في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة فاطر مكية وآياتها خمس وأربعون

هذه السورة المكّية نسق خاص في موضوعها وفي سياقها . أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد . فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشري من بدئها إلى نهايتها . إيقاعات موحية مؤثرة تهزه هزاً ، وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هذا الوجود ، وروعة هذا الكون ؛ وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه ، المتناثرة في صفحاته ؛ وليتذكر آلاء الله ، ويشعر برحمته ورعايته ؛ وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة ؛ وليخشع ويعنو وهو يواجه بدائع صنع الله ، وآثار يده في أطواء الكون ، وفي أغوار النفس ، وفي حياة البشر ، وفي أحداث التاريخ . وهو يرى ويلمس في تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ، ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القديرة . . . ذلك كله في أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ، ويتأثر تأثر الأحياء .

والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات . يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات فهي كلها موضوع واحد . كلها إيقاعات على أوتار القلب البشري ، تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث . فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع ، إلى الإيمان والخشوع والإذعان .

والسمة البارزة الملحوظة في هذه الإيقاعات هي تجميع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة . وإظهار هذه اليدتحرك الخيوط كلها وتجمعها ؛ وتقبضها وتبسطها ، وتشدها وترخيها . بلا معقب ولا شريك ولا ظهير .

ومنذ ابتداء السورة نلمح هذه السمة البارزة ، وتطرد إلى ختامها . .

هذا الكون الهائل نلمح اليد القادرة القاهرة تبرزه إلى الوجود وفق ما تريد : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع . يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ) . .

وهذه القبضة القوية تنفرج فترسل بالرحمة تتدفق وتفيض ، وتنقبض فتغلق ينابيعها وتغيض . بلا معقب ولا شريك :

( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك فلا مرسل له من بعده ، وهو العزيز الحكيم ) . .

والهدى والضلال رحمة تتدفق أو تغيض : ( فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) . . ( إن الله يُسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور . إن أنت إلا نذير ) . .

وهذه اليد تصنع الحياة الأولى وتنشر الموتى في الحياة الآخرة : ( والله الذي أرسل الرياح ، فتثير سحاباً ، فسقناه إلى بلد ميت ، فأحيينا به الأرض بعد موتها . كذلك النشور ) . .

والعزة كلها لله ومنه وحده تستمد : ( من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً ) . .

والخلق والتكوين والنسل والأجل خيوطها كلها في تلك اليد لا تند عنها : ( والله خلقكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم جعلكم أزواجاً . وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . وما يعمر من معمر ، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . إن ذلك على الله يسير ) :

وفي تلك القبضة تتجمع مقاليد السماوات والأرض وحركات الكواكب والأفلاك ( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . ذلكم الله ربكم له الملك . والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير . .

ويد الله المبدعة تعمل في هذا الكون بطريقتها المعلمة ، وتصبغ وتلون في الجماد والنبات والحيوان والإنسان :

( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء ، فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك ) .

وهذه اليد تنقل خطى البشر ، وتورث الجيل الجيل : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) . . ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) . .

وهي تمسك بهذا الكون الهائل تحفظه من الزوال . ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) . .

وهي القابضة على أزمة الأمور لا يعجزها شيء على الإطلاق : ( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) . .

وهو ( على كل شيء قدير ) . . وهو ( العزيز الحكيم ) . . ( وإلى الله ترجع الأمور )وهو ( عليم بما يصنعون ) . . ( وله الملك ) . . وهو ( الغني الحميد ) . . ( وإلى الله المصير ) . . وهو ( عزيز غفور ) . . وهو ( غفور شكور ) . . وإنه بعباده ( لخبير بصير ) . . وهو ( عالم غيب السماوات والأرض ) . . وهو ( عليم بذات الصدور ) . . وكان ( حليماً غفوراً ) . . وكان ( عليماً قديراً ) . . وكان ( بعباده بصيراً ) . .

ومن تلك الآيات وهذه التعقيبات يرتسم جو السورة ، والسمة الغالبة عليها ، والظل الذي تلقيه في النفس على وجه العموم .

ونظراً لطبيعة السورة فقد اخترنا تقسيمها إلى ستة مقاطع متجانسة المعاني لتيسير تناولها . وإلا فهي شوط واحد متصل الإيقاعات والحلقات من بدئها إلى نهايتها . . .

( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ، يزيد في الخلق ما يشاء ، إن الله على كل شيء قدير ) . .

تبدأ السورة بتقديم الحمد لله . فهي سورة قوامها توجيه القلب إلى الله ، وإيقاظه لرؤية آلائه ، واستشعار رحمته وفضله ، وتملي بدائع صنعه في خلقه ، وامتلاء الحس بهذه البدائع ، وفيضه بالتسبيح والحمد والابتهال :

( الحمد لله ) . .

ويتلو حمد الله ذكر صفته الدالة على الخلق والإبداع :

( فاطر السماوات والأرض ) . .

فهو منشىء هذه الخلائق الهائلة التي نرى بعضها من فوقنا ومن تحتنا حيث كنا ، والتي لا نعرف إلا القليل عن أصغرها وأقربها إلينا . . أمنا الأرض . . والتي ينتظمها ناموس واحد يحفظها في تناسق وتوافق ، على ما بينها من أبعاد هائلة لا يتصورها خيالنا البشري إلا بمشقة عظيمة ؛ والتي تحوي - مع ضخامتها وتباعد أفلاكها ومداراتها - من أسرار التناسب فيما بينها ما لو اختلت فيه نسبة صغيرة لتحطمت كلها وتناثرت بدداً .

وإننا لنمر على مثل هذه الإشارة في القرآن الكريم إلى خلق السماوات والأرض ، دون أن نقف أمامها طويلاً لنتدبر مدلولها الهائل ؛ كما نمر على مشاهد السماوات والأرض ذاتها بمثل هذه البلادة ، لا نقف أمامها إلا قليلاً . ذلك أن حسنا قد تبلد ، فلم تعد تلك المشاهد توقع على أوتاره تلك الإيقاعات الموقظة الموحية ، التي توقعها على القلوب الموصولة بذكر الله ، المتيقظة لآثار يده المبدعة في هذا الوجود . وذلك أن الألفة قد أفقدتنا الوهلة والروعة التي يحسها القلب وهو ينظر إلى مثل هذه البدائع للمرة الأولى .

ولا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بمواقع النجوم في السماء ، وأحجامها ونسبها ، ونسب الفضاء حولها ، وطرق سيرها في مداراتها ، وعلاقة بعضها ببعض في أحجامها وأوضاعها وحركاتها . . . لا يحتاج القلب المفتوح الواعي الموصول بالله إلى علم دقيق بهذا كله ليستشعر الروعة والرهبة أمام هذا الخلق الهائل الجميل العجيب . فحسبه إيقاع هذه المشاهد بذاتها على أوتاره . حسبه مشهد النجوم المتناثرة في الليلة الظلماء . حسبه مشهد النور الفائض في الليلة القمراء . حسبه الفجر المشقشق بالنور الموحي بالتنفس والانطلاق . حسبه الغروب الزاحف بالظلام الموحي بالوداع والانتهاء . . بل حسبه هذه الأرض وما فيها من مشاهد لا تنتهي ولا يستقصيها سائح يقضي عمره في السياحة والتطلع والتملي . . بل حسبه زهرة واحدة لا ينتهي التأمل في ألوانها وأصباغها وتشكيلها وتنسيقها . . .

والقرآن يشير إشاراته الموحية لتدبُّر هذه الخلائق . . . الجليل منها والدقيق . . . وحسب القلب واحدة منها لإدراك عظمة فاطرها ، والتوجه إليه بالتسبيح والحمد والابتهال . .

( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) . . ( جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) . .

والحديث في هذه السورة يتردد حول الرسل والوحي وما أنزل الله من الحق . . والملائكة هم رسل الله بالوحي إلى من يختاره من عباده في الأرض . وهذه الرسالة هي أعظم شيء وأجله . ومن ثم يذكر الله الملائكة بصفتهم رسلاً عقب ذكره لخلق السماوات والأرض . وهم صلة ما بين السماء والأرض . وهم يقومون بين فاطر السماوات والأرض ، وأنبيائه ورسله إلى الخلق بأعظم وظيفة وأجلها .

ولأول مرة - فيما مر بنا من القرآن في هذه الظلال - نجد وصفاً للملائكة يختص بهيئتهم . وقد ورد وصفهم من قبل من ناحية طبيعتهم ووظيفتهم ، مثل قوله تعالى : ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون . . وقوله : إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . . أما هنا فنجد شيئاً يختص بتكوينهم الخلقي : ( أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) . . وهو وصف لا يمثلهم للتصور . لأننا لا نعرف كيف هم ولا كيف أجنحتهم هذه . ولا نملك إلا الوقوف عند هذا الوصف ، دون تصور معين له . فكل تصور قد يخطى ء . ولم يرد إلينا وصف محدد للشكل والهيئة من طريق معتمد . والذي ورد في القرآن هو هذا ؛ وهو قوله تعالى في وصف جهنم : عليها ملائكة غلاظ شداد ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . . وهو كذلك لا يحدد شكلاً ولا هيئة . والذي ورد في الأثر : " أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رأى جبريل في صورته مرتين " وفي رواية : " له ستمائة جناح " . . وهو كذلك لا يعين شكلاً ولا هيئة . فالأمر إذن مطلق . والعلم لله وحده في هذه الغيبيات .

وبمناسبة ذكر الأجنحة مثنى وثلاث ورباع . حيث لا يعرف الإنسان إلا شكل الجناحين للطائر . يذكر أن الله ( يزيد في الخلق ما يشاء ) . . فيقرر طلاقة المشيئة ، وعدم تقيدها بشكل من أشكال الخلق . . وفيما نشهده نحن ونعلمه أشكال لا تحصى من الخلق . ووراء ما نعلم أكثر وأكثر . . ( إن الله على كل شيء قدير ) . . وهذا التعقيب أوسع من سابقه وأشمل . فلا تبقى وراءه صورة لا يتناولها مدلوله ، من صور الخلق والإنشاء والتغيير والتبديل .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فاطر سورة مكية نزلت بعد سورة الفرقان وقد نزلت سورة فاطر فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء .

وإذا قسمنا حياة المسلمين بمكة إلى ثلاثة فترات : الفترة المبكرة للدعوة والفترة المتوسطة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء والفترة الأخيرة فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة رأينا أن سورة فاطر نزلت في الفترة المتوسطة من حياة المسلمين بمكة .

ولسورة فاطر اسمان : الاسم الأول سورة فاطر والاسم الثاني سورة الملائكة لقوله تعالى في أول السورة : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث وربع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شي ء قدير } ( فاطر : 1 )

موضوعات السورة

قال الفيروزبادي :

مقصود سورة فاطر هو : بيان خلق الملائكة ، وفتح أبواب الرحمة ، وتذكير النعمة ، والتحذير من إغواء الشياطين ، وتسلية الرسول ، وصعود كلمة الشهادة إلى الله ، وذكر عجائب البحر واستخراج الحلية منه ، وسير الليل والنهار ، وعجز الأصنام عن الربوبية ، وفقر العباد إلى الله ، وفضل القرآن وشرف تلاوته ، وأصناف الخلق في وراثة القرآن ، وخلود الجنة لأهل الإيمان ، وخلود النار لأهل الكفر والطغيان ، والمنة على العباد بحفظ السماء والأرض من الخلل والاضطراب . . . i

سياق السورة

سورة فاطر لها نسق خاص في موضوعها وفي سياقها أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد . ››فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشرى من بدئها إلى نهايتها وهي إيقاعات موحية مؤثرة تهز القلب هزا وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هدا الوجود وروعة هذا الكون وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه المتناثرة في صفحاته ، وليتذكر آلاء الله ويشعر برحمته ورعايته وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة وليخشع ويعنوا وهو يواجه بدائع صنع الله وآثار يده في أطواء الكون وقي أغوار النفس وفي حياة البشر وفي أحداث التاريخ وهو يرى ويلمس قي تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القادرة . . ذلك كله قي أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ويتأثر تأثر الأحياء .

والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات ، يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات ، فهي كلها موضوع ، كلها إيقاعات على أوتار القلب البشرى تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع إلى الإيمان والخشوع والإذعان

والسمة البارزة الملحوظة هي تجمع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة وإظهار هذه اليد تحرك الخيوط كلها وتجمعها وتقبضها وتبسطها وتشدها وترخيها فلا معقب ولا شريك ولا ظهير ii

فقرات السورة

رغم أن السورة كلها وحدة متماسكة إلا أنها يمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات أو مجموعات :

1- رحمة الله وفضله

إذا تأملنا الآيات من ( 1-8 ) في سورة فاطر نجد فيضا من أنعم الله التي لا تعد ولا تحصى على عباده فهو خالق السماوات والأرض وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وجليل وحيه إلى عباده وإذا لاحظت عناية الله عبدا زالت من أمامه القيود والسدود : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها . . . }( فاطر : 2 ) .

لقد فتح الله رحمته لأنبيائه وأصفيائه : جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم وأنقذ يوسف من الجب ومن السجن واستجاب دعاء يونس في بطن الحوت وآزر موسى في طريقه إلى فرعون وأنزل رحمته بأصحاب الكهف وحفظهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا وشملت رحمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الهجرة وهو طريد : { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . . . }( التوبة : 40 ) .

وإذا أمسك الله رحمته عن عبد فلن ينفعه مال ولا رجال وإذا استقر اليقين في القلب تنبه إلى كيد الشيطان وفنه ، فالمؤمن يعلم أن الشيطان عدو لنا يزين لنا الشر ليوقعنا في المعصية فمن أطاع الشيطان زين له سوء عمله فرآه حسنا ووقع في الظلال ومن يضلل الله فما له من هاد .

2 – آيات الله في الكون

في الآيات من ( 9 – 10 ) نلاحظ آثار القدرة الإلهية قي نفس الإنسان وفي صفحة الكون وفي الرياح يسوقها الله ، ثم تثير السحب فتسوقها يد القدرة مطرا يحي الأرض بعد موتها وكذلك البعث والحياة بعد الموت والله خالق الإنسان وبيده رعايته قي مراحل تكوينه وتخليقه في بطن أمه ، ثم رعايته وليدا وناشئا وزوجا وهو عليم بمن يموت مبكرا إن ذلك على الله يسير .

وتمتد قدرة الله إلى كل مظهر من مظاهر الوجود فتراها في مشهد البحرين المتميزين أحدهما عذب فرات والأخر ملح أجاج وفيهما من نعم الله على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان .

وفي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران دليل على التقدير والتدبير وكذلك مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق .

هذه آثار قدرة الله والذين يدعون من دونه لا يسمعون ولا يستجيبون ، ويوم القيامة يتبرءون من عبادهم الضلال ولا يخبر بهذه الحقائق مثل الإله الخبير

3- الله غني عن عبادتنا

في الآيات من ( 15 – 26 ) بيان لحقيقة أساسية هي أن الله غني عن عبادتنا فلا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا ولكننا نحن الفقراء المحتاجون إلى رضاه وعنايته فمن وجد الله وجد كل شيء : وجد الهداية والسعادة والثقة بالنفس والأمل في الغد ، ومن فقد الله فقد كل شيء ولو شاء الله أن يذهب الناس لأهلكهم وأتى بخلق جديد يعرفون فضله عليهم .

ويشير القرآن إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال وأن الاختلاف بين طبيعتهما أصل عميق كأصالة الاختلاف ف بين العمى والبصر والظالمات والنور والظل والحرور والموت صلة وشبها ثم تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذبين للتنبيه والتحذير

4 – كتابان إلهيان

عند قراءة الآيات من ( 27 – 38 ) يتضح أمامنا أن لله عز وجل كتابين يدلان عليه : أحدهما كتاب الكون والثاني الكتاب المنزل والمؤمن يقرأ دلائل القدرة قي كتاب الكون : في صحائفه العجيبة الرائعة المتنوعة الألوان والأنواع والأجناس والثمار المتنوعة الألوان والجبال الملونة الشعاب والناس والدواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة . . هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح

والمؤمن يقرأ في الكتاب المنزل ويستيقن بما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة ودرجات الوارثين وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين ومشهدهم في دار النعيم ومقابلتهم مشهد الكافرين الأليم وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة الألوان بتقرير أن ذلك كله يتم وفقا لعلم الله العليم بذات الصدور

5 – دلائل الإيمان

تشتمل الآيات من ( 39 – 45 ) على الفقرة الأخيرة من السورة وفيها دلائل يقدمها القرآن ليحرك القلوب نحو الإيمان وتجول الآيات جولات واسعة المدى تشتمل على إيحاءات شتى : جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة يخلف بعضهما بعضا " وجولة في الأرض و السماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله ، وجولة في السماوات و الأرض كذلك لرؤية يد الله القوية تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا وجولة قي مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضى فيهم سنة الله الجارية " iii ثم الختام الموحى الموقظ للقلب المبين فضل الله العظيم قي إمهال العصاة فإن تابوا قبل توبتهم وإن أصروا على المعصية عاقبهم وحاسبهم قال تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا . ( فاطر : 45 )

***

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير( 1 ) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم( 2 ) يأبها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تأفكون( 3 ) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور( 4 ) }

المفردات :

الحمد لله : قولوا الحمد لله فإن واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد

فاطرالسماوات والأرض : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق

جاعل الملائكة رسلا : أي : جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل

أولى أجنحة : ذوى أجنحة جمع جناح كجناح الطائر

مثنى وثلاث ورباع : أي اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، حسب مراتبهم

يزيد في الخلق ما يشاء : يزيد بحكمته في بعض مخلوقاته ما يشاء من الزيادات على بعض آخر إن اتفقوا في الجنس والنوع

1

التفسير :

{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير }

الشكر لله منشأ السماوات والأرض من العدم وخالقهما على غير مثال سابق وهو سبحانه جعل الملائكة وسائط بينه وبين عباده لتبليغ رسالات السماء وتصريف الرياح والأمطار والسحاب والأرزاق والعذاب والهداية وغير ذلك ومن هؤلاء الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وهم ذوو أجنحة متعددة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة أجنحة وبعضهم له أكثر من ذلك ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من الأرض إلى السماء .

جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسام رأى جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب . iv

{ يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير } يزيد في خلق الملائكة ما يشاء من ناحية عددهم أو في عدد أجنحتهم أو يزيد في جميع الخلق ما يشاء نوعا وعددا وقوة وعقلا وعلما وحسنا وغير ذلك من الكمالات أو ما يقابلها لا يمنعه مانع من تنفيذ مشيئته إن الله على كل شيء قدير وقد تعددت الآراء قي الزيادة في الخلق فقيل : حسن الصوت وملاحة العين وحسن الأنف وحلاوة الفم وحكمة العقل وجودة الرأي وغير ذلك .

قال الزمخشرى في تفسير : { يزيد في الخلق ما يشاء . . . }

الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة قي البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وجرأة قي القلب وسماحة في النفس وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم وحسن تأت قي مزاولة الأمور ما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف .