{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد ، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو يحمد ، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون ، وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات ، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها . { وجعل الظلمات والنور أنشأهما والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن . ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها ، أو لأن المراد بالظلمة الضلال ، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد ، وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكات . ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل . { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ويكون بربهم تنبيها على أنه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكونهم وتعيشهم ، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر ، أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه . ومعنى ثم : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان ، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل ، وعلى الثاني متعلقة ب{ يعدلون } والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
قيل هي كلها مكية وقال ابن عباس نزلت بمكة ليلا جملة إلا ست آيات وهي ' { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } ' وقوله ' { وما قدروا الله حق قدره } ' وقوله تعالى ' { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي } ' وقوله ' { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم } ' وقوله ' { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك } ' وقوله ' { والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه }'{[1]} وقال الكلبي الأنعام كلها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة في فنحاص اليهودي وهي{[2]} ' { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ' مع ما يرتبط بهذه الآية وذلك أن فنحاصا قال ما أنزل الله على بشر من شيء .
وقال ابن عباس نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك لهم زجل{[3]} يجأرون بالتسبيح . وقال كعب فاتحة التوراة فاتحة الأنعام ' { الحمد لله } ' إلى ' { يعدلون } ' وخاتمة التوراة خاتمة هود ' { وما ربك بغافل عما تعملون } ' وقيل خاتمتها ' { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له ' إلى ' تكبيرا }'{[4]} .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأنعام من نجائب القرآن{[5]} .
وقال علي بن أبي طالب من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضى ربه{[6]} .
هذا تصريح بأن الله تعالى هو الذي يستحق الحمد بأجمعه . لأن الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس ، فهو تعالى له الأوصاف السنية والعلم والقدرة والإحاطة والأنعام ، فهو أهل للمحامد على ضروبها وله الحمد الذي يستغرق الشكر المختص بأنه على النعم ، ولما ورد هذا الإخبار تبعه ذكر بعض أوصافه الموجبة للحمد ، وهي الخلق «للسماوات والأرض » قوام الناس وأرزاقهم ، { والأرض } ها هنا للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، والبادي من هذا الترتيب أن السماء خلقت من قبل الأرض ، وقد حكاه الطبري عن قتادة ، وليس كذلك لأن الواو لا ترتب المعاني ، والذي ينبني من مجموع آي القرآن أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء فخلقها ثم دحا الأرض بعد ذلك ، و { جعل } ها هنا بمعنى خلق لا يجوز غير ذلك ، وتأمل لم خصت { السماوات والأرض } ب { خلق } و { الظلمات والنور } ب { جعل }{[4814]} ؟ وقال الطبري { جعل } هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد ، لأن { جعل } إذا كانت على هذا النحو فلا بد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال المقاربة كقولك كاد زيد يموت ، «جعل » زيد يجيء ويذهب ، وأما إذا لم يرتبط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري{[4815]} .
وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين : { الظلمات } الليل و { النور } النهار ، وقالت فرقة : { الظلمات } الكفر و { النور } الإيمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة ، وهذا هو طريق اللغز الذي برىء القرآن منه ، و { النور } أيضاً هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه{[4816]} .
وقوله تعالى : { ثم } دالة على قبح فعل { الذين كفروا } لأن المعنى أن خلقه «السموات والأرض » وغيرهما قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله ، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه ب { ثم } ، { الذين كفروا } في هذا الموضع هم كل من عبد شيئاً سوى الله قال قتادة : هم أهل الشرك خاصة ، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضاً دون بعض فلم يصب ، إلا أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له ، ولفظ الآية أيضاً يشير إلى المانوية{[4817]} ، ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام ، وقول ابن أبزى :«إن المراد أهل الكتاب بعيد » . و { يعدلون } معناه يسوون ويمثلون ، وِعدل الشيء قرينه ومثيله ، والمنوية مجوس ، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو القدرية مجوس هذه الأمة{[4818]} ، ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقاً غير الله ، والقدرية تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقاً غير الله تعالى عن قولهم ، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول القدرية : إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده ، وإنما قلنا في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم مجوساً حقيقة لم يضفهم إلى الأمة ، وهذا كله أن لو صح الحديث والله الموفق .