المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

2- ومن تلك الأحكام حكم الزانية والزاني فاضربوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا يمنعكم شيء من الرأفة بهما عن تنفيذ الحكم ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . لأن مقتضى الإيمان إيثار رضا الله علي رضا الناس ، ولْيحضر تنفيذ الحكم فيهما جماعة من المؤمنين . ليكون العقاب فيه ردع لغيرهما{[146]} .


[146]:تعليق الخبراء علي الآية 2 - 4: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك علي المؤمنين، والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوا ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون}: الجرائم في الشريعة الإسلامية هي محظورات زجر الله عنها بحد أو تعزير، وهذه المحظورات تقع إما بارتكاب فعل نهي الشرع عن ارتكابه، أو بترك فعل أمر الشرع بإتيانه. وعلة تحريم هذه المحظورات: أنها اعتداء علي إحدى المصالح المعتبرة في الإسلام، ومصالح الإسلام المعتبرة خمس وهي: 1 – المحافظة علي النفس. 2 – المحافظة علي الدين. 3 – المحافظة علي العقل. 4 – المحافظة علي المال. المحافظة علي العرض. فالقتل مثلا اعتداء علي النفس، والردة اعتداء علي الدين، وتعاطي المخدرات اعتداء علي العقل، والسرقة اعتداء علي المال، والزنا اعتداء علي العرض. وقسم الفقهاء الجرائم إلي تقسيمات عدة تختلف باختلاف وجهات النظر إليها. ويهمنا بصدد التعليق علي هذه الآية التقسيم من حيث جسامة العقوبة وكيفية تقديرها، وهي تنقسم إلي أقسام ثلاثة: 1 – الحدود. 2 – القصاص أو الدية. 3 – التعزير. أما الحدود فهي الجرائم التي تعتبر في حد ذاتها اعتداء علي حق الله، أو يغلب فيها حق الله علي حقوق العباد. ولذلك حددها الله. وحددت عقوبتها بنص في القرآن أو في السنة. أما جرائم القصاص والدية فهي جرائم تغلب فيها حقوق العباد، وتولي الله تحديد عقوبات بعضها بالنص، وترك البعض لتقدير ولي الأمر. ومثلها جرائم الدماء، مثل جريمة القتل وقطع الأطراف والجراح. أما جرائم التعزير فاكتفي الإسلام فيها بتقرير مجموعة من العقوبات بحديها الأخف والأشد، وترك للوالي اختيار العقوبة في كل جريمة بما يلائم ظروفها وحال الجماعة التي وقعت بها. جرائم الحدود سبع: 1 – الزنا. 2 – قذف المحصنات. 3 – البغي. 4 – السرقة. 5 – قطع الطريق. 6 – شرب الخمر. 7 – الردة. وقد حددها الله تعالي وجاء تعدادها جميعا في نصوص القرآن، كما حدد العقوبات عليها القرآن أيضا، عدا عقوبة الزاني المحصن "المتزوج" وهي الرجم، وعقوبة شارب الخمر وهي ثمانون جلدة، وعقوبة الردة وهي القتل، فقد نصت عليها السنة وقد درجت القوانين الوضعية علي الزجر في جريمة الزنا بتوافه العقوبات كالحبس. فشاعت الفاحشة بين الناس، وانتشر الفسق والفجور، وهانت الأعراض، وكثرت الأمراض واختلطت الأنساب. ومن عجب أن الشرائع الحديثة للبلاد المتمدينة تحمي هذه الجرائم، ففي قانون العقوبات الفرنسي مثلا: الزاني والزانية غير المحصنين لا عقوبة عليهما، ماداما قد بلغا سن الرشد، إذ حريتهما الشخصية تقتضي تركهما يفعلان بأنفسهما ما يشاءان. أما الزنا بالنسبة للمحصن من الرجال أو النساء فعقوبته الحبس. وليس للهيئة الاجتماعية متمثلة في النيابة العامة أن تتصدى للجريمة بالتحقيق، إلا بناء علي طلب أحد الزوجين، وترتب علي اعتبار الجريمة واقعة علي حق الزوج وحده أنه إذا بلغ الحادث فله أن يسحب بلاغه، فيقف التحقيق، وله أن يعفو عن زوجته فتخرج من السجن قبل انقضاء العقوبة ولو صار الحكم عليها نهائيا. ويعيب البعض علي الإسلام التشدد في عقوبة الزنا، وكان أحرى بهم أن يدركوا أنه بقدر تغليظ العقوبة في الإسلام تشدد في طريق الإثبات. فبينما اكتفي في ثبوت جريمة القتل بشهادة شاهدين عدلين، حتم في ثبوت جريمة الزنا شهادة أربعة شهود عدول، رأوا الواقعة رأي العين، أو اعتراف الجاني. هذا، ونلاحظ أن القرآن الكريم أوجب علانية عقوبة الجلد، لما في ذلك من تشهير بالجاني وتخويف لغيره.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

ويتبع هذا المطلع القوي الصريح الجازم ببيان حد الزنا ؛ وتفظيع هذه الفعلة ، التي تقطع ما بين فاعليها وبين الأمة المسلمة من وشائج وارتباطات :

( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ؛ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر - وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين . الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ؛ وحرم ذلك على المؤمنين ) . .

كان حد الزانيين في أول الإسلام ما جاء في سورة النساء : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . . فكان حد المرأة الحبس في البيت والأذى بالتعبير . وكان حد الرجل الأذى بالتعبير .

ثم أنزل الله حد الزنا في سورة النور . فكان هذا هو( السبيل )الذي أشارت إليه من قبل آية النساء .

والجلد هو حد البكر من الرجال والنساء . وهو الذي لم يحصن بالزواج . ويوقع عليه متى كان مسلما بالغا عاقلا حرا . فأما المحصن وهو من سبق له الوطء في نكاح صحيح وهو مسلم حر بالغ فحده الرجم .

وقد ثبت الرجم بالسنة . وثبت الجلد بالقرآن . ولما كان النص القرآني مجملا وعاما . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد رجم الزانيين المحصنين ، فقد تبين من هذا أن الجلد خاص بغير المحصن .

وهناك خلاف فقهي حول الجمع بين الجلد والرجم للمحصن . والجمهور على أنه لا يجمع بين الجلد والرجم . كما أن هناك خلافا فقهيا حول تغريب الزاني غير المحصن مع جلده . وحول حد الزاني غير الحر . . وهو خلاف طويل لا ندخل في تفصيله هنا ، يطلب في موضعه من كتب الفقه . . إنما نمضي نحن مع حكمة هذا التشريع . فنرى أن عقوبة البكر هي الجلد ، وعقوبة المحصن هي الرجم . ذلك أن الذي سبق له الوطء في نكاح صحيح - وهو مسلم حر بالغ - قد عرف الطريق الصحيح النظيف وجربه ، فعدوله عنه إلى الزنا يشي بفساد فطرته وانحرافها ، فهو جدير بتشديد العقوبة ، بخلاف البكر الغفل الغر ، الذي قد يندفع تحت ضغط الميل وهو غرير . . وهناك فارق آخر في طبيعة الفعل . فالمحصن ذو تجربة فيه تجعله يتذوقه ويستجيب له بدرجة أعمق مما يتذوقه البكر . فهو حري بعقوبة كذلك أشد .

والقرآن يذكر هنا حد البكر وحده - كما سلف - فيشدد في الأخذ به ، دون تسامح ولا هوادة :

( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) .

فهي الصرامة في إقامة الحد ؛ وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما ، وعدم تعطيل الحد أو الترفق في إقامته ، تراخيا في دين الله وحقه . وإقامته في مشهد عام تحضره طائفة من المؤمنين ، فيكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين ونفوس المشاهدين .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

ثم قال تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع ؛ فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرًا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا ، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل . فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج ، فإن حدَّه مائة جلدة{[20714]} كما في الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما [ عن بلده ]{[20715]} عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله ؛ فإن عنده أن التغريبَ إلى رأي الإمام ، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب .

وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهَنيّ ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عَسِيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ ابني ]{[20716]} منه بمائة شاة وَوَليدَة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن{[20717]} على ابني جلد مائة وتغريبَ عام ، وأن على امرأة هذا الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رَدٌّ عليك ، وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها{[20718]} .

ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :

حدثني ابن شهاب ، أخبرنا{[20719]} عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن{[20720]} الله بعث محمدًا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وَوَعَيْناها ، وَرَجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجمْنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف .

أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا{[20721]} وهذا{[20722]} قطعة منه ، فيها مقصودنا هاهنا .

وروى الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف ؛ أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وَإنّ أناسا{[20723]} يقولون : ما بالُ الرجم ؟ في كتاب الله الجلدُ . وقد رَجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده . ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم{[20724]} متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه{[20725]} لأثبتها كما نزلت .

وأخرجه النسائي ، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله ، به{[20726]} .

وقد روى أحمد{[20727]} أيضًا ، عن هُشَيْم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تُخْدَعُن{[20728]} عنه ؛ فإنه حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده . ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال{[20729]} وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا{[20730]} .

وروى أحمد{[20731]} أيضا ، عن يحيى القَطَّان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب{[20732]} : إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم .

الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عُمَر ، وقال : صحيح{[20733]} .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيْد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا ابن{[20734]} عَوْن ، عن محمد - هو ابن سِيرِين - قال : نُبِّئتُ عن كَثِير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : " والشيخ والشيخة فارجموهما{[20735]} البتة " . قال مروان : ألا كتبتَها في المصحف ؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك . قال : قلنا : فكيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكْتِبْني آية الرجم : قال : " لا أستطيع الآن " . هذا أو نحو{[20736]} ذلك .

وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جُبَير ، عن كَثِير بن الصَّلْت ، عن زيد بن ثابت ، به{[20737]} .

وهذه طرق كلها متعددة{[20738]} ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي حكمها معمولا به ، ولله الحمد{[20739]} .

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير . ورجم النبي{[20740]} صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامِدِيَّة . وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جَلدهم قبل الرجم . وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد ؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله . وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين{[20741]} الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشُرَاحة{[20742]} وكانت قد زنت وهي مُحْصَنَةٌ ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتهُا بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان{[20743]} بن عبد الله الرَّقَاشِيّ ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر بالبِكْر ، جَلْد مائة وتغريب سنة{[20744]} والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم " {[20745]} .

وقوله : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي : في حكم الله . لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه{[20746]} الرأفة الطبيعية [ ألا تكون حاصلة ]{[20747]} على ترك الحد ، [ وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد ]{[20748]} فلا{[20749]} يجوز ذلك .

قال مجاهد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل . وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَيْر ، وعَطَاء بن أبي رَبَاح . وقد جاء في الحديث :

" تعافَوُا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب " {[20750]} . وفي الحديث الآخر : " لَحَدٌّ يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا " {[20751]} .

وقيل : المراد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فلا تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرِّح .

قال عامر الشعبي : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : رحمة{[20752]} في شدة الضرب . وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرِّح . وقال سعيد بن أبي عَرُوُبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد{[20753]} القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع ثيابه ، ثم تلا { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فقلت : هذا في الحكم ؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ{[20754]} حدثنا وَكيع ، عن نافع ، [ عن ]{[20755]} ابن عمرو ، عن{[20756]} ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عبيد الله{[20757]} بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها - قال : قلت : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : يا بني ، ورأيتَني أخَذَتْني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جَلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت{[20758]} .

وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرِّحا ؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك . وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : " ولك في ذلك أجر " {[20759]} .

وقوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا .

قال الحسن البصري في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يعني : علانية .

ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الطائفة : الرجل فما فوقه .

وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف . وكذا قال عكرمة ؛ ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدُق على واحد .

وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان . وبه قال إسحاق بن رَاهَويه . وكذا قال سعيد بن جبير : { طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : يعني : رجلين فصاعدا .

وقال الزهري : ثلاث نفر فصاعدا .

وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وَهْب ، عن الإمام مالك في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا ؛ لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدًا . وبه قال الشافعي .

وقال ربيعة : خمسة . وقال الحسن البصري : عشرة . وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين ؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بَقِيَّةُ قال : سمعت نصر بن علقمة في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة .


[20714]:- في ف ، أ : "جلد مائة".
[20715]:- زيادة من ف ، أ.
[20716]:- زيادة من ف ، أ ، وصحيحي البخاري ومسلم.
[20717]:- في أ : "إنما".
[20718]:- صحيح البخاري برقم (2314 ، 6633) وصحيح مسلم برقم (1697).
[20719]:- في ف : "عن".
[20720]:- في ف : "إن".
[20721]:- الموطأ (2/822) وصحيح البخاري برقم (6829 ، 6830) وصحيح مسلم برقم (1691) وهو عندهما بهذا السياق من حديث ابن شهاب الزهري.
[20722]:- في ف ، أ : "وهذه".
[20723]:- في ف : "ناسا".
[20724]:- في ف : "ويتكلم".
[20725]:- في أ : "فيه".
[20726]:- المسند (1/29) والنسائي في السنن الكبرى (7154).
[20727]:- في ف ، أ : "الإمام أحمد".
[20728]:- في أ : "لا تحيد عنه".
[20729]:- في ف : "والدجال".
[20730]:- المسند (1/23).
[20731]:- في ف ، أ : "الإمام أحمد".
[20732]:- في ف ، أ : "عمر رضي الله عنه".
[20733]:- المسند (1/36) وسنن الترمذي برقم (1431).
[20734]:- في ف : "أبو".
[20735]:- في ف ، أ : "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما".
[20736]:- في ف : "أو نحوه".
[20737]:- النسائي في السنن الكبرى برقم (7148).
[20738]:- في ف ، أ : "متعاضدة".
[20739]:- في ف ، أ : "والله أعلم".
[20740]:- في ف ، أ : "رسول الله"
[20741]:- في أ : "من".
[20742]:- في أ : "بسراجة".
[20743]:- في أ : "عطاء".
[20744]:- في أ : "عام"
[20745]:- المسند (5/317) وصحيح مسلم برقم (1690) وسنن أبي داود برقم (4416) وسنن الترمذي برقم (1434) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11092) وسنن ابن ماجه برقم (2550).
[20746]:- في ف : "النهي عن"
[20747]:- زيادة من ف ، أ
[20748]:- زيادة من ف ، أ
[20749]:- في ف : "فإنه لا".
[20750]:- رواه أبو داود في السنن برقم (4376) والنسائي في السنن (8/70) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده.
[20751]:- المسند (2/362) والنسائي في السنن (8/75) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
[20752]:- في ف ، أ : "رحمة الله".
[20753]:- في أ : "نجلد".
[20754]:- في ف : "الأزدي" وفي أ : "الأرزمي".
[20755]:- زيادة من جـ ، أ.
[20756]:- في ف ، أ : "وعن".
[20757]:- في ف ، أ : "عبد الله".
[20758]:- ورواه الطبري في تفسيره (18/52) من طريق نافع ، عن ابن عمر فذكره.
[20759]:- المسند (3/436) من حديث قرة المزني ، رضي الله عنه.