ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حد الزانى والزانية ، وقبح جريمة الزنا تقبيحا يحمل عل النفور ، وحرمها على المؤمنين تحريما قاطعا ، فقال - تعالى - : { الزانية .
قوله - تعالى - : { الزانية والزاني . . } شروع فى تفصيل الأحكام ، التى أشار إليها - سبحانه - فى الآية الأولى من هذه السورة ، وهى قوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا . . . } والزنا من الرجل معناه : وطء المرأة من غير ملك ولا شبهة ملك ومعناه من المرأة : أن تمكن الرجل من أن يزنى بها .
والخطاب فى قوله - تعالى - : { فاجلدوا . . . } للحكام المكلفين بتنفيذ حدود الله - عز وجل - .
قال الجمل : " وفى رفع " الزانية والزانى " وجهان : أحدهما - وهو مذهب سيبويه - أنه مبتدأ خبره محذوف . أى : فيما يتلى عليكم حكم الزانية ، ثم بين ذلك بقوله : { فاجلدوا . . } والثانى : وهو مذهب الأخفش وغيره - أنه مبتدأ . والخير جملة الأمر ، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط . . " .
فإن قيل : ما الحكمة فى أن يبدأ الله فى فاحشة الزنا بالمرأة ، وفى جريمة السرقة بالرجل ، حيث قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا . . . } فالجواب : أن الزنا من المرأة أقبح ، فإنه يترتب عليه فساد الأنساب ، وإلحاق الدنس والعار بزوجها وأهلها ، وافتضاح أمرها عن طريق الحمل ، وفضلا عن ذلك ، فإن تمكينها نفسها للرجل : هو الذى كان السبب فى اقترافه هذه الفاحشة ، فلهذا وغيره قدمت المرأة هنا .
وأما جريمة السرقة ، فالغالب أن الرجال أكثر إقداما عليها ، لأنها تحتاج إلى جسارة وقوة ، واجتياز للمخاطر . . . لذا قدم الرجل على المرأة فيها .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله . . } نهى منه - سبحانه - عن التهاون فى تنفيذ حدوده ، وحض على إقامتها بحزم وقوة ، والرأفة : أعلى درجات الرحمة . يقال : رؤف فلان بفلان - بزنة كرم - إذا اشتد فى رحمته ، وفى العناية بأمره .
أى : أقيموا - أيها الحكام - حدود الله - تعالى - على الزانية والزانى بأن تجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، دون أن تأخذكم شفقة أو رحمة فى تنفيذ هذه الحدود ، ودون أن تقبلوا فى التخفيف عنهما شفاعة شفيع ، أو وساطة وسيط ، فإن الله - تعالى - الذى شرع هذه الحدود . وأمر بتنفيذها بكل شدة وقوة ، أرحم بعباده وبخلقه منكم . والرحمة والرأفة فى تنفيذ أحكامه ، لا فى تعطيلها . ولا فى إجرائها على غير وجهها .
وقوله - سبحانه - : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر . . . } تأكيد لما قبله ، وإلهاب لمشاعرهم ، لتنفيذ حدود الله - تعالى - .
أى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقا ، فأقيموا حدود الله ، وأجلدوا الزانية والزانى مائة جلدة ، لا تأخذكم بهما رأفة أو شفقة فى ذلك .
وقوله - سبحانه - : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } بيان لما يجب على الحكام أن يفعلوه عند تنفيذ العقوبة والأمر بشهود عذابهما للاستحباب لا للوجوب .
والمراد بعذابهما : إقامة الحد عليهما ، والطائفة فى الأصل : اسم فاعل من الطواف ، وهو الدوران والإحاطة . وتطلق الطائفة عند كثير من اللغوين على الواحد فما فوقه .
قال الآلوسى : " والحق أن المراد بالطائفة هنا ، جماعة يحصل بهم التشهير والزجر ، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة . وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه " .
ولعل السبب فى وجاهة رأى القائلين بالأربعة أن هذا العدد هو الذى يثبت به الزنا .
أى : وليشهد إقامة الحد على الزانية والزانى ، عدد من المؤمنين ، ليكون زيادة فى التنكيل بمن يرتكب هذه الفاحشة ، وأدعى إلى الاعتبار والاتعاظ وأزجر لمن تسول له نفسه الإقدام على تلك الجريمة النكراء .
ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ؛ وتفظيع هذه الفعلة ، التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات :
( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ؛ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ؛ وحرم ذلك على المؤمنين ) . .
كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساء : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . . فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير . وكان حد الرجل الأذى بالتعبير .
ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور . فكان هذا هو( السبيل )الذي أشارت إليه من قبل آية النساء .
والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء . وهو الذي لم يحصن بالزواج . ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا . فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم .
وقد ثبت الرجم بالسنة . وثبت الجلد بالقرآن . ولما كان النص القرآني مجملا وعاما . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد رجم الزانيين المحصنين ، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن .
وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن . والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم . كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده . وحول حد الزاني غير الحر . . وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا ، يطلب في موضعه من كتب الفقه . . إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع . فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد ، وعقوبة المحصن هي الرجم . ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه ، فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها ، فهو جدير بتشديد العقوبة ، بخلاف البكر الغفل الغر ، الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير . . وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل . فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر . فهو حري بعقوبة كذلك أشد .
والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به ، دون تسامح ولا هوادة :
( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) .
فهي الصرامة في إقامة الحد ؛ وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما ، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته ، تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين ، فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين .
ثم قال تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع ؛ فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرًا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا ، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل . فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج ، فإن حدَّه مائة جلدة{[20714]} كما في الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما [ عن بلده ]{[20715]} عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله ؛ فإن عنده أن التغريبَ إلى رأي الإمام ، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب .
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهَنيّ ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عَسِيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ ابني ]{[20716]} منه بمائة شاة وَوَليدَة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن{[20717]} على ابني جلد مائة وتغريبَ عام ، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رَدٌّ عليك ، وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها{[20718]} .
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :
حدثني ابن شهاب ، أخبرنا{[20719]} عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن{[20720]} الله بعث محمدًا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وَوَعَيْناها ، وَرَجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجمْنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف .
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا{[20721]} وهذا{[20722]} قطعة منه ، فيها مقصودنا هاهنا .
وروى الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف ؛ أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وَإنّ أناسا{[20723]} يقولون : ما بالُ الرجم ؟ في كتاب الله الجلدُ . وقد رَجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده . ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم{[20724]} متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه{[20725]} لأثبتها كما نزلت .
وأخرجه النسائي ، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله ، به{[20726]} .
وقد روى أحمد{[20727]} أيضًا ، عن هُشَيْم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تُخْدَعُن{[20728]} عنه ؛ فإنه حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده . ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال{[20729]} وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا{[20730]} .
وروى أحمد{[20731]} أيضا ، عن يحيى القَطَّان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب{[20732]} : إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم .
الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عُمَر ، وقال : صحيح{[20733]} .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيْد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا ابن{[20734]} عَوْن ، عن محمد - هو ابن سِيرِين - قال : نُبِّئتُ عن كَثِير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : " والشيخ والشيخة فارجموهما{[20735]} البتة " . قال مروان : ألا كتبتَها في المصحف ؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك . قال : قلنا : فكيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكْتِبْني آية الرجم : قال : " لا أستطيع الآن " . هذا أو نحو{[20736]} ذلك .
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جُبَير ، عن كَثِير بن الصَّلْت ، عن زيد بن ثابت ، به{[20737]} .
وهذه طرق كلها متعددة{[20738]} ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي حكمها معمولا به ، ولله الحمد{[20739]} .
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير . ورجم النبي{[20740]} صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامِدِيَّة . وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جَلدهم قبل الرجم . وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد ؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين{[20741]} الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشُرَاحة{[20742]} وكانت قد زنت وهي مُحْصَنَةٌ ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتهُا بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان{[20743]} بن عبد الله الرَّقَاشِيّ ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر بالبِكْر ، جَلْد مائة وتغريب سنة{[20744]} والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم " {[20745]} .
وقوله : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي : في حكم الله . لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه{[20746]} الرأفة الطبيعية [ ألا تكون حاصلة ]{[20747]} على ترك الحد ، [ وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد ]{[20748]} فلا{[20749]} يجوز ذلك .
قال مجاهد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل . وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَيْر ، وعَطَاء بن أبي رَبَاح . وقد جاء في الحديث :
" تعافَوُا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب " {[20750]} . وفي الحديث الآخر : " لَحَدٌّ يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا " {[20751]} .
وقيل : المراد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فلا تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرِّح .
قال عامر الشعبي : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : رحمة{[20752]} في شدة الضرب . وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرِّح . وقال سعيد بن أبي عَرُوُبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد{[20753]} القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع ثيابه ، ثم تلا { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فقلت : هذا في الحكم ؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ{[20754]} حدثنا وَكيع ، عن نافع ، [ عن ]{[20755]} ابن عمرو ، عن{[20756]} ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عبيد الله{[20757]} بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها - قال : قلت : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : يا بني ، ورأيتَني أخَذَتْني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جَلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت{[20758]} .
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرِّحا ؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك . وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : " ولك في ذلك أجر " {[20759]} .
وقوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .
قال الحسن البصري في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يعني : علانية .
ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الطائفة : الرجل فما فوقه .
وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف . وكذا قال عكرمة ؛ ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدُق على واحد .
وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان . وبه قال إسحاق بن رَاهَويه . وكذا قال سعيد بن جبير : { طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : يعني : رجلين فصاعدا .
وقال الزهري : ثلاث نفر فصاعدا .
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وَهْب ، عن الإمام مالك في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا ؛ لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدًا . وبه قال الشافعي .
وقال ربيعة : خمسة . وقال الحسن البصري : عشرة . وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين ؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بَقِيَّةُ قال : سمعت نصر بن علقمة في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة .