هي سورة مكية ، إلا الآيات : 20 ، 23 ، 91 ، 93 ، 114 ، 141 ، 151 ، 152 ، 153 .
وآياتها 165 ، نزلت بعد سورة الحجر . وتتضمن هذه السورة الكريمة معاني قد فصلتها :
* نبهت الناس إلى الكون وما فيه من دلالة على عظم المنشئ وجلاله ووحدانيته ، وأنه لا يشاركه في الخلق ولا في العبادة ولا في الذات أحد .
* وتضمنت قصص بعض النبيين ، وابتدأت بقصة إبراهيم عليه السلام وبيان أنه أخذ معنى العبادة والوحدانية من مطالعة الكون ، وتتبع ما فيه ، وقد ابتدأ بتتبع النجوم ، ثم القمر ثم الشمس ، وانتهى بالتتبع إلى عبادة اله وحده .
* ووجهت الأنظار إلى عجائب الخلق والتكوين ، وبينت كيف ينبت الحي الرطب من الجامد اليابس وكيف يفلق الحب فيكون منه النبات .
* وقد ذكرت صفات الجاحدين ، وكيف يتعلقون بأوهام تبعدهم عن الحق ، وتضلهم .
* وفيها بيان الحلال الذي أحله الله تعالى في الأطعمة ، وضلال المشركين فيما حرموه على أنفسهم من غير أن يعتمدوا على دليل ، وكيف ينسبون التحريم إليه سبحانه .
* وفيها بيان هذه الأوامر التي هي خلاصة الإسلام والأخلاق الحميدة ، وهي : تحريم الشرك ، والزنا ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، ووجوب إيفاء الكيل والميزان ، وتحقيق العدالة ، والوفاء بالعهد ، والإحسان إلى الوالدين ، ومنع وأد البنات .
* الثناء والذكر الجميل لله ، الذي خلق السماوات والأرض ، وأوجد الظلمات والنور لمنفعة العباد بقدرته وعلى وفق حكمته ، ثم مع هذه النعم الجليلة يشرك به الكافرون ، ويجعلون له شريكا في العبادة .
1- الثناء والذكر الجميل لله ، الذي خلق السماوات والأرض ، وأوجد الظلمات والنور لمنفعة العباد بقدرته وعلى وفق حكمته ، ثم مع هذه النعم الجليلة يشرك به الكافرون ، ويجعلون شريكاً في العبادة .
{ 1 ، 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }
هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال عموما ، وعلى هذه المذكورات خصوصا . فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض ، الدالة على كمال قدرته ، وسعة علمه ورحمته ، وعموم حكمته ، وانفراده بالخلق والتدبير ، وعلى جعله الظلمات والنور ، وذلك شامل للحسي من ذلك ، كالليل والنهار ، والشمس والقمر . والمعنوي ، كظلمات الجهل ، والشك ، والشرك ، والمعصية ، والغفلة ، ونور العلم والإيمان ، واليقين ، والطاعة ، وهذا كله ، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى ، هو المستحق للعبادة ، وإخلاص الدين له ، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه ، يسوونهم به في العبادة والتعظيم ، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال ، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه .
[ بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة وما توفيقي إلا بالله ]{[1]}
[ وهي مكية ]{[2]}
قال العَوْفيّ وعِكْرمة وعَطاء ، عن ابن عباس : أنزلت سورة الأنعام بمكة .
وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجّاج بن مِنْهال ، حدثنا{[3]} حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح{[4]}
وقال سفيان الثوري ، عن لَيْث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة [ واحدة ]{[5]} وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة{[6]}
وقال شريك ، عن ليث ، عن شهر ، عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا{[7]} ما بين السماء والأرض{[8]}
وقال السُّدِّي{[9]} عن مُرَة ، عن عبد الله قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من الملائكة .
وروي نحوه من وجه آخر ، عن ابن مسعود .
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي ، أخبرنا جعفر بن عَوْن ، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي ، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سَبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق " . ثم قال : صحيح على شرط مسلم{[10]}
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا إبراهيم بن دُرُسْتُويه الفارسي ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي ، عن نافع بن مالك أبي سهيل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة ، سَد ما بين الخَافِقَين لهم زَجَل بالتسبيح والأرض بهم تَرْتَجّ " ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[11]} يقول : " سبحان الله العظيم ، سبحان الله العظيم " {[12]}
ثم روى ابن مَرْدُوَيه عن الطبراني ، عن إبراهيم بن نائلة ، عن إسماعيل بن عمرو ، عن يوسف بن عطية ، عن ابن عَوْن ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : " نزلت عَلَيّ سورة الأنعام جملة واحدة ، وشَيَّعَها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد " {[13]}
يقول الله تعالى مادحًا نفسه الكريمة ، وحامدا لها على خلقه السموات والأرض قرارًا لعباده ، وجعل{[10560]} الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم ، فجمع لفظ " الظلمات " ووحَّد لفظ{[10561]} النور " ؛ لكونه أشرف ، كما قال { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [ النحل : 48 ] ، وكما قال{[10562]} في آخر هذه السورة { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .
وقوله : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي : ومع هذا كله كفر به بعض عباده ، وجعلوا معه شريكًا وعدلا واتخذوا له صاحبةً وولدًا ، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا .
{ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله الحَمْدُ للّهِ : الحمد الكامل لله وحده لا شريك له ، دون جميع الأنداد والاَلهة ، ودون ما سواه مما تعبده كفرة خلقه من الأوثان والأصنام . وهذا كلام مخرجه مخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر ، يقول : أخلصوا الحمد والشكر للذي خلقكم أيها الناس وخلق السموات والأرض ، ولا تشركوا معه في ذلك أحدا شيئا ، فإنه المستوجب عليكم الحمد بأياديه عندكم ونعمة عليكم ، لا من تعبدونه من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه . وقد بينا الفصل بين معنى الحمد والشكر بشواهده فيما مضى قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ .
يقول تعالى ذكره : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وأظلم الليل وأنار النهار . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ قال : الظلمات : ظلمة الليل ، والنور : نور النهار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أما قوله : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظّلْمَاتِ والنّورِ فإنه خلق السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار .
فإن قال قائل : فما معنى قوله إذن «جَعَلَ » ؟ قيل : إن العرب تجعلها ظرفا للخبر والفعل ، فتقول : جعلت أفعل كذا ، وجعلت أقوم وأقعد ، تدلّ بقولها «جعلت » على اتصال الفعل ، كما تقول : علقت أفعل كذا ، لا أنها في نفسها فعل ، يدلّ على ذلك قول القائل : جعلت أقوم ، وأنه لا جعل هناك سوى القيام ، وإنما دلّ بقوله «جعلت » على اتصال الفعل ودوامه ، ومن ذلك قول الشاعر :
وزَعَمْتَ أنّكَ سوْفَ تسْلُكُ فَارِدا ***والمَوْتُ مُكْتَنِعٌ طَرِيقَيْ قادِرِ
فاجْعَلْ تَحَلّلْ مِنْ يَمِينِكَ إنّمَا ***حِنْثُ اليَمِينِ على اللّئِيمِ الفاجِرِ
يقول «فاجعل تحلّل » بمعنى : تحلل شيئا بعد شيء ، لا أن هناك جعلاً من غير التحليل . فكذلك كلّ جعل في الكلام إنما هو دليل على فعل له اتصال ، لا أن له خطا في معنى الفعل فقوله : وَجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَإنما هو أظلم ليلهما وأنار نهارهما .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ .
يقول تعالى ذكره معجّبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ومحتجّا على الكافرين : إن الإله الذي يجب عليكم أيها الناس حمده هو الذي خلق السموات والأرض ، الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم ، فمن السموات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم ومنافعكم بها . والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم أيها الناس بربهم الذي فعل ذلك وأحداثه يَعْدِلُونَ : يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه ، فيعبدون معه الاَلهة والأنداد والأصنام والأوثان ، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم ، بل هو المنفرد بذلك كله ، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة ، لمن فكّر فيها بعقل وتدبرها بفهم ولقد قيل إنها فاتحة التوراة .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمّي ، عن أبي عمران الجونّي ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب ، قال : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجونّي ، عن عبد الله ابن رباح ، عن كعب ، مثله . وزاد فيه : وخاتمة التوراة خاتمة هود .
يقال من مساواة الشيء بالشيء : عدلت هذا بهذا ، إذا ساويته به عدلاً . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه ، فإنك تقول : عَدَلْت فيه أعدل عدلاً .
وينحو الذي قلنا في تأويل قوله : يَعْدِلُونَ قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَعْدِلُونَ قال : يشركون .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بذلك ، فقال بعضهم : عُنِي به أهل الكتاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمى ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزى ، قال : جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الاَية : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورِ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال له : أليس الذين كفروا بربهم يعدلون ؟ قال : بلى . قال : وانصرف عنه الرجل ، فقال له رجل من القوم : يا ابن أبزى ، إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا ، إنه رجل من الخوارج فقال : ردّوه عليّ فلما جاءه قال : هل تدري فيمن نزلت هذه الاَية ؟ قال : لا . قال إنها نزلت في أهل الكتاب ، اذهب ولا تضعها على غير حدّها .
وقال آخرون : بل عُنى بها المشركون من عبدة الأوثان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : هؤلاء أهل صراحة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : هم المشركون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : الاَلهة التي عبدوها عدلوها بالله قال : وليس بالله عِدْل ولا ندّ ، وليس معه آلهة ، ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : إن الله تعالى أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون ، فعمّ بذلك جميع الكفار ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض ، فجميعهم داخلون في ذلك : يهودهم ، ونصاراهم ، ومجوسهم ، وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .