سورة النساء مدنية وآياتها ست وسبعون ومائة
هذه السورة مدنية ، وهي أطول سور القرآن - بعد سورة البقرة - وترتيبها في النزول بعد سورة الممتحنة ، التي تقول الروايات : إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة ، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة .
ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول - كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول - ليس قطعيا . كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد . فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة ؛ ثم يأمر النبي [ ص ] بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها . والسورة الواحدة - على هذا - كانت تظل " مفتوحة " فترة من الزمان تطول أو تقصر . وقد تمتد عدة سنوات . وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة ، وآيات من أواخر ما نزل من القرآن .
وكذلك الشأن في هذه السورة . فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك . ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة . والمنتظر - على كل حال - أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية ، إلى ما بعد السنة الثامنة ، حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة .
ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ؛ فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت ، حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . . فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) . . وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة [ أو في السنة الرابعة على رواية ] فقد قال رسول الله [ ص ] حين نزلت : " خذوا عني . خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا . . . " إلخ . وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور .
وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج ، تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب . على النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة . .
هذه السورة تمثل جانبا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة ، وإنشاء المجتمع الإسلامي ؛ وفي حماية تلك الجماعة ، وصيانة هذه المجتمع . وتعرض نموذجا من فعل القرآن في المجتمع الجديد ، الذي انبثق أصلا من خلال نصوصه ، والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني . وتصور بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني ؛ كما تصور طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني . . تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد ، من السفح الهابط ، إلى القمة السامقة . . خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة . . بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب ؛ وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة ؛ وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك !
وكما رأينا من قبل - في سورة البقرة وسورة آل عمران - مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة ؛ وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه ؛ وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي ، والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور ؛ وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض ؛ وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض ، وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم ؛ وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف ، وما في وسائلهم من خسة والتواء . . . إلخ . . . فكذلك نرى القرآن - في هذه السورة - يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق . .
إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة ، وملامحها المميزة ، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا . . ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها ، تبرز فيه ملامحها ، وتتميز به شخصيتها . كالكائن الحي المميز السمات والملامح ، وهو - مع هذا - واحد من جنسه على العموم !
ونحن نرى في هذه السورة - ونكاد نحس - أنها كائن حي ، يستهدف غرضا معينا ، ويجهد له ، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل . . والفقرات والآيات والكلمات في السورة ، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد ! ومن ثم نستشعر تجاهها - كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن - إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي ، المعروف السمات ، المميز الملامح ، صاحب القصد والوجهة ، وصاحب الحياة والحركة ، وصاحب الحس والشعور !
إن السورة تعمل بجد وجهد في محو ملامح المجتمع الجاهلي - الذي منه التقطت المجموعة المسلمة - ونبذ رواسبه ؛ وفي تكييف ملامح المجتمع المسلم ، وتطهيره من رواسب الجاهلية فيه ، وجلاء شخصيته الخاصة . كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة ، وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة ، والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله - من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود - وأعدائه المتميعين فيه - من ضعاف الإيمان والمنافقين - وكشف وسائلهم وحيلهم ومكايدهم ، وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم . مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده ، وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط .
وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية ، وهي تتصارع مع المنهج الجديد ، والقيم الجديدة ، والاعتبارات الجديدة . ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة . ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان . وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة ، عن المعركةالتي يخوضها في الميدان الآخر ، مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه !
وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء ، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها - كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى - قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب ، حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها . . ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر . . ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد ، بالجماعة المسلمة . وقد التقطها من ذلك السفح الهابط ، الذي تمثله تلك الرواسب ، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة . . القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط ، إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد . المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح ، فيرتقي بها إلى تلك القمة ، رويدا رويدا ، في يسر ورفق ، وفي ثبات وصبر ، وفي خطو متناسق موزون !
والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية ، يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار " الأميين " في الجزيرة العربية ، في ذلك الحين ، لهذه الرسالة العظيمة . . حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة ، بكل مقوماتها . الاعتقادية والتصورية ، والعقلية والفكرية ، والأخلاقية والاجتماعية ، والاقتصادية والسياسية ، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج ، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة ، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر ، في كل ما عرفت الأرض من مناهج ، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج ، بكل مراحله - من السفح إلى القمة - وبكل ظواهره ، وبكل تجاربه ؛ ولترى البشرية - في عمرها كله - أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة ، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد . سواء كانت في درجة من درجاته ، أم كانت في سفحة الذي التقط منه " الأميين " !
إن هذا المنهج ثابت في أصوله ومقوماته ، لأنه يتعامل مع " الإنسان " . وللإنسان كينونة ثابتة ، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى . وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته ، ولا تبدل من كينونته ، ولا تحوله خلقا آخر . إنما هي تغيرات وتطورات سطحية ، كالأمواج في الخضم ، لا تغير من طبيعته المائية ، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة ، المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة !
ومن ثم تواجه النصوص القرآنية الثابتة ، تلك الكينونة البشرية الثابتة . ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان ، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة ، وأطوارها المتجددة ، بنفس المرونة التي يواجه بها " الإنسان " ظروف الحياة المتغيرة ، وأطوارها المتجددة ، وهو محافظ على مقوماته الأساسية . . مقومات الإنسان . .
وفي " الإنسان " هذا الاستعداد ، وهذه المرونة ، وإلا ما استطاع أن يواجه ظروف الحياة وأطوارها ، وهي ليست ثابتة من حوله . وفي المنهج الرباني الموضوع لهذا الإنسان ، ذات الخصائص ، بحكم أنه صادر من المصدر الذي صدر منه الإنسان ، ومودع خصائصه ذاتها ، ومعد للعمل معه إلى آخر الزمان .
وهكذا يستطيع ذلك المنهج ، وتستطيع هذه النصوص ، أن تلتقط الفرد الإنساني ، وأن تلتقط المجموعة الإنسانية ، من أي مستوى ، ومن أية درجة من درجات المرتقى الصاعد ، فينتهي به وبها إلى القمة السامقة . . إنه لا يرده ولا يردها أبدا إلى الوراء ، ولا يهبط به أو بها أبدا إلى درجة أسفل في المرتقى . كما أنه لا يضيق به ولا بها ، ولا يعجز عن رفعه ورفعها ، أيا كان مكانه أو مكانها من السفح السحيق !
المجتمع البدائي المتخلف كالمجتمع العربي في الجاهلية القديمة ، والمجتمع الصناعي المتحضر ، كالمجتمع الأوربي والأمريكي في الجاهلية الحديثة . . كلاهما يجد في المنهج الرباني والنصوص القرآنية مكانة ، ويجد منيأخذ بيده من هذا المكان ، فيرقى به في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة ، التي حققها الإسلام ، في فترة حية من فترات التاريخ الإنساني . .
إن الجاهلية ليست فترة ماضية من فترات التاريخ . إنما الجاهلية كل منهج تتمثل فيه عبودية البشر للبشر . وهذه الخاصية تتمثل اليوم في كل مناهج الأرض بلا استثناء . ففي كل المناهج التي تعتنقها البشرية اليوم ، يأخذ البشر عن بشر مثلهم : التصورات والمبادىء ، والموازين والقيم ، والشرائع والقوانين ، والأوضاع والتقاليد . وهذه هي الجاهلية بكل مقوماتها . الجاهلية التي تتمثل فيها عبودية البشر للبشر ، حيث يتعبد بعضهم بعضا من دون الله .
والإسلام هو منهج الحياة الوحيد ، الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر . لأنهم يتلقون التصورات والمبادىء ، والموازين والقيم ، والشرائع والقوانين ، والأوضاع والتقاليد ، من يد الله - سبحانه - فإذا أحنوا رءوسهم فإنما يحنونها لله وحده ، وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون الله وحده ، وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون لله وحده . ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد ، حين يصبحون كلهم عبيدا لله بلا شريك .
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية - في كل صورة من صورها - وبين الإسلام . وهذه السورة تتولى رسم مفرق الطريق بالدقة وبالوضوح الذي لا تبقى معه ريبة لمستريب .
ومفهوم أن كل أمر أو نهي أو توجيه ورد في القرآن الكريم ، كان يواجه حالة واقعة في المجتمع الجاهلي ، وكان يتوخى إما إنشاء حالة غير قائمة ، وإما إبطال حالة قائمة . . وذلك دون إخلال بالقاعدة الأصولية العامة : " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " . . ومع ملاحظة أن النصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل وفي كل بيئة كما أسلفنا . وفي هذا تكمن المعجزة . فهذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالا بعينها ، هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية ، في أي طور من أطوارها . والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية ، هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة - أيا كان موقفها على الدرج الصاعد - ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة ، التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى ، يوم التقطها من ذلك السفح السحيق !
ومن ثم فنحن حين نقرأ القرآن نستطيع أن نتبين منه ملامح المجتمع الجاهلي ، من خلال أوامره ونواهيه وتوجيهاته ؛ كما نستطيع أن نتبين الملامح الجديدة التي يريد أن ينشئها ، وأن يثبتها في المجتمع الجديد . .
فماذا نحن واجدون - في هذه السورة - من ملامح المجتمع الجاهلي التي ظلت راسبة في الجماعة المسلمة ، منذ أن التقطها المنهج الرباني من سفح الجاهلية ؟ وماذا نحن واجدون من الملامح الجديدة التي يراد إنشاؤها في المجتمع الإسلامي الجديد وتثبيتها !
إننا نجد مجتمع تؤكل فيه حقوق الأيتام - وبخاصة اليتيمات - في حجور الأهل والأولياء والأوصياء ، ويستبدل الخبيث منها بالطيب ، ويعمل فيها بالإسراف والطمع ، خيفة أن يكبر اليتامى فيستردوها ! وتحبس فيه الصغيرات من ذوات المال ، ليتخذهن الأولياء زوجات ، طمعا في مالهم لا رغبة فيهن ! أو يعطين لأطفال الأولياء للغرض ذاته !
ونجد مجتمعا يجار فيه على الصغار والضعاف والنساء ؛ فلا يسلم لهم فيه بنصيبهم الحقيقي من الميراث . إنما يستأثر فيه بمعظم التركة الرجال الأقوياء ، القادرون على حمل السلاح ؛ ولا ينال الضعاف فيه إلا الفتات . وهذا الفتات الذي تناله اليتيمات الصغيرات والنسوة الكبيرات ، هو الذي يحتجزن من أجله ، ويحبسن علىالأطفال من الذكور ؛ أو على الشيوخ من الأولياء . كي لا يخرج المال بعيدا ولا يذهب في الغرباء !
ونجد مجتمعا يضع المرأة موضعا غير كريم ، ويعاملها بالعسف والجور . في كل أدوار حياتها . يحرمها الميراث - كما قلنا - أو يحبسها لما ينالها منه ؛ ويورثها للرجل كما يورثه المتاع ! فإذا مات زوجها جاء وليه ، فألقى عليها ثوبه ، فيعرف أنها محجوزة له . إن شاء نكحها بغير مهر ، وإن شاء زوجها وأخذ مهرها ! ويعضلها زوجها إذا طلقها ، فيدعها لا هي زوجة ، ولا هي مطلقة ، حتى تفتدي نفسها منه وتفك أسرها !
ونجد مجتمعا تضطرب فيه قواعد الأسرة بسبب هبوط مركز المرأة فيه ، علاوة على اضطراب قواعد التبني والولاء ، واصطدامها مع قواعد القرابة والنسب ، فوق ما فيه من فوضى في العلاقات الجنسية والعائلية . حيث تروج اتصالات السفاح والمخادنة .
ونجد مجتمعا تؤكل فيه الأموال بالباطل في المعاملات الربوية . وتغتصب فيه الحقوق . وتجحد فيه الأمانات . وتكثر فيه الغارات على الأموال والأرواح . ويقل فيه العدل فلا يناله إلا الأقوياء . كما لا تنفق فيه الأموال إلا رئاء الناس ، اجتلابا للمفاخر ، ولا ينال الضعاف المحاويج فيه من هذا الإنفاق ما ينال الأقوياء الأغنياء !
وليست هذه سوى بعض ملامح الجاهلية - وهي التي تصدت لها هذه السورة - ووراءها ما صورته السور الأخرى ، وما تحفل به أخبار هذه الجاهلية في العرب ، وفيمن حولهم من الأمم . .
إنه لم يكن - قطعا - مجتمعا بلا فضائل . فقد كانت له فضائله ، التي تهيأ بها لاستقبال هذه الرسالة الكبرى . ولكن هذه الفضائل إنما استنقذها الإسلام استنقاذا ، ووجهها الوجهة البناءة . وكانت - لولا الإسلام - مضيعة تحت ركام هذه الرذائل ، مفرقة غير متجمعة ، وضائعة غير موجهة . وما كانت هذه الأمة لتقدم للبشرية شيئا ذا قيمة ، لولا هذا المنهج ، الذي جعل يمحو ملامح الجاهية الشائهة ، وينشىء أو يثبت ملامح الإسلام الوضيئة ، ويستنقذ فضائل هذه الأمة المضيعة المطمورة المفرقة المبددة ، شأنها في هذا شأن سائر أمم الجاهلية التي عاصرتها ، والتي اندثرت كلها ، لأنها لم تدركها رسالة ولم تنشئها عقيدة !
من تلك الجاهلية ، التي هذه بعض ملامحها ، التقط الإسلام المجموعة التي قسم الله لها الخير ، وقدر أن يسلمها قيادة البشر ، فكون منها الجماعة المسلمة ، وأنشأ بها المجتمع المسلم . ذلك المجتمع الذي بلغ إلى القمة التي لم تبلغها البشرية قط ، والتي ما تزال أملا للبشرية ، يمكن أن تحاوله ، حين يصح منها العزم على انتهاج الطريق .
وفي هذه السورة نجد بعض الملامح التي يتوخى المنهج الإسلامي إنشاءها وتثبيتها في المجتمع المسلم ، بعد تطهيره من رواسب الجاهلية ، وإنشاء الأوضاع والتشريعات التنفيذية ، التي تكفل حماية هذه الملامح وتثبيتها في الواقع الاجتماعي .
نجد في مستهلها تقريرا لحقيقة الربوبية ووحدانيتها ، ولحقيقة الإنسانية ووحدة أصلها الذي أنشأها منه ربها ، ولحقيقة قيامها على قاعدة الأسرة ، واتصالها بوشيجة الرحم ، مع استجاشة هذه الروابط كلها في الضمير البشري ، واتخاذها ركيزة لتنظيم المجتمع الإسلامي على أساسها ، وحماية الضعفاء فيه عن طريق التكافل بين الأسرة الواحدة ، ذات الخالق الواحد ، وحماية هذا المجتمع من الفاحشة والظلم والفتنة ؛ وتنظيم الأسرةالمسلمة والمجتمع المسلم ، والمجتمع الإنساني كله ، على أساس وحدة الربوبية ووحدة البشرية : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا ) . . وهذه الحقيقة الكبيرة التي تتضمنها آية الافتتاح تمثل قاعدة أصيلة في التصور الإسلامي ، تقوم عليها الحياة الجماعية . نرجو أن نعرض لها بالتفصيل في مكانها من سياق السورة .
ونجد التشريعات العملية لتحقيق البناء التكافلي للجماعة مستندة إلى تلك الركيزة :
( في حماية اليتامى نجد التوجيه الموحي ، والتحذير المخيف ، والتشريع المحدد الأصول : ( وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ؛ ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )[ آية 2 ] . . ( وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغو انكاح ؛ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ؛ ولا تأكلوها إسرافا ، وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فاشهدوا عليهم . وكفى بالله حسيبا )[ آية 6 ] . . ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم . فليتقوا الله ، وليقولوا قولا سديدا . إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ، وسيصلون سعيرا )[ 9 - 10 ] . .
وفي حماية الإناث خاصة - يتيمات صغيرات ونساء مستضعفات - وحفظ حقهن جميعا في الميراث ، وفي الكسب ، وفي حقهن في أنفسهن ، واستنقاذهن من عسف الجاهلية ، وتقاليدها الظالمة المهينة . . نجد أمثال هذه التوجيهات والتشريعات المنوعة الكثيرة : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا . . [ 4 - 3 ] . . ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون . مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا )[ آية : 7 ] . . ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف ؛ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا ؟ ) . . [ 19 - 21 ] . . ( ويستفتونك في النساء . قل : الله يفتيكم فيهن ، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ، وترغبون أن تنكحوهن . والمستضعفين من الولدان ، وإن تقوموا لليتامى بالقسط . وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ) . . [ آية 127 ] . .
وفي تنظيم الأسرة ، وإقامتها على أساس ثابت من موحيات الفطرة ، وتوفير الحماية لها من تأثير الملابسات العارضة في جو الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية . . ترد مثل هذه التوجيهات والتنظيمات - بالإضافة إلى ما ورد منها في ثنايا الحديث عن اليتيمات والمطلقات - : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف . إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا . حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ، وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما . والمحصنات من النساء - إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم . وأحل لكم - ما وراء ذلكم - أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين . فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة . إن الله كان عليما حكيما )[ 22 - 24 ] . . ( الرجال قوامون على النساء ، بما فضل الله بعضهم على بعض ، وبما أنفقوا من أموالهم . فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ؛ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ، واهجروهن في المضاجع ، واضربوهن . فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ، إن الله كان عليا كبير
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات . والله أعلم بإيمانكم ، بعضكم من بعض . فانكحوهن بإذن أهلهن ، وآتوهن أجورهن بالمعروف ، محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان . فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم ، والله غفور رحيم . يريد الله ليبين لكم ، ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) . . [ 25 - 26 ] . .
وفي تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع المسلم كله ؛ وإقامتها على التكافل والتراحم والتناصح ، والأمانة ، والعدل ، والسماحة والمودة ، والإحسان . . ترد توجيهات وتشريعات شتى - إلى جانب ما ذكرنا من قبل - نذكر منها هنا على سبيل المثال بضعة نماذج ولا نستقصيها ؛ فستأتي كلها في مكانها من سياق السورة : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ، وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا )[ آية 5 ] . .
( وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا ) . [ آية 8 ]( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم - ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيما . ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا ، وكان ذلك على الله يسيرا ) . . [ 29 - 30 ] . . ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن . واسألوا الله من فضله . إن الله كان بكل شيء عليما ) . . [ آية 32 ] . . ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . وبالوالدين إحسانا ، وبذي القربى ، واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا . الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ، واعتدنا للكافرين عذابا مهينا ، والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ) . . [ 36 - 38 ] . . ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل . إن الله نعما يعظكم به . إن الله كان سميعا بصيرا ) . . [ آية 58 ] . . ( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ؛ ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ؛ وكان الله على كل شيء مقيتا . وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا ) . . [ 85 - 86 ] . . ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ . . )( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابا عظيما ) . . [ 92 ] . . ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله ، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما . ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) . . [ آية 135 ] . . ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم . وكان الله سميعا بصيرا . إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء ، فإن الله كان عفوا قديرا ) . . [ 148 - 149 ] . .
إلى جانب ذلك الهدف الكبير في تنظيم المجتمع المسلم على أساس التكافل والتراحم والتناصح والتسامح ، والأمانة والعدل والمودة والطهارة ؛ ومحو الرواسب المتخلفة فيه من الجاهلية ؛ وإنشاء وتثبيت الملامح الجديدة الوضيئة . . نجد هدفا آخر لا يقل عنه عمقا ولا أثرا في حياة المجتمع المسلم - إن لم يكن هو الأساس الذي يقوم عليه الهدف الأول - ذلك هو تحديد معنى الدين ، وحد الإيمان ، وشرط الإسلام ، وربط كل الأنظمة والتشريعات التي تحكم حياة الفرد وحياة المجتمع بذلك المعنى المحدد للدين ، وهذا التعريف المضبوط للإيمان والإسلام .
إن الدين هو النظام الذي قرره الله للحياة البشرية بجملتها ، والمنهج الذي يسير عليه نشاط الحياة برمتها . والله وحده هو صاحب الحق في وضع هذا المنهج بلا شريك . والدين هو الأتباع والطاعة للقيادة الربانية التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع ، ومنها وحدها يكون التلقي ، ولها وحدها يكون الاستسلام . . فالمجتمع المسلم مجتمع له قيادة خاصة - كما له عقيدة خاصة وتصور خاص - قيادة ربانية متمثلة في رسول الله [ ص ] وفيما يبلغه عن ربه مما هو باق بعده من شريعة الله ومنهجه . وتبعية هذا المجتمع لهذه القيادة هي التي تمنحه صفة الإسلام وتجعل منه " مجتمعا مسلما " . وبغير هذه التبعية المطلقة لا يكون " مسلما " بحال . وشرط هذه التبعية هو التحاكم إلى الله والرسول ، ورد الأمر كله إلى الله ، والرضى بحكم رسوله وتنفيذه مع القبول والتسليم .
وتبلغ نصوص السورة في بيان هذه الحقيقة ، وتقرير هذا الأصل ، مبلغا حاسما جازما ، لا سبيل للجدال فيه ، أو الاحتيال عليه ، أو تمويهه وتلبيسه ، لأنها من القوة والوضوح والحسم بحيث لا تقبل الجدال !
وتقرير هذا المبدأ الأساسي يتمثل في نصوص كثيرة كثرة واضحة في السورة . وسيجيء استعراضها التفصيلي في مكانها من السياق . فنكتفي هنا بذكر بعضها إجمالا :
يتمثل على وجه الإجمال في آية الافتتاح في السورة : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة . . ) . . كما يتمثل في مثل هذه الآيات : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا . . . )[ آية 36 ] . . ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ؛ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . . [ آية 48 ] . .
ويتمثل على وجه التخصيص والتحديد في مثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . ذلك خير وأحسن تأويلا . ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - وقد أمروا أن يكفروا به - ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا . وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا . [ 59 -61 ] . . ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) . . [ آية 64 ] . . ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) . . [ آية 65 ] . . ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) . . [ آية 80 ] . . ( ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نوله ما تولى ، ونصله جهنم وساءت مصيرا ) . . [ آية 115 ] . .
وهكذا يتحدد معنى الدين ، وحد الإيمان ، وشرط الإسلام ، ونظام المجتمع المسلم ، ومنهجه في الحياة . وهكذا لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات ؛ ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات ، ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات . . إنما هو إلى جانب هذا وذلك ، وقبل هذا وذلك . نظام يحكم ، ومنهج يتحكم ، وقيادة تطاع ، ووضع يستند إلى نظام معين ، ومنهج معين ، وقيادة معينة . وبغير هذا كله لا يكون إيمان ، ولا يكون إسلام ، ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام .
وتترتب على إقرار هذا المبدأ الأساسي توجيهات كثيرة في السورة . كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير :
1 - يترتب عليه أن تكون التنظيمات الاجتماعية كلها في المجتمع - شأنها شأن الشعائر التعبدية - مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير ، مستندة إلى معنى الدين ، وحد الإيمان ، وشرط الإسلام ، على هذا النحو الذي قررته تلك النماذج التي أسلفنا . فهي ليست مجرد تنظيمات وتشريعات . إنما هي مقتضى الإيمان بالله والاعتراف بألوهيته ، وإفراده بالألوهية ، والتلقي من القيادة التي يحددها . . ومن ثم نرى كل التشريعات والتنظيمات التي أشرنا إليها تستند إلى هذه الجهة ، وينص في أعقابها نصا على هذه الحقيقة :
آية الافتتاح التي تقرر وحدة البشرية ، وتدعو الناس إلى رعاية وشيجة الرحم ، وتعد مقدمة لسائر التنظيمات التي تلتها في السورة . . تبدأ بدعوة الناس إلى تقوى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) . . وتنتهي إلى تقواه ، وتحذيرهم من رقابته : ( إن الله كان عليكم رقيبا ) . .
والآيات التي تحض على رعاية أموال اليتامى ، وتبين طريقة التصرف في أموالهم تنتهي بالتذكير بالله وحسابه : ( وكفى بالله حسيبا ) . .
وتوزيع أنصبة الميراث في الأسرة يجيء وصية من الله : ( يوصيكم الله في أولادكم . . . ) ( فريضة من الله ) . . وتنتهي تشريعات الإرث بهذا التعقيب : ( تلك حدود الله ، ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك الفوز العظيم . ومن يعص الله ورسوله ، ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) . .
وفي تشريعات الأسرة وتنظيم المهور والطلاق وما إليها ترد مثل هذه التعقيبات : ( وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم . . كتاب الله عليكم . . ) . . ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ، ويتوب عليكم ، والله عليم حكيم ) . . ( فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . إن الله كان عليا كبيرا ) . .
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ) . . تسبق في الآية الوصية بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين . . إلخ
وهكذا ترتبط سائر التنظيمات والتشريعات بالله ، وتستمد من شريعته ، وترجع الأمور كلها إلى هذه القيادة التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع .
2- ويترتب على إقرار ذلك الأصل الكبير أن يكون ولاء المؤمنين لقيادتهم ولجماعتهم المؤمنة . فلا يتولوا أحدا لا يؤمن إيمانهم ، ولا يتبع منهجهم ، ولا يخضع لنظامهم ، ولا يتلقى من قيادتهم . كائنة ما كانت العلاقة التي تربطهم بهذا الأحد . علاقة قرابة . أو جنس . أو أرض أو مصلحة . وإلا فهو الشرك أو النفاق ، وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال : ( ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ، ونصله جهنم ، وساءت مصيرا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ) . . [ 115 - 116 ] . . ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أيبتغون عندهم العزة ؟ فإن العزة لله جميعا ) . . [ آية 139 ] . . ( يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، ولن تجد لهم نصيرا . إلا الذين تابوا وأصلحوا ، واعتصموا بالله ، وأخلصوا دينهم لله . فأولئك مع المؤمنين ، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما ) . . [ 144 - 146 ] . .
3- ويترتب عليه وجوب هجرة المسلمين من دار الحرب - وهي كل دار لا تقوم فيها شريعة الإسلام ولا تدين للقيادة السملمة - ليلحقوا بالجماعة المسلمة متى قامت في الأرض وأصبح لها قيادة وسلطان - وليستظلوا برايه القيادة المسلمة ولا يخضعوا لراية الكفر - وهي كل راية غير راية الإسلام - وإلا فهو النفاق أو الكفر ؛ وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال : ( فما لكم في المنافقين فئتين ؟ والله أركسهم بما كسبوا ، أتريدون أن تهدوا من أضل الله ؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ؛ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) . . [ 88 - 89 ] . . ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورا . ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ، ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ، ثم يدركه الموت ، فقد وقع أجره على الله . وكان الله غفورا رحيما ) . . [ 97 - 100 ] . .
4- ويترتب عليه أن يقاتل المسلمون لاستنقاذ الضعاف من إخوانهم المسلمين ، الذين لا يستطيعون الهجرة من دار الحرب وراية الكفر ، وضمهم إلى الجماعة المسلمة في دار الإسلام ، كي لا يفتنوا عن دينهم ، ولا يستظلوا براية غير راية الإسلام ، ولا يخضعوا لنظام غير نظامه . ثم لكي يتمتعوا بالنظام الإسلامي الرفيع ، وبالحياة في المجتمع الإسلامي النظيف . وهو حق كل مسلم ، والحرمان منه حرمان من أكبر نعم الله في الأرض ، ومن أفضل طيبات الحياة : ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك وليا ، واجعل لنا من لدنك نصيرا ) . . [ آية 75 ] . .
ويستتبع هذا الأمر حملة ضخمة للحض على الجهاد بالنفس والمال ، والتنديد بالمعوقين والمبطئين والقاعدين . وهي حملة تستغرق قطاعا كبيرا من السورة ، يرتفع عندها نبض السورة الهادئة الأنفاس ! ويشتد إيقاعها ، وتحمى لذعاتها في التوجيه والتنديد !
ولا نملك هنا استعراض هذا القطاع بترتيبه في السياق - ولهذا الترتيب أهمية خاصة وإيحاء معين - فندع هذا إلى مكانه من السياق . ونكتفي بمقتطفات من هذا القطاع : ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ، فانفروا ثبات أو انفروا جميعا . وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال : قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا . ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم ، فأفوز فوزا عظيما . فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ؛ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب ، فسوف نؤتيه أجرا عظيما . وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ، واجعل لنا من لدنك وليا ، واجعل لنا من لدنك نصيرا ، الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) . . [ 71 - 76 ] . . ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ، وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ، والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) . . [ آية 84 ] . . ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ، وكلا وعد الله الحسنى . وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيما ) . . [ 95 -96 ] . .
( ولا تهنوا في ابتغاء القوم . إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من الله ما لا يرجون ، وكان الله عليما حكيما . . )[ آية : 105 ] . .
وفي ثنايا هذه الحملة للحض على الجهاد توضع بعض قواعد المعاملات الدولية بين " دار الإسلام " والمعسكرات المتعددة التي تدور معها المعاملات ، والخلافات :
في التعقيب على انقسام المسلمين فئتين ورأيين في أمر المنافقين ، الذين يدخلون المدينة للتجارة والمنافع والاتصال مع أهلها ، حتى إذا خرجوا منها عادوا موالين لمعسكرات الأعداء ، يقول : ( فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ؛ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) . ( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم . ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ، وألقوا إليكم السلم ، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا . ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم ، كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها . فإن لم يعتزلوكم ، ويلقوا إليكم السلم ، ويكفوا أيديهم ، فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ؛ وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا . . [ 89 - 91 ] . . ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ، ولا تقولوا لمن القى إليكم السلام : لست مؤمنا ، تبتغون عرض الحياة الدنيا ، فعند الله مغانم كثيرة . كذلك كنتم من قبل ، فمن الله عليكم ، فتبينوا ، إن الله كان بما تعملون خبيرا ) . . [ آية 94 ] . .
وكذلك تجيء في ثنايا الحديث عن الجهاد بعض الأحكام الخاصة بالصلاة في حالة الخوف وحالة الأمن ؛ مع توصيات الله للمؤمنين وتحذيرهم من أعدائهم المتربصين : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة - إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا - إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا . وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم ، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ، ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم . ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ! ولا جناح عليكم - إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى - أن تضعوا أسلحتكم ؛ وخذوا حذركم ، إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا . فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم ، فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة . إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) . . [ 101 - 103 ] . .
وتدل هذه الآيات على مكان الصلاة من الحياة الإسلامية ؛ حتى لتذكر في مقام الخوف ، وتبين كيفياتها في هذا المقام ؛ كما تدل على تكامل هذا المنهج ، في مواجهة الحياة الإنسانية في كل حالاتها ؛ ومتابعة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في كل لحظة وفي كل حال . .
ويستتبع الأمر بالجهاد كذلك حملة ضخمة على المنافقين وعلى موالاتهم لليهود في المدينة بينما هم يكيدون لدين الله ، وللجماعة المسلمة ، وللقيادة المسلمة كيدا شديدا . وعلى ألاعيبهم في الصف المسلم ، وتمييعهم للقيم والنظم . وفي الآيات التي اقتطفناها من قطاع الجهاد طرف من الحملة على المنافقين ، نضم إليه هذا القطاع المصور لحالهم وصفاتهم ، الكاشف لطبيعتهم ووسائلهم : ( ويقولون طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول ، والله يكتب ما يبيتون . فأعرض عنهم ، وتوكل على الله ، وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) . . [ 81 - 83 ] . .
( إن الذين آمنوا ثم كفروا . ثم آمنوا ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا . بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما . الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أيبتغون عندهم العزة ؟ فإن العزة لله جميعا . وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها ، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . إنكم إذا مثلهم . إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا . الذين يتربصون بكم ، فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ؟ فالله ، يحكم بينكم يوم القيامة ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا . إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ، ولا يذكرون الله إلا قليلا . مذبذبين بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا . يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين . أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا ؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، ولن تجد لهم نصيرا ) . . [ 137 -145 ] . .
وفي قطاع الجهاد - وفي غيره من القطاعات الأخرى في السورة - نلتقي بالحرب المشبوبة على الجماعة المسلمة ، وعلى العقيدة الإسلامية ، والقيادة الإسلامية كذلك ، من أهل الكتاب - وبخاصة اليهود - وحلفائهم من المنافقين في المدينة ، والمشركين في مكة ، وما حولهما . . وهي الحرب التي التقينا بها في سورة البقرة ، وفي سورة آل عمران ، من قبل . . ونلتقي كذلك بالمنهج الرباني . وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة السائرة بين الأشواك الخبيثة ، والأحابيل الماكرة ، يقودها ، ويوجهها ، ويحذرها ، ويكشف لها طبيعة أعدائها ، وطبيعة المعركة التي تخوضها ، وطبيعة الأرض التي تدور فيها المعركة ، وزواياها وجوانبها الخبيثة .
ومن علامات الإعجاز في هذا القرآن ، أن هذه النصوص التي نزلت لتواجه معركة معينة ، ما تزال هي بذاتها تصور طبيعة المعركة الدائمة المتجددة بين الجماعة المسلمة في كل مكان ، وعلى توالي الأجيال ، وبين أعدائها التقليديين ؛ الذين ما يزالون هم هم ، وما تزال حوافزهم هي هي في أصلها ، وإن اختلفت أشكالها وظواهرها وأسبابها القريبة ، وما تزال أهدافهم هي هي في طبيعتها وإن اختلفت أدواتها ووسائلها ، وما تزال زلزلة العقيدة ، وزعزعة الصف ، والتشكيك في القيادة الربانية ، هي الأهداف التي تصوب إليها طلقاتهم الماكرة ، للوصول من ورائها إلى الاستيلاء على مقاليد الجماعة المسلمة ، والتصرف في مقاديرها ، واستغلال أرضها وجهدها وغلاتها وقواها وطاقاتها ، كما كانت يهود تستغل الأوس والخزرج في المدينة ، قبل أن يعزهم الله ويجمعهم بالإسلام ، وبالقيادة المسلمة ، وبالمنهج الرباني .
وقد حفلت هذه السورة كما حفلت سورتا البقرة وآل عمران بالحديث عن تلك المؤامرات التي لا تنقطع من اليهود ضد الجماعة المسلمة ، بالاتفاق مع المنافقين ومع المشركين . وستجيء هذه النصوص مشروحة عند استعراضها في مكانها في السياق . فنكتفي هنا بإثبات طرف من هذه الحملة العنيفة :
( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ، ويريدون أن تضلوا السبيل ، والله أعلم بأعدائكم ، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا . من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويقولون : سمعنا وعصينا ، واسمع غير مسمع ، وراعنا - ليا بألسنتهم وطعنالرسالات ؛ ولا غريبة من الغرائب ، التي لا عهد للأرض بها ؛ أو لا عهد بها لبني إسرائيل أنفسهم . إنما هي حلقة من سلسلة الحجة التي يأخذها الله على العباد قبل الحساب . فقد أوحى إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله . وقد آتاه الله النبوة والحكم ، كما آتى أنبياء بني إسرائيل ! فلا غرابة في رسالته ، ولا غرابة في قيادته ، ولا غرابة في حاكميته . وكلها مألوف في عالم الرسالات . وكل تعلات بني إسرائيل في هذا الأمر كاذبة ، وكل شبهاتهم كذلك باطلة . ولهم سوابق مثلها مع نبيهم الأكبر موسى عليه السلام ، ومع أنبيائهم من بعده ، وبخاصة مع عيسى عليه السلام ، ومن ثم لا يجوز أن يلقي باله إليها أحد من المسلمين .
وتتولى آيات كثيرة في السورة بيان هذه الحقيقة . نقتطف بعضها في هذا المجمل ؛ حتى تجيء كلها مشروحة في مكانها من السياق :
( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده . وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ، ورسلا لم نقصصهم عليك ، وكلم الله موسى تكليما . رسلا مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وكان الله عزيزا حكيما . لكن الله يشهد بما أنزل إليك ، أنزله بعلمه . والملائكة يشهدون . وكفى بالله شهيدا ) . . [ 163 - 166 ] . .
( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا : أرنا الله جهرة ) . . . ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ) . . . ( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما . وقولهم : إنا
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء . واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا ) . .
إنه الخطاب " للناس " . . بصفتهم هذه ، لردهم جميعا إلى ربهم الذي خلقهم . . والذي خلقهم ( من نفس واحدة ) . . ( وخلق منها زوجها . وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . .
إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جدا ، وعميقة جدا ، وثقيلة جدا . . ولو القى " الناس " أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم وبنقلهم من الجاهلية - أو من الجاهليات المختلفة - إلى الإيمان والرشد والهدى ، وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة " بالناس " و " بالنفس " واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله . .
إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالا فسيحا لتأملات شتى :
1- إنها أبتداء تذكر " الناس " بمصدرهم الذي صدروا عنه ؛ وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض . . هذه الحقيقة التي ينساها " الناس " فينسون كل شيء ! ولا يستقيم لهم بعدها أمر !
إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه . . فمن الذي جاء بهم ؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم . فقد كانوا - قبل أن يجيئوا - عدما لا إرادة له . . لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء . فإرادة أخرى - إذن - غير إرادتهم ، هي التي جاءت بهم إلى هنا . . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي قررت أن تخلقهم . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي رسمت لهم الطريق ، وهي التي اختارت لهم خط الحياة . . إرادة أخرى - غير إرادتهم - هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم ، ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم ، ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون ! وعلى غير استعداد ، إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق . .
إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم ، وخطت لهم طريق الحياة فيه ، ومنحتهم القدرة على التعامل معه ، لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء ، وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء ، وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير . وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم ، وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم ، وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم . وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون ، فيرجعون إلى النهج الواحد الذي إراده الله رب العالمين .
2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة ، تتصل في رحم واحدة ، وتلتقي في وشيجة واحدة ، وتنبثق من أصل واحد ، وتنتسب إلى نسب واحد :
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . .
ولو تذكر الناس هذه الحقيقة ، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة ، التي نشأت في حياتهم متأخرة ، ففرقت بين أبناء " النفس " الواحدة ، ومزقت وشائح الرحم الواحدة . وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية ، وصلة النفس وحقها في المودة ، وصلة الربوبية وحقها في التقوى .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا باستبعاد الصراع العنصري ، الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت ، وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة ؛ في الجاهلية الحديثة ، التي تفرق بين الألوان ، وتفرق بين العناصر ، وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة ، وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم ، وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة .
واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلا كذلك باستبعاد الاستبعاد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي ، الذي تسيل فيه الدماء أنهارا ، في الدول الشيوعية ، والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية ، ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها ، لتسويد طبقة واحدة ، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع ، والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع !
3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة ( خلق منها زوجها ) . . كانت كفيلة - لو أدركتها البشرية - أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة ، التي تردت فيها ، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة ، وتراها منبع الرجس والنجاسة ، وأصل الشر والبلاء . . وهي من النفس الأولى فطرة وطبعا ، خلقها الله لتكون لها زوجا ، وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، فلا فارق في الأصل والفطرة ، إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة . .
ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلا . جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها . فترة من الزمان . تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له . فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى ، وأطلقت للمرأة العنان ، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان ، ونفس خلقت لنفس ، وشطر مكمل لشطر ، وأنهما ليسا فردين متماثلين ، إنما هما زوجان متكاملان .
والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد . .
4- كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة . فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة . فخلق ابتداء نفسا واحدة ، وخلق منها زوجها . فكانت أسرة من زوجين . ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . . ولو شاء الله لخلق - في أول النشأة - رجالا كثيرا ونساء ، وزوجهم ، فكانوا أسرا شتى من أول الطريق . لا رحم بينها من مبدأ الأمر . ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد . وهي الوشيجة الأولى . ولكنه - سبحانه - شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها ، أن يضاعف الوشائج . فيبدأبها من وشيجة الربوبية - وهي أصل وأول الوشائج - ثم يثني بوشيجة الرحم ، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى - هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة - ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالا كثيرا ونساء ، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية ، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة . التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني . بعد قيامه على أساس العقيدة .
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي ، وهذه العناية بتوثيق عراها ، وتثبيت بنيانها ، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء - وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة ، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض ، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى .
وفي هذه السورة وفي غيرها من السور حشد من مظاهر تلك العناية بالأسرة في النظام الإسلامي . . وما كان يمكن أن يقوم للأسرة بناء قوي ، والمرأة تلقى تلك المعاملة الجائرة ، وتلك النظرة الهابطة التي تلقاها في الجاهلية - كل جاهلية - ومن ثم كانت عناية الإسلام بدفع تلك المعاملة الجائرة ورفع هذه النظرة الهابطة .
5- وأخيرا فإن نظرة إلى التنوع في خصائص الأفراد واستعداداتهم - بعد بثهم من نفس واحدة وأسرة واحدة - على هذا المدى الواسع ، الذي لا يتماثل فيه فردان قط تمام التماثل ، على توالي العصور ، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأجيال . . التنوع في الأشكال والسمات والملامح . والتنوع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر . والتنوع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف . . إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال ، المدبرة عن علم وحكمة ، وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب ، يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد ، والتي دائما تتجدد ، والتي لا يقدر عليها إلا الله ، ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله . فالإرادة التي لا حد لما تريد ، والتي تفعل ما تريد ، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي ، من ذلك الأصل الواحد الفريد !
والتأمل في " الناس " على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زادا من الأنس والمتاع ، فوق زاد الإيمان والتقوى . . وهو كسب فوق كسب ، وارتفاع بعد ارتفاع !
وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر ، يرد " الناس " إلى تقوى الله ، الذي يسأل بعضهم بعضا به ، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعا :
( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) . .
واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه ، وتتعاقدون باسمه ، ويسأل بعضكم بعضا الوفاء باسمه ، ويحلف بعضكم لبعض باسمه . . اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات .
. . . وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن . أما تقوى الأرحام ، فهي تعبير عجيب . يلقي ظلاله الشعورية في النفس ، ثم لا يكاد الإنسان يجد ما يشرح به تلك الظلال ! اتقوا الأرحام . أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها . والإحساس بحقها . وتوقي هضمها وظلمها ، والتحرج من خدشها ومسها . . توقوا أن تؤذوها ، وأن تجرحوها ، وأن تغضبوها . . أرهفوا حساسيتكم بها ، وتوقيركم لها ، وحنينكم إلى نداها وظلها .
ثم رقابة الله يختم بها الآية الموحية :
( إن الله كان عليكم رقيبا ) . .
وما أهولها رقابة ! والله هو الرقيب ! وهو الرب الخالق الذي يعلم من خلق ، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية ، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب .
{ يا أيها الناس } خطاب يعم بني آدم . { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } هي آدم . { وخلق منها زوجها } عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه ، أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها ، وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة . { وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } بيان لكيفية تولدهم منهما ، والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة ، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها ، إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر ، وذكر { كثيرا } حملا على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى ، والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها ، أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها . وقرئ " وخالق " " وباث " على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث . { واتقوا الله الذي تساءلون به } أي يسأل بعضكم بعضا تقول أسألك بالله ، وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بطرحها . { والأرحام } بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمرا ، أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها . وقرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة . وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك ، أي مما يتقى أو يتساءل به . وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه . وعنه عليه الصلاة والسلام " الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله " . { إن الله كان عليكم رقيبا } حافظا مطلعا .
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
هذه السورة مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة{[1]} وهي قوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال النقاش : وقيل : نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : { يا أيها الناس } حيث وقع إنما هو مكي ، فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه السلام ، وقال النحاس : هذه السورة مكية .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة ، وفي البخاري{[2]} : آخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ، ذكرها في تفسير سورة " براءة " من رواية البراء بن عازب . وفي البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعني قد بني بها .
«يا » حرف نداء «أي » منادى مفرد - و «ها » تنبيه ، و { الناس } - نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش ، «والرب » : المالك ، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود ، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد ، وقال : { واحدة } على تأنيث لفظ النفس ، وهذا كقول الشاعر : [ الوافر ]
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى . . . وأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ{[3828]}
وقرأ ابن أبي عبلة - «من نفس واحد » بغير هاء ، وهذا على مراعاة المعنى ، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ، والخلق في الآية : بمعنى الاختراع ، ويعني بقوله : { زوجها } حواء ، والزوج في كلام العرب : امرأة الرجل ، ويقال زوجة ، ومنه بيت أبي فراس{[3829]} : [ الطويل ]
وإنَّ الذي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي . . . كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرىَ يَسْتَبِيلُها
وقوله { منها } ، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة ، إن الله تعالى خلق آدم وَحِشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله ، وقيل : من يمينه فخلق منه حواء ، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : ( إن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها » وكسرها طلاقها ){[3830]} . وقال بعضهم : معنى { منها } من جنسها ، واللفظ يتناول المعنيين ، أو يكون لحمها وجواهرها في ضلعه ، ونفسها من جنس نفسه ، و { بث } معناه : نشر ، كقوله تعالى : { كالفراش المبثوث }{[3831]} [ القارعة : 4 ] أي المنتشر ، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع ، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا ، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين ، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين . و { الذي } في موضع نصب على النعت - و { تساءلون } معناه : تتعاطفون به ، فيقول أحدكم : أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه : { تساءلون به } حقوقكم وتجعلونه مقطعاً لها وأصله : «تتساءلون » فأبدلت التاء الثانية سيناً وأدغمت في السين ، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو ، بخلاف عنه ، وقرأ الباقون - «تساءلون » - بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة ، قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا : طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس : قال العجاج{[3832]} : [ الرجز ]
لَوْ عَرَضَتْ لأَيْبُلِيِّ قسِّ . . . أشعثَ في هيكله مندسِّ
حنَّ إليها كَحنِينِ الطَّسِّ . . . وقال ابن مسعود - «تسألون » - خفيفة بغير ألف ، و { الأرحام } نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب ، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة ، وعليها فسر ابن عباس وغيره ، وقرأ عبد الله بن يزيد - والأرحامُ - بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر تقديره : والأرحام أهل أن توصل ، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء - «والأرحامِ » - بالخفض عطفاً على الضمير ، والمعنى عندهم : أنها يتساءل بها كما يقول الرجل : أسألك بالله وبالرحم ، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض ، قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه ، فكما لا يجوز : مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد ، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر ، كما قال : [ البسيط ]
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تهجونا وتَشْتُمُنا . . . فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ{[3833]}
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَاري سُيوفَنَا . . . وَمَا بَيْنَها والْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ{[3834]}
واستهلها بعض النحويين ، قال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس .
قال القاضي أبو محمد : المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف ، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة ، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام : «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت »{[3835]} وقالت طائفة : إنما خفض - «والأرحامِ » - على جهة القسم من الله على ما اختص به إله إلا هو من القسم بمخلوقاته ، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده ، وإن كان المعنى يخرجه{[3836]} - و { كان } في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط ، بل المعنى : كان وهو يكون ، والرقيب : بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه ، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة ، وفي قوله { عليكم } ضرب من الوعيد ، ولم يقل «لكم » للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم ، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب ، لأنه يرتقب ذلك ، ومنه قول أبي داود{[3837]} : [ مجزوء الكامل ]
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِأَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ . . .