تتناول هذه السورة على نحو خاص موضاعات الأسرة والمجتمع ، والعلاقات بين الناس ، وتضع الأحكام المنظمة لها ، وتبدأ بالأسرة من حيث إنها : هي الخلية الأولى للمجتمع ، إذا صلحت صلح المجتمع كله . ثم تتعرض السورة الكريمة بعد ذلك للمجتمع ونظامه المتكامل ، وتحدد السورة منذ البداية في الآية الأولى المبدأ الذي تقوم عليه العلاقات بين الناس . ألا وهو المساواة بينهم . فقد خلقهم الله سبحانه وتعالى من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها . فالبشر جميعا أبناء أب واحد هو آدم ، وأم واحدة هي حواء . هؤلاء البشر يربطهم رباط الأخوة والمساواة . فالإسلام يبين أن البشر وتنظيمهم وحدة واحدة تبدأ بالأسرة ، وتتسع فتشمل القبائل والشعوب التي ينبغي عليها أن تتعارف وتتآلف على خير ما يكون التعارف والتآلف .
1- يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أوجدكم من نفس واحدة ، وأنشأ من هذه النفس زوجها ، وخلق منهما رجالاً كثيراً ونساء ، فأنتم جميعاً تنتهون إلى تلك النفس الواحدة ، واتقوا الله الذي تستعينون به في كل ما تحتاجون ، ويسأل باسمه بعضكم بعضاً فيما تتبادلون من أمور ، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها قريبها وبعيدها ، إن الله دائم الرقابة على أنفسكم ، لا تخفي عليه خافية من أموركم ، ومجازيكم عليها .
[ وهي مدنية ]{[1]} قال العَوْفِي عن ابن عباس : نزلت سورةُ النساء بالمدينة . وكذا رَوَى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وزيد بن ثابت ، ورَوَى من طريق عبد الله بن لَهِيعة ، عن أخيه عيسى ، عن عِكْرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حَبْس " {[2]} .
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو البَخْتَرِي{[3]} عبد الله بن محمد شاكر ، حدثنا محمد بن بِشْر العَبْدي ، حدثنا مِسْعَر بن كِدَام ، عن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن في سورة النساء لخمسُ آيات ما يَسُرّني أن لي بها الدنيا وما فيها : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآية ، و{ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية ، و { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } و { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } الآية ، و{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك{[4]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من{[5]} النساء : لهن{[6]} أحب إلَيّ من الدنيا جَميعًا : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وقوله : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ{[7]} أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } رواه ابن جرير : ثم روى من طريق صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير{[8]} لهذه الأمة مما طَلَعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } والثانية : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا } والثالثة : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } .
ثم ذكر قول{[9]} ابن مسعود سواء ، يعني في الخمسة{[10]} الباقية .
وروى الحاكم من طريق أبي نُعَيم ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن عبيد الله{[11]} بن أبي يزيد ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ؛ سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء ، فإني قرأت القرآن وأنا صغير . ثم قال : هذا حديث{[12]} صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .
يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضِلعه الأيسر{[6518]} من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : خُلقَت المرأة من الرجل ، فجعل نَهْمَتَها في الرجل ، وخلق الرجل من الأرض ، فجعل نهمته في الأرض ، فاحبسوا نساءكم .
وفي الحديث الصحيح : " إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَج " {[6519]} .
وقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } أي : وذَرَأ منهما ، أي : من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، ونَشَرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر .
ثم قال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } أي : واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال إبراهيم ومجاهد والحسن : { الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ } أي : كما يقال : أسألك بالله وبالرَّحِم . وقال الضحاك : واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن بروها وصِلُوها ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع وغير واحد .
وقرأ{[6520]} بعضهم : { والأرحام } بالخفض على العطف على الضمير في به ، أي : تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } أي : هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ البروج : 9 ] .
وفي الحديث الصحيح : " اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " {[6521]} وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ؛ ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [ واحد ]{[6522]} وأم واحدة ؛ ليعطفَ بعضهم على
بعض ، ويحننهم{[6523]} على ضعفائهم ، وقد ثبت في صحيح مسلم ، من حديث جَرِير بن عبد الله البَجَلي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مُضَر - وهم مُجْتابو النِّمار - أي من عُريِّهم وفَقْرهم - قام فَخَطَب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } حتى ختم الآية{[6524]} وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [ وَاتَّقُوا اللَّهَ ]{[6525]} } [ الحشر : 18 ] ثم حَضَّهم{[6526]} على الصدقة فقال : " تَصَدَّقَ رجُلٌ من دِينَاره ، من دِرْهَمِه ، من صَاعِ بُرِّه ، صَاعِ تَمْره . . . " وذكر تمام الحديث{[6527]} .
وهكذا رواه{[6528]} الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خُطْبَة الحاجة{[6529]} وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ]{[6530]} } الآية .
{ يا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : { يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } : احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم ، وفيما نهاكم ، فيحلّ بكم من عقوبته ما لا قِبَل لكم به . ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد ، وعرّف عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة ، ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأمّ واحدة ، وأن بعضهم من بعض ، وأن حقّ بعضهم على بعض واجب وجوب حقّ الأخ على أخيه ، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة . وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حقّ بعض ، وإن بعد التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم ، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الأدنى . وعاطفا بذلك بعضهم على بعض ، ليتناصفوا ، ولا يتظالموا ، وليبذل القويّ من نفسه للضعيف حقه بالمعروف ، على ما ألزمه الله له ، فقال : { الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني من آدم . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } : فمن آدم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم صلى الله عليه وسلم .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } قال : آدم .
ونظير قوله : { مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } والمعنيّ به رجل ، قول الشاعر :
أبوكَ خليفَةٌ وَلَدتْهُ أُخْرَى *** وأنتَ خليفةٌ ذاكَ الكَمالُ
فقال : «ولدته أخرى » ، وهو يريد الرجل ، فأنث للفظ الخليفة . وقال تعالى ذكره : { مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } لتأنيث «النفس » والمعنى . «من رجل واحد » ولو قيل : «من نفس واحد » ، وأخرج اللفظ على التذكير للمعنى كان صوابا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } وخلق من النفس الواحدة زوجها¹ يعني ب «الزوج » الثاني لها وهو فيما قال أهل التأويل : امرأتها ، حوّاء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } قال : حوّاء من قُصَيْرَى آدم وهو نائم ، فاستيقظ فقال : «أثا » بالنبطية امرأة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } يعني حوّاء خلقت من آدم ، من ضلع من أضلاعه .
حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وَحِشا ليس له زوج يسكن إليها¹ فنام نومة ، فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها ما أنتِ ؟ قالت امرأة ، قال : ولم خلقتِ ؟ قالت : لتسكن إلي .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السّنة فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن العباس وغيره ، ثم أخذ ضِلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ، ولأم مكانه ، وآدم نائم لم يهبّ من نومته ، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضلعه تلك زوجته حوّاء ، فسوّاها امرأة ليسكن إليها ، فلما كُشفت عنه السّنة وهبّ من نومته رآها إلى جنبه ، فقال فيما يزعمون والله أعلم : لحمي ودمي وزوجتي ! فسكن إليها .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } جعل من آدم حوّاء .
وأما قوله : { وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساء } فإنه يعني ونشر منهما يعني من آدم وحواء { رِجَالاً كَثِيرا وَنِسَاءً } قد رآهم ، كما قال جلّ ثناؤه : { كالفَرَاشِ المَبْثُوثِ } . يقال منه : بثّ الله الخلق وأبثهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَبَثّ مِنْهَما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً } وبثّ : خَلَق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحام } .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة : «تَسّاءَلُونَ » بالتشديد ، بمعنى : تتساءلون ، ثم أدغم إحدى التاءين في السين ، فجعلهما سينا مشددة . وقرأه بعض قراء الكوفة : { تَسَاءَلُونَ } بالتخفيف على مثال «تَفَاعَلُونَ » ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان فصيحتان ، أعني التخفيف والتشديد في قوله : { تَساءَلُونَ بِهِ } ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء أصاب الصواب فيه ، لأن معنى ذلك بأيّ وجهيه قرىء غير مختلف .
وأما تأويله : { وَاتّقُوا اللّهَ } أيها الناس ، الذي إذا سأل بعضكم بعضا سأل به ، فقال السائل للمسؤول : أسألك بالله ، وأنشدك بالله ، وأعزم عليك بالله ، وما أشبه ذلك . يقول تعالى ذكره : فكما تعظّمون أيها الناس ربكم بألسنتكم ، حتى تروا أن من أعطاكم عهده فأخفركموه ، فقد أتى عظيما ، فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فيما أمركم ، واجتنابكم ما نهاكم عنه ، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } قال : يقول : اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } يقول : اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { تَساءَلُونَ بِهِ } قال : تعاطفون به .
وأما قوله : { والأرْحامَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم ، قال السائل للمسؤول : أسألك به وبالرحم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله الذي تعاطفون به والأرحام . يقول : الرجل يسأل بالله وبالرحم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو كقول الرجل : أسألك بالله ، أسألك بالرحم . يعني قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ الأرْحامَ } قال : يقول : أسألك بالله وبالرحم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، هو كقول الرجل : أسألك بالرحم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : أسألك بالله وبالرحم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور أو مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ } قال : هو قول الرجل : أسألك بالله والرحم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم .
قال محمد : وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله : «والأرْحامِ » بالخفض عطفا بالأرحام على الهاء التي في قوله «به » ، كأنه أراد : واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام ، فعطف بظاهر على مكنيّ مخفوض . وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب لأنها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض إلا في ضرورة شعر ، وذلك لضيق الشعر¹ وأما الكلام فلا شيء يضطرّ المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق والرديء في الإعراب منه . ومما جاء في الشعر من ردّ ظاهر على مكنيّ في حال الخفض قول الشاعر :
نُعَلّقُ فِي مِثْلِ السّوَارِي سُيُوفَنا *** وَما بينها وَالكَعْبِ غُوطٌ نَفانِفُ
فعطف «الكعب » وهو ظاهر على الهاء والألف في قوله «بينها » وهي مكنية .
وقال آخرون : تأويل ذلك : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } واتقوا الأرحام أن تقطعوها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ } يقول : اتقوا الله ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «اتّقُوا اللّهَ وَصِلُوا الأرْحامَ ، فإنّهُ أبْقَى لَكُمْ فِي الدّنيْا ، وَخَيْرٌ لَكُمْ فِي الاَخِرَةِ » .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الله في الأرحام فصلوها .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوه في الأرحام .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قول الله : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اتّقُوا اللّهَ وَصِلُوا الأرْحامَ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : اتقوا الله في الأرحام فصِلوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : واتقوا الله في الأرحام فصِلوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد ، وأخبرنا أبو جعفر الخزاز ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أن ابن عباس كان يقرأ : { والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله لا تقطعوها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : اتقوا الأرحام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } أن تقطعوها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ : { وَالّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَل } .
قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبا ، بمعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، عطفا بالأرحام في إعرابها بالنصب على اسم الله تعالى ذكره . قال : والقراءة التي لا نستجيز للقارىء أن يقرأ غيرها في ذلك النصب : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } بمعنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض ، إلا في ضرورة شعر ، على ما قد وصفت قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } .
قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : إن الله لم يزل عليكم رقيبا . ويعني بقوله : { عَلَيْكُمْ } : على الناس الذين قال لهم جلّ ثناؤه : يا أيها الناس اتقوا ربكم والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر ، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب ، فتقول إذا خاطبت رجلاً واحدا أو جماعة فعلتْ هي وآخرون غيّب معهم فعلاً : فعلتم كذا ، وصنعتم . كذا ويعني بقوله : { رَقِيبا } : حفيظا ، محصيا عليكم أعمالكم ، متفقدا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها ، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } : حفيظا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد في قوله : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } على أعمالكم ، يعلمها ويعرفها .