قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني : آدم عليه السلام قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } يعني : حواء ، قوله تعالى : { وبث منهما } ، نشر وأظهر ، قوله تعالى : { رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به } أي : تتساءلون به ، وقرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين ، كقوله تعالى : { ولا تعاونوا } . قوله تعالى{ والأرحام } . قراءة العامة بالنصب ، أي : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزة بالخفض ، أي : به وبالأرحام ، كما يقال : " سألتك بالله والأرحام " والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لا تكاد تنسق بظاهر على مكنى إلا أن بعد أن تعيد الخافض فتقول : مررت به وبزيد ، إلا أنه جائز مع قلته . قوله تعالى { إن الله كان عليكم رقيبا } . أي : حافظاً .
{ يا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : { يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } : احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم ، وفيما نهاكم ، فيحلّ بكم من عقوبته ما لا قِبَل لكم به . ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد ، وعرّف عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة ، ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأمّ واحدة ، وأن بعضهم من بعض ، وأن حقّ بعضهم على بعض واجب وجوب حقّ الأخ على أخيه ، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة . وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حقّ بعض ، وإن بعد التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم ، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الأدنى . وعاطفا بذلك بعضهم على بعض ، ليتناصفوا ، ولا يتظالموا ، وليبذل القويّ من نفسه للضعيف حقه بالمعروف ، على ما ألزمه الله له ، فقال : { الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني من آدم . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } : فمن آدم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } قال : آدم .
ونظير قوله : { مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } والمعنيّ به رجل ، قول الشاعر :
أبوكَ خليفَةٌ وَلَدتْهُ أُخْرَى *** وأنتَ خليفةٌ ذاكَ الكَمالُ
فقال : «ولدته أخرى » ، وهو يريد الرجل ، فأنث للفظ الخليفة . وقال تعالى ذكره : { مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } لتأنيث «النفس » والمعنى . «من رجل واحد » ولو قيل : «من نفس واحد » ، وأخرج اللفظ على التذكير للمعنى كان صوابا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } وخلق من النفس الواحدة زوجها¹ يعني ب «الزوج » الثاني لها وهو فيما قال أهل التأويل : امرأتها ، حوّاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } قال : حوّاء من قُصَيْرَى آدم وهو نائم ، فاستيقظ فقال : «أثا » بالنبطية امرأة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } يعني حوّاء خلقت من آدم ، من ضلع من أضلاعه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وَحِشا ليس له زوج يسكن إليها¹ فنام نومة ، فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها ما أنتِ ؟ قالت امرأة ، قال : ولم خلقتِ ؟ قالت : لتسكن إلي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السّنة فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن العباس وغيره ، ثم أخذ ضِلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ، ولأم مكانه ، وآدم نائم لم يهبّ من نومته ، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضلعه تلك زوجته حوّاء ، فسوّاها امرأة ليسكن إليها ، فلما كُشفت عنه السّنة وهبّ من نومته رآها إلى جنبه ، فقال فيما يزعمون والله أعلم : لحمي ودمي وزوجتي ! فسكن إليها .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } جعل من آدم حوّاء .
وأما قوله : { وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساء } فإنه يعني ونشر منهما يعني من آدم وحواء { رِجَالاً كَثِيرا وَنِسَاءً } قد رآهم ، كما قال جلّ ثناؤه : { كالفَرَاشِ المَبْثُوثِ } . يقال منه : بثّ الله الخلق وأبثهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَبَثّ مِنْهَما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً } وبثّ : خَلَق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحام } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة : «تَسّاءَلُونَ » بالتشديد ، بمعنى : تتساءلون ، ثم أدغم إحدى التاءين في السين ، فجعلهما سينا مشددة . وقرأه بعض قراء الكوفة : { تَسَاءَلُونَ } بالتخفيف على مثال «تَفَاعَلُونَ » ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان فصيحتان ، أعني التخفيف والتشديد في قوله : { تَساءَلُونَ بِهِ } ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء أصاب الصواب فيه ، لأن معنى ذلك بأيّ وجهيه قرىء غير مختلف .
وأما تأويله : { وَاتّقُوا اللّهَ } أيها الناس ، الذي إذا سأل بعضكم بعضا سأل به ، فقال السائل للمسؤول : أسألك بالله ، وأنشدك بالله ، وأعزم عليك بالله ، وما أشبه ذلك . يقول تعالى ذكره : فكما تعظّمون أيها الناس ربكم بألسنتكم ، حتى تروا أن من أعطاكم عهده فأخفركموه ، فقد أتى عظيما ، فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فيما أمركم ، واجتنابكم ما نهاكم عنه ، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } قال : يقول : اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } يقول : اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { تَساءَلُونَ بِهِ } قال : تعاطفون به .
وأما قوله : { والأرْحامَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم ، قال السائل للمسؤول : أسألك به وبالرحم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله الذي تعاطفون به والأرحام . يقول : الرجل يسأل بالله وبالرحم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو كقول الرجل : أسألك بالله ، أسألك بالرحم . يعني قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ الأرْحامَ } قال : يقول : أسألك بالله وبالرحم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، هو كقول الرجل : أسألك بالرحم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : أسألك بالله وبالرحم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور أو مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ } قال : هو قول الرجل : أسألك بالله والرحم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم .
قال محمد : وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله : «والأرْحامِ » بالخفض عطفا بالأرحام على الهاء التي في قوله «به » ، كأنه أراد : واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام ، فعطف بظاهر على مكنيّ مخفوض . وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب لأنها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض إلا في ضرورة شعر ، وذلك لضيق الشعر¹ وأما الكلام فلا شيء يضطرّ المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق والرديء في الإعراب منه . ومما جاء في الشعر من ردّ ظاهر على مكنيّ في حال الخفض قول الشاعر :
نُعَلّقُ فِي مِثْلِ السّوَارِي سُيُوفَنا *** وَما بينها وَالكَعْبِ غُوطٌ نَفانِفُ
فعطف «الكعب » وهو ظاهر على الهاء والألف في قوله «بينها » وهي مكنية .
وقال آخرون : تأويل ذلك : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } واتقوا الأرحام أن تقطعوها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ } يقول : اتقوا الله ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «اتّقُوا اللّهَ وَصِلُوا الأرْحامَ ، فإنّهُ أبْقَى لَكُمْ فِي الدّنيْا ، وَخَيْرٌ لَكُمْ فِي الاَخِرَةِ » .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الله في الأرحام فصلوها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوه في الأرحام .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قول الله : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اتّقُوا اللّهَ وَصِلُوا الأرْحامَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : اتقوا الله في الأرحام فصِلوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : واتقوا الله في الأرحام فصِلوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد ، وأخبرنا أبو جعفر الخزاز ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أن ابن عباس كان يقرأ : { والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله لا تقطعوها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : اتقوا الأرحام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } أن تقطعوها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ : { وَالّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَل } .
قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبا ، بمعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، عطفا بالأرحام في إعرابها بالنصب على اسم الله تعالى ذكره . قال : والقراءة التي لا نستجيز للقارىء أن يقرأ غيرها في ذلك النصب : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } بمعنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض ، إلا في ضرورة شعر ، على ما قد وصفت قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } .
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : إن الله لم يزل عليكم رقيبا . ويعني بقوله : { عَلَيْكُمْ } : على الناس الذين قال لهم جلّ ثناؤه : يا أيها الناس اتقوا ربكم والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر ، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب ، فتقول إذا خاطبت رجلاً واحدا أو جماعة فعلتْ هي وآخرون غيّب معهم فعلاً : فعلتم كذا ، وصنعتم . كذا ويعني بقوله : { رَقِيبا } : حفيظا ، محصيا عليكم أعمالكم ، متفقدا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها ، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } : حفيظا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد في قوله : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } على أعمالكم ، يعلمها ويعرفها .
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
هذه السورة مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة{[1]} وهي قوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال النقاش : وقيل : نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : { يا أيها الناس } حيث وقع إنما هو مكي ، فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه السلام ، وقال النحاس : هذه السورة مكية .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة ، وفي البخاري{[2]} : آخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ، ذكرها في تفسير سورة " براءة " من رواية البراء بن عازب . وفي البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعني قد بني بها .
«يا » حرف نداء «أي » منادى مفرد - و «ها » تنبيه ، و { الناس } - نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش ، «والرب » : المالك ، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود ، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد ، وقال : { واحدة } على تأنيث لفظ النفس ، وهذا كقول الشاعر : [ الوافر ]
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى . . . وأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ{[3828]}
وقرأ ابن أبي عبلة - «من نفس واحد » بغير هاء ، وهذا على مراعاة المعنى ، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ، والخلق في الآية : بمعنى الاختراع ، ويعني بقوله : { زوجها } حواء ، والزوج في كلام العرب : امرأة الرجل ، ويقال زوجة ، ومنه بيت أبي فراس{[3829]} : [ الطويل ]
وإنَّ الذي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي . . . كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرىَ يَسْتَبِيلُها
وقوله { منها } ، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة ، إن الله تعالى خلق آدم وَحِشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله ، وقيل : من يمينه فخلق منه حواء ، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : ( إن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها » وكسرها طلاقها ){[3830]} . وقال بعضهم : معنى { منها } من جنسها ، واللفظ يتناول المعنيين ، أو يكون لحمها وجواهرها في ضلعه ، ونفسها من جنس نفسه ، و { بث } معناه : نشر ، كقوله تعالى : { كالفراش المبثوث }{[3831]} [ القارعة : 4 ] أي المنتشر ، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع ، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا ، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين ، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين . و { الذي } في موضع نصب على النعت - و { تساءلون } معناه : تتعاطفون به ، فيقول أحدكم : أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه : { تساءلون به } حقوقكم وتجعلونه مقطعاً لها وأصله : «تتساءلون » فأبدلت التاء الثانية سيناً وأدغمت في السين ، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو ، بخلاف عنه ، وقرأ الباقون - «تساءلون » - بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة ، قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا : طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس : قال العجاج{[3832]} : [ الرجز ]
لَوْ عَرَضَتْ لأَيْبُلِيِّ قسِّ . . . أشعثَ في هيكله مندسِّ
حنَّ إليها كَحنِينِ الطَّسِّ . . . وقال ابن مسعود - «تسألون » - خفيفة بغير ألف ، و { الأرحام } نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب ، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة ، وعليها فسر ابن عباس وغيره ، وقرأ عبد الله بن يزيد - والأرحامُ - بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر تقديره : والأرحام أهل أن توصل ، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء - «والأرحامِ » - بالخفض عطفاً على الضمير ، والمعنى عندهم : أنها يتساءل بها كما يقول الرجل : أسألك بالله وبالرحم ، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض ، قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه ، فكما لا يجوز : مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد ، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر ، كما قال : [ البسيط ]
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تهجونا وتَشْتُمُنا . . . فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ{[3833]}
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَاري سُيوفَنَا . . . وَمَا بَيْنَها والْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ{[3834]}
واستهلها بعض النحويين ، قال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس .
قال القاضي أبو محمد : المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف ، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة ، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام : «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت »{[3835]} وقالت طائفة : إنما خفض - «والأرحامِ » - على جهة القسم من الله على ما اختص به إله إلا هو من القسم بمخلوقاته ، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده ، وإن كان المعنى يخرجه{[3836]} - و { كان } في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط ، بل المعنى : كان وهو يكون ، والرقيب : بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه ، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة ، وفي قوله { عليكم } ضرب من الوعيد ، ولم يقل «لكم » للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم ، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب ، لأنه يرتقب ذلك ، ومنه قول أبي داود{[3837]} : [ مجزوء الكامل ]
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِأَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ . . .
سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء ؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده . وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير ، ولا يعرف لها اسم آخر ، لكن يؤخذ مما روي في صحيحي البخاري عن ابن مسعود من قوله : > يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية الطولى ، ولم أقف عيه صريحا . ووقع في كتاب بصائر ذوي خبرة التمييز للفيروز أبادي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى ، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى . ولم أره لغيره{[1]} .
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم ، ثم بأحكام تخص النساء ، وأن بها أحكاما كثيرة من أحكام النساء : الأزواج ، والبنات ، وختمت بأحكام تخص النساء .
وكان ابتداء نزولها بالمدينة ، لما صح عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده . وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال ، لثمان أشهر خلت من الهجرة ، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة ، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة . والجمهور قالوا : نزلت بعد آل عمران ، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال ثلاث أي بعد أحد ، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها . وعن ابن عباس : أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ثم آل عمران ، ثم سورة الاحزاب ، ثم الممتحنة ، ثم النساء ، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة ، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء ، وهي آية { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } الآية . وقد قيل : إن آية { وآتوا اليتامى أموالهم } نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم ، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب ، إذ هم من جملة الاحزاب ، أي بعد سنة خمس . ومن العلماء من قال : نزلت سورة النساء عند الهجرة . وهو بعيد . وأغرب منه من قال : إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت بـ{ يا أيها الناس } ، وما كان { يا أيها الناس } فهو مكي ، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين . وقال بعضهم : نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة . والحق أن الخطاب ب{ يا أيها الناس } لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب ، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة ، ولا قبل الهجرة ، فإن كثيرا مما فيه { يا أيها الناس } مدني بالاتفاق . ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة ، وانتظام أحواله وأمنهم من أعدائهم . وفيها آية التيمم ، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس ، وقيل : سنة ست . فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها ، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث ، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك ، على أنه قد قيل : إن آخر آية منها ، آية الكلالة ، هي آخر آية نزلت من القرآن ، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة ، التي في آخرها مدة طويلة ، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى . ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء ، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف . ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها } يعني مكة . وفيها آية { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي ، صاحب مفتاح الكعبة ، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم ، نحو قوله { ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما فقد ضل ضلالا بعيدا } الخ ، وسوى التهديد بالقتال ، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة . وتوهين بأسهم عن المسلمين ، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن ، وصار المسلمون في قوة عليهم ، وأن معظمها ، بعد التشريع ، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين ، وجدال مع النصارى ليس بكثير ، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران ، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة .
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور ، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة { إذا زلزلت الأرض } .
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة ، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة ، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام .
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم ، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله ، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك ، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه ، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة ، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى ، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن ، والإشارة إلى النكاح والصداق ، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين ، ومعاشرتهن والمصالحة معهن ، وبيان ما يحل للتزوج منهن ، والمحرمات بالقرابة أو الصهر ، وأحكام الجواري بملك اليمين . وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة ، وتقسيم ذلك ، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم .
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه ، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة ، والتحذير من اتباع الهوى ، والأمر بالبر ، والمواساة ، وأداء الأمانات ، والتمهيد لتحريم شرب الخمر .
وطائفة من أحكام الصلاة ، والطهارة ، وصلاة الخوف . ثم أحوال اليهود ، لكثرتهم بالمدينة ، وأحوال المنافقين وفضائحهم ، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين . وأحكام معاملة المشركين ومساويهم ، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة ، وإبطال مآثر الجاهلية .
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب ، ونهي عن الحسد ، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع ، أو بحكم الفطرة . والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح . وبث المحبة بين المسلمين .
{ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .
جاء الخطاب بيأيُّها الناس : ليشمل جميع أمّة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان . فضمير الخطاب في قوله : { خلقكم } عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلاّ يختصّ بالمؤمنين ، إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفّار العرب وهم الذين تلقّوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأنّ الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم . فلمَّا كان ما بعد هذا النداء جامعاً لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكّر بأنّ أصلهم واحد ، إذ قال : { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ، فالمقصود من التقوى في { اتّقوا ربّكم } اتّقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حقّ توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات .
وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة .
وعبّر ب ( ربّكم ) ، دون الاسم العلم ، لأنّ في معنى الربّ ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الربّ هو المالك الذي يربّ مملوكه أي ، يدبّر شؤونه ، وليتأتّى بذكر لفظ ( الربّ ) طريق الإضافة الدالّة على أنّهم محقوقون بتقواه حقّ التقوى ، والدالّة على أنّ بين الربّ والمخاطبين صلة تعدّ إضاعتها حماقة وضلالاً . وأمّا التقوى في قوله : { واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام } فالمقصد الأهمّ منها : تقوى المؤمنين بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال . ثم جاء باسم الموصول { الذي خلقكم } للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأنّ الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتّقى .
ووَصْل { خلقكم } بصلة { من نفس واحدة } إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقّه بالاعتبار . وفي الآية تلويح للمشركين بأحقّيّة اتّباعهم دعوة الإسلام ، لأنّ الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلّهم إلى متابعته ولم يخصّ أمّة من الأمم أو نسباً من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرّحة باختصاصها بأمم معيّنة . وفي الآية تعريض للمشركين بأنّ أولى الناس بأن يتّبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنّه من ذوي رحمهم . وفي الآية تمهيد لما سَيُبَيَّنُ في هذه السورة من الأحكام المرتّبة على النسب والقرابة .
والنفس الواحدة : هي آدم . والزوج : حوّاء ، فإنّ حوّاء أخرجت من آدم . من ضلعه ، كما يقتضيه ظاهر قوله : { منها } .
و ( مِن ) تبعيضية . ومعنى التبعيض أنّ حوّاء خلقت من جزء من آدم .
قيل : من بقية الطينة التي خلق منها آدم . وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في « الصحيحين » .
ومن قال : إنّ المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأنّ ذلك لا يختصّ بنوع الإنسان فإنّ أنثى كلّ نوع هي من نوعه .
وعُطف قوله : { وخلق منها زوجها } على { خلقكم من نفس واحدة } ، فهو صلة ثانية . وقوله : { وبث منهما } صلة ثالثة لأنّ الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتّقى ، ولأنّ في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتّصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكلّ من أصل واحد ، وإن كان خَلْقهم ما حصل إلاّ من زوجين فكلّ أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه .
وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة . وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب . ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصّلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة . وقد ورد في الحديث : أنّ حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف ( مِن ) في قوله : { وخلق منها } للابتداء ، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم . والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي حوّاء . وأطلق عليها اسمُ الزوج لأنّ الرجل يكون منفرداً فإذا اتّخذ امرأة فقد صارا زوجاً في بيت ، فكلّ واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كلّ واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنّه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة ( زوجة ) ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عدّه بعض أهل اللغة لحناً . وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار قيل له : فقد قال ذو الرمّة :
أذو زوجة بالمصِر أمْ ذو خصومة *** أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال : إنّ ذا الرّمة طالما أكل المالح والبقْل في حوانيت البقّالين ، يريد أنّه مولّد .
وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي *** كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة . وتقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } في سورة البقرة ( 35 ) .
وقد شمل { وخلق منها زوجها } العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنّة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنّة على النساء بخلق الرجال لهنّ ، ثم منّ على النوع بنعمة النسل في قوله : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب .
والبثّ : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوب } [ القارعة : 4 ] .
ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأنّ كثير يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدّم في قوله تعالى : { وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير } في سورة آل عمران ( 146 ) . واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجل به ما يقتضيه فعل البث من الكثرة .
{ واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا }
شروع في التشريع المقصود من السورة ، وأعيد فعل { اتّقوا } : لأنّ هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصّة ، فإنّهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها ، وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام .
واستحضر اسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربّكم لإدخال الرّوع في ضمائر السامعين . لأنّ المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله : { اتقوا ربكم } فهو مقام ترغيب . ومعنى { تسَّاءلون به } يَسْأل بعضكم بعضاً به في القسم فالمسايلة به تؤذن بمنتهى العظمة ، فكيف لا تتّقونه .
وقرأ الجمهور { تسَّاءلون } بتشديد السين لإدغام التاء الثانية ، وهي تاء التفاعل في السين ، لقرب المخرج واتّحاد الصفة ، وهي الهمس . وقرأ حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : تساءلون بتخفيف السين على أنّ تاء الافتعال حذفت تخفيفاً .
{ والأرحام } قرأه الجمهور بالنصب عطفاً على اسم الله . وقرأه حمزة بالجرّ عطفاً على الضمير المجرور . فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأموراً بتقواها على المعنى المصدري أي اتّقائها ، وهو على حذف مضاف ، أي اتّقاء حقوقها ، فهو من استعمال المشترك في معنييه ، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ممّا أشار إليه قوله تعالى : { وخلق منها زوجها } وعلى قراءة حمزة يكون تعظيماً لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضاً بها ، وذلك قول العرب : « ناشدتك اللَّه والرحم » كما روى في « الصحيح » : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصّلت حتّى بلغ : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] فأخذت عتبة رهبة وقال : ناشدتك اللَّه والرحم . وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاماً لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ ، حتّى قال المبرّد : « لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة » وهذا من ضيق العطن وغرور بأنّ العربية منحصرة فيما يعلمه ، ولقد أصاب ابن مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجارّ ، فتكون تعريضاً بعوائد الجاهلية ، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها ، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم ، فناقضت أفعالُهم أقوالَهم ، وأيضاً هم قد آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه ، وهو من ذوي رحمهم وأحقّ الناس بصلتهم كما قال تعالى : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 128 ] وقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] . وقال : { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى } [ الشورى : 23 ] . وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمّة لمعنى التي قبلها .