جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

{ يا أَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .

قال أبو جعفر : يعني بقوله تعالى ذكره : { يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } : احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم ، وفيما نهاكم ، فيحلّ بكم من عقوبته ما لا قِبَل لكم به . ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد ، وعرّف عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة ، ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأمّ واحدة ، وأن بعضهم من بعض ، وأن حقّ بعضهم على بعض واجب وجوب حقّ الأخ على أخيه ، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة . وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حقّ بعض ، وإن بعد التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم ، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الأدنى . وعاطفا بذلك بعضهم على بعض ، ليتناصفوا ، ولا يتظالموا ، وليبذل القويّ من نفسه للضعيف حقه بالمعروف ، على ما ألزمه الله له ، فقال : { الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني من آدم . كما :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } : فمن آدم صلى الله عليه وسلم .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم صلى الله عليه وسلم .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } قال : آدم .

ونظير قوله : { مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } والمعنيّ به رجل ، قول الشاعر :

أبوكَ خليفَةٌ وَلَدتْهُ أُخْرَى *** وأنتَ خليفةٌ ذاكَ الكَمالُ

فقال : «ولدته أخرى » ، وهو يريد الرجل ، فأنث للفظ الخليفة . وقال تعالى ذكره : { مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } لتأنيث «النفس » والمعنى . «من رجل واحد » ولو قيل : «من نفس واحد » ، وأخرج اللفظ على التذكير للمعنى كان صوابا .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } وخلق من النفس الواحدة زوجها¹ يعني ب «الزوج » الثاني لها وهو فيما قال أهل التأويل : امرأتها ، حوّاء . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } قال : حوّاء من قُصَيْرَى آدم وهو نائم ، فاستيقظ فقال : «أثا » بالنبطية امرأة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } يعني حوّاء خلقت من آدم ، من ضلع من أضلاعه .

حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وَحِشا ليس له زوج يسكن إليها¹ فنام نومة ، فاستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها ما أنتِ ؟ قالت امرأة ، قال : ولم خلقتِ ؟ قالت : لتسكن إلي .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السّنة فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن العباس وغيره ، ثم أخذ ضِلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ، ولأم مكانه ، وآدم نائم لم يهبّ من نومته ، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضلعه تلك زوجته حوّاء ، فسوّاها امرأة ليسكن إليها ، فلما كُشفت عنه السّنة وهبّ من نومته رآها إلى جنبه ، فقال فيما يزعمون والله أعلم : لحمي ودمي وزوجتي ! فسكن إليها .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها } جعل من آدم حوّاء .

وأما قوله : { وَبَثّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيرا وَنِساء } فإنه يعني ونشر منهما يعني من آدم وحواء { رِجَالاً كَثِيرا وَنِسَاءً } قد رآهم ، كما قال جلّ ثناؤه : { كالفَرَاشِ المَبْثُوثِ } . يقال منه : بثّ الله الخلق وأبثهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَبَثّ مِنْهَما رِجالاً كَثِيرا وَنِساءً } وبثّ : خَلَق .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحام } .

اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة قراء أهل المدينة والبصرة : «تَسّاءَلُونَ » بالتشديد ، بمعنى : تتساءلون ، ثم أدغم إحدى التاءين في السين ، فجعلهما سينا مشددة . وقرأه بعض قراء الكوفة : { تَسَاءَلُونَ } بالتخفيف على مثال «تَفَاعَلُونَ » ، وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان فصيحتان ، أعني التخفيف والتشديد في قوله : { تَساءَلُونَ بِهِ } ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء أصاب الصواب فيه ، لأن معنى ذلك بأيّ وجهيه قرىء غير مختلف .

وأما تأويله : { وَاتّقُوا اللّهَ } أيها الناس ، الذي إذا سأل بعضكم بعضا سأل به ، فقال السائل للمسؤول : أسألك بالله ، وأنشدك بالله ، وأعزم عليك بالله ، وما أشبه ذلك . يقول تعالى ذكره : فكما تعظّمون أيها الناس ربكم بألسنتكم ، حتى تروا أن من أعطاكم عهده فأخفركموه ، فقد أتى عظيما ، فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فيما أمركم ، واجتنابكم ما نهاكم عنه ، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } قال : يقول : اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } يقول : اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : أخبرنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { تَساءَلُونَ بِهِ } قال : تعاطفون به .

وأما قوله : { والأرْحامَ } فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم ، قال السائل للمسؤول : أسألك به وبالرحم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله الذي تعاطفون به والأرحام . يقول : الرجل يسأل بالله وبالرحم .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : هو كقول الرجل : أسألك بالله ، أسألك بالرحم . يعني قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ الأرْحامَ } قال : يقول : أسألك بالله وبالرحم .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، هو كقول الرجل : أسألك بالرحم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : أسألك بالله وبالرحم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور أو مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ } قال : هو قول الرجل : أسألك بالله والرحم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم .

قال محمد : وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله : «والأرْحامِ » بالخفض عطفا بالأرحام على الهاء التي في قوله «به » ، كأنه أراد : واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام ، فعطف بظاهر على مكنيّ مخفوض . وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب لأنها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض إلا في ضرورة شعر ، وذلك لضيق الشعر¹ وأما الكلام فلا شيء يضطرّ المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق والرديء في الإعراب منه . ومما جاء في الشعر من ردّ ظاهر على مكنيّ في حال الخفض قول الشاعر :

نُعَلّقُ فِي مِثْلِ السّوَارِي سُيُوفَنا *** وَما بينها وَالكَعْبِ غُوطٌ نَفانِفُ

فعطف «الكعب » وهو ظاهر على الهاء والألف في قوله «بينها » وهي مكنية .

وقال آخرون : تأويل ذلك : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } واتقوا الأرحام أن تقطعوها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحامَ } يقول : اتقوا الله ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «اتّقُوا اللّهَ وَصِلُوا الأرْحامَ ، فإنّهُ أبْقَى لَكُمْ فِي الدّنيْا ، وَخَيْرٌ لَكُمْ فِي الاَخِرَةِ » .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قول الله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الله في الأرحام فصلوها .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوه في الأرحام .

حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قول الله : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اتّقُوا اللّهَ وَصِلُوا الأرْحامَ » .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : اتقوا الله في الأرحام فصِلوها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } قال : يقول : واتقوا الله في الأرحام فصِلوها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد ، وأخبرنا أبو جعفر الخزاز ، عن جويبر ، عن الضحاك ، أن ابن عباس كان يقرأ : { والأرْحامَ } يقول : اتقوا الله لا تقطعوها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : اتقوا الأرحام .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } أن تقطعوها .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ } واتقوا الأرحام أن تقطعوها . وقرأ : { وَالّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَل } .

قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصبا ، بمعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، عطفا بالأرحام في إعرابها بالنصب على اسم الله تعالى ذكره . قال : والقراءة التي لا نستجيز للقارىء أن يقرأ غيرها في ذلك النصب : { وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ } بمعنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض ، إلا في ضرورة شعر ، على ما قد وصفت قبل .

القول في تأويل قوله تعالى : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك تعالى ذكره : إن الله لم يزل عليكم رقيبا . ويعني بقوله : { عَلَيْكُمْ } : على الناس الذين قال لهم جلّ ثناؤه : يا أيها الناس اتقوا ربكم والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر ، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب ، فتقول إذا خاطبت رجلاً واحدا أو جماعة فعلتْ هي وآخرون غيّب معهم فعلاً : فعلتم كذا ، وصنعتم . كذا ويعني بقوله : { رَقِيبا } : حفيظا ، محصيا عليكم أعمالكم ، متفقدا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها ، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } : حفيظا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد في قوله : { إنّ اللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا } على أعمالكم ، يعلمها ويعرفها .

ومنه قول أبي دؤاد الإيادي :

كمَقاعِدِ الرّقَباءِ *** للضّرَباءِ أيدِيهِمْ نَوَاهِدْ

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

{ يا أيها الناس } خطاب يعم بني آدم . { اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } هي آدم . { وخلق منها زوجها } عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه ، أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها ، وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة . { وبث منهما رجالا كثيرا ونساء } بيان لكيفية تولدهم منهما ، والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة ، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها ، إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر ، وذكر { كثيرا } حملا على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى ، والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها ، أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها . وقرئ " وخالق " " وباث " على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث . { واتقوا الله الذي تساءلون به } أي يسأل بعضكم بعضا تقول أسألك بالله ، وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بطرحها . { والأرحام } بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك : مررت بزيد وعمرا ، أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها . وقرأ حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة . وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك ، أي مما يتقى أو يتساءل به . وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه . وعنه عليه الصلاة والسلام " الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله " . { إن الله كان عليكم رقيبا } حافظا مطلعا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله

وصحبه وسلم تسليما .

هذه السورة مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة{[1]} وهي قوله : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } قال النقاش : وقيل : نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : { يا أيها الناس } حيث وقع إنما هو مكي ، فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه السلام ، وقال النحاس : هذه السورة مكية .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة ، وفي البخاري{[2]} : آخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } ، ذكرها في تفسير سورة " براءة " من رواية البراء بن عازب . وفي البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعني قد بني بها .

قوله عز وجل :

«يا » حرف نداء «أي » منادى مفرد - و «ها » تنبيه ، و { الناس } - نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش ، «والرب » : المالك ، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود ، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد ، وقال : { واحدة } على تأنيث لفظ النفس ، وهذا كقول الشاعر : [ الوافر ]

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى . . . وأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ{[3828]}

وقرأ ابن أبي عبلة - «من نفس واحد » بغير هاء ، وهذا على مراعاة المعنى ، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ، والخلق في الآية : بمعنى الاختراع ، ويعني بقوله : { زوجها } حواء ، والزوج في كلام العرب : امرأة الرجل ، ويقال زوجة ، ومنه بيت أبي فراس{[3829]} : [ الطويل ]

وإنَّ الذي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي . . . كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرىَ يَسْتَبِيلُها

وقوله { منها } ، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة ، إن الله تعالى خلق آدم وَحِشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله ، وقيل : من يمينه فخلق منه حواء ، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : ( إن المرأة خلقت من ضلع ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها » وكسرها طلاقها ){[3830]} . وقال بعضهم : معنى { منها } من جنسها ، واللفظ يتناول المعنيين ، أو يكون لحمها وجواهرها في ضلعه ، ونفسها من جنس نفسه ، و { بث } معناه : نشر ، كقوله تعالى : { كالفراش المبثوث }{[3831]} [ القارعة : 4 ] أي المنتشر ، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع ، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا ، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين ، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين . و { الذي } في موضع نصب على النعت - و { تساءلون } معناه : تتعاطفون به ، فيقول أحدكم : أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه : { تساءلون به } حقوقكم وتجعلونه مقطعاً لها وأصله : «تتساءلون » فأبدلت التاء الثانية سيناً وأدغمت في السين ، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو ، بخلاف عنه ، وقرأ الباقون - «تساءلون » - بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة ، قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا : طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس : قال العجاج{[3832]} : [ الرجز ]

لَوْ عَرَضَتْ لأَيْبُلِيِّ قسِّ . . . أشعثَ في هيكله مندسِّ

حنَّ إليها كَحنِينِ الطَّسِّ . . . وقال ابن مسعود - «تسألون » - خفيفة بغير ألف ، و { الأرحام } نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب ، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره : واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة ، وعليها فسر ابن عباس وغيره ، وقرأ عبد الله بن يزيد - والأرحامُ - بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر تقديره : والأرحام أهل أن توصل ، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء - «والأرحامِ » - بالخفض عطفاً على الضمير ، والمعنى عندهم : أنها يتساءل بها كما يقول الرجل : أسألك بالله وبالرحم ، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض ، قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه ، فكما لا يجوز : مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد ، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر ، كما قال : [ البسيط ]

فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تهجونا وتَشْتُمُنا . . . فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ{[3833]}

وكما قال : [ الطويل ]

نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَاري سُيوفَنَا . . . وَمَا بَيْنَها والْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ{[3834]}

واستهلها بعض النحويين ، قال أبو علي : ذلك ضعيف في القياس .

قال القاضي أبو محمد : المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف ، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة ، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام : «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت »{[3835]} وقالت طائفة : إنما خفض - «والأرحامِ » - على جهة القسم من الله على ما اختص به إله إلا هو من القسم بمخلوقاته ، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله : { إن الله كان عليكم رقيباً } وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده ، وإن كان المعنى يخرجه{[3836]} - و { كان } في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط ، بل المعنى : كان وهو يكون ، والرقيب : بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه ، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة ، وفي قوله { عليكم } ضرب من الوعيد ، ولم يقل «لكم » للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم ، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب ، لأنه يرتقب ذلك ، ومنه قول أبي داود{[3837]} : [ مجزوء الكامل ]

كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِأَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ . . .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3828]:- راجع صفحة (96) من هذا الجزء.
[3829]:-أبو فراس كنية الفرزدق الشاعر، والبيت في ديوانه (2/61 ط) صادر، بيروت)، من قصيدة في شأن زواجه بالنوار واستعدائها عليه عبد الله بن الزبير ليطلقها، وفي البيت شاهد على استعمال "زوجة"، وكان الأصمعي يخطئ ذلك، فإذا احتج عليه ببيت ذي الرمة "أذو زوجة بالمصر أم ذو خصومة" رد قائلا: إن الرمة أكل الملح والباقل في حوانيت البصرة حتى بشم، كناية عن فساد لغته بتردده إلى الحاضرة.
[3830]:- أخرجه البخاري (في باب النكاح)، ومسلم (في الرضاع)، وانظر مسند أحمد 5/151، 2/ 428، 449.
[3831]:- من الآية (4) من سورة القارعة. ومنه قوله تعالى: {وزرابي مبثوثة}
[3832]:- ليس الرجز في ديوانه؛ ونسبه له في البحر المحيط (3/ 156)، وورد في اللسان (طس) لأعرابي فصيح، والأيبلي: الراهب، والطست: فارسي الأصل فلما عربته العرب جعلته طسا.
[3833]:- هو شاهد على أن حرف الجر قد يترك ضرورة عند البصريين، أي: ما بك وبالأيام عجب، وهو من شاهد سيبويه 1/ 392، وانظر الخزانة 2/338، وتفسير القرطبي5/3، والبحر المحيط 3/158.
[3834]:- ورد غير منسوب في الخزانة 2/ 338، والبحر المحيط 3/158، وتفسير القرطبي 5/3؛ وفي رواية القرطبي "مهوى نفانف" والغوط: المطمئن من الأرض، والنفنف: المهوى.
[3835]:- حديث صحيح ورد في الستة وفي مساند أحمد 2/7، 11
[3836]:- لمعرفة مزيد من الآراء حول إعراب (والأرحام) انظر القرطبي 5/4، والمحتسب 1/ 179، والبحر المحيط 3/159، وقد مال أبو حيان إلى تصويب مذهب الكوفيين في هذا الموقف.
[3837]:- ديوان أبي داود: 307 (دراسات)، والأغاني 15/ 98 (بولاق)، والميسر: 133، والمعاني الكبير 2/1148، ومجاز القرآن 1/113.