيِّب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة » وفي رواية « الشيخ والشيخة » وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته . وفي « أحكام ابن الفرس » في سورة النساء : « وقد أنكر هذا قوم » ، ولم أر من عيّن الذين أنكروا . وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون : ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم .
ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور . وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم : أكان قبل سورة النور أو بعدها ؟ ( يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس ، أي أن الرجم منسوخ بالجلد ) فقال ابن أبي أوفى : لا أدري .
وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم . وهذا يقتضي أنه كان معمولاً به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزاني المحصن الرجم .
وقد ثبت بالسنة أيضاً تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة ، ولا تغريب على المرأة . وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته . وصفة الرجم والجلد وآلتهما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها .
{ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }
عطف على جملة { فاجلدوا } ؛ فلما كان الجلد موجعاً وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نُهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه .
والأخذ : حقيقته الاستيلاء . وهو هنا مستعار لشدة تأثير الرأفة على المخاطبين وامتلاكها إرادتهم بحيث يضعفون عن إقامة الحد فيكون كقوله : { أخذته العزة بالإثم } [ البقرة : 206 ] فهو مستعمل في قوة ملابسة الوصف للموصوف .
و { بهما } يجوز أن يتعلق ب { رأفة } فالباء للمصاحبة لأن معنى الأخذ هنا حدوث الوصف عند مشاهدتهما . ويجوز تعليقه ب { تأخذكم } فتكون الباء للسببية ، أي أخذ الرأفة بسببهما أي بسبب جلدهما .
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكر الزاني والزانية تنبيهاً على الاعتناء بإقامة الحد . والنهي عن أن تأخذهم رأفة كناية عن النهي عن أثر ذلك وهو ترك الحد أو نقصه . وأما الرأفة فتقع في النفس بدون اختيار فلا يتعلق بها النهي ؛ فعلى المسلم أن يروض نفسه على دفع الرأفة في المواضع المذمومة فيها الرأفة .
والرأفة : رحمة خاصة تنشأ عند مشاهدة ضُرّ بالمرؤوف . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } في سورة البقرة ( 143 ) . ويجوز سكون الهمزة وبذلك قرأ الجمهور . ويجوز فتحها وبالفتح قرأ ابن كثير .
وعلق بالرأفة قوله : { في دين الله } لإفادة أنها رأفة غير محمودة لأنها تعطل دين الله ، أي أحكامه ، وإنما شرع الله الحد استصلاحاً فكانت الرأفة في إقامته فساداً . وفيه تعريض بأن الله الذي شرع الحد هو أرأف بعباده من بعضهم ببعض . وفي « مسند أبي يعلى » عن حذيفة مرفوعاً : " يؤتى بالذي ضَرب فوق الحد فيقول الله له : عبدي لم ضربت فوق الحد ؟ فيقول : غضبت لك فيقول الله : أكان غضبك أشد من غضبي ؟ ويؤتى بالذي قصّر فيقول : عبدي لِمَ قصرت ؟ فيقول : رحِمتُهُ . فيقول : أكانت رحمتك أشد من رحمتي . ويؤمر بهما إلى النار " .
وجملة : { إن كنتم تؤمنون بالله } شرط محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين فلا تأخذكم بهما رأفة ، أي لا تؤثر فيكم رأفة بهما . والمقصود : شدة التحذير من أن يتأثروا بالرأفة بهما بحيث يفرض أنهم لا يؤمنون . وهذا صادر مصدر التلهيب والتهييج حتى يقول السامع : كيف لا أومن بالله واليوم الآخر .
وعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله للتذكير بأن الرأفة بهما في تعطيل الحد أو نقصه نسيان لليوم الآخر فإن تلك الرأفة تفضي بهما إلى أن يؤخذ منهما العقاب يوم القيامة فهي رأفة ضارة كرأفة ترك الدواء للمريض ، فإن الحدود جوابر على ما تؤذن به أدلة الشريعة .
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } .
أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقاً لإقامة الحد وحذراً من التساهل فيه فإن الإخفاء ذريعة للإنساء ، فإذا لم يشهده المؤمنون فقد يتساءلون عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود .
وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره ، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب .
والطائفة : الجماعة من الناس . وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى : { فلتقم طائفة منهم معك } في سورة النساء ( 102 ) ، وعند قوله : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } في آخر الأنعام ( 156 ) . وقد اختلف في ضبط عددها هنا . والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة . والمشهور عن مالك الاثنان فصاعداً ، وقال ابن أبي زيد : أربعة اعتباراً بشهادة الزنا . وقيل عشرة .
وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد . وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي . ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزىء من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك . وأيَّاً مَّا كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به من له بالمحدود مزيد صلة يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه .