معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي مائة وخمس وستون آية ، نزلت بمكة جملة ، ليلاً معها سبعون ألف ملك ، قد سدوا ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبحان ربي العظيم ، سبحان ربي العظيم ، وخر ساجداً ) . وروي مرفوعاً : ( من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره ) . وقال الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " نزلت سورة الأنعام بمكة ، إلا قوله : { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر ثلاث آيات ؛ وقوله تعالى : { قل تعالوا } إلى قوله : { لعلكم تتقون } ، فهذه الست آيات مدنيات " .

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } ، قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة ، قوله تعالى : { الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً } الآية ، [ الإسراء :111 ] . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد ، فقال : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } ، وختمه بالحمد فقال :{ وقضي بينهم بالحق } ، أي : بين الخلائق ، { وقيل الحمد لله رب العالمين } [ الزمر :75 ] . قوله : { الحمد لله } حمد الله نفسه تعليماً لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض ، خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع للعباد .

قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ، والجعل بمعنى الخلق ، وقال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان ، إلا في هذه الآية ، فإنه يريد بهما الليل والنهار . وقال الحسن : { وجعل الظلمات والنور } يعني الكفر والإيمان ، وقيل : أراد بالظلمات الجهل ، وبالنور العلم . وقال قتادة : يعني الجنة والنار . وقيل معناه : خلق الله السموات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنور ، لأنه خلق السموات والنور قبل السموات ولأرض ، قال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض ، وخلق الظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ) .

قوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } ، أي : ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي : يشركون ، وأصله من مساواة الشيء بالشيء ، ومنه العدل ، أي : يعدلون بالله غير الله تعالى ، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته ، وبه قال النضر بن شميل : الباء بمعنى " عن " ، أي : عن ربهم يعدلون ، أي يميلون ، وينحرفون ، من العدول ، قال الله تعالى : { عيناً يشرب بها عباد الله } أي : منها . وقيل : تحت قوله { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معنى لطيف ، وهو مثل قول القائل : أنعمت عليكم بكذا ، وتفضلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون بنعمتي ؟ .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ} (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى :

{ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } .

يعني تعالى ذكره بقوله الحَمْدُ للّهِ : الحمد الكامل لله وحده لا شريك له ، دون جميع الأنداد والاَلهة ، ودون ما سواه مما تعبده كفرة خلقه من الأوثان والأصنام . وهذا كلام مخرجه مخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر ، يقول : أخلصوا الحمد والشكر للذي خلقكم أيها الناس وخلق السموات والأرض ، ولا تشركوا معه في ذلك أحدا شيئا ، فإنه المستوجب عليكم الحمد بأياديه عندكم ونعمة عليكم ، لا من تعبدونه من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه . وقد بينا الفصل بين معنى الحمد والشكر بشواهده فيما مضى قبل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ .

يقول تعالى ذكره : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وأظلم الليل وأنار النهار . كما :

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ قال : الظلمات : ظلمة الليل ، والنور : نور النهار .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أما قوله : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظّلْمَاتِ والنّورِ فإنه خلق السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار .

فإن قال قائل : فما معنى قوله إذن «جَعَلَ » ؟ قيل : إن العرب تجعلها ظرفا للخبر والفعل ، فتقول : جعلت أفعل كذا ، وجعلت أقوم وأقعد ، تدلّ بقولها «جعلت » على اتصال الفعل ، كما تقول : علقت أفعل كذا ، لا أنها في نفسها فعل ، يدلّ على ذلك قول القائل : جعلت أقوم ، وأنه لا جعل هناك سوى القيام ، وإنما دلّ بقوله «جعلت » على اتصال الفعل ودوامه ، ومن ذلك قول الشاعر :

وزَعَمْتَ أنّكَ سوْفَ تسْلُكُ فَارِدا ***والمَوْتُ مُكْتَنِعٌ طَرِيقَيْ قادِرِ

فاجْعَلْ تَحَلّلْ مِنْ يَمِينِكَ إنّمَا ***حِنْثُ اليَمِينِ على اللّئِيمِ الفاجِرِ

يقول «فاجعل تحلّل » بمعنى : تحلل شيئا بعد شيء ، لا أن هناك جعلاً من غير التحليل . فكذلك كلّ جعل في الكلام إنما هو دليل على فعل له اتصال ، لا أن له خطا في معنى الفعل فقوله : وَجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَإنما هو أظلم ليلهما وأنار نهارهما .

القول في تأويل قوله تعالى : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ .

يقول تعالى ذكره معجّبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ومحتجّا على الكافرين : إن الإله الذي يجب عليكم أيها الناس حمده هو الذي خلق السموات والأرض ، الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم ، فمن السموات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم ومنافعكم بها . والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم أيها الناس بربهم الذي فعل ذلك وأحداثه يَعْدِلُونَ : يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه ، فيعبدون معه الاَلهة والأنداد والأصنام والأوثان ، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم ، بل هو المنفرد بذلك كله ، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة ، لمن فكّر فيها بعقل وتدبرها بفهم ولقد قيل إنها فاتحة التوراة .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمّي ، عن أبي عمران الجونّي ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب ، قال : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجونّي ، عن عبد الله ابن رباح ، عن كعب ، مثله . وزاد فيه : وخاتمة التوراة خاتمة هود .

يقال من مساواة الشيء بالشيء : عدلت هذا بهذا ، إذا ساويته به عدلاً . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه ، فإنك تقول : عَدَلْت فيه أعدل عدلاً .

وينحو الذي قلنا في تأويل قوله : يَعْدِلُونَ قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَعْدِلُونَ قال : يشركون .

ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بذلك ، فقال بعضهم : عُنِي به أهل الكتاب .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمى ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزى ، قال : جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الاَية : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورِ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال له : أليس الذين كفروا بربهم يعدلون ؟ قال : بلى . قال : وانصرف عنه الرجل ، فقال له رجل من القوم : يا ابن أبزى ، إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا ، إنه رجل من الخوارج فقال : ردّوه عليّ فلما جاءه قال : هل تدري فيمن نزلت هذه الاَية ؟ قال : لا . قال إنها نزلت في أهل الكتاب ، اذهب ولا تضعها على غير حدّها .

وقال آخرون : بل عُنى بها المشركون من عبدة الأوثان .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : هؤلاء أهل صراحة .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : هم المشركون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : الاَلهة التي عبدوها عدلوها بالله قال : وليس بالله عِدْل ولا ندّ ، وليس معه آلهة ، ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : إن الله تعالى أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون ، فعمّ بذلك جميع الكفار ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض ، فجميعهم داخلون في ذلك : يهودهم ، ونصاراهم ، ومجوسهم ، وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .